منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    القراءة والتأويل بين أمبرتو إيكو وفولفغانغ إيزر

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    القراءة والتأويل بين أمبرتو إيكو وفولفغانغ إيزر Empty القراءة والتأويل بين أمبرتو إيكو وفولفغانغ إيزر

    مُساهمة   الأربعاء يناير 06, 2010 10:21 am

    القراءة والتأويل بين أمبرتو إيكو وفولفغانغ إيزر
    22/01/2007




    من المعلوم أن الدراسات الأدبية كانت في مرحلتها الأولى منصبة أساسا على عنصر المؤلف لما له من أهمية قصوى في تفسير العمل الأدبي.
    وهكذا
    شكل قطب المؤلف نقطة تقاطع مجموعة من الدراسات والمقاربات ذات المنحى
    التاريخي والنفسي والاجتماعي، حتى ترسخ في الأذهان ما يمكن تسميته ب "سلطة
    المؤلف" في الدراسات الأدبية. أما المرحلة الثانية، فقد عرفت تحولا في
    المسار النقدي في اتجاه ترسيخ سلطة أخرى على غرار سلطة المؤلف، وهي سلطة
    النص، حيث كان الإعلان عن " موت المؤلف " من قبل أقطاب البنيوية إيذانا
    بتحرر الفكر النقدي من سطوة المتكلم، وبالتالي الولوج إلى مسرح الكلام،
    وهو الإعلان عن تحول وجهة النظر من الناطق بالنص إلى النص بذاته، أو (قل)
    من ناسج القول إلى نسيج لقول.
    ولذلك سيكون من المهام المنوطة بالنقد
    النصي، مقاربة النص الأدبي: « بما هو بنية مغلقة ومكتفة بذاتها، لا تحيل
    على وقائع مجاوزة للغة قد تتصل بالذات المنتجة أو بسياق الإنتاج، بل تحيل
    على اشتغالها الداخلي فقط، مكرسا بذلك فيتشية النص ولا شيء سواه».
    أما
    المحطة الثالثة، فعرفت فيها الدراسات الأدبية تحولا نوعيا في اتجاه إرساء
    دعائم التأويل، من خلال الاهتمام بدور المتلقي الذي أصبح جزءا لا يتجزأ من
    كل عملية تأويل.
    وقد ساهم في لفت الانتباه إلى هذا المنحى مجموعة من
    المنظرين، أمثال سيغموند فرويد وروبير إسكاربيت وجاك لينهارت وميشال شارل
    وميكائيل ريفاتير ورولان بارت وأمبرتو إيكو … الذين حاولوا أن يجعلوا
    النصوص منفتحة على قطب القارئ الذي تم تجاهله وإقصاؤه إلى منافي الإهمال
    في زمن هيمنة سلطة الكاتب وسلطة النص.
    لكن البداية الحقيقية في نقل هذا
    العنصر المهمش في الدراسات الأدبية إلى بؤرة العدسة كان بإيعاز من رواد
    جمالية التلقي، ونعني بذلك هانز روبير ياوس وفولفغانغ إيـزر اللذين أتاحا
    للقارئ فرصة تحريره من سطوة صوت المؤلف وفيتشية النص، وفرصة تحرير
    القراءة من أسر انقيادها بالمعنى النهائي والقصدي، نحو معانقة آفاق مفتوحة على تعددية التأويلات المحتملة واللانهائية.
    وهذا
    ما جعل مدرسة كونستانس بحق تطرح نفسها كبديل منهجي وكمنعطف جديد نحو تأسيس
    أفق مغاير في مجال التأويل، أفق كان له الأثر على مستوى التحول في بؤرة
    الاهتمام، حيث سعت الدراسات إلى الانتقال من الوحدة إلى التعدد، من مركزية
    الرؤية إلى شموليتها، من الفعل إلى التفاعل، ومن المعنى السرمدي إلى تعدد
    المعاني وخصوبة التأويل.
    في ضوء هذا التحول الكبير الذي عرفته الدراسات
    الأدبية من حيث انتقالها من العناية بقصدية المؤلف، إلى تخصيص النظر في
    اشتغال النص وعناصره المكونة، إلى التركيز على إبدالات الوقع والتلقي، تجب
    الإشارة إلى أن هذا التقسيم للمراحل ليس إلا تقسيما نسبيا، لأن هذه
    المراحل في الواقع متداخلة، كما أن هيمنة عنصر من هذه العناصر في أي اتجاه
    لا يلغي باقي العناصر الأخرى المشكلة للعملية الأدبية والنقدية.
    هكذا
    فمع جمالية التلقي بدأ تعبيد الطريق نحو تكريس الحضور الأكبر للقارئ
    ولمسألة التأويل، رغم أن التأشير لهاته المجالات هو قديم قدم أرسطو
    وفلاسفة التأويل القدامى.
    وبحكم تعدد زوايا النظر إلى القراءة
    والتأويل، ارتأينا أن نقتصر في هذا المقام على تصور كل من أمبرتو إيكو
    وفولفغانغ إيزر. ورغم ما يشوب من أسئلة حول هذا الجمع بين منظرين يختلفان
    من حيث الأساس الابستمولوجي والمنهجي لكل واحد منهما، على اعتبار أن إيكو
    يشتغل داخل حقل السيميوطيقا، أما إيزر الذي ينتسب إلى جمالية التلقي، فإن
    أصول نظريته تمتد إلى الفينومينولوجيا والتأويلية … لكن رغم هذا الاختلاف
    في الخلفية الفكرية والمنهجية التي تؤطر الحقل الذي يشتغل فيه كل من إيكو
    وإيزر، فإن الأرضية التي يخضعان فيها نظريتهما للاختبار هي أرضية ذات
    طبيعة سردية. كما أن كثيرا من القضايا التي عرضتها جمالية التلقي في شخص
    إيزر كقضية التأويل وفعل القراءة قد وجدت معالجة منظمة في إطار النظرية
    السيميوطيقية عند أمبرتو إيكو. وهذا ليس غريبا عند منظر غـرف من معين
    سيميوطيقا بورس التأويلية، والتي يعتبرها إيكو نفسه بأنها أكثر الخلفيات
    النظرية تأثيرا في توجيه أعماله. فالتأويلية البورسية، وخاصة مفهومه
    للمؤول والسيميوزيس التي قام إيكو بتطويرها، تشكل مرجعا سيميوطيقيا في
    نظريته للتأويل، إلى الحد الذي مكنه من الولوج ضمن إطار ما يسميه إيكو
    "بسيميوطيقا التأويل"، أو كما يعترف نفسه بذلك، ضمن إطار تداولية النصوص
    إن لم نقل جمالية التلقي. يقول إيكو: « كما سأعرف ذلك فيما بعد، فإنني كنت
    أشتغل بتداولية النص دون معرفتي على الأقل بما يسمى حاليا بتداولية النص
    أو جمالية التلقي».
    في ضوء هذه المعطيات، نتساءل: كيف ينظر كل من
    أمبرتو إيكو وفولفغانغ إيزر إلى القراءة والتأويل؟ وما هي أهم التقاطعات
    التي تصل بين نظريتيهما؟
    يقول ميشال أوتن وهو بصدد الحديث عن
    سيميولوجية القراءة : « إذا كان النص لا يوجد إلا بوجود القراءة، وإذا كان
    التأويل يبدأ عندما يستحوذ القارئ على النص، فإنه يصبح من العسير جدا أن
    نتحدث عن النص خارج القراءة التي هي من نتائجه. وأغلب الملاحظات التي
    سنحاول اقتراحها حول النص هي إذن ملاحظات تتحقق بفضل التأويلات » .
    في نفس السياق، يحاول إيكو أن يمفصل بين ثلاثة حقول، دونها لا يمكن الحديث عن فعل القراءة والتأويل:
    1- النص بوصفه مجموعة من البياضات والدوال القابلة للملء وللتأويل.
    2- القارئ بوصفه مجموعة من النصوص (وهو ما يسميه إيكو بالموسوعة).
    3- التقاء النص بالقارئ، وهو ما يصفه إيكو بالتشارك النصي أو الموقع الافتراضي.
    فكيف تتمظهر هذه الحقول المتمفصلة في تفعيل دينامية القراءة والتأويل عند إيكو ؟
    بداية،
    تجدر الإشارة إلى أن كتاب إيكو السيميوطيقي " العمل المفتوح " (L'oeuvre
    ouverte) يشكل بحق، النواة الأولى أو المرحلة الجنينية لاهتمامه بالمتلقي
    ومسألة التأويل. يقـول عنه
    جان إيف تاديه (Gean Yves Tadie) : « وهو
    كتاب [ العمل المفتوح ] يحلل العمل الفني سواء كان أدبيا أم تشكيليـا أم
    موسيقيا، باعتباره منظومة من العلامات القابلة للترجمة إلى ما لا نهاية:
    كل عمل فني حينما يكون له شكل مكتمل و "مغلق" في كمال هيئته المضبوطة
    بدقة، فإنه يبقى على الأقل " مفتوحا " باعتباره قابلا للتأويل بطرق مختلفة
    دون أن يؤثر ذلك على تفرده غير القابل للاختزال ».
    ومع كتاب " القارئ
    في الحكاية " (Lector in Fabula)، تبدأ المرحلة الحقيقية في علاقة إيكو
    بإشكالية القارئ والقراءة وبمسألة التأويل من منظور سيميائي. فهو يشير في
    المقدمة التي كتبها للطبعة الفرنسية لكتابه (القارئ في الحكاية) إلى
    مسألتين تشكلان هاجسه النظري:
    أولا، معرفة الكيفية التي يستطيع بها العمل الفني أن يفرض تدخلا تأويليا حرا من قبل المتلقي.
    ثانيا، تقديم الخصائص البنيوية الواصفة التي تشير وتوجه نظام التأويلات الممكنة.
    واعتماده
    على هذين الجانبين الأساسيين في بحثه، مكنه من الانزياح عن المسار الذي
    شقته السيميوطيقا بالتبئير على ما هو نصي فقط إلى فتح هذه الواجهة
    (النصية) على أطراف التلقي والتأويل .
    إن القاعدة الأساسية التي ينطلق
    منها إيكو في كتابه (القارئ في الحكاية)، تتمثل في كون وجود النص يفترض
    تعاون القارئ و مشاركته كشرط حتمي لانتشاله من الجمود إلى الحركة. إنه
    البياض والمسكوت عنه الذي يتركه النص كهامش لتحرك القارئ ومساهمته- عبر
    ملء الفراغات والبياضات- في تنشيط النص. ذلك لأن النص الأدبي -كما يعرفه
    إيكو- « آلة كسولة تتطلب من القارئ القيام بعمل مشترك دؤوب لملء البياضات
    غير المقولة أو الأشياء التي قيلت لكنها ظلت بيضاء». وهذه البياضات
    والفراغات التي تكتسح مساحة النص الأدبي هي المسؤولة عن انفتاحه (النص
    الأدبي) على إمكانيات متعددة من القراءة والتأويل.
    وهذا بالفعل ما توصل
    إليه إيكو عند حديثه عن أعمال كافكا الروائية بقوله:« إن التأويلات
    الوجودية، اللاهوتية، السريرية، والتحليلية النفسية للرموز الكافكاوية لا
    يستنزف كل واحد منها إلا جزءا من إمكانيات العمل. بحيث يبقى هذا الأخير،
    باعتباره ملتبسا غير مستنزف ومفتوحا […] وخاضعا لمساءلة دائمة » .
    إلا
    أن الحديث عن انفتاح النصوص، أو " النصوص المفتوحة " (Textes ouverts) لا
    يلغي -حسب إيكو- وجود نصوص مغلقة (Textes fermés)، أهم ما يميزها أساسا
    استهدافها قارئا محددا، يستعمل النص حسب أهدافه ومراميه؛ بخلاف النصوص
    المفتوحة التي تسعى لبناء القارئ نصيا عبر جدلية التأويل (القارئ)
    والتوليد (النص). لذلك « فاستعمال النص حسب المحلل السيميوطيقي يعني
    التعامل مع النص بعنف، وذلك كأن نقرأ مثلا المحاكمة لكافكا باعتبارها
    رواية بوليسية. وعلى العكس من ذلك فإيكو يعني ب "التأويل"، التحيين
    الدلالي لكل ما يريد أن يقوله النص باعتباره استراتيجية، وذلك عن طريق
    مشاركة قارئه النموذجي».
    انطلاقا من هذا، يتبين أن خاصية "الانفتاح"
    التي تطبع بعض النصوص، حسب تصور إيكو، لا تعني إطلاق العنان لحرية
    التأويل، بل هي مقيدة ب " سقف" التأويل المحدد من طرف النص. فهناك حدود
    للتأويل ، وهي حدود تفرضها القوانين الداخلية للنص. معنى ذلك أن إيكو لا
    يرى بأن المعاني لا نهائية وبأن التأويل لا نهائي.
    وهذا الطرح شبيه لما
    ذهب إليه شارل ساندرس بيرس في إطار حديثه عن السيرورة التأويلية
    (السيميوزيس) من أن المؤول النهائي يقوم بإيقاف " نزيف" من التأويلات التي
    يفجرها المؤول الديناميكي داخل نقطة محددة، يمكن النظر إليها باعتبارها
    أفقا نهائيا داخل سيرورة تأويلية معينة.
    في نفس السياق، يرى إيكو أن
    القوانين الداخلية للنص وإن كانت تفتح إمكانية التأويل، إلا أنها لا
    تفتحها بصورة لا نهائية، كما أن التأويلات المقترحة ليست مفروضة من طرف
    القارئ، ولكنها ناتجة عن التعاون الذي يحدث بين النص والقارئ، في إطار ما
    يسميه إيكو ب " التشارك النصي" (Coopération textuelle)، أي لحظة التفاعل
    بين النص والقارئ، وتحديدا بين النص وقارئه النموذجي: (Lecteur Modéle)
    فالنص يفترض قارئه كشرط حتمي لقدرته التواصلية الملموسة، ولكن أيضا بقوته
    الدلالية الخاصة. وبعبارة أخرى، إنه منتج لواحد قادر على تحيينه - وحتى
    إذا كنا لا نأمل (أو لا نريد) أن يكون هذا الواحد موجودا ماديا أو تجريبيا»
    لذلك
    عد القارئ النموذجي، حسب إيكو استراتيجية نصية، تقابل الاستراتيجية النصية
    للمؤلف: فإذا كان المؤلف يتكهن بقارئه النموذجي، فإن هذا القارئ يرسم
    لنفسه فرضية عن المؤلف، يقول إيكو: « فلكي ينظم المؤلف استراتيجيته النصية
    عليه أن يرجع إلى سلسلة من القدرات (وهو مصطلح أوسع من "معرفة السنن")
    التي تعطي المضمون للعبارات التي يستعملها، وعليه أن يتحمل أن مجموع
    القدرات التي يرجع إليها هي نفسها التي يرجع إليها قارئه. ولهذا يتوقع
    قارئا نموذجيا يستطيع أن يتعاون من أجل تحقيق النص بالطريقة التي يفكر بها
    المؤلف نفسه، ويستطيع أيضا أن يتحرك تأويليا كما تحرك المؤلف توليديا» .
    فالمؤلف
    يتحرك توليديا بخلقه لنص غامض، تغمره البياضات والفارغات، وفي المقابل
    يتحرك القارئ تأويليا حيث يقوم بفك مغالق النص وغموضه من خلال ملئه لهاته
    البياضات والفراغات.من هنا يتبين أن النص يشكل إطارا أو مسرحا فسيحا
    لتفاعل أو تصادم بين استراتيجيتين نصيتين: استراتيجية المؤلف واستراتيجية
    القارئ ، فالمؤلف - خلافا للاستراتيجية العسكرية التي تتغيى إحداث خسائر
    هائلة في العدو- ينهج استراتيجية الانتصار، يتم بموجبها بناء القارئ
    النموذجي. إلا أن ما يميز علاقة القارئ النموذجي بالمؤلف يكمن في كون
    الفرضية التي كونها " القارئ التجريبي" - الذي يتقمص دور القارئ النموذجي
    - عن "مؤلفه النموذجي" أكثر تأسيسا من تلك التي كونها " المؤلف التجريبي
    عن "القارئ النموذجي "، ذلك أن المؤلف يفترض أشياء لم توجد بعد ويحققها
    كسلسلة من العمليات النصية؛ في حين أن القارئ يفترض صورة نمطية للشيء الذي
    روقب من قبل كفعل للتلفظ وأصبح الآن نصيا كملفوظ .
    كما أن الاختلاف
    يحدث أيضا على مستوى سنن كل من المؤلف والقارئ: إذ يحدث أن يكون سنن
    القارئ أضيق من سنن المؤلف -أو العكس- وبالتالي يتم استدعاء، علاوة على
    القدرة اللسانية، ما يسميه إيكو بالموسوعة (Encyclopédie) بوصفها «مجموعة
    مدونة من التأويلات تدرك موضوعيا كخزانة الخزانات» وهي التي يستحضرها
    القارئ ليس برمتها، وإنما حصة الموسوعة الضرورية لفهم وتأويل النص.
    هكذا
    يفترض التأويل عند إيكو تحريك الموسوعة المعرفية لدى القارئ وتنشيطها من
    خلال تفاعله مع النص عبر تبني سيناريوهات معينة، وبناء مسارات استدلالية
    وتحديد عوالم ممكنة وفق ما تخطط له الاستراتيجية النصية، أو بعبارة إيزر «
    مجموع التوجهات الأولية التي يقترحها نص تخييلي على قارئه، باعتباره شروط
    تلقيه التي يقوم القارئ بتجسيدها».
    هذه إذن هي أهم القضايا التي
    أثارتها نظرية إيكو السيميوطيقية في مجال القراءة والتأويل، وهي قضايا
    استثمرها إيزر وحاول أن يطورها ويطوعها لتلائم مشروعه المنفتح على جمالية
    التلقي.
    فكتابه " فعل القراءة " (L'acte de lecture)هو محاولة لتصميم
    نظرية في القراءة باعتبارها شرطا مسبقا وضروريا لجميع عمليات التأويل.إلا
    أن القراءة التي يعنيها إيزر هي تلك التي لا تنظر إلى التواصل على أنه
    علاقة ذات اتجاه واحد، من النص إلى القارئ، بل تنظر إليه في اتجاهين
    متبادلين من النص إلى القارئ، ومن القارئ إلى النص في إطار علاقة تفاعلية.
    ولكي
    يصف إيزر هذه العلاقة التفاعلية بين النص والقارئ، فإنه يقدم عددا من
    المفاهيم المساهمة في بناء هذه العلاقة، وفي مقدمتها مفهوم " القارئ
    الضمني" (Le Lecteur implicite ) باعتباره فرضية متضمنة في النص. وبهذا
    التصور يتوضح أن مفهوم القارئ الضمني يقترب من مفهوم القارئ النموذجي عند
    إيكو من حيث كونهما محفلين نصيين. وباعتبارهما كذلك، فهذا لا يعني تغييبا
    لدور القارئ الحقيقي، بل « شرط التوتر الذي يعيشه القارئ عندما يقبل دوره
    ».
    لقد كانت نقطة الانطلاق عند إيزر هي البحث عن كيفية أن يكون للنص
    معنى لدى القارئ. والمعنى هنا ليس هو المعنى الجاهز والمختبئ في النص، كما
    ترسخ في الشكل التقليدي للتأويل، بل المعنى الذي ينشأ نتيجة للتفاعل بين
    النص والقارئ، أي بوصفه " أثـرا يمكن ممارسته " واكتشافه من جديد، وليس "
    موضوعا يمكن تحديده " والتقيد به . ولذلك ارتبط " الوقع " عند إيزر
    بالصورة التي يخلقها المعنى أو يوحي بها لا بالمعنى ذاته. لذلك فمهمة
    التأويل حسب إيزر تكمن في تفجير الطاقات الدلالية الاحتمالية الكامنة في
    النص بفضل المشاركة الفعالة للقارئ، باعتباره الشحنة الحرارية التي تتوهج
    باستمرار عند كل قراءة جديدة.
    ومن هنا استقر ضمن الأصول الإبستمولوجية
    لنظرية إيزر الإقرار بنسبية القراءة وانفتاحها على آفاق رحبة. وهذا ما
    يفسر تعدد قراءات المتلقي الواحد وتباينها تبعا لتغير ما يحف بالآليات
    والشروط التي تخضع لها الممارسة التأويلية برمتها.
    إن القارئ -كما يرى
    إيزر- مرتبط، في الواقع، بمبدأ النص المفتوح كما حدده إيكو، ذلك أن أي نص
    مفتوح يقوم على بنية احتمالية لا تنسخ الواقع، وإنما تعيد بناءه وفقا
    لآليات محددة.
    هكذا يطور إيزر فكرة " الوضعية المرجعية " التي يفتقدها
    الخطاب التخييلي، لينتهي إلى الالتقاء مع إيكو في تحديده لعلاقة الدلالة
    بمرجعيتها، والتي تنبني بمشاركة القارئ عبر تمثل خاص للواقع وفي استقلال
    عنه في ذات الوقت. ولضبط هذه المرجعية، يستخدم إيزر مفاهيم قريبة من تلك
    التي وضعها إيكو مثل " السجل" و "الاستراتيجية" . ويحدد إيزر دور السجل في
    تنظيم البنية النصية كحدث في ضوء « ما تتضمنه من تقاليد فنية وقيم
    تاريخية. فينتج عن ذلك أن التأويل يظل متعددا بتعدد القراء وقدرتهم على أن
    يعكسوا تفاعلا جديدا بين أجهزة قراءتهم وبين الوقع الجمالي الذي يفرضه
    النص عليهم بحكم قيمته الفنية».
    وبحكم استناد النص إلى السجل، فإنه
    ينظم نوعا من الاستراتيجية التي تتغيى تنشيط خيال القارئ عبر تقديم بعض
    إمكانيات الالتحام للقارئ. لأن النص يجب أن يظل مفتوحا أمام إمكانية فهم
    وتأويل القارئ، وإلا فإن تلك الاستراتيجيات بتحديدها لكل شيء " ستشل" خيال
    القارئ.
    ويرى إيزر ان مقولات " الاحتمال " و " اللاتماثل" و "
    اللاتناسق " و " اللاتحديد " وبنيات " البياضات " و " الفراغات " و "
    طاقات النفي " ما هي إلا عبارات تدل على تنوعها على ما يسميه إيزر ب "
    الفراغ الباني " (Le vide constitutif )، والذي تنبني عليه العلاقـة
    التفاعلية
    بين النص والقارئ، وتضبطه إلى حد كبير. و « عامل " الضبط " هذا الذي حرص
    إيزر على تأكيده في نظريته هو ما يحصن آراءه ومواقفه من منتقديه ويمنع
    مفهومه للتأويل من الانزلاق في الذاتية السطحية (…) ويـرى إيزر [ تماشيا
    مع تصور إيكو] أنه بالرغم من كون المعنى غير ثابت في النص، توجد ثوابت لا
    بد من مراعاتـــها خـلال عمليـة التأويل». بمعنى أن القارئ ولو أنه يبدو
    ظاهريا بأنه يتمتع بحرية مطلقة فـي تأويل نص أدبي من خلال ملئه للفراغات
    والبياضات، فإن هذه الحرية، من جهة أخرى، تبقى مشروطة ومقيدة بمجموعة من
    النماذج أو المنظورات النصية، أو كما يسميها إيكو العوالم الممكنة التي
    تساهم في ضبط المسار التأويلي عند القارئ بإرشاد من التوجيهات النصية. حيث
    يندمج القارئ في « بنيات النص ويعدل كل لحظة مخزون ذاكرته في ضوء المعطيات
    الجديدة لكل لحظة من لحظات القراءة، [ومن هنا تكون] غاية وجهة النظر
    الجوالة للقارئ هي بلوغ التأويل المتسق (أي الجشطالت) ».
    تأسيسا على ما
    سبق، يتبين أن عددا من المفاهيم والأفكار التي طرحها إيزر على مستوى
    القراءة والتأويل، تشكل بحق امتدادا وتطويرا، إن لم نقل تقاطعا مع مجمل
    المفاهيم والأفكار التي قدمها إيكو، لا سيما في كتابه ( القارئ في
    الحكاية) .
    هكـذا، وفي ضوء الاعتبارات السابقة، يمكن أن نخلص إلى أن:
    1- القراءة، في تصور كل من إيكو وإيزر، هي شرط مسبق وضروري لجميع عمليات التأويل الأدبي .
    2- الإقرار بنسبية القراءة وانفتاح النص على تعدد التأويلات.
    3- إن الوظيفة الخاصة بالعمل الأدبي متمثلة في العلاقة بين النص والقارئ.
    4- إن النص الأدبي ليس إطارا أو شكلا يعبئه الكاتب بمعنى ثابت وسرمدي، بل بنية افتراضية محققة من طرف القراء.
    5-
    الإيمان الراسخ بأن معنى النص لا يتشكل بذاته وفي ذاته، بل يتشكل لحظة
    القراءة وعبر مشاركة القارئ النموذجي أو الضمني كمحفلين وكاستراتيجيتين
    نصيتين .
    6- إن مهمة التأويل هي تفجير الطاقات الدلالية الاحتمالية الكامنة في النص، وليس المعنى المطابق له .
    7-
    إن النص باعتباره آلة كسولة ونسيجا من البياضات والفراغات ومواقع
    اللاتحديد يترك الفسحة لتدخل القارئ ليتمكن من تحيين النص وفق إرغاماته
    الخطية.
    8- الإقرار بحدود التأويل من حيث أن النص له سلطة الضبط والتوجيه في عملية القراءة والتأويل.












    top
    الحافة : ..

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 7:47 am