نظرية التلقي
-لقد أضحى مصطلح التلقي مرتبطا ارتباطا وثيقا بجامعة كونستانس الألمانية ،
حتى غدا ذكر إحداهما يستلزم الأخرى ، و الأمر ليس غريبا ، ما دامت نظرية
التلقي قد استوت على سوقها هناك ، بعد أن ارتوت بماء الفكر عبر قرون طويلة
، تنبع من الفلسفة اليونانية ، لتصب في النهضة الأوروبية الحديثة ، مرورا
بعيون متنوعة من الثقافة الإنسانية لعل أبرزها الثقافة العربية التي تأثرت
بالنبع و أثرت في المصب !
لا تروم هذه الورقة التفصيل في تشعبات النظرية المتشابكة ، و لا البحث عن
جذورها أو أصولها ، بقدر ما تهدف إلى بيان أهم ركائزها التي يمكن تحديدها
في ثلاثة ركائز أساسية ، و هي :
1 – القارئ :
يعتبر القارئ محور نظرية التلقي التي شكلت ثورة في تاريخ الأدب ، حين
أعادت الاعتبار لهذا العنصر ، و بوأته المكانة اللائقة على عرش الاهتمام
الذي تناوبه المؤلف و النص من قبل ، ذلك أن : ( القارئ ضمن الثالوث
المتكون من المؤلف و العمل و الجمهور ، ليس مجرد عنصر سلبي يقتصر دوره على
الانفعال بالأدب ، بل يتعداه إلى تنمية طاقة تساهم في صنع التاريخ )1 ، و
هذا الأمر يستهدف نظرة جديدة للعلاقة بين التاريخ و الأدب ، مما يعني (
إلغاء الأحكام المسبقة التي تتميز بها النزعة الموضوعية التاريخية ، و
تأسيس جمالية الإنتاج و التصوير التقليدية على جمالية الأثر المنتج و
التلقي )2
و هذه العلاقة الحوارية تفرض على مؤرخ الأدب ( أن يتحول أولا و باستمرار إلى قارئ قبل أن يتمكن من فهم عمل و تحديده تاريخيا )3
و إذا كان الاهتمام بالقارئ يشترك فيه جميع منظري التلقي فإن الاهتمام
انصب حول تحديد سمات هذا القارئ ، حيث خلص الدكتور إدريس بلمليح إلى تحديد
أربعة أنماط من القراء :
1 – القارئ النموذجي الذي استعمله المفكر الأسلوبي مكاييل ريفاتير ليحدد
في ضوئه مظاهر القراءة الأسلوبية التي تتطلب شخصا متمرسا كل التمرس بنظام
لغة الشعر ، و مدركا لطبيعة الاختلاف بين هذه اللغة و بين اللغة اليومية .
2 – القارئ الخبير ، و يتلخص فعله بالسعي الدائم إلى إخصاب مضامين النصوص التي تعتبر وثائق أفكار و أحاسيس تنقلها اللغة .
3- القارئ المقصود ، و هو من توجه إليه النص حين ظهوره المبدئي أي الذات
الجماعية التي عاشت الأوضاع التاريخية للمبدع " ثم الذات التي تشكل
استمرارا مباشرا للنص ، و تقمصا جديدا لفعله ، في إطار نوع من التكامل
بينهما .
4 – القارئ الضمني ، و يرى الدكتور بلمليح أن امبرتو ايكو هو أول باحث حدد
هوية هذا القارئ ، إذ يمثل المقصد الذي يوصله نشاطه التعاوني إلى استخراج
ما يفترضه النص و يعدنا به لا ما يقوله النص في حد ذاته ، إضافة إلى ملئه
الفضاءات الفارغة و ربطه ما يوجد في النص بغيره مما يتناص معه . 4
و لعل هذا القارئ الأخير شعل مساحة مهمة من فكر منظري التقي ، لا سيما
فولنغانغ ايزر الذي فصّل في مفهوم هذا القارئ ، إذ يرى أنه ( مجسد كل
الاستعدادات المسبقة الضرورية بالنسبة للعمل الأدبي كي يمارس تأثيره ، و
هي استعدادات مسبقة ليست مرسومة من طرف واقع خارجي و تجريبي ، بل من طرف
النص ذاته . و بالتالي فالقارئ الضمني كمفهوم ، له جذور متأصلة في بنية
النص ؛ إنه تركيب لا يمكن بتاتا مطابقته مع أي قارئ حقيقي )5
و قد بين روبرت هولب أن ايزر نسخ مفهوم القارئ الضمني عن مفهوم المؤلف الضمني لواين بوث في كتابه بلاغة الفن القصصي 6
و عموما فإن الاحتفال بالقارئ عند رواد نظرية التلقي واكبته نظرة جديدة
إلى هذا القارئ ؛ نظرة تهدف إلى تجاوز سلبيته التي راكمتها قرون إهماله ،
فغدا صاحب فعل جديد يصل إلى حد المشاركة في صنع المعنى لأن ( القارئ الذي
يتوقف عند مرحلة " فهم المعاني اللفظية " أي العلامات اللغوية داخل أنساق
يحكمها قانون التوحد بين طرفي العلامة ، ليس هو القارئ الذي يتحدث عنه
أصحاب نظرية التلقي ، لأن هذا القارئ لن يكون قادرا على " ملء فراغات النص
" ، و قيام القارئ بملء فراغات النص هو جوهر التلقي )7 فما المقصود
بالفراغ أو الفجوة ؟ و هل المعنى موجود سلفا في النص كما قصده المؤلف ؟ أم
يعكس انطباع القارئ ؟
2 – بناء المعنى
قبل الحديث عن المعنى عند أصحاب التلقي ، لا بد من تحديد مفهوم الفراغ أو
الفجوة ، مفهوم ارتبط برومان انجاردن الذي رفض في فلسفته الظواهرية ثنائية
الواقع و المثال في تحليل المعرفة ، و رأى أن العمل الفني الأدبي يقع خارج
هذه الثنائية ، فلا هو معين بصورة نهائية ، و لا هو مستقل بذاته ، و لكنه
يعتمد على الوعي و يتشكل في هيكل أو بنية مؤطرة ، تقوم في أجزاء منها على
الإبهام الناشئ عما تشتمل عليه من فجوات أو فراغات يتعين على القارئ ملؤها
)8
إن الهيكل أو البنية المؤطرة التي يتحدث عنها انجاردن ، تتشكل من أربع
طبقات للعمل الأدبي هي : ( أصوات الكلمات ، و معاني الكلمات ، و الأشياء
التي يمثلها النص ، و أخيرا الجوانب التخطيطية )9
فإذا كانت الأشياء في الواقع لا تحتمل غير معنى واحد و محدود و معروف ،
فإنها على النقيض من ذلك في العمل الأدبي ، بل ( ينبغي لها أن تحتفظ
لنفسها بدرجة من الإبهام )10، و هذا الإبهام يقوم القارئ بتحديده ، و هو
ما يصطلح عليه التحقق العياني الذي هو ( نشاط يقوم به القراء يتعلق
باستبعاد العناصر المبهمة أو الفراغات ، أو الجوانب المؤطرة في النص ، أو
بملئها )11
بيد أن ملء الفراغ ، يختلف باختلاف قدرات القراء : ( و لكن القراء في
ممارستهم عملية التحقق العياني يجدون الفرصة كذلك لإعمال خيالهم ، ذلك بأن
ملء الفراغات بأشياء محددة يتطلب قو ة إبداعية ، يضيف إليها انجاردن
المهارة و حدة الذهن كذلك )12
و بهذا نقترب من التفاعلية التي اشتهر بها ايزر ، و حديثه عن إنتاج المعنى
، لا سيما إذا كنا أمام قارئ يمتلك خيالا خصبا ، و ذهنا حادا ، ذلك أن
ايزر : ( ينظر إلى معنى النص على أنه من إنشاء القارئ و لكن بإرشاد من
التوجيهات النصية ، و من ثم فإن القراء أحرار في ظاهر الأمر في أن يحققوا
بطرق مختلفة معاني مختلفة تحقيقا عيانيا ، أو في أن يخلقوها خلقا )13 و من
هنا فإن ايزر و ياوس كليهما ينظران إلى أن المعنى يتحقق نتيجة التفاعل بين
القارئ و النص كما يوضح ذلك عز الدين إسماعيل قائلا : ( فهم ياوس التفسير
على أنه نشاط القارئ في فهم النص ، و كذلك الشأن بالنسبة لايزر الذي ذهب
إلى أن المعنى لا يستخرج من النص ، أو تشكله المفاتيح النصية ، بل الأحرى
أنه يتحقق من خلال التفاعل بين القارئ و النص ، و التفسير عندئذ لا يستلزم
استكشاف معنى محدد للنص )14
نستخلص من هذه المقارنة التي عقدها الدكتور عز الدين إسماعيل بين قطبي
التلقي : ياوس و ايزر ، أن النص لا يحمل قصدا معينا بله المؤلّف ، بل إن
المعنى لا يستخرج من النص كشيء ثابت محدد ، بقدر ما يكون البحث عنه (
التفسير ) نشاطا " يقوم به القارئ في فهم النص " على حد تعبير ياوس ، و
كفى بهذا دليلا على نفي القصدية كما يؤكد ذلك الدكتور عبد العزيز حمودة
قائلا : ( موقف أعضاء نادي التلقي من القصدية ، يتفق مع ما انشغلوا به من
نقل سلطة التفسير بالكامل إلى القارئ أو فعل القراءة ، ففي ظل هذا التحول
الجديد لا يصبح لقصد المؤلف أو النص مكان في القراءة التأويلية ، و لهذا
يتفق أصحاب التلقي في إجماع ، باستثناء صوت واحد تقريبا هو صوت هيرش ، على
نفي القصدية )15
بيد أن نفي القصدية و نقل سلطة التفسير إلى القارئ ، مع ما يواكب ذلك من
تعدد القراءات للنص الواحد ، بل و تعدد قراءات القارئ الواحد للنص الواحد
، كل ذلك أسهم في دق جرس خطر الفوضى ، و هو ما تنبه له رواد النظرية كما
بين ذلك الدكتور حمودة قائلا : ( لقد اشتركوا جميعا في إدراك مخاطر نظرية
التلقي ، و في مقدمتها فوضى التفسير بالطبع ، و هكذا حاولوا جميعا تقديم
ضوابط للتفسير تتمثل عند البعض بالجماعة أو الجماعات المفسرة ، و أسماها
آخرون بأفق التوقعات التي يجيء بها الفرد إلى النص في بداية فعل القراءة
)16 فما مفهوم أفق التوقع ؟ و ما موقعه ضمن نظرية التلقي ؟
3- أفق التوقع :
لقد بين الدكتور عبد العزيز حمودة أن محور نظرية التلقي الذي يجمع عليه
رواد النظرية هو أفق التوقع قائلا : ( إن محور نظرية التلقي الذي لا يختلف
عليه أي من أقطاب النظرية منذ ظهوره في الثلاثينات حتى الثمانينات هو "
أفق توقع القارئ في تعامله مع النص . قد تختلف المسميات عبر الخمسين عاما
، و لكنها تشير إلى شيء واحد : ماذا يتوقع القارئ أن يقرأ في النص ؟ و هذا
التوقع ، و هو المقصود ، تحدده ثقافة القارئ ، و تعليمه ، و قراءاته
السابقة ، أو تربيته الأدبية و الفنية )17
و بالرغم من ارتباط المصطلح بياوس فإن جذوره ممتدة في الفلسفة الأوروبية ،
و لعل جادامر أبرز المنظرين الذين فصّلوا في مفهوم الأفق الذي : ( يصف
تمركزنا في العالم ، و لكن ينبغي ألا نتصور على أنه مرتكز ثابت و مغلق ، و
الأصح أنه " شيء ندخل فيه ، و هو يتحرك معنا " ... و يمكن كذلك تعريفه
بالإشارة إلى التحيزات التي نحملها معنا في أي وقت بعينه ، ما دامت هذه
التحيزات تمثل أفقا لا نستطيع أن نرى أبعد منه )18
ويرى هولب أن ياوس قد عرف مصطلح الأفق تعريفا غامضا للغاية ، معتمدا في
إفهامه على الإدراك العام لدى القارئ19، ثم يخلص إلى أن مصطلح أفق
التوقعات ربما ظهر ( لكي يشير إلى نظام ذاتي مشترك أو بنية من التوقعات ،
إلى " نظام من العلاقات " أو جهاز عقلي يستطيع فرد افتراضي أن يواجه به أي
نص )20
رغم أن ياوس قد سعى إلى أجرأة هذا المصطلح من خلال محاولة موضعته ، حيث
هدف تعريفه بدقة حين قال : ( و نقصد بأفق التوقع نسق الإحالات القابل
للتحديد الموضوعي الذي ينتج و بالنسبة لأي عمل في اللحظة التاريخية التي
ظهر فيها ، عن ثلاثة عوامل أساسية : تمرس الجمهور السابق بالجنس الأدبي
الذي ينتمي إليه هذا العمل ، ثم أشكال و موضوعات أعمال ماضية تفترض
معرفتها في العمل ، و أخيرا التعارض بين اللغة الشعرية و اللغة العملية ،
بين العالم الخيالي و العالم اليومي )21
ففي هذا النص الذي لا يستغني عنه أي دارس لنظرية التلقي عموما ، و لمصطلح
أفق التوقع خصوصا ، يحدد ياوس العوامل الأساسية التي تصنع نسق الإحالات
القابل للتحديد الموضوعي أي أفق التوقع ، و يحصرها في ثلاثة عوامل :
1 – المعرفة القبلية التي يكتسبها القارئ عن الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه
العمل الأدبي الذي سيقرأه ذلك أن ( العمل الأدبي – حتى في لحظة صدوره – لا
يكون ذا جدة مطلقة تظهر فجأة في فضاء يباب .... فكل عمل يذكر القارئ
بأعمال أخرى سبق له أن قرأها )22
2 – " أشكال و موضوعات أعمال ماضية تفترض معرفتها في العمل " أو ما عبر
عنه ياوس في موضع آخر بــــ ( العلائق الضمنية التي تربط هذا النص بنصوص
أخرى معروفة تندرج في سياقه التاريخي ) 46 حيث إن النص الجديد : ( يستدعي
بالنسبة للقارئ ( أو السامع ) مجموعة كاملة من التوقعات و التدبيرات التي
عودته عليها النصوص السابقة و التي يمكن في سياق القراءة أن تعدل أو تصحح
، أو تغير أو تكرر ) ً45 ، فالقارئ يبني أفقا جديدا من خلال اكتساب وعي
جديد ، و ذلك بعد التعارض الذي يحصل له عند مباشرته للنص الأدبي بمجموعة
من المحمولات الفنية و الثقافية و بين عدم استجابة النص لتلك الانتظارات و
التوقعات23
3 – التعارض بين اللغة الشعرية ( العالم الخيالي ) و اللغة العملية (
العالم اليومي ) ، الشيء الذي يسمح بمزاولة مقارنات أثناء القراءة بالنسبة
للقارئ المتأمل24 إذ إن ( هذا العنصر الأخير يسعف القارئ على إدراك العمل
الجديد تبعا للأفق المحدود لتوقعه الأدبي ، و تبعا كذلك لأفق أوسع تعرضه
تجربته الحياتية ) 24
يتضح مما سبق أن ياوس يفترض في القارئ معرفة مهمة تكتسب عن طريق الدراية و
الممارسة من خلال معاشرة النصوص و الإحاطة بالسنن الفنية التي تميز بين
الأجناس الأدبية إذ يقول الدكتور أحمد بوحسن في هذا الصدد : ( و يكون
القارئ مدركا لتوالي النصوص في الزمان ، بحيث ينفذ ببصيرته إلى النصوص
التي تأتي باختلالات أو تشويشات جديدة على التقاليد الفنية القديمة ، ثم
يلتقط القارئ تلك البذور الفنية الجديدة التي تقوى على طرح تساؤلات جديدة
على الانتظارات التقليدية الجارية المعهودة )25
و هكذا نخلص إلى أن نظرية التلقي قد شكلت ثورة في دراسة الأدب حين نقلت
الاهتمام إلى المتلقي الذي أهملت المناهج و النظريات السابقة التي ركزت
على المبدع أو النص ، و ما أحوجنا إلى استثمار هذه النظرية في إعادة قراءة
تاريخنا الأدبي الذي أسهم المتلقون في تشييده .
هوامش
1 – جمالية التلقي – هانز روبرت ياوس – ترجمة رشيد بنحدو ص 40
2 - نفسه ص 42
3 - نفسه ص 42
4 – قراءة القصيدة التقليدية – إدريس بلمليح ص 4-5
5 – فعل القراءة ، نظرية جمالية التجاوب في الأدب – فولفغانغ ايزر ، ترجمة : حميد لحمداني و الجيلالي الكدية ص 30
6 – نظرية التلقي ـ روبرت هولب ، ترجمة : عز الدين إسماعيل ص 136
7 – الخروج من التيه – عبد العزيز حمودة ص 121
8 – نظرية التلقي ص 12
9 – المرايا المقعرة ـ نحو نظرية نقدية عربية ، عبد العزيز حمودة ص 134
10 – نظرية التلقي ص 63
11 – نفسه ص 64
12 - نفسه ص 64
13- نفسه ص 158
14 – نفسه ص 21
15 – الخروج من التيه ص 132
16 – نفسه ص 118
17 – المرايا المحدبة ، من البنيوية إلى التفكيك ـ عبد العزيز حمودة ص 323
18 – نظرية التلقي – روبرت هولب ص 85
19 – نفسه ص 105
20 – نفسه ص 105
21 – جمالية التلقي – هانز روبرت ياوس ص 44
22 – نفسه ص 45
23 – نظرية التلقي و النقد الأدبي العربي الحديث مقال ضمن " نظرية التلقي : إشكالات و تطبيقات " أحمد بوحسن ص 30
24 - جمالية التلقي ص 46
25 – نظرية التلقي و النقد العربي الحديث ص 29
-لقد أضحى مصطلح التلقي مرتبطا ارتباطا وثيقا بجامعة كونستانس الألمانية ،
حتى غدا ذكر إحداهما يستلزم الأخرى ، و الأمر ليس غريبا ، ما دامت نظرية
التلقي قد استوت على سوقها هناك ، بعد أن ارتوت بماء الفكر عبر قرون طويلة
، تنبع من الفلسفة اليونانية ، لتصب في النهضة الأوروبية الحديثة ، مرورا
بعيون متنوعة من الثقافة الإنسانية لعل أبرزها الثقافة العربية التي تأثرت
بالنبع و أثرت في المصب !
لا تروم هذه الورقة التفصيل في تشعبات النظرية المتشابكة ، و لا البحث عن
جذورها أو أصولها ، بقدر ما تهدف إلى بيان أهم ركائزها التي يمكن تحديدها
في ثلاثة ركائز أساسية ، و هي :
1 – القارئ :
يعتبر القارئ محور نظرية التلقي التي شكلت ثورة في تاريخ الأدب ، حين
أعادت الاعتبار لهذا العنصر ، و بوأته المكانة اللائقة على عرش الاهتمام
الذي تناوبه المؤلف و النص من قبل ، ذلك أن : ( القارئ ضمن الثالوث
المتكون من المؤلف و العمل و الجمهور ، ليس مجرد عنصر سلبي يقتصر دوره على
الانفعال بالأدب ، بل يتعداه إلى تنمية طاقة تساهم في صنع التاريخ )1 ، و
هذا الأمر يستهدف نظرة جديدة للعلاقة بين التاريخ و الأدب ، مما يعني (
إلغاء الأحكام المسبقة التي تتميز بها النزعة الموضوعية التاريخية ، و
تأسيس جمالية الإنتاج و التصوير التقليدية على جمالية الأثر المنتج و
التلقي )2
و هذه العلاقة الحوارية تفرض على مؤرخ الأدب ( أن يتحول أولا و باستمرار إلى قارئ قبل أن يتمكن من فهم عمل و تحديده تاريخيا )3
و إذا كان الاهتمام بالقارئ يشترك فيه جميع منظري التلقي فإن الاهتمام
انصب حول تحديد سمات هذا القارئ ، حيث خلص الدكتور إدريس بلمليح إلى تحديد
أربعة أنماط من القراء :
1 – القارئ النموذجي الذي استعمله المفكر الأسلوبي مكاييل ريفاتير ليحدد
في ضوئه مظاهر القراءة الأسلوبية التي تتطلب شخصا متمرسا كل التمرس بنظام
لغة الشعر ، و مدركا لطبيعة الاختلاف بين هذه اللغة و بين اللغة اليومية .
2 – القارئ الخبير ، و يتلخص فعله بالسعي الدائم إلى إخصاب مضامين النصوص التي تعتبر وثائق أفكار و أحاسيس تنقلها اللغة .
3- القارئ المقصود ، و هو من توجه إليه النص حين ظهوره المبدئي أي الذات
الجماعية التي عاشت الأوضاع التاريخية للمبدع " ثم الذات التي تشكل
استمرارا مباشرا للنص ، و تقمصا جديدا لفعله ، في إطار نوع من التكامل
بينهما .
4 – القارئ الضمني ، و يرى الدكتور بلمليح أن امبرتو ايكو هو أول باحث حدد
هوية هذا القارئ ، إذ يمثل المقصد الذي يوصله نشاطه التعاوني إلى استخراج
ما يفترضه النص و يعدنا به لا ما يقوله النص في حد ذاته ، إضافة إلى ملئه
الفضاءات الفارغة و ربطه ما يوجد في النص بغيره مما يتناص معه . 4
و لعل هذا القارئ الأخير شعل مساحة مهمة من فكر منظري التقي ، لا سيما
فولنغانغ ايزر الذي فصّل في مفهوم هذا القارئ ، إذ يرى أنه ( مجسد كل
الاستعدادات المسبقة الضرورية بالنسبة للعمل الأدبي كي يمارس تأثيره ، و
هي استعدادات مسبقة ليست مرسومة من طرف واقع خارجي و تجريبي ، بل من طرف
النص ذاته . و بالتالي فالقارئ الضمني كمفهوم ، له جذور متأصلة في بنية
النص ؛ إنه تركيب لا يمكن بتاتا مطابقته مع أي قارئ حقيقي )5
و قد بين روبرت هولب أن ايزر نسخ مفهوم القارئ الضمني عن مفهوم المؤلف الضمني لواين بوث في كتابه بلاغة الفن القصصي 6
و عموما فإن الاحتفال بالقارئ عند رواد نظرية التلقي واكبته نظرة جديدة
إلى هذا القارئ ؛ نظرة تهدف إلى تجاوز سلبيته التي راكمتها قرون إهماله ،
فغدا صاحب فعل جديد يصل إلى حد المشاركة في صنع المعنى لأن ( القارئ الذي
يتوقف عند مرحلة " فهم المعاني اللفظية " أي العلامات اللغوية داخل أنساق
يحكمها قانون التوحد بين طرفي العلامة ، ليس هو القارئ الذي يتحدث عنه
أصحاب نظرية التلقي ، لأن هذا القارئ لن يكون قادرا على " ملء فراغات النص
" ، و قيام القارئ بملء فراغات النص هو جوهر التلقي )7 فما المقصود
بالفراغ أو الفجوة ؟ و هل المعنى موجود سلفا في النص كما قصده المؤلف ؟ أم
يعكس انطباع القارئ ؟
2 – بناء المعنى
قبل الحديث عن المعنى عند أصحاب التلقي ، لا بد من تحديد مفهوم الفراغ أو
الفجوة ، مفهوم ارتبط برومان انجاردن الذي رفض في فلسفته الظواهرية ثنائية
الواقع و المثال في تحليل المعرفة ، و رأى أن العمل الفني الأدبي يقع خارج
هذه الثنائية ، فلا هو معين بصورة نهائية ، و لا هو مستقل بذاته ، و لكنه
يعتمد على الوعي و يتشكل في هيكل أو بنية مؤطرة ، تقوم في أجزاء منها على
الإبهام الناشئ عما تشتمل عليه من فجوات أو فراغات يتعين على القارئ ملؤها
)8
إن الهيكل أو البنية المؤطرة التي يتحدث عنها انجاردن ، تتشكل من أربع
طبقات للعمل الأدبي هي : ( أصوات الكلمات ، و معاني الكلمات ، و الأشياء
التي يمثلها النص ، و أخيرا الجوانب التخطيطية )9
فإذا كانت الأشياء في الواقع لا تحتمل غير معنى واحد و محدود و معروف ،
فإنها على النقيض من ذلك في العمل الأدبي ، بل ( ينبغي لها أن تحتفظ
لنفسها بدرجة من الإبهام )10، و هذا الإبهام يقوم القارئ بتحديده ، و هو
ما يصطلح عليه التحقق العياني الذي هو ( نشاط يقوم به القراء يتعلق
باستبعاد العناصر المبهمة أو الفراغات ، أو الجوانب المؤطرة في النص ، أو
بملئها )11
بيد أن ملء الفراغ ، يختلف باختلاف قدرات القراء : ( و لكن القراء في
ممارستهم عملية التحقق العياني يجدون الفرصة كذلك لإعمال خيالهم ، ذلك بأن
ملء الفراغات بأشياء محددة يتطلب قو ة إبداعية ، يضيف إليها انجاردن
المهارة و حدة الذهن كذلك )12
و بهذا نقترب من التفاعلية التي اشتهر بها ايزر ، و حديثه عن إنتاج المعنى
، لا سيما إذا كنا أمام قارئ يمتلك خيالا خصبا ، و ذهنا حادا ، ذلك أن
ايزر : ( ينظر إلى معنى النص على أنه من إنشاء القارئ و لكن بإرشاد من
التوجيهات النصية ، و من ثم فإن القراء أحرار في ظاهر الأمر في أن يحققوا
بطرق مختلفة معاني مختلفة تحقيقا عيانيا ، أو في أن يخلقوها خلقا )13 و من
هنا فإن ايزر و ياوس كليهما ينظران إلى أن المعنى يتحقق نتيجة التفاعل بين
القارئ و النص كما يوضح ذلك عز الدين إسماعيل قائلا : ( فهم ياوس التفسير
على أنه نشاط القارئ في فهم النص ، و كذلك الشأن بالنسبة لايزر الذي ذهب
إلى أن المعنى لا يستخرج من النص ، أو تشكله المفاتيح النصية ، بل الأحرى
أنه يتحقق من خلال التفاعل بين القارئ و النص ، و التفسير عندئذ لا يستلزم
استكشاف معنى محدد للنص )14
نستخلص من هذه المقارنة التي عقدها الدكتور عز الدين إسماعيل بين قطبي
التلقي : ياوس و ايزر ، أن النص لا يحمل قصدا معينا بله المؤلّف ، بل إن
المعنى لا يستخرج من النص كشيء ثابت محدد ، بقدر ما يكون البحث عنه (
التفسير ) نشاطا " يقوم به القارئ في فهم النص " على حد تعبير ياوس ، و
كفى بهذا دليلا على نفي القصدية كما يؤكد ذلك الدكتور عبد العزيز حمودة
قائلا : ( موقف أعضاء نادي التلقي من القصدية ، يتفق مع ما انشغلوا به من
نقل سلطة التفسير بالكامل إلى القارئ أو فعل القراءة ، ففي ظل هذا التحول
الجديد لا يصبح لقصد المؤلف أو النص مكان في القراءة التأويلية ، و لهذا
يتفق أصحاب التلقي في إجماع ، باستثناء صوت واحد تقريبا هو صوت هيرش ، على
نفي القصدية )15
بيد أن نفي القصدية و نقل سلطة التفسير إلى القارئ ، مع ما يواكب ذلك من
تعدد القراءات للنص الواحد ، بل و تعدد قراءات القارئ الواحد للنص الواحد
، كل ذلك أسهم في دق جرس خطر الفوضى ، و هو ما تنبه له رواد النظرية كما
بين ذلك الدكتور حمودة قائلا : ( لقد اشتركوا جميعا في إدراك مخاطر نظرية
التلقي ، و في مقدمتها فوضى التفسير بالطبع ، و هكذا حاولوا جميعا تقديم
ضوابط للتفسير تتمثل عند البعض بالجماعة أو الجماعات المفسرة ، و أسماها
آخرون بأفق التوقعات التي يجيء بها الفرد إلى النص في بداية فعل القراءة
)16 فما مفهوم أفق التوقع ؟ و ما موقعه ضمن نظرية التلقي ؟
3- أفق التوقع :
لقد بين الدكتور عبد العزيز حمودة أن محور نظرية التلقي الذي يجمع عليه
رواد النظرية هو أفق التوقع قائلا : ( إن محور نظرية التلقي الذي لا يختلف
عليه أي من أقطاب النظرية منذ ظهوره في الثلاثينات حتى الثمانينات هو "
أفق توقع القارئ في تعامله مع النص . قد تختلف المسميات عبر الخمسين عاما
، و لكنها تشير إلى شيء واحد : ماذا يتوقع القارئ أن يقرأ في النص ؟ و هذا
التوقع ، و هو المقصود ، تحدده ثقافة القارئ ، و تعليمه ، و قراءاته
السابقة ، أو تربيته الأدبية و الفنية )17
و بالرغم من ارتباط المصطلح بياوس فإن جذوره ممتدة في الفلسفة الأوروبية ،
و لعل جادامر أبرز المنظرين الذين فصّلوا في مفهوم الأفق الذي : ( يصف
تمركزنا في العالم ، و لكن ينبغي ألا نتصور على أنه مرتكز ثابت و مغلق ، و
الأصح أنه " شيء ندخل فيه ، و هو يتحرك معنا " ... و يمكن كذلك تعريفه
بالإشارة إلى التحيزات التي نحملها معنا في أي وقت بعينه ، ما دامت هذه
التحيزات تمثل أفقا لا نستطيع أن نرى أبعد منه )18
ويرى هولب أن ياوس قد عرف مصطلح الأفق تعريفا غامضا للغاية ، معتمدا في
إفهامه على الإدراك العام لدى القارئ19، ثم يخلص إلى أن مصطلح أفق
التوقعات ربما ظهر ( لكي يشير إلى نظام ذاتي مشترك أو بنية من التوقعات ،
إلى " نظام من العلاقات " أو جهاز عقلي يستطيع فرد افتراضي أن يواجه به أي
نص )20
رغم أن ياوس قد سعى إلى أجرأة هذا المصطلح من خلال محاولة موضعته ، حيث
هدف تعريفه بدقة حين قال : ( و نقصد بأفق التوقع نسق الإحالات القابل
للتحديد الموضوعي الذي ينتج و بالنسبة لأي عمل في اللحظة التاريخية التي
ظهر فيها ، عن ثلاثة عوامل أساسية : تمرس الجمهور السابق بالجنس الأدبي
الذي ينتمي إليه هذا العمل ، ثم أشكال و موضوعات أعمال ماضية تفترض
معرفتها في العمل ، و أخيرا التعارض بين اللغة الشعرية و اللغة العملية ،
بين العالم الخيالي و العالم اليومي )21
ففي هذا النص الذي لا يستغني عنه أي دارس لنظرية التلقي عموما ، و لمصطلح
أفق التوقع خصوصا ، يحدد ياوس العوامل الأساسية التي تصنع نسق الإحالات
القابل للتحديد الموضوعي أي أفق التوقع ، و يحصرها في ثلاثة عوامل :
1 – المعرفة القبلية التي يكتسبها القارئ عن الجنس الأدبي الذي ينتمي إليه
العمل الأدبي الذي سيقرأه ذلك أن ( العمل الأدبي – حتى في لحظة صدوره – لا
يكون ذا جدة مطلقة تظهر فجأة في فضاء يباب .... فكل عمل يذكر القارئ
بأعمال أخرى سبق له أن قرأها )22
2 – " أشكال و موضوعات أعمال ماضية تفترض معرفتها في العمل " أو ما عبر
عنه ياوس في موضع آخر بــــ ( العلائق الضمنية التي تربط هذا النص بنصوص
أخرى معروفة تندرج في سياقه التاريخي ) 46 حيث إن النص الجديد : ( يستدعي
بالنسبة للقارئ ( أو السامع ) مجموعة كاملة من التوقعات و التدبيرات التي
عودته عليها النصوص السابقة و التي يمكن في سياق القراءة أن تعدل أو تصحح
، أو تغير أو تكرر ) ً45 ، فالقارئ يبني أفقا جديدا من خلال اكتساب وعي
جديد ، و ذلك بعد التعارض الذي يحصل له عند مباشرته للنص الأدبي بمجموعة
من المحمولات الفنية و الثقافية و بين عدم استجابة النص لتلك الانتظارات و
التوقعات23
3 – التعارض بين اللغة الشعرية ( العالم الخيالي ) و اللغة العملية (
العالم اليومي ) ، الشيء الذي يسمح بمزاولة مقارنات أثناء القراءة بالنسبة
للقارئ المتأمل24 إذ إن ( هذا العنصر الأخير يسعف القارئ على إدراك العمل
الجديد تبعا للأفق المحدود لتوقعه الأدبي ، و تبعا كذلك لأفق أوسع تعرضه
تجربته الحياتية ) 24
يتضح مما سبق أن ياوس يفترض في القارئ معرفة مهمة تكتسب عن طريق الدراية و
الممارسة من خلال معاشرة النصوص و الإحاطة بالسنن الفنية التي تميز بين
الأجناس الأدبية إذ يقول الدكتور أحمد بوحسن في هذا الصدد : ( و يكون
القارئ مدركا لتوالي النصوص في الزمان ، بحيث ينفذ ببصيرته إلى النصوص
التي تأتي باختلالات أو تشويشات جديدة على التقاليد الفنية القديمة ، ثم
يلتقط القارئ تلك البذور الفنية الجديدة التي تقوى على طرح تساؤلات جديدة
على الانتظارات التقليدية الجارية المعهودة )25
و هكذا نخلص إلى أن نظرية التلقي قد شكلت ثورة في دراسة الأدب حين نقلت
الاهتمام إلى المتلقي الذي أهملت المناهج و النظريات السابقة التي ركزت
على المبدع أو النص ، و ما أحوجنا إلى استثمار هذه النظرية في إعادة قراءة
تاريخنا الأدبي الذي أسهم المتلقون في تشييده .
هوامش
1 – جمالية التلقي – هانز روبرت ياوس – ترجمة رشيد بنحدو ص 40
2 - نفسه ص 42
3 - نفسه ص 42
4 – قراءة القصيدة التقليدية – إدريس بلمليح ص 4-5
5 – فعل القراءة ، نظرية جمالية التجاوب في الأدب – فولفغانغ ايزر ، ترجمة : حميد لحمداني و الجيلالي الكدية ص 30
6 – نظرية التلقي ـ روبرت هولب ، ترجمة : عز الدين إسماعيل ص 136
7 – الخروج من التيه – عبد العزيز حمودة ص 121
8 – نظرية التلقي ص 12
9 – المرايا المقعرة ـ نحو نظرية نقدية عربية ، عبد العزيز حمودة ص 134
10 – نظرية التلقي ص 63
11 – نفسه ص 64
12 - نفسه ص 64
13- نفسه ص 158
14 – نفسه ص 21
15 – الخروج من التيه ص 132
16 – نفسه ص 118
17 – المرايا المحدبة ، من البنيوية إلى التفكيك ـ عبد العزيز حمودة ص 323
18 – نظرية التلقي – روبرت هولب ص 85
19 – نفسه ص 105
20 – نفسه ص 105
21 – جمالية التلقي – هانز روبرت ياوس ص 44
22 – نفسه ص 45
23 – نظرية التلقي و النقد الأدبي العربي الحديث مقال ضمن " نظرية التلقي : إشكالات و تطبيقات " أحمد بوحسن ص 30
24 - جمالية التلقي ص 46
25 – نظرية التلقي و النقد العربي الحديث ص 29