دراسة أسلوبية
لقد بلغت الرحلة مع شعر الصعاليك نهايتها، فبعد مسيرة بحث شاقة تناولت فيها ظاهرة الانزياح في شعر الصعاليك، يمكن تأشير النتائج والمقترحات التي توضح خصائص الأسلوب في شعر الصعاليك، بمستوياته الثلاثة: التركيبي، والدلالي، والإيقاعي، وكما يأتي:
أولا: المستوى التركيبي:
*
مثل كسر الرتابة المألوفة في الوقوف على الأطلال في مقدمة القصيدة عند الصعاليك انزياحا عن التقاليد المألوفة في مقدمة القصيدة في الشعر القبلي، وتجلى أثره في الكشف عن رؤى الصعلوك ومواقفه الذاتية في الحياة وقضايا الوجود من حوله.
*
أسهم التقديم والتأخير بالانحراف بنظام الجملة عن ترتيبها المألوف إلى مستويات وتراكيب أخرى، تجلى أثرها في تجديد تجربة المتلقي بالنص ونسيجه الجديد ؛ بما أنشأته من دلالات متنوعة أشار إليها الباحث في أماكنها.
*
أسهم الاعتراض في إيقاف سير السرد الشعري، وإيقاف المسيرة المدلولية للألفاظ في تتابعها التركيبي، ونبه الذهن إلى دلالات أخرى لها أهميتها في الكشف عن رؤية الصعلوك لذاته وقضايا الوجود من حوله .
*
أسهم الحذف في توليد الغموض، وجعل شعرهم قابلا لكثير من أوجه التأويل، وكان له أثره في جذب انتباه المتلقي والدفع بتخيله لما هو مقصود من دلالات المحذوف، فحقق تفاعلا بين المرسل والرسالة والمتلقي، ونأى بالخطاب عن الملل والإطناب وانزاح به نحو الشعرية والإيجاز.
*
مثل الالتفات انزياحا أسلوبيا أسهم إلى حد كبير في كسر توالي الخطاب على وتيرة واحدة، وأحدث تنوعه تنوعا في الأساليب، وكان له دور مهم في مفاجأة المتلقي وهو ينتقل بين السلب والإيجاب، كما أنتجت بواسطته دلالات جديدة عبرت عن رؤية الصعلوك وأفكاره ومشاعره الداخلية الخاصة .
*
كما أسهم الالتفات في كسر الزمن في رؤية الصعاليك، فتحول إلى زمن مستقبلي ارتبط بالإنسان في اتجاهه صوب الأعلى، وانزاح عن رؤية الماضي بدلالته البائدة متجها نحو المستقبل في سبيل تغيير العالم، فكان زمنا تاريخيا عكس دائرة الزمن القبلي.
*
انزاحت الأساليب الإنشائية في مدلولاتها الشعرية عند الصعاليك عن الأصل الموضوع لها إلى دلالات أخرى كشفت في معظمها عن معاناة الصعلوك الداخلية، وأفكاره ورؤاه ومواقفه الذاتية في الحياة ؛ فأضفت الحيوية على الصياغة، وكسرت عناصر الثبات والاستقرار التي قد تسيطر على الصياغة الخبرية في بعض مستوياتها الأسلوبية.
ثانيا: المستوى الدلالي:
*
كان لقلب ترتيب البنى الأصلية في صور التشبيه، وإخفاء وجه الشبه وانتزاعه من متعدد، وتداخل الصورة التشبيهية وتنافر طرفيها أثره في قلب مدلولات الخطاب الشعري، وتعميق الصورة وتكثيفها، وتحويلها من إطارها البسيط إلى صورتها المركبة ؛ بما أسهم في خصوصية الصورة وتميزها في شعر الصعاليك، ولفت انتباه المتلقي إلى دلالتها وغرابتها ؛ بما تحمله من عنصري التجسيد والتشخيص .
*
تجاوزت الدوال المعجمية دلالاتها الأصلية إلى دلالات أخرى إيحائية، بواسطة ما احدثته الاستعارة من مفارقة دلالية أتاحت للصعلوك أن ينقل خطابه من العادي المباشر إلى الشعري غير المباشر، فحول المعنوي إلى حسي، والمجرد إلى محسوس، بصورة الاستعارة التي كشفت عن رؤية الصعلوك المنــزاحة للحياة وقضايا الوجود من حوله، فحققت لأسلوبه خصوصية تميز بها من غيره من الأساليب.
*
حققت الكناية انزياحا عن المألوف والعادي تمثل في تجاوز الدوال أصلها المعجمي إلى دلالات أخرى إيحائية مع الاحتفاظ بدلالاتها الأصلية، فارتبطت الدوال وهي تنهض بالصورة الكنائية بمدلولين الأول معجمي غير مقصود، والثاني رمزي إيحائي هو المقصود. وأتاحت للصعلوك أن ينقل المجرادات والمعنويات إلى عالم المحسوسات بصورة رمزية كشفت في معظمها عن أفكار الصعلوك ومواقفه الذاتية ورؤاه الخاصة به، وابتعدت بخطابه عن المباشرة والوضوح وانزاحت به نحو الشعرية والتلميح.
*
أسهمت المنافرة في كسر السياق الأسلوبي، ومنعت جريان الخطاب على وتيرة واحدة، مما أثارت المتلقي ورفعت درجة التوتر لديه وهو ينتقل بين السلب والإيجاب، كما كشفت عن مشاعر الصعلوك ورؤاه المتضاربة، التي كشفت عنها بنية التضاد وصوره المتنافرة. ولعل كثرة استخدام أسلوب التضاد في شعرهم مشدود إلى محور الصراع الذي يدور عليه شعر الصعاليك بكل أشكاله وصوره.
*
الغالب على الصورة عند الصعاليك هو تكثيفها وبروزها في شكل مركب متباعدة الأطراف، ويكشف هذا عن احساسهم باللاإنتماء إلى عالمهم المحيط بهم، فتراءت لهم الأشياء متباعدة الأطراف ليستقل كل طرف منها بكيان ولا يجمعها رابط خارجي، خصوصا أنهم عاشوا بعيدين عن المجتمع الإنساني وخالطوا الوحوش والأشباح ولاذوا إليها مع بعد الفوارق بينهم وبينها. فأسسوا بذلك انتماء جديد إلى المجتمع الصحراوي.
ثالثا: المستوى الإيقاعي:
*
بروز التضمين بشكل مكثف ولافت أدى إلى تحقيق الترابط العضوي والتلاحم المعنوي بين أبيات القصيدة الشعرية عند الصعاليك، وساعد بدوره في بروز العنصر القصصي الذي تميز به شعرهم من سواه من الشعر الجاهلي، وكان له أثره في إيصال رغبة الصعلوك عبر مساحة واسعة من القول إذ استطاع أن يكشف عن تجربة الشاعر الصعلوك الإنسانية الأليمة المفعمة بالمرارة والألم، وبث ما يتصارع في نفسه من رغبات وفي ذهنه من رؤى وأفكار، كما أتاح له أن ينقل الكثير من مغامراته التي عبر عنها بصورة قصصية متماسكة الأجزاء، مترابطة المشاهد، إضافة إلى تحقيقه غايتين جماليتين هما: التناسب، والتوتر الذي ينتج عن الصراع في نهاية الأبيات، وطرفا الصراع هما القافية والتعلق.
*
كثرة الالتزام بما لا يلزم في قوافي الصعلوك بصورة مكثفة ولافتة، خروجا عن الشائع في استخدام الشعراء، وانزياحا بالأسلوب نحو التنويع والإثارة، فحينا يكون الالتزام بزيادة حروف وحركات بخلاف صوت الروي وحركته، وحينا يلتزم (سناد الردف) بالياء والواو، وكل ذلك قد ساعد على مد الإيقاع وتنويعه، مما أتاح للصعلوك مجالا واسعا للبوح، وتنويع النغم.
*
عدم احتفال شعر الصعاليك بالتصريع في أغلب مطالعه يرجع إلى تمرده الاجتماعي على التقاليد القبلية، والذي انعكس بدوره على بنائه الفني بغير قصد، كان لذلك أثره في تمييز أسلوب الصعاليك عن سواه، من خلال كسر الرتابة المألوفة في شكل القصيدة الجاهلية، فأثار به المتلقي وحلت المفاجأة بدل التوقع.
*
بروز التكرار اللفظي والنمطي بقوة في شعر الصعاليك، كان السبب الرئيسي في تطويل الشعر وهذا يدل على ميل شعرهم إلى الإيقاع أكثر من انحيازه إلى تجليات الشاعرية، إذ إن التكرار قد ينافي لحظات التوهج الشعري التي تشتعل عادة في زمن غير متطاول، وتتجلى في كلمات ليست كثيرة، إذ الشعر فن زماني في الأصل لا تتحدد جودته بالإطالة مثل أن تتحدد بالتميز والتوهج والإيجاز. لكن هذا لا يعني عدم وجود نماذج شعرية متميزة يخف فيها التكرار ويزداد فيها التوهج إلى أن يصل إلى أفق الشعرية والإبداع، كما نجده في شعر الشنفرى وتأبط شرا وأشعار الهذليين .
*
تجلت الانزياحات السابقة في هيئات متعددة، وصور متنوعة، ودرجات مختلفة تقل عند شاعر وتكثر أحيانا عند شاعر، كما أفرزت معانٍ ودلالات متعددة أشار إليها الباحث في أماكنها.
وأما على مستوى الأسلوب بصورة عامة فقد ظهر:
*
أن الانزياح في شعر الصعاليك لم يكن بمعزل عن البلاغة كما رأينا، بمعنى أن خروجهم عن التقاليد الفنية لم يكن فعلا قصديا، إذ الغالب على الأسلوب عندهم التمسك بالقيم الفنية، وهذا التوافق يوافق إلى حد بعيد الروح الأخلاقية التي تحلو بها، ورسموا بها مذهبهم في فلسفة التصعلك، لذا كان الانزياح لديهم وسيلة نحو الشعرية، لا يهدم اللغة إلا ليعيد تشكيلها من جديد.
*
يكشف الانزياح في مظاهره المختلفة عن رؤية الصعلوك المنــزاحة للحياة وقضايا الوجود من حوله، إذ إنزاحت معه رؤيته إلى الذات، والمكان والزمان، ورؤيته للآخر (الرفيق والمرأة)، ورؤية لقضايا الوجود من حوله كرؤية الحياة والموت.
*
أن السمات الأسلوبية الدالة على تفرد أسلوب الصعاليك قد ظهرت بوضوح في الموضوعات الشعرية التي طرقوها؛ إذ تميز أسلوبهم الشعري بموضوعات متفردة قل نظيرها في الشعر الجاهلي، كانفراده بعنصر السرد القصصي، وأحاديث المغامرات، وشعر المراقب، والواقعية في رسم الأحداث والاشتراكية .
*
شعر الصعاليك في خصوصيته الأسلوبية أشبه ما يكون بالمذكرات الشخصية التي يدون بها الشخص أفكاره ومشاعره وما يحسه حوله في موقف من المواقف، وموقف الصعاليك هو الصعلكة بما يلابسها من أسباب تدفع إليها كالفقر والحاجة إلى الانتماء، وآثار تتمخض عنها، بمعنى أن الذاتية في رسم الأحداث والمواقف قد طبعت شعر الصعاليك وميزته من الشعر الجاهلي، والفارق بينهما أن الموضوعات المألوفة التي طرقها الشعر الجاهلي هي نفسها موجودة في شعر الصعاليك وإنما الفارق بينهما القصد والاتجاه، فشعر الصعاليك لا يتجه اتجاها مقصودا إلى اتخاذ الموضوعات، فإذا أراد وصف الطبيعة مثلا فإنما يصفها في إطار ارتباطه بها وليس بمعزل عنها، إذ إنها ليست مقصودة لذاتها، وإنما المقصود هو شخصية الصعلوك نفسها وحياته، وما يحس به من أفكار ومشاعر ومواقف.
*
أن سهولة الأسلوب في لغة الشعر عند الصعاليك يعني أن الشعر عندهم لم يكن حرفة تقصد لذاتها، ويفرغ صاحبها لتجويدها والوصول بها إلى المثل الأعلى، وإنما كان الشعر عندهم وسيلة لتجسيد مفاخرهم ومغامراتهم، أو ينفسون بها عما تضيق بها صدورهم، أو يدعون إلى مذهبهم في الحياة لعلهم يجدوا من يؤمن بها وينضم إليهم، وينطبق هذا على شعر عروة، على حين تخف هذه السهولة في شعر الشنفرى واشعار الهذليين.
*
أن الانزياح بكل أشكاله التركيبية والدلالية والإيقاعية قد ارتقى بخطاب الصعلوك إلى درجة الشعرية، وأن الشعرية لم تكن قيمة خاصة بخطابهم الأدبي في ذاته، وإنما في قدرة ذلك الخطاب على إيقاظ المشاعر الجمالية في المتلقي، أو إثارة الدهشة غير المجانية، أو خلق الحس بالمفارقة، أو إحداث نوع من الفجوة: مسافة التوتر، أو كسر بنية التوقعات لدى المتلقي، أو بعث اللذة وإثارة الاهتمام لدى القارئ أو المستمع.
*
أن شعر الصعاليك بما يمتاز به من خصائص فنية وموضوعية، يشكل جزءا مهماً من الثقافة العربية في تراثنا القديم، والتي تنعكس بصور شتى في النتاج الشعري، ويظل في لغته أقرب إلى الفطرة السليمة وأصدق تمثيلا لها. لذا يوصي الباحث بدراسة البنية اللغوية في شعر الصعاليك، دراسة لغوية دلالية، بوصفها المادة الأولى للدلالة المعجمية.
وفي الختام فإني إذ أحمد الله على مدده وعونه وتوفيقه، أسأله جل وعلا أن يغفر لي ما في هذا العمل من نقص أو تقصير، فقد اجتهدت وبذلت من الجهد ما أحسب أني قد أديت فيه واجب البحث والدراسة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الخلق، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لقد بلغت الرحلة مع شعر الصعاليك نهايتها، فبعد مسيرة بحث شاقة تناولت فيها ظاهرة الانزياح في شعر الصعاليك، يمكن تأشير النتائج والمقترحات التي توضح خصائص الأسلوب في شعر الصعاليك، بمستوياته الثلاثة: التركيبي، والدلالي، والإيقاعي، وكما يأتي:
أولا: المستوى التركيبي:
*
مثل كسر الرتابة المألوفة في الوقوف على الأطلال في مقدمة القصيدة عند الصعاليك انزياحا عن التقاليد المألوفة في مقدمة القصيدة في الشعر القبلي، وتجلى أثره في الكشف عن رؤى الصعلوك ومواقفه الذاتية في الحياة وقضايا الوجود من حوله.
*
أسهم التقديم والتأخير بالانحراف بنظام الجملة عن ترتيبها المألوف إلى مستويات وتراكيب أخرى، تجلى أثرها في تجديد تجربة المتلقي بالنص ونسيجه الجديد ؛ بما أنشأته من دلالات متنوعة أشار إليها الباحث في أماكنها.
*
أسهم الاعتراض في إيقاف سير السرد الشعري، وإيقاف المسيرة المدلولية للألفاظ في تتابعها التركيبي، ونبه الذهن إلى دلالات أخرى لها أهميتها في الكشف عن رؤية الصعلوك لذاته وقضايا الوجود من حوله .
*
أسهم الحذف في توليد الغموض، وجعل شعرهم قابلا لكثير من أوجه التأويل، وكان له أثره في جذب انتباه المتلقي والدفع بتخيله لما هو مقصود من دلالات المحذوف، فحقق تفاعلا بين المرسل والرسالة والمتلقي، ونأى بالخطاب عن الملل والإطناب وانزاح به نحو الشعرية والإيجاز.
*
مثل الالتفات انزياحا أسلوبيا أسهم إلى حد كبير في كسر توالي الخطاب على وتيرة واحدة، وأحدث تنوعه تنوعا في الأساليب، وكان له دور مهم في مفاجأة المتلقي وهو ينتقل بين السلب والإيجاب، كما أنتجت بواسطته دلالات جديدة عبرت عن رؤية الصعلوك وأفكاره ومشاعره الداخلية الخاصة .
*
كما أسهم الالتفات في كسر الزمن في رؤية الصعاليك، فتحول إلى زمن مستقبلي ارتبط بالإنسان في اتجاهه صوب الأعلى، وانزاح عن رؤية الماضي بدلالته البائدة متجها نحو المستقبل في سبيل تغيير العالم، فكان زمنا تاريخيا عكس دائرة الزمن القبلي.
*
انزاحت الأساليب الإنشائية في مدلولاتها الشعرية عند الصعاليك عن الأصل الموضوع لها إلى دلالات أخرى كشفت في معظمها عن معاناة الصعلوك الداخلية، وأفكاره ورؤاه ومواقفه الذاتية في الحياة ؛ فأضفت الحيوية على الصياغة، وكسرت عناصر الثبات والاستقرار التي قد تسيطر على الصياغة الخبرية في بعض مستوياتها الأسلوبية.
ثانيا: المستوى الدلالي:
*
كان لقلب ترتيب البنى الأصلية في صور التشبيه، وإخفاء وجه الشبه وانتزاعه من متعدد، وتداخل الصورة التشبيهية وتنافر طرفيها أثره في قلب مدلولات الخطاب الشعري، وتعميق الصورة وتكثيفها، وتحويلها من إطارها البسيط إلى صورتها المركبة ؛ بما أسهم في خصوصية الصورة وتميزها في شعر الصعاليك، ولفت انتباه المتلقي إلى دلالتها وغرابتها ؛ بما تحمله من عنصري التجسيد والتشخيص .
*
تجاوزت الدوال المعجمية دلالاتها الأصلية إلى دلالات أخرى إيحائية، بواسطة ما احدثته الاستعارة من مفارقة دلالية أتاحت للصعلوك أن ينقل خطابه من العادي المباشر إلى الشعري غير المباشر، فحول المعنوي إلى حسي، والمجرد إلى محسوس، بصورة الاستعارة التي كشفت عن رؤية الصعلوك المنــزاحة للحياة وقضايا الوجود من حوله، فحققت لأسلوبه خصوصية تميز بها من غيره من الأساليب.
*
حققت الكناية انزياحا عن المألوف والعادي تمثل في تجاوز الدوال أصلها المعجمي إلى دلالات أخرى إيحائية مع الاحتفاظ بدلالاتها الأصلية، فارتبطت الدوال وهي تنهض بالصورة الكنائية بمدلولين الأول معجمي غير مقصود، والثاني رمزي إيحائي هو المقصود. وأتاحت للصعلوك أن ينقل المجرادات والمعنويات إلى عالم المحسوسات بصورة رمزية كشفت في معظمها عن أفكار الصعلوك ومواقفه الذاتية ورؤاه الخاصة به، وابتعدت بخطابه عن المباشرة والوضوح وانزاحت به نحو الشعرية والتلميح.
*
أسهمت المنافرة في كسر السياق الأسلوبي، ومنعت جريان الخطاب على وتيرة واحدة، مما أثارت المتلقي ورفعت درجة التوتر لديه وهو ينتقل بين السلب والإيجاب، كما كشفت عن مشاعر الصعلوك ورؤاه المتضاربة، التي كشفت عنها بنية التضاد وصوره المتنافرة. ولعل كثرة استخدام أسلوب التضاد في شعرهم مشدود إلى محور الصراع الذي يدور عليه شعر الصعاليك بكل أشكاله وصوره.
*
الغالب على الصورة عند الصعاليك هو تكثيفها وبروزها في شكل مركب متباعدة الأطراف، ويكشف هذا عن احساسهم باللاإنتماء إلى عالمهم المحيط بهم، فتراءت لهم الأشياء متباعدة الأطراف ليستقل كل طرف منها بكيان ولا يجمعها رابط خارجي، خصوصا أنهم عاشوا بعيدين عن المجتمع الإنساني وخالطوا الوحوش والأشباح ولاذوا إليها مع بعد الفوارق بينهم وبينها. فأسسوا بذلك انتماء جديد إلى المجتمع الصحراوي.
ثالثا: المستوى الإيقاعي:
*
بروز التضمين بشكل مكثف ولافت أدى إلى تحقيق الترابط العضوي والتلاحم المعنوي بين أبيات القصيدة الشعرية عند الصعاليك، وساعد بدوره في بروز العنصر القصصي الذي تميز به شعرهم من سواه من الشعر الجاهلي، وكان له أثره في إيصال رغبة الصعلوك عبر مساحة واسعة من القول إذ استطاع أن يكشف عن تجربة الشاعر الصعلوك الإنسانية الأليمة المفعمة بالمرارة والألم، وبث ما يتصارع في نفسه من رغبات وفي ذهنه من رؤى وأفكار، كما أتاح له أن ينقل الكثير من مغامراته التي عبر عنها بصورة قصصية متماسكة الأجزاء، مترابطة المشاهد، إضافة إلى تحقيقه غايتين جماليتين هما: التناسب، والتوتر الذي ينتج عن الصراع في نهاية الأبيات، وطرفا الصراع هما القافية والتعلق.
*
كثرة الالتزام بما لا يلزم في قوافي الصعلوك بصورة مكثفة ولافتة، خروجا عن الشائع في استخدام الشعراء، وانزياحا بالأسلوب نحو التنويع والإثارة، فحينا يكون الالتزام بزيادة حروف وحركات بخلاف صوت الروي وحركته، وحينا يلتزم (سناد الردف) بالياء والواو، وكل ذلك قد ساعد على مد الإيقاع وتنويعه، مما أتاح للصعلوك مجالا واسعا للبوح، وتنويع النغم.
*
عدم احتفال شعر الصعاليك بالتصريع في أغلب مطالعه يرجع إلى تمرده الاجتماعي على التقاليد القبلية، والذي انعكس بدوره على بنائه الفني بغير قصد، كان لذلك أثره في تمييز أسلوب الصعاليك عن سواه، من خلال كسر الرتابة المألوفة في شكل القصيدة الجاهلية، فأثار به المتلقي وحلت المفاجأة بدل التوقع.
*
بروز التكرار اللفظي والنمطي بقوة في شعر الصعاليك، كان السبب الرئيسي في تطويل الشعر وهذا يدل على ميل شعرهم إلى الإيقاع أكثر من انحيازه إلى تجليات الشاعرية، إذ إن التكرار قد ينافي لحظات التوهج الشعري التي تشتعل عادة في زمن غير متطاول، وتتجلى في كلمات ليست كثيرة، إذ الشعر فن زماني في الأصل لا تتحدد جودته بالإطالة مثل أن تتحدد بالتميز والتوهج والإيجاز. لكن هذا لا يعني عدم وجود نماذج شعرية متميزة يخف فيها التكرار ويزداد فيها التوهج إلى أن يصل إلى أفق الشعرية والإبداع، كما نجده في شعر الشنفرى وتأبط شرا وأشعار الهذليين .
*
تجلت الانزياحات السابقة في هيئات متعددة، وصور متنوعة، ودرجات مختلفة تقل عند شاعر وتكثر أحيانا عند شاعر، كما أفرزت معانٍ ودلالات متعددة أشار إليها الباحث في أماكنها.
وأما على مستوى الأسلوب بصورة عامة فقد ظهر:
*
أن الانزياح في شعر الصعاليك لم يكن بمعزل عن البلاغة كما رأينا، بمعنى أن خروجهم عن التقاليد الفنية لم يكن فعلا قصديا، إذ الغالب على الأسلوب عندهم التمسك بالقيم الفنية، وهذا التوافق يوافق إلى حد بعيد الروح الأخلاقية التي تحلو بها، ورسموا بها مذهبهم في فلسفة التصعلك، لذا كان الانزياح لديهم وسيلة نحو الشعرية، لا يهدم اللغة إلا ليعيد تشكيلها من جديد.
*
يكشف الانزياح في مظاهره المختلفة عن رؤية الصعلوك المنــزاحة للحياة وقضايا الوجود من حوله، إذ إنزاحت معه رؤيته إلى الذات، والمكان والزمان، ورؤيته للآخر (الرفيق والمرأة)، ورؤية لقضايا الوجود من حوله كرؤية الحياة والموت.
*
أن السمات الأسلوبية الدالة على تفرد أسلوب الصعاليك قد ظهرت بوضوح في الموضوعات الشعرية التي طرقوها؛ إذ تميز أسلوبهم الشعري بموضوعات متفردة قل نظيرها في الشعر الجاهلي، كانفراده بعنصر السرد القصصي، وأحاديث المغامرات، وشعر المراقب، والواقعية في رسم الأحداث والاشتراكية .
*
شعر الصعاليك في خصوصيته الأسلوبية أشبه ما يكون بالمذكرات الشخصية التي يدون بها الشخص أفكاره ومشاعره وما يحسه حوله في موقف من المواقف، وموقف الصعاليك هو الصعلكة بما يلابسها من أسباب تدفع إليها كالفقر والحاجة إلى الانتماء، وآثار تتمخض عنها، بمعنى أن الذاتية في رسم الأحداث والمواقف قد طبعت شعر الصعاليك وميزته من الشعر الجاهلي، والفارق بينهما أن الموضوعات المألوفة التي طرقها الشعر الجاهلي هي نفسها موجودة في شعر الصعاليك وإنما الفارق بينهما القصد والاتجاه، فشعر الصعاليك لا يتجه اتجاها مقصودا إلى اتخاذ الموضوعات، فإذا أراد وصف الطبيعة مثلا فإنما يصفها في إطار ارتباطه بها وليس بمعزل عنها، إذ إنها ليست مقصودة لذاتها، وإنما المقصود هو شخصية الصعلوك نفسها وحياته، وما يحس به من أفكار ومشاعر ومواقف.
*
أن سهولة الأسلوب في لغة الشعر عند الصعاليك يعني أن الشعر عندهم لم يكن حرفة تقصد لذاتها، ويفرغ صاحبها لتجويدها والوصول بها إلى المثل الأعلى، وإنما كان الشعر عندهم وسيلة لتجسيد مفاخرهم ومغامراتهم، أو ينفسون بها عما تضيق بها صدورهم، أو يدعون إلى مذهبهم في الحياة لعلهم يجدوا من يؤمن بها وينضم إليهم، وينطبق هذا على شعر عروة، على حين تخف هذه السهولة في شعر الشنفرى واشعار الهذليين.
*
أن الانزياح بكل أشكاله التركيبية والدلالية والإيقاعية قد ارتقى بخطاب الصعلوك إلى درجة الشعرية، وأن الشعرية لم تكن قيمة خاصة بخطابهم الأدبي في ذاته، وإنما في قدرة ذلك الخطاب على إيقاظ المشاعر الجمالية في المتلقي، أو إثارة الدهشة غير المجانية، أو خلق الحس بالمفارقة، أو إحداث نوع من الفجوة: مسافة التوتر، أو كسر بنية التوقعات لدى المتلقي، أو بعث اللذة وإثارة الاهتمام لدى القارئ أو المستمع.
*
أن شعر الصعاليك بما يمتاز به من خصائص فنية وموضوعية، يشكل جزءا مهماً من الثقافة العربية في تراثنا القديم، والتي تنعكس بصور شتى في النتاج الشعري، ويظل في لغته أقرب إلى الفطرة السليمة وأصدق تمثيلا لها. لذا يوصي الباحث بدراسة البنية اللغوية في شعر الصعاليك، دراسة لغوية دلالية، بوصفها المادة الأولى للدلالة المعجمية.
وفي الختام فإني إذ أحمد الله على مدده وعونه وتوفيقه، أسأله جل وعلا أن يغفر لي ما في هذا العمل من نقص أو تقصير، فقد اجتهدت وبذلت من الجهد ما أحسب أني قد أديت فيه واجب البحث والدراسة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الخلق، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.