الشعرية العربية والنقد المعاصر :العدول وسؤال الشعرية (رؤية أسلوبية) PDF تصدير لهيئة طباعة ارسال لصديق
الكاتب/ عبير خيري محمد
19/07/2007
الشعرية العربية والنقد المعاصر :العدول وسؤال الشعرية
(رؤية أسلوبية)
ذ.عبد الرحيم أبوصفاء
- العدول: المصطلح والمفهوم عند الجرجاني
- العدول بين اللغة واللغة الشعرية عند الجرجاني
- الأسلوب : عدول في النظم
- شعرية المجاز /شعرية النظم : مقاربة في نظرية المعنى ومعنى المعنى عند عبد القاهر الجرجاني.
العدول : المصطلح والمفهوم:
تحدث الجرجاني عن ما سماه التعادل بين الحروف وهو أن تكون متلائمة لا ثقل فيها يكُدُّ اللسان؛ يقول "فإن قال قائل: إني لا أجعل تلاؤم الحروف معجزا حتى يكون مع ذلك دالا، وذاك أنه إنما يصعب مراعاة التعادل بين الحروف إذا احتيج مع ذلك، إلى مراعاة المعاني... قيل له: فأنت الآن.. تدعي أن ترتيب المعاني سهل... وأن الفضيلة تزداد وتقوى إذا تُوُخِّي في حروف الألفاظ التعادل أو التلاؤم، وهذا منك وهم " والتعادل هنا بمعنى التلاؤم فقط.
ويذكر الجرجاني لفظ التعديل، يقول عن تعديل مزاج الحروف: "هو إيقاع التلاؤم بينها دفعا للثقل على اللسان". ويقول أيضا وهو يذكر إحدى الشبه المتعلقة بالفصاحة: " وهي أن يدعي أن لا معنى للفصاحة سوى التلاؤم اللفظي، وتعديل مزاج الحروف حتى لا تتلاقى في النطق حروف تثقل على اللسان " .
والتعادل والتعديل هنا جاءا بمعنى التلاؤم والتناسق والانسجام الصوتي المتوخى في اللفظة كي يحسن نظمها.
وجاء معنى العدول مقرونا باللفظ عند الجرجاني، فالعدول باللفظ: هو نقله من معناه الحقيقي إلى معنى مجازي لوجود علاقة بينهما، يستفاد ذلك من قوله وهو يذكر القسم الأول من قسمي الكلام الفصيح: " فالقسم الأول الكناية والاستعارة والتمثيل الكائن على حد الاستعارة وكل ما كان فيه على الجملة مجاز واتساع وعدول باللفظ عن الظاهر… " . وهذا ينطبق بشكل عميق على المعنى الذي نحن بصدد مقاربته، وفي تعريفه للمجاز اللغوي يقول الجرجاني في أسراره: " المجاز: مفُعَل من جاز الشيء يجوزه، إذا تعداه، وإذا عدل باللفظ عما يوجبه أصل اللغة، وصف بأنه مجاز، على معنى أنهم جازوا به موضعه الأصلي أو جاز هو مكانه الذي وضع فيه أولا " .
لقد كان للجرجاني مفهوما خاصا لمصطلح العدول: حيث جعله محور العملية الأدبية على المستوى الجمالي، فإذا كان النحاة والبلاغيون السابقون عليه، قد قاربوا هذا المفهوم بأشكال مختلفة وجعلوه شاسعا يستوعب كل مخالفة للغة في أصلها وكل انحراف عن الاستعمال المألوف لها، فإن الجرجاني، كان دقيقا بحصر مفهومه للعدول في فلسفة الجمال والمجاز اللغوي، أي ما يجعل اللغة، لغة أدبية تتضمن عناصر الشعرية، ليس فقط على المستوى اللفظي وإنما على المستوى المعنوي الذي يحتوي العملية الإبداعية في أبعد تألقاتها وطموحاتها.
ومعنى هذا أن الجرجاني كان أقرب في تصوره من التصور الحداثي لهذا المفهوم، وإن كان لم يعر اهتماما للمستوى الإيقاعي في تحديد عدول البنية الدلالية، إما لضرورة منهجية كان يراها في تصوره، أو أن ذلك راجع للأساس المرجعي والمعرفي الذي بنى عليه نظريته، وذلك بالابتعاد عن كل ما من شأنه إعطاء أولوية للمستوى الإيقاعي في الدراسة البلاغية وعلى رأس ذلك الاهتمام باللفظ، أو بشيء من الطموح المشروع أن الجرجاني كان أكثر حداثة مما قد تصورنا، بحيث تجاوز الحديث عن حصر شعرية النصوص في إيقاعها، وأعطى مجالا أوسعا لتصور ناضج عن ما يمكن أن يجعل من الكتابة وعيا جماليا وتحقيقا لفاعلية أدبية لا تخبو بذهاب أصواتها الإيقاعية، يبدو أن الجرجاني احتوى النظريات الحديثة التي غضت النظر عن الإيقاع واعتبرته قيمة ثانوية في التحديد الحقيقي لأدبية النصوص وشعريتها.
ويبدو من العسير جدا حصر تدفقات الآراء النقدية والبلاغية التي أطلقها عبد القاهر الجرجاني جاعلا منها أساسا لكل أمل في تطوير نظرية في الشعرية العربية تستطيع مقاربة النص الأدبي العربي في خصوصيته المتفردة، إذ الأزمة الجلية في النقد هي العثور على الجهاز الواصف والصالح لمقاربة النص الأدبي في خصوصيته اللغوية والأدبية والحضارية أيضا، ولكن هذا العسر لا يمنع من إيضاء واعي لأهم الطموحات النقدية والبلاغية التي ظمّنها عبد القاهر الجرجاني ضمن نظرية النظم، ولعل هذا الإيضاء الذي نطمح إليه، يستلزم طرح سؤال الشعرية في علاقته بمفهوم العدول، والاعتماد في ذلك على النبش في الأساس المحوري المتفرد الذي اعتمده الجرجاني في مقارباته، والمتمثل في الرؤية المغايرة في المنظومة النحوية العربية أو ما يمكن أن يسمى (فلسفة النحو الجمالي عند عبد القاهر الجرجاني) واستحضار الرؤية الموازية لها في نفس الوقت فلسفة المجاز أو نظرية المعنى ومعنى المعنى، المؤسسة لنموذج تداولي متفرد عند هذا الرجل، ويبدو أن الموضوعية الأدبية، تقتضي مقاربة آراء الجرجاني البلاغية (خاصة في علم المعاني) في جانبها التداولي، لأنها تبدو أكبر نضجا في هذا الإطار الذي يهتم بأطراف العملية التواصلية وخصوصية الرسالة القائمة بين هذه الأطراف، على اعتبار أن أي خطاب أو نص يعتبر تداوليا بالضرورة لحضور مفهوم القصدية فيه، وقد اخترنا مفهوم الاستلزام التخاطبي كأميز مفهوم تداولي في الدراسات اللسانية والسيميائية الحديثة لمقاربته توازيا مع مفهوم العدول المشكل للدواعي العميقة والأساسية أمام استخدام المخاطب للغة مغايرة (لغة شعرية) تجعله يتخلص من الصراع القائم بين عمق التصورات الكامنة في قريحة النفس المبدعة وبين محدودية وصرامة اللغة الطبيعية.
العدول وسؤال الشعرية في نظرية النظم: (رؤية أسلوبية):
ليس ثمة وجود للتراث خارج وعينا به وفهمنا إياه، وجود تؤسسه العلاقة بين التراث في مجالاته المتعددة ووعينا المعاصر بطموحاته المختلفة، وعلى هذا الأساس تكون أي محاولة لوصف التراث واستجلائه متأثرة بشكل أو بآخر بهذا الوعي الحداثي الراسخ في تصورنا الثقافي المعاصر، وأي قراءة بهذا الوعي لهذا التراث تنطلق من إمكانية إن لم نقل ضرورة التفاعل بين الطرفين في شكل لا ينفي أحدهما وجود الآخر بقدر ما يصححه أو يطوره أو على الأقل يناقشه، وبهذا الوعي نجد أن النظرية البلاغية عند الجرجاني زاخرة بالتصورات التي قد نعتبرها حداثية، تصورات يمكن تطويرها لتصبح جهازا نقديا قائما بذاته قد يستوعب جل المقاربات والأحلام النقدية التي يرومها النص الأدبي.
والشعرية من أهم الأسئلة التي طرحت إشكالات حاسمة في مقاربة أدبية النص من عدمها؛ وتجاذبتها أطراف وتيارات جمة، سنحاول حصرها فيما يتجاوب مع خصوصية المقام الذي يستلزم قراءة نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني، قراءة تطرح أسئلة معاصرة تدون أن تسقط في شرك الإسقاط أو التعسف.
لقد أعاد الجرجاني تنظيم مفهوم الشعرية وأعاد طرح سؤال الشعرية القائمة في عصره، لينظر لشعرية لن نجازف إذا قلنا إنها ناضجة وفاعلة إن على مستوى الإطار النظري أو على مستوى الإطار التطبيقي.
وإذا حاولنا بداية النظر في "الشعرية" كمصطلح، نجد أن التتبع المعجمي لهذا الدال في أصل المواضعة لا يقدم الشيء الكثير مقارنة مع سياقات التعامل معه كمحدد نقدي في الأدبية بشكلها الواسع؛ وحتى متابعة النظر فيما خلفه لنا القدماء من مؤلفات في البلاغة و النقد لا يقدم الكثير، وتستوي في ذلك مؤلفات المشارقة والمغاربة، إذا استثني من هذا التعميم حازم القرطاجني، الذي أتاح له اتصاله بأرسطو أن يتعامل مع المصطلح على نحو قريب من التعامل المحدث كما أن اتصال بعض الفلاسفة بالنظر الأرسطي في الشعر، أتاح لهم ترديد المصطلح –أيضا- على النحو السابق .
ويبدو أم مصطلح "الشعرية" يتحقق وجوده أكثر كمصدر صناعي، مما هو عليه في صيغة النسب كما تردد في المؤلفات النقدية والبلاغية القديمة، وذلك كقولهم: (المعاني الشعرية) و(الأبيات الشعرية) ، ومع ذلك فإن كثرة النسب على هذا النحو تتحول إلى ندرة إذا جاءت وصفا للصياغة، كما نجد عند ابن وهب وهو بصدد الحديث عن جواز الكذب في الشعر عند أرسطو طاليس: " وقد ذكر أرسطو طاليس الشعر فوصفه بأن الكذب فيه أكثر من الصدق، ويذكر أن ذلك جائز في الصياغة الشعرية " .
" ولا يعني افتقاد تردد المصطلح في المعجم أو المؤلفات القديمة عدم تردد مدلوله بشكل أو بآخر، ولعل أكثر المصطلحات قربا، بل دقة، هو مصطلح (النظم) الذي وصل به عبد القاهر الجرجاني إلى قمة النضج والاكتمال والشمول " .
ويمكن التحقق من ذلك بالنظر فيما وفد على الحلقة العربية من دراسات حداثية حول النظرية العامة للشعرية واتصالها بالفنون الجميلة أحيانا، وعلم الجمال أحيانا أخرى، بمعنى رصد خواصها الداخلية وبما به أصبحت شكلا فنيا، حيث كانت البداية عند أرسطو في حديثه عن جوهر الشعر وما فيه من المحاكاة، ثم تردد المصطلح على نحو متميز مما ردده أرسطو في الدراسات الحديثة، إذ آل به الأمر إلى أن أصبح مرتبطا بالدراسة اللسانية للوظيفة الشعرية في الخطاب اللغوي على إطلاقه، والشعر على وجه الخصوص فالشعرية صارت حدا للتوازي القائم بين التأويل والعلم في حقل الدراسات الأدبية، وهي بخلاف تأويل الأعمال النوعية، لا تسعى إلى تسمية المعنى، بل إلى معرفة القوانين العامة التي تنظم ولادة كل عمل، لكنها بخلاف هذه العلوم، التي هي هل النفس وعلم الاجتماع وغيرهما، تبحث عن هذه القوانين داخل الأدب ذاته، فالشعرية -إذا- مقاربة للأدب، مجردة وباطنية في وقت واحد ، أو هي –بمعنى آخر- عملية تحرك داخلي في الخطاب الأدبي، تتحسس خيوطه التي تذهب طولا وعرضا، فتكون شبكة كاملة من العلاقات ذات فعالية متميزة أسماها فاليري: الشعرية ، حيث تكون اللغة فيها هي الوسيلة والغاية معا.
لم يخل الدرس النقدي العربي القديم من ذاك الوعي الحداثي الذي ربط مفهوم الشعرية بالخطاب الأدبي عموما في الدراسات النقدية الحديثة التي اكتست طابعا لغويا في الغالب، فابن طباطبا مثلا يرى أن : " الشعر رسائل معقودة، والرسائل شعر، وإذا فتشت أشعار الشعراء كلها وجدتها متناسبة، إما تناسبا قريبا أو بعيدا ونجدها مناسبة لكلام الخطباء، وخطب البلغاء، وفقر الحكماء " إنها تلك الخصيصة المشتركة بين كل كلام ينزاح من شكله الصوري إلى شكل تحدده مقومات تنتمي إليه، وتسمه كجنس متفرد بذاته، وهكذا نجد أن النص الأدبي استدعى، مفاهيم مختلفة لمقاربته، لأن هذه المهمة الأخيرة (المقاربة) تستلزم نماذج تنسجم انسجاما معقولا مع خصوصية كل نص أدبي، وتبادلت هذه المهمة كل من "الأدبية" أحيانا والإنشائية أحيانا أخرى، غير أن انتشار مصطلح (الشعرية) حديثا جعله أقرب إلى اللسان في النطق، وإلى العقل في التفكير، مع ملاحظة جانب له أهميته، وهو انحراف المصطلح عن مفهومه الشمولي إلى منطقة محددة هي منطقة الشعر، باعتبارها أكثر المناطق صلاحية لأداء مهمته، وأقربها إلى طبيعته، وكأنها بذلك قد ردت المصطلح على أصله الاشتقاقي مرة أخرى.
لقد قام الشيخ عبد القاهر الجرجاني برحلة نقدية واعية في نصوصه سابقيه، بحث فيها عن المعنى المخبئ وراء عباراتهم وأقوالهم، ولم يشغل نفسه في هذه الرحلة بالبحث عن المعنى الظاهر على السطح، ولو فعل ذلك لما قدم لنا شيئا يستحق اليوم أن نقف عنده، يقول عبد القاهر: " ولم أزل منذ خدمت العلم أنزل فيما، قاله العلماء في معنى (الفصاحة) و(البلاغة) و(البيان) و(البراعة)، وفي بيان المغزى من هذه العبارات، وتفسير المراد بها، فأجد بعض ذلك كالرمز والإيماء والإشارة في خفاء، وبعضه كالتنبيه على مكان الخبيء ليطلب، وموطن الدفين ليبحث عنه فيُخرج " ، وهكذا اعتبر الجرجاني الكثير من النصوص إيماءات وإشارات خفية تحتاج منه إلى التفسير ولم يكن عبد القاهر في قراءته لنصوص سابقيه مفسرا فقط، بل كان في أحيان كثيرة لا يجد مفرا من الرفض والنفي، فهو يرفض مثلا ربط الفصاحة والبيان بالقدرة على الأداء الصوتي، ومربط شائع مستقر في التراث السابق على عبد القاهر، وهو يرفض حصر معاني الكلام في الخبر والاستفهام والأمر والنهي، لقد أعاد الجرجاني طرح سؤال الشعرية بشكل أكثر نضج وجرأة و شساعة ؛ وقرر في كتابيه رصد بناء محكم يمكنه أن يصف العناصر الأدبية والشعرية الجمالية في نص معين، باحثا من خلال هذا الرهان عن الآليات النقدية التي تصف العمل في بنيته الداخلية العميقة بدل الاكتفاء بما يوفره النص على المستوى الشكلي فقط.
يقول الجرجاني متحدثا عن البيان باعتباره عصب الأدبية وعلمها الجليل الذي يبحث في النص روح الوجود الجمالي: " إلا أنك لن ترى على ذلك، نوعا من العلم قد لقي من الضيم ما لقيه، ومني من الحيف بما مني به، ودخل على الناس من الغلط، في معناه بما دخل عليهم، فقد سبقت إلى نفوسهم اعتقادات فاسدة، وظنون ردية، وركبهم فيه جهل عظيم وخطأ فاحش، ترى كثيرا منهم لا يرى له معنى أكثر مما يرى للإشارة بالرأس والعين، وما يجده للخط والعقد؛ يقول ‘نما هو خبر واستخبار، وأمر ونهي، ولكل من ذلك لفظ قد وضع له، وجعل دليلا عليه؛ فكل من عرف أوضاع لغة من اللغات، عربية كانت أو فارسية، وعرف المغزى من كل لفظة ثم ساعده اللسان على النطق بهم، وعلى تأدية أجراسها وحروفها، فهو بين في تلك اللغة كامل الأداة، بالغ من البيان المبلغ الذي لا مزيد عليه، منته إلى الغاية التي لا مذهب بعدها، يسمع الفصاحة والبلاغة والبراعة فلا يعرف لها معنى سوى الإطناب في القول وأن يكون المتكلم في ذلك جهير الصوت جار اللسان، لا تعترضه لكنة ولا تقف به حبسة وأن يستعمل اللفظ الغريب والكلمة الوحشية فإن استظهر الأمر وبالغ في النظر فأن لا يلحن، فيرفع في موضع النصب، أو يخطئ، فيجيء باللفظة على غير ما هي عليه في الوضع اللغوي، وعلى خلاف ما ثبت به الرواية عن العرب ".
" وجملة الأمر أنه لا يرى النقص يدخل على صاحبه في ذلك إلا من جهة نقصه في علم اللغة؛ لا يعلم أنه هاهنا دقائق وأسرارا طريق العلم لا بها الروية والفكر ولطائف مستقاها العقل وخصائص معاني ينفرد بها قوم قد هدوا إليها، ودلوا عليها، وكشف لهم عنها، ورفعت الحجب بينهم وبينها وأنها السبب في أن عرضت المزية في الكلام ووجب أن يفضل بعضا بعضا، وأن يبعد الشأو ذلك، وتمتد الغاية ويعلو المرتقى، ويعز المطلب حتى ينتهي الأمر إلى الإعجاز، بل يخرج من طوق البشر " .
وكأن الجرجاني في هذا النص الطويل، يؤكد ضرورة إعادة طرح سؤال الشعرية بشكل مغاير لما كان عليه، ويدخل مع النصوص السابقة عليه في صراع الهدم والبناء أو النفي وإثبات، ليقيم بذلك بناءه الفكري في الثقافة العربية، منطلقا من قاعدية اللغة في صوريتها إلى إعجاز الخطاب في انزياحه.
العدول بين اللغة واللغة الشعرية:
لم يتعامل عبد القاهر الجرجاني مع مصطلح "الشعرية" على صيغة النسب أو المصدرية،بل تعامل معه بمدلوله، إذ النظم ليس إلا حركة واعية داخل الصياغة الأدبية، بالاعتماد على تصور مفاده أن الشعرية تكمن في النظم بالدرجة الأولى وليس في غيره، فالانزياح أو العدول الذي يحقق هذه القيمة الجمالية، ينطلق من الاشتعال الجدلي القائم بين أصول النحو ومعانيها وبين الألفاظ وطريقة نظمها، إنها المنطقة التي يتم فيها التوافق بين الدال والدلالة.
والطريف أن هذه المنطقة –عند عبد القاهر- ليست مقيدة بالبنية الإيقاعية على الرغم من أهميتها، على اعتبار أن البناء الموسيقي عنده، مجرد هيئة صورية غير قابلة للاهتزاز إلا في الحدود التي سمح بها العروضيون، إنها منطقة لا تحقق طموحات الانزياح وعمق فعاليته، والواقع أن الدرس البلاغي لم ير في النظام الإيقاعي ميزة في الشاعرية؛ إذ إن النظام العروضي يتيح للمبدع بناء شكليا يتمثل جهده الحقيقي في ملء هذا البناء بمادته التعبيرية، بحيث يتم وفق معادلة محسوبة بين الشكل الإيقاعي، والبناء العرفي، وربما لهذا أسقط عبد القاهر (الوزن والقافية) من شعريته، يقول عبد القاهـر: "فإن زعم أنه إنما كره الوزن، لأنه سبب لأن يتغنى في الشعر ويتلهى به، فإنا لم ندعه إلى الشعر إلا لذلك، ,وإنما دعوانا إلى اللفظ الجزل، والقول الفصل، والمنطق الحسن، والكلام البين، وإلى حسن التمثيل والاستعارة، وإلى التلويح والإشارة، وإلى صنعة تعمد إلى المعنى الخسيس فتشرفه، وإلى الضئيل فتفخمه، وإلى النازل فترفعه، وإلى الخامل فتنوّه به، وإلى العاطل فتحييه، وإلى المشكل فتجليه، فلا متعلق به علينا بما ذكر، ولا ضرر علينا فيما أنكرن فليقل في الوزن ما شاء، وليضعه حيث أراد، فليس يعنينا أمره، ولا هو مرادنا من هذا الذي راجعنا القول فيه " .
وبإسقاط الإطار الخارجي الإيقاعي يلخص عبد القاهر للبنية الداخلية، بما فيها من طاقات وإمكانات نقلتها –بالنحو- من النثرية إلى الشعرية، ولكي يكون الخلوص كاملا يسقط إلى جانب البنية الإيقاعية، الدلالة الكلية الغرضية، فليس من خواص الشعرية استثمار العلاقات الداخلية لتحقيق الإطارات العامة المحفوظة، كالغزل والمديح والفخر وغيرها... بل إن أخص خواصها أن تتحرك داخل خيوط الصياغة طولا وعرضا ومن ثم يكون ادعاء بعض النقاد تقديم بعض الكلام بمعناه –إذا كان أدبا وحكمة وكان غريبا ناذرا- ادعاء غير صحيح، لأن من قضى " بفضل أو نقص، ألا يعتبر في قضيته تلك إلا الأوصاف التي تخص ذلك الجنس وترجعه إلى حقيقته، وأن لا تنظر فيها إلى جنس آخر، وإن كان من الأول سبيل أو متصلا به اتصال ما لا ينفك منه.
" ومعلوم أن سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة، وأن سبيل المعنى الذي يعبر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير والصوغ فيه، كالفضة والذهب يصاغ فيها خاتم أو سوار، فكما أن محالا –إذا أنت أردت النظر في صوغ الخاتم، وفي جودة العمل ورداءته- أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة، أو الذهب الذي وقع فيه ذلك العمل وتلك الصنعة –كذلك محال- إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام –أن تنظر في مجرد معناه، وكما أنا لو فضلنا خاتم على خاتم، بأن تكون فضة هذا أجود، أو فصه أنفس، لم يكن ذلك تفضيلا له من حيث هو خاتم- كذلك ينبغي إذا فضلنا بيتا من أجل معناه، ألا يكون تفضيلا له من حيث هو شعر وكلام" .
إذن فالشعرية عند عبد القاهر الجرجاني لا تنحصر في الانتماء الجنسي للنوع الأدبي، فقط وإنما تنبعث من ذلك الانسجام الحاصل بين الإطار الشكلي الخاص والبعد الدلالي الذي يعكسه، وبالتالي فالفرق بين اللغة واللغة الشعرية، فرق في الصياغة وطريقة البناء، لا في اللغة نفسها، وبالتالي فالمزية التي توفرها الألفاظ داخل الجملة الشعرية، لا ترجع لها في أنفسها وإنما إلى المعنى الذي تحيل عليه، ويتوضح ذلك عندما يعالج عبد القاهر الجرجاني إشكال الشعرية على مستويين أوليين:مستوى المعجم ومستوى التركيب النحوي: لقد فند الجرجاني القول الزاعم بأن الدوال يتم التواضع عليها لتحيل وتعبر على معنى داخلي فيها لأن هذا التصور يؤدي إلى ناتج فاسد بالضرورة، وهو أن يكون قد تم وضع الأسماء والأجناس لتعرف بها، أي أننا ما كنا نعقل مدلول (رجل) و (فرس) و (دار) لو لم توضع لها هذه الدوال، وهذا يتنافى مع جوهر المواضعة ذاتها، لأنها لا تتم إلا على معلوم: " فمحال أن يوضع اسم أو غير اسم لغير معلوم، لأن المواضعة كالإشارة، فكما أنك إذا قلت : (خذ ذاك) لم تكن هذه الإشارة لتعرف السامع المشار إليه نفسه، ولكن ليعلم أنه المقصود من بين سائر الأشياء " .
وعلى هذا الأساس فإن السمة الشعرية في اللغة لا تتحقق بمعرفة المعنى المتواضع عليه في اللفظ، لأن المزية لا تنحصر ولا تكون في هذه المعرفة، وإنما تتحقق السمة الشعرية بالاستثمار الواعي لمفهوم الاختيار الذي يصل حركة الذهن الداخلية بالمستوى السطحي الخارجي للصياغة، وعلى مستوى هذا الاتصال تتحقق المزية فـ " العلم بأن (الواو) للجمع، و (الفاء) للتعقيب بغير تراخ، و (ثم) له بشرط التراخي، و (أن) لكذا و (إذا) لكذا – ليس مؤديا للمزية،، وإنما تتحقق عند التأليف بإحسان الاختيار ومعرفة المواضع المناسبة " ، ومعنى هذا أن الوظيفة الحقيقية للكلمة تكون عند خلق الانسجام بين اللفظة في معناها الصوري، وبين موقعها داخل سياق تركيبي معين يراعي حضور باقي مكونات الجملة عن طريق مفهوم الاختيار. والشرط في هذا الاختيار أن يكون واعيا يتعامل مع الدوال في جانبيها الصوتي والدلالي، ثم لا يكون لهذا التعامل قيمته الشعرية التي تستولي على هوى النفوس، وميل القلوب إلا بالإتيان به من الجهة التي هي أصح لتأديته، من حيث اختصاصه بمعنى معين، وقدرته على نقله إلى المتلقي في صورة مغلفة ب (النبل والمزية) .
وتصل عملية الاختيار إلى قمة شعريتها بسقوطها عموديا على عملية التأليف، حيث يتحول الالتقاء بينهما إلى مجموعة من الخطوط التي تكون شبكة كاملة من العلاقات شبيهة بقطعة النسيج التي تتلاحق خيوطها أفقيا ورأسيا ثم تزداد فنيتها بالأصباغ والنقوش المختلفة المواقع، فالتخير الذي ينصب على الخيوط أولا؛ ثم يتصل بالمواقع ثانيا، هو الذي يقدم الصورة النسيجية –على مستوى التشبيه- والصورة الشعرية على مستوى الواقع .
لقد خلص الجرجاني إلى نفي أي قول بشعرية الألفاظ بعيدا عن أي وظيفة سياقية لها، وساق في دلائله مجموعة من الأدلة على صحة تصوره، أوضح أن اللفظة القلقة في سياق معين، نفسها تكون مطمئنة ومتمكنة في سياق آخر، وبالتالي فالعدول عن اختيار كلمة إلى اختيار أخرى، هو عدول يفرضه تصور المعنى السياقي كما خطر في ذهن المبدع، وقد كان الجرجاني حاذقا، عندما ربط هذا السياق الإبداعي بالمعاني المترابطة والمترتبة في النفس، إذ لا يمكننا أن نتصور جملة تركيبية تحتوي فراغا أو فراغات معجمية، تنتظر من المبدع اختيار الوحدات المعجمية المناسبة لملئها، بل إن ذلك يحصل بشكل علائقي في شمولية تجمع بين مكونات الجملة في اختيار آني يراعي الأبعاد الجمالية للكلام عن طريق عملية النظم.
وعلى هذا الأساس سعى الجرجاني إلى التفرقة بين مستويات الكلام، تلك المستويات التي تبدأ من "الكلام العادي" إلى "الكلام المعجز" الذي يفوق طاقة البشر.
لقد حاول الجرجاني الكشف عن منطقة العدول القائمة بين ثنائية اللغة/ اللغة الشعرية وذلك بطرحه سؤالا طرحته الشعرية، ولكن بشكل أعمق وأوضح: ما الذي يميز كلاما من كلام؟ وما الصفة الباهرة التي بهرت العرب في النص القرآني فأحسوا بالعجز إزاءه برغم فصاحتهم وقدرتهم البيانية؟ ويكاد عبد القاهر في إجابته عن هذه الأسئلة يقترب من الفكر الأسلوبي المعاصر، حين يرى أن "الشعر" وكذلك "القرآن" كلام ينتمي إلى اللغة، ولكن كلام يتميز بخصائص ومعان تدخله في حدود "الفن"، ولكن هذه الخصائص والمعاني "الفنية" يكمن الوصول إليها وتحديدها، ولا يصح أن يكتفي في وصفها بالعبارات الغامضة الفضفاضة، لقد نادى الجرجاني نداءا صارما وصريحا بضرورة الدقة والتعليل عندما يتعلق الأمر برصد الخصائص المميزة لشعرية الخطاب إذ " لا يكفي في علم "الفصاحة" أن تنصب لها قياسا ما، وأن تصفها وصفا مجملا، وتقول فيها قولا مرسلا، بل لا يمكن من معرفتها في شيء حتى تفصل القول وتحصل، وتضع اليد على الخصائص التي تعرض في نظم الكلم، وتعدها واحدة واحدة، وتسميها شيئا شيئا، وتكون معرفتك معرفة الصنع الحاذق الذي يعلم علم كل خيط من إلا برسيم (الحرير) الذي في الديباج، وكل قطعة من القطع المنجورة في الباب المقطع، وكل آجرة من الآجر في البناء البديع" و " لابد لكل كلام تستحسنه، ولفظ تستجيده من أن يكون من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة وعلة معقولة، وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذلك سبيل وعلى صحة ما ادعيناه دليل " .
لقد كان عبد القاهر الجرجاني على وعي التام بهذا الفارق الكائن بين اللغة والكلام، ذلك الفارق الذي أرسى دعائمه العالم السويسري "دي سوسير" وطوره تشومسكي في تفرقته بين "الكفاءة" و "الأداء" إن قوانين النحو ومعاني الألفاظ المفردة، تمثل عند شيخنا " النظام" اللغوي القار في وعي الجماعة ، الذي تقوم اللغة على أساسه بوظيفتها الاتصالية، أما الكلام فهو التحقق الفعلي لهذه القوانين في حدث كلامي بعينه وإذا كانت قوانين اللغة على مستوى الألفاظ أو التراكيب (قوانين النحو) هي القوانين الفاعلية في كل مستويات الكلام، فإن الكلام الأدبي (اللغة الشعرية) هو الذي ينسب إلى قائله ويعبر عن فاعليته العقلية، المتحققة في مستوى النظم كتحقق فعلي لها، وهنا فقط تتوفر للمتكلم أقصى درجات الحرية الممكنة داخل قوانين اللغة، حرية تخول له الانتقال من اللغة التي تواضع عليها إلى اللغة الشعرية التي عدل إليها متوسلا بالإمكانيات الهائلة التي يوفرها النظم المخصوص.
الأسلوب : عدول في النظم:
في معرض تفريقه بين النظم واللانظم، يؤكد عبد القاهر الجرجاني بأن فاعلية المتكلم أو المبدع هي المحدد الأساسي لاختلاف أسلوب عن آخر، هذا الاختلاف هو الذي يتحقق بالممارسة الانزياحية التي يمارسها المبدع داخل تركيبة النظم والتي من خلالها يستطيع القارئ قياس مدى شاعرية النص بالمقارنة مع الأفق الدلالي الذي كان يتوقعه؛ والحقيقة أن الممارسة التي تؤطرها عملية النظم والخالقة للنص الفريد، عن طريق استثمار فاعلية العدول، هي التي تمنح الأسلوب خاصية يمكن إضافتها إلى النص أو مبدعه.
ويبقى النظم يحظى بأولوية خاصة لما له من عمق دلالي يشتبك بشعرية التناص التي لا تعنى باشتقاق معنى من معنى آخر فقط، وإنما بإخراجه على غير هيئته الأولى، وهكذا يعطي الجرجاني للمبدع إمكانات هائلة تضاف إلى القدرة الإبداعية قدرة كان علماء الكلام قد قزموا من إمكانياتها حين أقروا بأقوال حول بعض الشعراء من مثل: أخذ المعنى من صاحبه فأحسن وأجاد، أخذ المعنى فظهر أخذه... يقول عبد القاهر: " ولو كان المعنى يكون معادا على صورته وهيئته، وكان الأخذ له من صاحبه لا يضع شيئا غير أن يبدل لفظا مكان لفظا لكان الإخفاء فيه محالا، لأن اللفظ لا يخفي المعنى، وإنما يخفيه إخراجه في صورة غير تلك التي كان عليها " .
وبالتالي فإن مزية الشعرية، ليست في استبدال الدوال بعضها ببعض بل في انتظامها في تشكيل جمالي يضاعف حدة الصور بالمستوى الذي يصل عنده الإدراك التأملي حد الإجهاد أحيانا، ومعنى هذا أن الفروق بين مستويات الكلام، هي فروق في الدلالة تحول الكلام من مستوى إلى آخر، وهي فروق شخصية وخصائص فردية تحدد بتفردها وتميزها ما أسماه الجرجاني الأسلوب تعبيرا عن هذه الفروق:
" واعلم أن "الاحتذاء" عند الشعراء وأهل العلم بالشعر وتقديره وتمييزه، أن يبتدئ الشاعر في معنى له غرض و أسلوب-والأسلوب الضرب من النظم و الطريقة فيه- فيعمد شاعر آخر إلى ذلك (الأسلوب) فيجيء به في شعره... "
وبهذا القول يؤسس الجرجاني لرؤية جديدة في تحديد مستويات الكلام، إذ أن المحافظة على نسق الكلام وانتظامه مع تغيير الدوال المعجمية فقط، لا يخفي معالم الأسلوب حتى وإن كان ثانيا ومحتذيا، وذلك لأن النظم أكبر من أن يكون مجرد ترتيب للكلمات في نسق معين، فالعدول الحاصل من استبدال الوحدات المعجمية هو عدول بالضرورة بالمعاني الدلالية الكامنة فيها، إذا ما يحكم الألفاظ هي مواقعها داخل النسق حسب معانيها في أنفسها، وما يحدد تفرد الأسلوب ليس ترتيب الألفاظ في نسق معين، وإنما العلاقات الدلالية والقصدية التي وضعت لها، يقول الجرجاني: " لا يكون الإتيان بالأشياء بعضها في إثر بعض على التوالي نسقا وترتيبا حتى تكون الأشياء مختلفة في أنفسها، ثم يكون للذي يجيء بها مضموما بعضها إلى بعض غرض فيها ومقصود لا يتم ذلك الغرض وذلك المقصود إلا بأن يتخير لها مواضع فيجعل هذا أولا وذاك ثانيا " ، ومعنى قول الجرجاني أن الدلالة التي تحملها الألفاظ في علاقتها السياقية هي تفرض نمط التركيب والنظم المناسب للقصدية التي تكمن وراءها وليس العكس، ورأيه هذا نابع من تصوره للنظرية الإعجازية التي كانت من وراء تألقه البلاغي، إذ لو كان الأمر كما زعموا، لقام معارضو القرآن باستبدال ألفاظه بمرادفاتها ويبقى الأسلوب كما هو، ولكن الأمر ليس كذلك لأن العدول إلى ألفاظ مغايرة في العمود الاستبدالي للتركيب، هو عدول في العلاقات التي تربطها باعتبار الوظيفة الدلالية التي تؤديها في علاقتها مع باقي الوحدات المكونة للتركيب، وليس في أنفسها.
وبهذا يكون الجرجاني قد أوجد حضورا متميزا للمتكلم (المبدع) وفاعلية في رسم أسلوب للنص يكون الأسلوب فيه هو الرجل نفسه، لأن الفروق التي أشرنا إليها سلفا والتي أطلق عليها الجرجاني اسم (الأسلوب)، هي فروق تحدث بالمتكلم لا باللغة، سواء بألفاظها الوضعية أو قوانينها النحوية، حيث إن مهارة المتكلم تتمثل في قدرته على التخير بين ممكنات مختلفة، تطرحها اللغة في " معاني النحو" كما تطرحها في دلالات الألفاظ.
إن الأسلوب –بهذا الإدراك العميق الذي طرحه عبد القاهر- غير قابل للتقليد، وإنما هو فقط قابل للاحتذاء، فليس الكلام من قبيل الصناعات التي يصح فيها التقليد إلا على سبيل الحكاية أو الرواية، أي رواية قصيدة لشاعر بعينه، وفي هذه الحالة فإن القصيدة، تضاف إلى الشاعر ولا تضاف إلى الراوي أو "الحاكي"، وما يقوله القدماء عن سرقة المعاني بين الشعراء لا يقره عبد القاهر ولا يعترف به، لأن أي تحول في الأسلوب أو في النظم يؤثر في المعنى لا محالة.
وعلى هذا النحو يأخذ الأسلوب –كالنظم- طبيعة ذهنية تصورية، ومن ثم يصبح اكتساب هذا التصور والتحرك فيه شيئا قابلا للتحقق- وهذا هو المدخل الصحيح عند عبد القاهر لمقولة الأخذ والاقتباس، وهذا التصور الذهني يحيله عبد القاهر إلى صورة نفسية وهي صورة مزدوجة، بمعنى أن لها وجودا داخليا وخارجيا على صعيد واحد، ولا يتحقق الوجود الخارجي إلا بالنظر في التراكيب وما بين مفرداتها من علاقات، وبالنظر فيما ينتج نصيا من دلالة.
" وبما أن الرجل كان معني بالمعاني الثواني، كانت البنى البلاغية هي شاغله في تحديد مفهوم الأسلوب، ولا يمكن أن تتشكل البنى إلا بالاتكاء على الوظائف النحوية التي تهز تطابق الدال بالمدلول، ومن ثم تحدث انزياحا يسمح بوجود فضاء يستوعب المعاني الطائرة التي يمكن أن نسميها مرة تشبيها، ومرة تمثيلا ومرة اتساعا، وقد لا يكون شيء من ذلك وإنما يتحقق العدول بحركات داخلية في التراكيب نتيجة للتقديم أو التأخير، أو الحذف أو الذكر، وبمثل هذه الخواص يتميز أسلوب من آخر، بل يتحقق الأسلوب وجوده الفعليُّ " .
وعلى هذا الأساس فإن أي فاعلية لمفهوم العدول تمارس في المستويات المختلفة للنسق اللغوي المركب، هي فاعلية محددة لخصوصية الأسلوب وتفرده، ومعنى ذلك أن السمات الجمالية التي قد تضمن للاستعمال اللغوي –كلاما وكتابة- شعريته وانتماءه الفني والجمالي، هي نابعة من عدول في النظم تتداعى مستوياته بشكل تصاعدي إلى أن تصل إلى الكلام المعجز الذي يتساوق مع المنظومة اللغوية المتواضع عليها في التصور العربي، ولكن يعدل وينزاح عن نظمها حتى الشعرية منها.
إن حرص الجرجاني على امتلاك رؤية "تفكيكية " في تمييز الكلام تبدو رؤية متقدمة عن تلك التي ذهب إليها شومسكي " من أن القواعد النحوية لا تتشكل بواسطة الكلمات، ولكن بواسطة المجموعات (سانتاغم) أو المركبات، كالمركبات الاسمية والفعلية... إلخ، وهكذا فتحليل عبارة إثباتيه ، وخصوصا علاقتها مع عبارة استفهامية يكون بواسطة المركبات " .
وربما فتحت تأملات الجرجاني بخصوص النظم ومزاياه المجال –فيما بعد- لأفق نقدي جديد، بخاصة حين اقترن ذلك بالدراسات البلاغية حول إعجاز القرآن الأمر الذي سمح بتعدد وجهات النظر، ومسالك التأويل، وآفاق القراءة في فهم وتحليل مبادئ الخطاب الأدبي والشعري.
إن تشابك العلاقات بين الدوال والمدلولات هو ما يفسر صيغة الأنباء الداخلي لوحدات الكلام، وهو التلاحم الذي يكشف عنه روعة التشكيل والأداء الأسلوبي، تلك الروعة التي تترك للقارئ مساحة للغياب يطل بها على شعرية غائبة، يستحضرها بإشراك وعيه في توليد النص.
و"ربما كان امتلاك الجسدي في النص هو الأسلوب نفسه، وليس الشكل سوى اللغة التي يصدر عنها الأداء، وهذا ما حاولت نظرية النظم أن تتوصل إليه، فالنص لا يقول جميع أعضائه، ليصبح جوهر النظم هو البناء الذي لا يحصره حد ولا يحيطه قانون.
إذ الجسد لا قانون له، إنه ينبثق من تلاحمه الداخلي ويجيء على أوجه مختلفة الأنماط أقصاها هي تلك التي تجيد فيها النظم أي البناء " و " إذا عرفت هذا النمط من الكلام وهو ما تتحد أجزاءه حتى يوضع وضعا واحدا فاعلم أنه النمط العالي، ومما ندر ولطف مأخذه ودق نظر واضعه... الأبيات المشهورة في تشبيه شيئين بشيئين – بين امرؤ القيس: "
كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً ويَابِساً */* لَدَى وَكْرِهَا العُنَّابُ والحَشَفُ البَالِي
يلاحظ أن الجرجاني لا يحلل آراءه ولا يفسر وجهات نظره، وإنما يقذف بها كأنها شذرات ليترك لنا حرية الاستيعاب والتأويل ولعل مرد ذلك إلى السياق التحليلي السائد آنذاك وطالما أشار إلى أن أهمية النظم إنما تكون في البناء، في امتلاك الأداة أو الطريقة –الاحتذاء أو الأسلوب- لكنه لم يفسر كيفية أداء هذه الأنماط العليا من النظم وتلك هي مهمة الشعرية الحديثة في تفكيك جسد البلاغة القديمة وإعادة تركيبها .
وبذلك تبقى هناك أشكال محتمة للبلاغة المفتقدة، تبحث عن خاصيتها في المحتمل التعبيري للغة تنفلت من كل ما هو متداول، ذلك أن الدلالة وحدها لا تكفي " لتمعين" الخطاب وإعانته على اكتشاف جسده من جديد، هناك أيضا الشكل بوصفه اللغة الأولى لفهم القائم على استحضار الدال الغائب وهذا الغياب هو ما يتضمن وجود شكل يتم بمقتضاه تمثل الصورة البنيوية للخطاب.
إن الشعرية بهذا المعنى، ليست مستحدثة، وطبيعة العدول التي تلحق بالخطابات المجازية هي التي تفرض تمايز هذه الخطابات بامتلاكها لغة تعمل في غياب.
ولقد أسس الشيخ عبد القاهر الجرجاني لفاعلية هذه الشعرية عبر مستويين:
- شعرية المجاز، التي يشكل العدول محور اشتغالها.
- شعرية النحو، المؤطرة لهذا الاشتغال جماليا.
( مقاربة في نظرية المعنى
ومعنى المعنى عند الجرجاني)
يبدو أن المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمد من الأصل اللغوي، فلقد نقل ابن منظور (ت 711 هـ) قول اللغويين : "جزت الطريق، وجاز الموضع جوازا ومجازا: سار فيه وسلكه، وجاوزت الموضع بمعنى جزته، والمجاز والمجازة الموضع " ، وكان عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ) قد كشف العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز، فالمجاز عنده " مفعل من الشيء، يجوزه إذا تعداه، وإذا عدل باللفظ عما يوجبه اصل اللغة، وصف بأنه مجاز على معنى أنهم جازوا به موضعه الأصلي، أو جاز هو مكان الذي وضع له أولا " .
وهو لا يكتفي بذلك حتى يحدد العلاقة بين الأصل والفرع في عملية العدول عن أصل اللغة، أو النقل الذي يثبت إرادة المجاز لهذا اللفظ أو ذاك دون الاستعمال الحقيقي فبقول: " ثم اعلم بعد: إن في إطلاق المجاز على اللفظ المنقول عن أصله شرطا، وهو أن الاسم يقع لما تقول أنه مجاز فيه بسبب بينه وبين الذي تجعله فيه " . والطرف عند عيد القاهر الجرجاني تأكيده على المناسبة القائمة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق المجاز، متناولا قضية الوضع الحقيقي، وتجاوزه إلى المعنى الثانوي المستجد في المجاز، فيقول: " وأما المجاز فكل كلمة أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الثاني والأول، فهي مجاز، وإن شئت قلت" كل كلمة جزت بها، ما وقعت له في وضع الواضع إلى ما لم توضع له من غير أن تستأنف فيها وضعا لملاحظة بين ما تجوز إليه وبين اصلها الذي وضعت له في وضع واضعها فهي مجاز " .
ومن هنا يبدو أن التقرير اللغوي متجدر من التبادر الذهني للفظ المجاز، وأن التحديد الاصطلاحي له نابع من الأصل اللغوي، وذلك ي ما وضعه أبو يعقوب السكاكي (ت 626هـ) موضع القانون الذي لا يعدل ولا يناقش، يقول : " المجاز هنا هو الكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق استعمالا في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها مع قرينة مانعة عن إرادة معناه في ذلك النوع " .
ويبدو أن هذا التحديد يغلب عليه البعد المنطقي كما عرف ذلك عند السكاكين وليس هذا الفهم جديدا بل هو مفهوم الأوائل للاستعمال المجازي.
فالجاحظ كمعاصريه يعبر عن الاستعارة والتشبيه والتمثيل جميعا بالمجاز، ويبدو هذا جليا في أغلب استعمالات الجاحظ البيانية التي يطلق عليها اسم مجاز، وهي عبارة عن مجموعة العناصر البلاغية في النص الأدبي التي تكون المفهوم النقدي الحديث للصورة الفنية .
ولا يعتبر هذا رجوعا إلى الوراء في التماس حقائق الأشياء، ولكنه إفادة موضوعية من القديم لرصد الجديد وتحقيقه، لذلك فقد يلتبس الأمر بين المجاز والتشبيه والاستعارة، ولكن التمييز الدقيق يقتضي الفصل والتفريق بين هذه الظواهر البيانية المتجاورة:
أ- فإن أريد التوسع مطلقا دون سواه فهو المجاز.
ب- وإن أريد فيه التشبيه التام في ذكر المشبه والمشبه به وأداة التشبيه مع وجود وجه الشبه، أو حذف أداة التشبيه مع ذكر وجه الشبه، أو انعدام أوجه التشبيه من جهة وتوافقه من جهة أخرى مع ذكر أداة التشبيه، أو حذفهما معا فهو التشبيه دون ريب.
ج- وإن أريد التشبيه في ذكر المشبه والمشبه به، فهو الاستعارة.
إذن فالتحديد المانع هو الذي يقتضي الفصل بين هذه المتقاربات، لأن في المجاز توسعا ونقلا وتجاوزا في الألفاظ يختلف عما يراه في التشبيه والاستعارة.
وعلى هذا فالمجاز حدث لغوي فضلا عن كونه عنصرا بلاغيا نابضا بالاستنارة والعطاء، هذا الحدث يفسر لنا تطور اللغة العربية بتطور دلالة ألفاظها على المعاني الجديدة، والمعاني الجديدة في عملية ابتداعها لا يمكن إدراكها إلا بالتعبير عنها، والتصوير اللفظي لها، والمجاز خير وسيلة للتعبير عن هذا الاتساع بما يضيفه من قرائن، وبما يخفيه من علاقات لغوية مبتكرة، توازن بين الألفاظ والمعاني في الشكل والمضمون، وتلائم بين عمليتي الإبداع والتجديد في دلالة اللفظ الواحد للخروج باللغة إلى ميدان أوسع، والتطلع بها نحو أفق رحيب ونجد الشيخ عبد القاهر، ينطلق من مقاربته للمجاز باعتباره عدولا جماليا داخل اللغة ونظمها، من النصوص القرآنية، ليدفع شبهة حمل اللفظ على ظاهره، ومن ذلك تحليله لكل من قوله تعالى:
أ- (هل ينظرون إلا أن ياتيهم الله) [البقرة، 210]
ب- (وجاء ربك) [الفجر، 22]
ت- (الرحمن على العرش استوى)[طه 5]
وأوجب أن يكون مجازا لا محالة لأن الإتيان والمجيء انتقال من مكان ، وصفة من وصفات الأجسام وأن الاستواء إن حمل على ظاهره لم يصح إلا في جسم يشغل حيزا، ويأخذ مكانا، والله عز وجل خالق الأمكنة والأزمنة، ومنشئ كل ما تصح عليه الحركة والنقلة والتمكن والسكن والانفصال والاتصال والمحاسنة والمحاذاة .
ولهذا كان لا بد من الاعتماد على المجاز، كآلية بلاغية فاعلة لتفسير الخطاب في شكليه الحقيقي والجمالي معا، لأن كشف الدلالات الكامنة وراء التركيب اللغوي، يكون من صميم محاولة الحصول على حقيقة الخطاب باعتباره قصدا من جهة أولى وعلى جماليته الأدبية باعتباره نوعا خاص من التعبير.
لقد اعتبر الجرجاني المجاز روح العملية الشعرية، وهو يؤطر جهازا نقديا واعيا واصفا لحقيقة الواقعة الأسلوبية، حيث اعتبر مفهوم معنى المعنى، ينطلق من اللغة ذاتها ليصل إلى اللغة في شعريتها وانزياحها، وكما سبقت الإشارة فإن نظرية المعنى ومعنى المعنى أفرزت سياقا مفتوحا للنص الأدبي وفق أنساق تعدد القراءات بغرض اختراق تطابق الدلالة، فالفرق الذي أراده الجرجاني ليس في ما بين ( الشعر والنثر)، وإنما هو فرق بين ما يدل على أنه كلام أدبي وعلى ما يدل على أنه محضر كلام عادي:
- ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده (كلام عادي)
- ضرب أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده (كلام فيه عدول)
فالمعنى ينزاح عن مدلوله اللفظي الكائن في دلالته الظاهرة و المباشرة (معنى أول)، ولكن إلى ما ينزاح المعنى؟
إلى دلالة خفية غير مصرح بها (معنى ثان = معنى المعنى).
والحقيقة أن هذه الدلالة الخفية لا تحقق إلا بتقنية المجاز في شكله العام، ف"جملة الأمر أن صورة المعنى لا تتغير بنقلها من لفظ إلى لفظ حتى يكون هناك اتساع ومجاز وحتى لا يراد من الألفاظ ظواهرها وضعت له في اللغة ولكن يشار بمعانيها إلى معان أخر" .، إذن فالشعرية تضمن وجودها بواسطة قوانين خاصة داخل الأنظمة اللغوية الأخرى، ولكن بوصفها وظيفة شعرية متميزة، ولذلك خصت بمزايا لتجوز والانحراف والاتساع والعدول وكلها يوجزها النظام اللغوي الذي امتاز بهذا النمط من الكلام، إن المسألة، مسألة نظام قائم بذاته، وليس فرقا بين (شعر ونثر) فنظام الشعر يختلف عن الأنظمة اللغوية الأخرى بانتظامه البناء الخاص، وبتشكيل المتميز، وبأسلوبه المغاير، وبصوره وتراكيبه المنزاحة.
والانزياح أو العدول ليس صفة لصيقة بالشعر، إنه الشعر ذاته ويشترك كل من النص والقارئ في تحقيق هذه الصفة، الأول بالأداء والثاني بفاعلية التلقي.
العدول إذن هو أسلوب شعري يميز الجملة الشعرية، ويمنحها فنية خاصة، ومزية لا يمكن لجملة أخرى أن تشترك معها فيها، ومعنى هذا أنه الشكل الذي تجيء به اللغة الشعرية في نظامها التراكيبي والذي يولد من تضافر دواله مع مدلولاته لتوليد المحتمل الدلالي في كينونته المتجددة " فالشعر يكسر البناء المنطقي للجملة فيقف على غير مواضع الوقوف، ويفصل بين أجزاء الجملة بعضها ببعض، ويشعت كثيرا من هذه الأجزاء ويكون هذا مقبولا فيه، لأنه فصل وتشعيت في مقابل غاية فنية، وتحطيم يرمي إلى بناء آخر، فهو هدم من أجل البناء الشعري، وكسر من أجل التركيب الفني" .
ومعنى هذا أن النظم يلزمنا الوقوف على شعرية المجاز التي مدارها الاتساع والذي من شأنه أن يحدث خللا في علائق الدوال في مدلولاتها.
لقد تميزت نظرية " معنى المعنى " بالتفرد، باعتبارها قانونا شاملا لتفسير دلالة المجاز وأدبية الأسلوب، ولعل أهمية ذلك يعود إلى ارتباط هذه النظرية بمساءل النقد الحديث والألسنية والأسلوبية، بل تكاد تشمل كثيرا من قضايا الشعرية التي أثارها الشكلانيون الروس مع بداية القرن. ويمكن التركيز هنا على تمييز الجرجاني بين اللغة والكلام، بطرحه ظاهرة كلامية يفصل فيها بين معاني الألفاظ ومعاني الدلالات، وفي هذا اقتراب من مفهوم تودوروف في الفرق بين المدلول الأول والمدلول الثاني، غير أن الجرجاني في تقسيمه للكلام إلى ضربين يقحم المتلقي الذي يشترك مع الباث في الفهم والاستيعاب والتأويل.
وعلى الرغم من العلاقة الاعتباطية بين اللفظ ومعناه، إلا أن الجرجاني يذهب إلى تمييز الدلالات نفسها:
دلالة اللفظ (معنى أول) المعنى.
دلالة المعنى (معنى ثان) معنى المعنى.
لقد كان تركيز الجرجاني على المدلولات بدل الدوال، أي على معاني الألفاظ لا على الألفاظ ذاتها من صميم الوصول إلى روح العملية المجازية في حقيقتها، التي تعتمد على تجاوز المدلولات كما سماها " تودوروف" حين يقول : إن خصائص شيء ما – على سبيل المثال – تستثار في الذهن عندما يذكر شخص ما إسم هذا الشيء، فاللبن يستثير معنى البياض ، و الأسد يستثير معنى الشجاعة ...ولا يجب ألا ننسى –مع ذلك- أن السياق المشار إليه سياقا لغويا (أي نتيجة لتجاوز الدوال ) ولكن سياق حضاري( أي نتيجة لتجاور المدلولات ) فالتأويل لا يستدعي تماثل الدوال و إنما تماثل المدلولات وإدراك هذه المعاني يتطلب وعيا مرجعيا مشتركا بين المتكلم والمخاطب ويتم ذلك بالوقوف على المعنى المباشر وهدمه وتجاوزه إلى المعنى الخفي.
إذا نظرنا إلى أمر ما استخلصته الشعرية الحديثة واعتبرته في صلب أدبية الخطاب الشعري:
هناك : خطاب +متكلم + متلق
هناك : معنى مباشر( أول ) ومعنى غير مباشر ( ثان)
هناك : مرجعية الخطاب (اللغة+ العالم الخارجي) ومقصديته
هناك : السياق اللغوي والدلالي والحضاري.
نجد في الوقت ذاته أن شعرية الجرجاني تلح على تعالق الدوال والمدلولات ودمجها بالمستوى النحوي، بالإضافة إلى توطيدها بمستويات التلقي التي تؤهل المخاطب، وتساعد على في توسيعه أفقه التقبلي ليس بحصر هذه العلاقات، ولكن بإعادة تصور الشكل الذي انبثقت عنه بما ينسجم مع الاستجابة التأملية لمظاهر العدول الجمالية.
إن اللغة الشعرية هي تلك التي تستثر خلف أقنعة من القتامة والغموض ومن الصعب التعرف على جميع خصائصها الباطنية، وربما مبعث ذلك هو الإحساس النابع من جوهر الكتابة الشعرية لونا جماليا وفنيا مغايرا يستقطب الأسماع ويستجلب الأذواق؛ ولم يخل الوجدان العربي من وعي بهذه التجربة الشعرية، ن
الكاتب/ عبير خيري محمد
19/07/2007
الشعرية العربية والنقد المعاصر :العدول وسؤال الشعرية
(رؤية أسلوبية)
ذ.عبد الرحيم أبوصفاء
- العدول: المصطلح والمفهوم عند الجرجاني
- العدول بين اللغة واللغة الشعرية عند الجرجاني
- الأسلوب : عدول في النظم
- شعرية المجاز /شعرية النظم : مقاربة في نظرية المعنى ومعنى المعنى عند عبد القاهر الجرجاني.
العدول : المصطلح والمفهوم:
تحدث الجرجاني عن ما سماه التعادل بين الحروف وهو أن تكون متلائمة لا ثقل فيها يكُدُّ اللسان؛ يقول "فإن قال قائل: إني لا أجعل تلاؤم الحروف معجزا حتى يكون مع ذلك دالا، وذاك أنه إنما يصعب مراعاة التعادل بين الحروف إذا احتيج مع ذلك، إلى مراعاة المعاني... قيل له: فأنت الآن.. تدعي أن ترتيب المعاني سهل... وأن الفضيلة تزداد وتقوى إذا تُوُخِّي في حروف الألفاظ التعادل أو التلاؤم، وهذا منك وهم " والتعادل هنا بمعنى التلاؤم فقط.
ويذكر الجرجاني لفظ التعديل، يقول عن تعديل مزاج الحروف: "هو إيقاع التلاؤم بينها دفعا للثقل على اللسان". ويقول أيضا وهو يذكر إحدى الشبه المتعلقة بالفصاحة: " وهي أن يدعي أن لا معنى للفصاحة سوى التلاؤم اللفظي، وتعديل مزاج الحروف حتى لا تتلاقى في النطق حروف تثقل على اللسان " .
والتعادل والتعديل هنا جاءا بمعنى التلاؤم والتناسق والانسجام الصوتي المتوخى في اللفظة كي يحسن نظمها.
وجاء معنى العدول مقرونا باللفظ عند الجرجاني، فالعدول باللفظ: هو نقله من معناه الحقيقي إلى معنى مجازي لوجود علاقة بينهما، يستفاد ذلك من قوله وهو يذكر القسم الأول من قسمي الكلام الفصيح: " فالقسم الأول الكناية والاستعارة والتمثيل الكائن على حد الاستعارة وكل ما كان فيه على الجملة مجاز واتساع وعدول باللفظ عن الظاهر… " . وهذا ينطبق بشكل عميق على المعنى الذي نحن بصدد مقاربته، وفي تعريفه للمجاز اللغوي يقول الجرجاني في أسراره: " المجاز: مفُعَل من جاز الشيء يجوزه، إذا تعداه، وإذا عدل باللفظ عما يوجبه أصل اللغة، وصف بأنه مجاز، على معنى أنهم جازوا به موضعه الأصلي أو جاز هو مكانه الذي وضع فيه أولا " .
لقد كان للجرجاني مفهوما خاصا لمصطلح العدول: حيث جعله محور العملية الأدبية على المستوى الجمالي، فإذا كان النحاة والبلاغيون السابقون عليه، قد قاربوا هذا المفهوم بأشكال مختلفة وجعلوه شاسعا يستوعب كل مخالفة للغة في أصلها وكل انحراف عن الاستعمال المألوف لها، فإن الجرجاني، كان دقيقا بحصر مفهومه للعدول في فلسفة الجمال والمجاز اللغوي، أي ما يجعل اللغة، لغة أدبية تتضمن عناصر الشعرية، ليس فقط على المستوى اللفظي وإنما على المستوى المعنوي الذي يحتوي العملية الإبداعية في أبعد تألقاتها وطموحاتها.
ومعنى هذا أن الجرجاني كان أقرب في تصوره من التصور الحداثي لهذا المفهوم، وإن كان لم يعر اهتماما للمستوى الإيقاعي في تحديد عدول البنية الدلالية، إما لضرورة منهجية كان يراها في تصوره، أو أن ذلك راجع للأساس المرجعي والمعرفي الذي بنى عليه نظريته، وذلك بالابتعاد عن كل ما من شأنه إعطاء أولوية للمستوى الإيقاعي في الدراسة البلاغية وعلى رأس ذلك الاهتمام باللفظ، أو بشيء من الطموح المشروع أن الجرجاني كان أكثر حداثة مما قد تصورنا، بحيث تجاوز الحديث عن حصر شعرية النصوص في إيقاعها، وأعطى مجالا أوسعا لتصور ناضج عن ما يمكن أن يجعل من الكتابة وعيا جماليا وتحقيقا لفاعلية أدبية لا تخبو بذهاب أصواتها الإيقاعية، يبدو أن الجرجاني احتوى النظريات الحديثة التي غضت النظر عن الإيقاع واعتبرته قيمة ثانوية في التحديد الحقيقي لأدبية النصوص وشعريتها.
ويبدو من العسير جدا حصر تدفقات الآراء النقدية والبلاغية التي أطلقها عبد القاهر الجرجاني جاعلا منها أساسا لكل أمل في تطوير نظرية في الشعرية العربية تستطيع مقاربة النص الأدبي العربي في خصوصيته المتفردة، إذ الأزمة الجلية في النقد هي العثور على الجهاز الواصف والصالح لمقاربة النص الأدبي في خصوصيته اللغوية والأدبية والحضارية أيضا، ولكن هذا العسر لا يمنع من إيضاء واعي لأهم الطموحات النقدية والبلاغية التي ظمّنها عبد القاهر الجرجاني ضمن نظرية النظم، ولعل هذا الإيضاء الذي نطمح إليه، يستلزم طرح سؤال الشعرية في علاقته بمفهوم العدول، والاعتماد في ذلك على النبش في الأساس المحوري المتفرد الذي اعتمده الجرجاني في مقارباته، والمتمثل في الرؤية المغايرة في المنظومة النحوية العربية أو ما يمكن أن يسمى (فلسفة النحو الجمالي عند عبد القاهر الجرجاني) واستحضار الرؤية الموازية لها في نفس الوقت فلسفة المجاز أو نظرية المعنى ومعنى المعنى، المؤسسة لنموذج تداولي متفرد عند هذا الرجل، ويبدو أن الموضوعية الأدبية، تقتضي مقاربة آراء الجرجاني البلاغية (خاصة في علم المعاني) في جانبها التداولي، لأنها تبدو أكبر نضجا في هذا الإطار الذي يهتم بأطراف العملية التواصلية وخصوصية الرسالة القائمة بين هذه الأطراف، على اعتبار أن أي خطاب أو نص يعتبر تداوليا بالضرورة لحضور مفهوم القصدية فيه، وقد اخترنا مفهوم الاستلزام التخاطبي كأميز مفهوم تداولي في الدراسات اللسانية والسيميائية الحديثة لمقاربته توازيا مع مفهوم العدول المشكل للدواعي العميقة والأساسية أمام استخدام المخاطب للغة مغايرة (لغة شعرية) تجعله يتخلص من الصراع القائم بين عمق التصورات الكامنة في قريحة النفس المبدعة وبين محدودية وصرامة اللغة الطبيعية.
العدول وسؤال الشعرية في نظرية النظم: (رؤية أسلوبية):
ليس ثمة وجود للتراث خارج وعينا به وفهمنا إياه، وجود تؤسسه العلاقة بين التراث في مجالاته المتعددة ووعينا المعاصر بطموحاته المختلفة، وعلى هذا الأساس تكون أي محاولة لوصف التراث واستجلائه متأثرة بشكل أو بآخر بهذا الوعي الحداثي الراسخ في تصورنا الثقافي المعاصر، وأي قراءة بهذا الوعي لهذا التراث تنطلق من إمكانية إن لم نقل ضرورة التفاعل بين الطرفين في شكل لا ينفي أحدهما وجود الآخر بقدر ما يصححه أو يطوره أو على الأقل يناقشه، وبهذا الوعي نجد أن النظرية البلاغية عند الجرجاني زاخرة بالتصورات التي قد نعتبرها حداثية، تصورات يمكن تطويرها لتصبح جهازا نقديا قائما بذاته قد يستوعب جل المقاربات والأحلام النقدية التي يرومها النص الأدبي.
والشعرية من أهم الأسئلة التي طرحت إشكالات حاسمة في مقاربة أدبية النص من عدمها؛ وتجاذبتها أطراف وتيارات جمة، سنحاول حصرها فيما يتجاوب مع خصوصية المقام الذي يستلزم قراءة نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني، قراءة تطرح أسئلة معاصرة تدون أن تسقط في شرك الإسقاط أو التعسف.
لقد أعاد الجرجاني تنظيم مفهوم الشعرية وأعاد طرح سؤال الشعرية القائمة في عصره، لينظر لشعرية لن نجازف إذا قلنا إنها ناضجة وفاعلة إن على مستوى الإطار النظري أو على مستوى الإطار التطبيقي.
وإذا حاولنا بداية النظر في "الشعرية" كمصطلح، نجد أن التتبع المعجمي لهذا الدال في أصل المواضعة لا يقدم الشيء الكثير مقارنة مع سياقات التعامل معه كمحدد نقدي في الأدبية بشكلها الواسع؛ وحتى متابعة النظر فيما خلفه لنا القدماء من مؤلفات في البلاغة و النقد لا يقدم الكثير، وتستوي في ذلك مؤلفات المشارقة والمغاربة، إذا استثني من هذا التعميم حازم القرطاجني، الذي أتاح له اتصاله بأرسطو أن يتعامل مع المصطلح على نحو قريب من التعامل المحدث كما أن اتصال بعض الفلاسفة بالنظر الأرسطي في الشعر، أتاح لهم ترديد المصطلح –أيضا- على النحو السابق .
ويبدو أم مصطلح "الشعرية" يتحقق وجوده أكثر كمصدر صناعي، مما هو عليه في صيغة النسب كما تردد في المؤلفات النقدية والبلاغية القديمة، وذلك كقولهم: (المعاني الشعرية) و(الأبيات الشعرية) ، ومع ذلك فإن كثرة النسب على هذا النحو تتحول إلى ندرة إذا جاءت وصفا للصياغة، كما نجد عند ابن وهب وهو بصدد الحديث عن جواز الكذب في الشعر عند أرسطو طاليس: " وقد ذكر أرسطو طاليس الشعر فوصفه بأن الكذب فيه أكثر من الصدق، ويذكر أن ذلك جائز في الصياغة الشعرية " .
" ولا يعني افتقاد تردد المصطلح في المعجم أو المؤلفات القديمة عدم تردد مدلوله بشكل أو بآخر، ولعل أكثر المصطلحات قربا، بل دقة، هو مصطلح (النظم) الذي وصل به عبد القاهر الجرجاني إلى قمة النضج والاكتمال والشمول " .
ويمكن التحقق من ذلك بالنظر فيما وفد على الحلقة العربية من دراسات حداثية حول النظرية العامة للشعرية واتصالها بالفنون الجميلة أحيانا، وعلم الجمال أحيانا أخرى، بمعنى رصد خواصها الداخلية وبما به أصبحت شكلا فنيا، حيث كانت البداية عند أرسطو في حديثه عن جوهر الشعر وما فيه من المحاكاة، ثم تردد المصطلح على نحو متميز مما ردده أرسطو في الدراسات الحديثة، إذ آل به الأمر إلى أن أصبح مرتبطا بالدراسة اللسانية للوظيفة الشعرية في الخطاب اللغوي على إطلاقه، والشعر على وجه الخصوص فالشعرية صارت حدا للتوازي القائم بين التأويل والعلم في حقل الدراسات الأدبية، وهي بخلاف تأويل الأعمال النوعية، لا تسعى إلى تسمية المعنى، بل إلى معرفة القوانين العامة التي تنظم ولادة كل عمل، لكنها بخلاف هذه العلوم، التي هي هل النفس وعلم الاجتماع وغيرهما، تبحث عن هذه القوانين داخل الأدب ذاته، فالشعرية -إذا- مقاربة للأدب، مجردة وباطنية في وقت واحد ، أو هي –بمعنى آخر- عملية تحرك داخلي في الخطاب الأدبي، تتحسس خيوطه التي تذهب طولا وعرضا، فتكون شبكة كاملة من العلاقات ذات فعالية متميزة أسماها فاليري: الشعرية ، حيث تكون اللغة فيها هي الوسيلة والغاية معا.
لم يخل الدرس النقدي العربي القديم من ذاك الوعي الحداثي الذي ربط مفهوم الشعرية بالخطاب الأدبي عموما في الدراسات النقدية الحديثة التي اكتست طابعا لغويا في الغالب، فابن طباطبا مثلا يرى أن : " الشعر رسائل معقودة، والرسائل شعر، وإذا فتشت أشعار الشعراء كلها وجدتها متناسبة، إما تناسبا قريبا أو بعيدا ونجدها مناسبة لكلام الخطباء، وخطب البلغاء، وفقر الحكماء " إنها تلك الخصيصة المشتركة بين كل كلام ينزاح من شكله الصوري إلى شكل تحدده مقومات تنتمي إليه، وتسمه كجنس متفرد بذاته، وهكذا نجد أن النص الأدبي استدعى، مفاهيم مختلفة لمقاربته، لأن هذه المهمة الأخيرة (المقاربة) تستلزم نماذج تنسجم انسجاما معقولا مع خصوصية كل نص أدبي، وتبادلت هذه المهمة كل من "الأدبية" أحيانا والإنشائية أحيانا أخرى، غير أن انتشار مصطلح (الشعرية) حديثا جعله أقرب إلى اللسان في النطق، وإلى العقل في التفكير، مع ملاحظة جانب له أهميته، وهو انحراف المصطلح عن مفهومه الشمولي إلى منطقة محددة هي منطقة الشعر، باعتبارها أكثر المناطق صلاحية لأداء مهمته، وأقربها إلى طبيعته، وكأنها بذلك قد ردت المصطلح على أصله الاشتقاقي مرة أخرى.
لقد قام الشيخ عبد القاهر الجرجاني برحلة نقدية واعية في نصوصه سابقيه، بحث فيها عن المعنى المخبئ وراء عباراتهم وأقوالهم، ولم يشغل نفسه في هذه الرحلة بالبحث عن المعنى الظاهر على السطح، ولو فعل ذلك لما قدم لنا شيئا يستحق اليوم أن نقف عنده، يقول عبد القاهر: " ولم أزل منذ خدمت العلم أنزل فيما، قاله العلماء في معنى (الفصاحة) و(البلاغة) و(البيان) و(البراعة)، وفي بيان المغزى من هذه العبارات، وتفسير المراد بها، فأجد بعض ذلك كالرمز والإيماء والإشارة في خفاء، وبعضه كالتنبيه على مكان الخبيء ليطلب، وموطن الدفين ليبحث عنه فيُخرج " ، وهكذا اعتبر الجرجاني الكثير من النصوص إيماءات وإشارات خفية تحتاج منه إلى التفسير ولم يكن عبد القاهر في قراءته لنصوص سابقيه مفسرا فقط، بل كان في أحيان كثيرة لا يجد مفرا من الرفض والنفي، فهو يرفض مثلا ربط الفصاحة والبيان بالقدرة على الأداء الصوتي، ومربط شائع مستقر في التراث السابق على عبد القاهر، وهو يرفض حصر معاني الكلام في الخبر والاستفهام والأمر والنهي، لقد أعاد الجرجاني طرح سؤال الشعرية بشكل أكثر نضج وجرأة و شساعة ؛ وقرر في كتابيه رصد بناء محكم يمكنه أن يصف العناصر الأدبية والشعرية الجمالية في نص معين، باحثا من خلال هذا الرهان عن الآليات النقدية التي تصف العمل في بنيته الداخلية العميقة بدل الاكتفاء بما يوفره النص على المستوى الشكلي فقط.
يقول الجرجاني متحدثا عن البيان باعتباره عصب الأدبية وعلمها الجليل الذي يبحث في النص روح الوجود الجمالي: " إلا أنك لن ترى على ذلك، نوعا من العلم قد لقي من الضيم ما لقيه، ومني من الحيف بما مني به، ودخل على الناس من الغلط، في معناه بما دخل عليهم، فقد سبقت إلى نفوسهم اعتقادات فاسدة، وظنون ردية، وركبهم فيه جهل عظيم وخطأ فاحش، ترى كثيرا منهم لا يرى له معنى أكثر مما يرى للإشارة بالرأس والعين، وما يجده للخط والعقد؛ يقول ‘نما هو خبر واستخبار، وأمر ونهي، ولكل من ذلك لفظ قد وضع له، وجعل دليلا عليه؛ فكل من عرف أوضاع لغة من اللغات، عربية كانت أو فارسية، وعرف المغزى من كل لفظة ثم ساعده اللسان على النطق بهم، وعلى تأدية أجراسها وحروفها، فهو بين في تلك اللغة كامل الأداة، بالغ من البيان المبلغ الذي لا مزيد عليه، منته إلى الغاية التي لا مذهب بعدها، يسمع الفصاحة والبلاغة والبراعة فلا يعرف لها معنى سوى الإطناب في القول وأن يكون المتكلم في ذلك جهير الصوت جار اللسان، لا تعترضه لكنة ولا تقف به حبسة وأن يستعمل اللفظ الغريب والكلمة الوحشية فإن استظهر الأمر وبالغ في النظر فأن لا يلحن، فيرفع في موضع النصب، أو يخطئ، فيجيء باللفظة على غير ما هي عليه في الوضع اللغوي، وعلى خلاف ما ثبت به الرواية عن العرب ".
" وجملة الأمر أنه لا يرى النقص يدخل على صاحبه في ذلك إلا من جهة نقصه في علم اللغة؛ لا يعلم أنه هاهنا دقائق وأسرارا طريق العلم لا بها الروية والفكر ولطائف مستقاها العقل وخصائص معاني ينفرد بها قوم قد هدوا إليها، ودلوا عليها، وكشف لهم عنها، ورفعت الحجب بينهم وبينها وأنها السبب في أن عرضت المزية في الكلام ووجب أن يفضل بعضا بعضا، وأن يبعد الشأو ذلك، وتمتد الغاية ويعلو المرتقى، ويعز المطلب حتى ينتهي الأمر إلى الإعجاز، بل يخرج من طوق البشر " .
وكأن الجرجاني في هذا النص الطويل، يؤكد ضرورة إعادة طرح سؤال الشعرية بشكل مغاير لما كان عليه، ويدخل مع النصوص السابقة عليه في صراع الهدم والبناء أو النفي وإثبات، ليقيم بذلك بناءه الفكري في الثقافة العربية، منطلقا من قاعدية اللغة في صوريتها إلى إعجاز الخطاب في انزياحه.
العدول بين اللغة واللغة الشعرية:
لم يتعامل عبد القاهر الجرجاني مع مصطلح "الشعرية" على صيغة النسب أو المصدرية،بل تعامل معه بمدلوله، إذ النظم ليس إلا حركة واعية داخل الصياغة الأدبية، بالاعتماد على تصور مفاده أن الشعرية تكمن في النظم بالدرجة الأولى وليس في غيره، فالانزياح أو العدول الذي يحقق هذه القيمة الجمالية، ينطلق من الاشتعال الجدلي القائم بين أصول النحو ومعانيها وبين الألفاظ وطريقة نظمها، إنها المنطقة التي يتم فيها التوافق بين الدال والدلالة.
والطريف أن هذه المنطقة –عند عبد القاهر- ليست مقيدة بالبنية الإيقاعية على الرغم من أهميتها، على اعتبار أن البناء الموسيقي عنده، مجرد هيئة صورية غير قابلة للاهتزاز إلا في الحدود التي سمح بها العروضيون، إنها منطقة لا تحقق طموحات الانزياح وعمق فعاليته، والواقع أن الدرس البلاغي لم ير في النظام الإيقاعي ميزة في الشاعرية؛ إذ إن النظام العروضي يتيح للمبدع بناء شكليا يتمثل جهده الحقيقي في ملء هذا البناء بمادته التعبيرية، بحيث يتم وفق معادلة محسوبة بين الشكل الإيقاعي، والبناء العرفي، وربما لهذا أسقط عبد القاهر (الوزن والقافية) من شعريته، يقول عبد القاهـر: "فإن زعم أنه إنما كره الوزن، لأنه سبب لأن يتغنى في الشعر ويتلهى به، فإنا لم ندعه إلى الشعر إلا لذلك، ,وإنما دعوانا إلى اللفظ الجزل، والقول الفصل، والمنطق الحسن، والكلام البين، وإلى حسن التمثيل والاستعارة، وإلى التلويح والإشارة، وإلى صنعة تعمد إلى المعنى الخسيس فتشرفه، وإلى الضئيل فتفخمه، وإلى النازل فترفعه، وإلى الخامل فتنوّه به، وإلى العاطل فتحييه، وإلى المشكل فتجليه، فلا متعلق به علينا بما ذكر، ولا ضرر علينا فيما أنكرن فليقل في الوزن ما شاء، وليضعه حيث أراد، فليس يعنينا أمره، ولا هو مرادنا من هذا الذي راجعنا القول فيه " .
وبإسقاط الإطار الخارجي الإيقاعي يلخص عبد القاهر للبنية الداخلية، بما فيها من طاقات وإمكانات نقلتها –بالنحو- من النثرية إلى الشعرية، ولكي يكون الخلوص كاملا يسقط إلى جانب البنية الإيقاعية، الدلالة الكلية الغرضية، فليس من خواص الشعرية استثمار العلاقات الداخلية لتحقيق الإطارات العامة المحفوظة، كالغزل والمديح والفخر وغيرها... بل إن أخص خواصها أن تتحرك داخل خيوط الصياغة طولا وعرضا ومن ثم يكون ادعاء بعض النقاد تقديم بعض الكلام بمعناه –إذا كان أدبا وحكمة وكان غريبا ناذرا- ادعاء غير صحيح، لأن من قضى " بفضل أو نقص، ألا يعتبر في قضيته تلك إلا الأوصاف التي تخص ذلك الجنس وترجعه إلى حقيقته، وأن لا تنظر فيها إلى جنس آخر، وإن كان من الأول سبيل أو متصلا به اتصال ما لا ينفك منه.
" ومعلوم أن سبيل الكلام سبيل التصوير والصياغة، وأن سبيل المعنى الذي يعبر عنه سبيل الشيء الذي يقع التصوير والصوغ فيه، كالفضة والذهب يصاغ فيها خاتم أو سوار، فكما أن محالا –إذا أنت أردت النظر في صوغ الخاتم، وفي جودة العمل ورداءته- أن تنظر إلى الفضة الحاملة لتلك الصورة، أو الذهب الذي وقع فيه ذلك العمل وتلك الصنعة –كذلك محال- إذا أردت أن تعرف مكان الفضل والمزية في الكلام –أن تنظر في مجرد معناه، وكما أنا لو فضلنا خاتم على خاتم، بأن تكون فضة هذا أجود، أو فصه أنفس، لم يكن ذلك تفضيلا له من حيث هو خاتم- كذلك ينبغي إذا فضلنا بيتا من أجل معناه، ألا يكون تفضيلا له من حيث هو شعر وكلام" .
إذن فالشعرية عند عبد القاهر الجرجاني لا تنحصر في الانتماء الجنسي للنوع الأدبي، فقط وإنما تنبعث من ذلك الانسجام الحاصل بين الإطار الشكلي الخاص والبعد الدلالي الذي يعكسه، وبالتالي فالفرق بين اللغة واللغة الشعرية، فرق في الصياغة وطريقة البناء، لا في اللغة نفسها، وبالتالي فالمزية التي توفرها الألفاظ داخل الجملة الشعرية، لا ترجع لها في أنفسها وإنما إلى المعنى الذي تحيل عليه، ويتوضح ذلك عندما يعالج عبد القاهر الجرجاني إشكال الشعرية على مستويين أوليين:مستوى المعجم ومستوى التركيب النحوي: لقد فند الجرجاني القول الزاعم بأن الدوال يتم التواضع عليها لتحيل وتعبر على معنى داخلي فيها لأن هذا التصور يؤدي إلى ناتج فاسد بالضرورة، وهو أن يكون قد تم وضع الأسماء والأجناس لتعرف بها، أي أننا ما كنا نعقل مدلول (رجل) و (فرس) و (دار) لو لم توضع لها هذه الدوال، وهذا يتنافى مع جوهر المواضعة ذاتها، لأنها لا تتم إلا على معلوم: " فمحال أن يوضع اسم أو غير اسم لغير معلوم، لأن المواضعة كالإشارة، فكما أنك إذا قلت : (خذ ذاك) لم تكن هذه الإشارة لتعرف السامع المشار إليه نفسه، ولكن ليعلم أنه المقصود من بين سائر الأشياء " .
وعلى هذا الأساس فإن السمة الشعرية في اللغة لا تتحقق بمعرفة المعنى المتواضع عليه في اللفظ، لأن المزية لا تنحصر ولا تكون في هذه المعرفة، وإنما تتحقق السمة الشعرية بالاستثمار الواعي لمفهوم الاختيار الذي يصل حركة الذهن الداخلية بالمستوى السطحي الخارجي للصياغة، وعلى مستوى هذا الاتصال تتحقق المزية فـ " العلم بأن (الواو) للجمع، و (الفاء) للتعقيب بغير تراخ، و (ثم) له بشرط التراخي، و (أن) لكذا و (إذا) لكذا – ليس مؤديا للمزية،، وإنما تتحقق عند التأليف بإحسان الاختيار ومعرفة المواضع المناسبة " ، ومعنى هذا أن الوظيفة الحقيقية للكلمة تكون عند خلق الانسجام بين اللفظة في معناها الصوري، وبين موقعها داخل سياق تركيبي معين يراعي حضور باقي مكونات الجملة عن طريق مفهوم الاختيار. والشرط في هذا الاختيار أن يكون واعيا يتعامل مع الدوال في جانبيها الصوتي والدلالي، ثم لا يكون لهذا التعامل قيمته الشعرية التي تستولي على هوى النفوس، وميل القلوب إلا بالإتيان به من الجهة التي هي أصح لتأديته، من حيث اختصاصه بمعنى معين، وقدرته على نقله إلى المتلقي في صورة مغلفة ب (النبل والمزية) .
وتصل عملية الاختيار إلى قمة شعريتها بسقوطها عموديا على عملية التأليف، حيث يتحول الالتقاء بينهما إلى مجموعة من الخطوط التي تكون شبكة كاملة من العلاقات شبيهة بقطعة النسيج التي تتلاحق خيوطها أفقيا ورأسيا ثم تزداد فنيتها بالأصباغ والنقوش المختلفة المواقع، فالتخير الذي ينصب على الخيوط أولا؛ ثم يتصل بالمواقع ثانيا، هو الذي يقدم الصورة النسيجية –على مستوى التشبيه- والصورة الشعرية على مستوى الواقع .
لقد خلص الجرجاني إلى نفي أي قول بشعرية الألفاظ بعيدا عن أي وظيفة سياقية لها، وساق في دلائله مجموعة من الأدلة على صحة تصوره، أوضح أن اللفظة القلقة في سياق معين، نفسها تكون مطمئنة ومتمكنة في سياق آخر، وبالتالي فالعدول عن اختيار كلمة إلى اختيار أخرى، هو عدول يفرضه تصور المعنى السياقي كما خطر في ذهن المبدع، وقد كان الجرجاني حاذقا، عندما ربط هذا السياق الإبداعي بالمعاني المترابطة والمترتبة في النفس، إذ لا يمكننا أن نتصور جملة تركيبية تحتوي فراغا أو فراغات معجمية، تنتظر من المبدع اختيار الوحدات المعجمية المناسبة لملئها، بل إن ذلك يحصل بشكل علائقي في شمولية تجمع بين مكونات الجملة في اختيار آني يراعي الأبعاد الجمالية للكلام عن طريق عملية النظم.
وعلى هذا الأساس سعى الجرجاني إلى التفرقة بين مستويات الكلام، تلك المستويات التي تبدأ من "الكلام العادي" إلى "الكلام المعجز" الذي يفوق طاقة البشر.
لقد حاول الجرجاني الكشف عن منطقة العدول القائمة بين ثنائية اللغة/ اللغة الشعرية وذلك بطرحه سؤالا طرحته الشعرية، ولكن بشكل أعمق وأوضح: ما الذي يميز كلاما من كلام؟ وما الصفة الباهرة التي بهرت العرب في النص القرآني فأحسوا بالعجز إزاءه برغم فصاحتهم وقدرتهم البيانية؟ ويكاد عبد القاهر في إجابته عن هذه الأسئلة يقترب من الفكر الأسلوبي المعاصر، حين يرى أن "الشعر" وكذلك "القرآن" كلام ينتمي إلى اللغة، ولكن كلام يتميز بخصائص ومعان تدخله في حدود "الفن"، ولكن هذه الخصائص والمعاني "الفنية" يكمن الوصول إليها وتحديدها، ولا يصح أن يكتفي في وصفها بالعبارات الغامضة الفضفاضة، لقد نادى الجرجاني نداءا صارما وصريحا بضرورة الدقة والتعليل عندما يتعلق الأمر برصد الخصائص المميزة لشعرية الخطاب إذ " لا يكفي في علم "الفصاحة" أن تنصب لها قياسا ما، وأن تصفها وصفا مجملا، وتقول فيها قولا مرسلا، بل لا يمكن من معرفتها في شيء حتى تفصل القول وتحصل، وتضع اليد على الخصائص التي تعرض في نظم الكلم، وتعدها واحدة واحدة، وتسميها شيئا شيئا، وتكون معرفتك معرفة الصنع الحاذق الذي يعلم علم كل خيط من إلا برسيم (الحرير) الذي في الديباج، وكل قطعة من القطع المنجورة في الباب المقطع، وكل آجرة من الآجر في البناء البديع" و " لابد لكل كلام تستحسنه، ولفظ تستجيده من أن يكون من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة وعلة معقولة، وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذلك سبيل وعلى صحة ما ادعيناه دليل " .
لقد كان عبد القاهر الجرجاني على وعي التام بهذا الفارق الكائن بين اللغة والكلام، ذلك الفارق الذي أرسى دعائمه العالم السويسري "دي سوسير" وطوره تشومسكي في تفرقته بين "الكفاءة" و "الأداء" إن قوانين النحو ومعاني الألفاظ المفردة، تمثل عند شيخنا " النظام" اللغوي القار في وعي الجماعة ، الذي تقوم اللغة على أساسه بوظيفتها الاتصالية، أما الكلام فهو التحقق الفعلي لهذه القوانين في حدث كلامي بعينه وإذا كانت قوانين اللغة على مستوى الألفاظ أو التراكيب (قوانين النحو) هي القوانين الفاعلية في كل مستويات الكلام، فإن الكلام الأدبي (اللغة الشعرية) هو الذي ينسب إلى قائله ويعبر عن فاعليته العقلية، المتحققة في مستوى النظم كتحقق فعلي لها، وهنا فقط تتوفر للمتكلم أقصى درجات الحرية الممكنة داخل قوانين اللغة، حرية تخول له الانتقال من اللغة التي تواضع عليها إلى اللغة الشعرية التي عدل إليها متوسلا بالإمكانيات الهائلة التي يوفرها النظم المخصوص.
الأسلوب : عدول في النظم:
في معرض تفريقه بين النظم واللانظم، يؤكد عبد القاهر الجرجاني بأن فاعلية المتكلم أو المبدع هي المحدد الأساسي لاختلاف أسلوب عن آخر، هذا الاختلاف هو الذي يتحقق بالممارسة الانزياحية التي يمارسها المبدع داخل تركيبة النظم والتي من خلالها يستطيع القارئ قياس مدى شاعرية النص بالمقارنة مع الأفق الدلالي الذي كان يتوقعه؛ والحقيقة أن الممارسة التي تؤطرها عملية النظم والخالقة للنص الفريد، عن طريق استثمار فاعلية العدول، هي التي تمنح الأسلوب خاصية يمكن إضافتها إلى النص أو مبدعه.
ويبقى النظم يحظى بأولوية خاصة لما له من عمق دلالي يشتبك بشعرية التناص التي لا تعنى باشتقاق معنى من معنى آخر فقط، وإنما بإخراجه على غير هيئته الأولى، وهكذا يعطي الجرجاني للمبدع إمكانات هائلة تضاف إلى القدرة الإبداعية قدرة كان علماء الكلام قد قزموا من إمكانياتها حين أقروا بأقوال حول بعض الشعراء من مثل: أخذ المعنى من صاحبه فأحسن وأجاد، أخذ المعنى فظهر أخذه... يقول عبد القاهر: " ولو كان المعنى يكون معادا على صورته وهيئته، وكان الأخذ له من صاحبه لا يضع شيئا غير أن يبدل لفظا مكان لفظا لكان الإخفاء فيه محالا، لأن اللفظ لا يخفي المعنى، وإنما يخفيه إخراجه في صورة غير تلك التي كان عليها " .
وبالتالي فإن مزية الشعرية، ليست في استبدال الدوال بعضها ببعض بل في انتظامها في تشكيل جمالي يضاعف حدة الصور بالمستوى الذي يصل عنده الإدراك التأملي حد الإجهاد أحيانا، ومعنى هذا أن الفروق بين مستويات الكلام، هي فروق في الدلالة تحول الكلام من مستوى إلى آخر، وهي فروق شخصية وخصائص فردية تحدد بتفردها وتميزها ما أسماه الجرجاني الأسلوب تعبيرا عن هذه الفروق:
" واعلم أن "الاحتذاء" عند الشعراء وأهل العلم بالشعر وتقديره وتمييزه، أن يبتدئ الشاعر في معنى له غرض و أسلوب-والأسلوب الضرب من النظم و الطريقة فيه- فيعمد شاعر آخر إلى ذلك (الأسلوب) فيجيء به في شعره... "
وبهذا القول يؤسس الجرجاني لرؤية جديدة في تحديد مستويات الكلام، إذ أن المحافظة على نسق الكلام وانتظامه مع تغيير الدوال المعجمية فقط، لا يخفي معالم الأسلوب حتى وإن كان ثانيا ومحتذيا، وذلك لأن النظم أكبر من أن يكون مجرد ترتيب للكلمات في نسق معين، فالعدول الحاصل من استبدال الوحدات المعجمية هو عدول بالضرورة بالمعاني الدلالية الكامنة فيها، إذا ما يحكم الألفاظ هي مواقعها داخل النسق حسب معانيها في أنفسها، وما يحدد تفرد الأسلوب ليس ترتيب الألفاظ في نسق معين، وإنما العلاقات الدلالية والقصدية التي وضعت لها، يقول الجرجاني: " لا يكون الإتيان بالأشياء بعضها في إثر بعض على التوالي نسقا وترتيبا حتى تكون الأشياء مختلفة في أنفسها، ثم يكون للذي يجيء بها مضموما بعضها إلى بعض غرض فيها ومقصود لا يتم ذلك الغرض وذلك المقصود إلا بأن يتخير لها مواضع فيجعل هذا أولا وذاك ثانيا " ، ومعنى قول الجرجاني أن الدلالة التي تحملها الألفاظ في علاقتها السياقية هي تفرض نمط التركيب والنظم المناسب للقصدية التي تكمن وراءها وليس العكس، ورأيه هذا نابع من تصوره للنظرية الإعجازية التي كانت من وراء تألقه البلاغي، إذ لو كان الأمر كما زعموا، لقام معارضو القرآن باستبدال ألفاظه بمرادفاتها ويبقى الأسلوب كما هو، ولكن الأمر ليس كذلك لأن العدول إلى ألفاظ مغايرة في العمود الاستبدالي للتركيب، هو عدول في العلاقات التي تربطها باعتبار الوظيفة الدلالية التي تؤديها في علاقتها مع باقي الوحدات المكونة للتركيب، وليس في أنفسها.
وبهذا يكون الجرجاني قد أوجد حضورا متميزا للمتكلم (المبدع) وفاعلية في رسم أسلوب للنص يكون الأسلوب فيه هو الرجل نفسه، لأن الفروق التي أشرنا إليها سلفا والتي أطلق عليها الجرجاني اسم (الأسلوب)، هي فروق تحدث بالمتكلم لا باللغة، سواء بألفاظها الوضعية أو قوانينها النحوية، حيث إن مهارة المتكلم تتمثل في قدرته على التخير بين ممكنات مختلفة، تطرحها اللغة في " معاني النحو" كما تطرحها في دلالات الألفاظ.
إن الأسلوب –بهذا الإدراك العميق الذي طرحه عبد القاهر- غير قابل للتقليد، وإنما هو فقط قابل للاحتذاء، فليس الكلام من قبيل الصناعات التي يصح فيها التقليد إلا على سبيل الحكاية أو الرواية، أي رواية قصيدة لشاعر بعينه، وفي هذه الحالة فإن القصيدة، تضاف إلى الشاعر ولا تضاف إلى الراوي أو "الحاكي"، وما يقوله القدماء عن سرقة المعاني بين الشعراء لا يقره عبد القاهر ولا يعترف به، لأن أي تحول في الأسلوب أو في النظم يؤثر في المعنى لا محالة.
وعلى هذا النحو يأخذ الأسلوب –كالنظم- طبيعة ذهنية تصورية، ومن ثم يصبح اكتساب هذا التصور والتحرك فيه شيئا قابلا للتحقق- وهذا هو المدخل الصحيح عند عبد القاهر لمقولة الأخذ والاقتباس، وهذا التصور الذهني يحيله عبد القاهر إلى صورة نفسية وهي صورة مزدوجة، بمعنى أن لها وجودا داخليا وخارجيا على صعيد واحد، ولا يتحقق الوجود الخارجي إلا بالنظر في التراكيب وما بين مفرداتها من علاقات، وبالنظر فيما ينتج نصيا من دلالة.
" وبما أن الرجل كان معني بالمعاني الثواني، كانت البنى البلاغية هي شاغله في تحديد مفهوم الأسلوب، ولا يمكن أن تتشكل البنى إلا بالاتكاء على الوظائف النحوية التي تهز تطابق الدال بالمدلول، ومن ثم تحدث انزياحا يسمح بوجود فضاء يستوعب المعاني الطائرة التي يمكن أن نسميها مرة تشبيها، ومرة تمثيلا ومرة اتساعا، وقد لا يكون شيء من ذلك وإنما يتحقق العدول بحركات داخلية في التراكيب نتيجة للتقديم أو التأخير، أو الحذف أو الذكر، وبمثل هذه الخواص يتميز أسلوب من آخر، بل يتحقق الأسلوب وجوده الفعليُّ " .
وعلى هذا الأساس فإن أي فاعلية لمفهوم العدول تمارس في المستويات المختلفة للنسق اللغوي المركب، هي فاعلية محددة لخصوصية الأسلوب وتفرده، ومعنى ذلك أن السمات الجمالية التي قد تضمن للاستعمال اللغوي –كلاما وكتابة- شعريته وانتماءه الفني والجمالي، هي نابعة من عدول في النظم تتداعى مستوياته بشكل تصاعدي إلى أن تصل إلى الكلام المعجز الذي يتساوق مع المنظومة اللغوية المتواضع عليها في التصور العربي، ولكن يعدل وينزاح عن نظمها حتى الشعرية منها.
إن حرص الجرجاني على امتلاك رؤية "تفكيكية " في تمييز الكلام تبدو رؤية متقدمة عن تلك التي ذهب إليها شومسكي " من أن القواعد النحوية لا تتشكل بواسطة الكلمات، ولكن بواسطة المجموعات (سانتاغم) أو المركبات، كالمركبات الاسمية والفعلية... إلخ، وهكذا فتحليل عبارة إثباتيه ، وخصوصا علاقتها مع عبارة استفهامية يكون بواسطة المركبات " .
وربما فتحت تأملات الجرجاني بخصوص النظم ومزاياه المجال –فيما بعد- لأفق نقدي جديد، بخاصة حين اقترن ذلك بالدراسات البلاغية حول إعجاز القرآن الأمر الذي سمح بتعدد وجهات النظر، ومسالك التأويل، وآفاق القراءة في فهم وتحليل مبادئ الخطاب الأدبي والشعري.
إن تشابك العلاقات بين الدوال والمدلولات هو ما يفسر صيغة الأنباء الداخلي لوحدات الكلام، وهو التلاحم الذي يكشف عنه روعة التشكيل والأداء الأسلوبي، تلك الروعة التي تترك للقارئ مساحة للغياب يطل بها على شعرية غائبة، يستحضرها بإشراك وعيه في توليد النص.
و"ربما كان امتلاك الجسدي في النص هو الأسلوب نفسه، وليس الشكل سوى اللغة التي يصدر عنها الأداء، وهذا ما حاولت نظرية النظم أن تتوصل إليه، فالنص لا يقول جميع أعضائه، ليصبح جوهر النظم هو البناء الذي لا يحصره حد ولا يحيطه قانون.
إذ الجسد لا قانون له، إنه ينبثق من تلاحمه الداخلي ويجيء على أوجه مختلفة الأنماط أقصاها هي تلك التي تجيد فيها النظم أي البناء " و " إذا عرفت هذا النمط من الكلام وهو ما تتحد أجزاءه حتى يوضع وضعا واحدا فاعلم أنه النمط العالي، ومما ندر ولطف مأخذه ودق نظر واضعه... الأبيات المشهورة في تشبيه شيئين بشيئين – بين امرؤ القيس: "
كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً ويَابِساً */* لَدَى وَكْرِهَا العُنَّابُ والحَشَفُ البَالِي
يلاحظ أن الجرجاني لا يحلل آراءه ولا يفسر وجهات نظره، وإنما يقذف بها كأنها شذرات ليترك لنا حرية الاستيعاب والتأويل ولعل مرد ذلك إلى السياق التحليلي السائد آنذاك وطالما أشار إلى أن أهمية النظم إنما تكون في البناء، في امتلاك الأداة أو الطريقة –الاحتذاء أو الأسلوب- لكنه لم يفسر كيفية أداء هذه الأنماط العليا من النظم وتلك هي مهمة الشعرية الحديثة في تفكيك جسد البلاغة القديمة وإعادة تركيبها .
وبذلك تبقى هناك أشكال محتمة للبلاغة المفتقدة، تبحث عن خاصيتها في المحتمل التعبيري للغة تنفلت من كل ما هو متداول، ذلك أن الدلالة وحدها لا تكفي " لتمعين" الخطاب وإعانته على اكتشاف جسده من جديد، هناك أيضا الشكل بوصفه اللغة الأولى لفهم القائم على استحضار الدال الغائب وهذا الغياب هو ما يتضمن وجود شكل يتم بمقتضاه تمثل الصورة البنيوية للخطاب.
إن الشعرية بهذا المعنى، ليست مستحدثة، وطبيعة العدول التي تلحق بالخطابات المجازية هي التي تفرض تمايز هذه الخطابات بامتلاكها لغة تعمل في غياب.
ولقد أسس الشيخ عبد القاهر الجرجاني لفاعلية هذه الشعرية عبر مستويين:
- شعرية المجاز، التي يشكل العدول محور اشتغالها.
- شعرية النحو، المؤطرة لهذا الاشتغال جماليا.
( مقاربة في نظرية المعنى
ومعنى المعنى عند الجرجاني)
يبدو أن المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمد من الأصل اللغوي، فلقد نقل ابن منظور (ت 711 هـ) قول اللغويين : "جزت الطريق، وجاز الموضع جوازا ومجازا: سار فيه وسلكه، وجاوزت الموضع بمعنى جزته، والمجاز والمجازة الموضع " ، وكان عبد القاهر الجرجاني (ت 471هـ) قد كشف العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز، فالمجاز عنده " مفعل من الشيء، يجوزه إذا تعداه، وإذا عدل باللفظ عما يوجبه اصل اللغة، وصف بأنه مجاز على معنى أنهم جازوا به موضعه الأصلي، أو جاز هو مكان الذي وضع له أولا " .
وهو لا يكتفي بذلك حتى يحدد العلاقة بين الأصل والفرع في عملية العدول عن أصل اللغة، أو النقل الذي يثبت إرادة المجاز لهذا اللفظ أو ذاك دون الاستعمال الحقيقي فبقول: " ثم اعلم بعد: إن في إطلاق المجاز على اللفظ المنقول عن أصله شرطا، وهو أن الاسم يقع لما تقول أنه مجاز فيه بسبب بينه وبين الذي تجعله فيه " . والطرف عند عيد القاهر الجرجاني تأكيده على المناسبة القائمة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق المجاز، متناولا قضية الوضع الحقيقي، وتجاوزه إلى المعنى الثانوي المستجد في المجاز، فيقول: " وأما المجاز فكل كلمة أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الثاني والأول، فهي مجاز، وإن شئت قلت" كل كلمة جزت بها، ما وقعت له في وضع الواضع إلى ما لم توضع له من غير أن تستأنف فيها وضعا لملاحظة بين ما تجوز إليه وبين اصلها الذي وضعت له في وضع واضعها فهي مجاز " .
ومن هنا يبدو أن التقرير اللغوي متجدر من التبادر الذهني للفظ المجاز، وأن التحديد الاصطلاحي له نابع من الأصل اللغوي، وذلك ي ما وضعه أبو يعقوب السكاكي (ت 626هـ) موضع القانون الذي لا يعدل ولا يناقش، يقول : " المجاز هنا هو الكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق استعمالا في الغير بالنسبة إلى نوع حقيقتها مع قرينة مانعة عن إرادة معناه في ذلك النوع " .
ويبدو أن هذا التحديد يغلب عليه البعد المنطقي كما عرف ذلك عند السكاكين وليس هذا الفهم جديدا بل هو مفهوم الأوائل للاستعمال المجازي.
فالجاحظ كمعاصريه يعبر عن الاستعارة والتشبيه والتمثيل جميعا بالمجاز، ويبدو هذا جليا في أغلب استعمالات الجاحظ البيانية التي يطلق عليها اسم مجاز، وهي عبارة عن مجموعة العناصر البلاغية في النص الأدبي التي تكون المفهوم النقدي الحديث للصورة الفنية .
ولا يعتبر هذا رجوعا إلى الوراء في التماس حقائق الأشياء، ولكنه إفادة موضوعية من القديم لرصد الجديد وتحقيقه، لذلك فقد يلتبس الأمر بين المجاز والتشبيه والاستعارة، ولكن التمييز الدقيق يقتضي الفصل والتفريق بين هذه الظواهر البيانية المتجاورة:
أ- فإن أريد التوسع مطلقا دون سواه فهو المجاز.
ب- وإن أريد فيه التشبيه التام في ذكر المشبه والمشبه به وأداة التشبيه مع وجود وجه الشبه، أو حذف أداة التشبيه مع ذكر وجه الشبه، أو انعدام أوجه التشبيه من جهة وتوافقه من جهة أخرى مع ذكر أداة التشبيه، أو حذفهما معا فهو التشبيه دون ريب.
ج- وإن أريد التشبيه في ذكر المشبه والمشبه به، فهو الاستعارة.
إذن فالتحديد المانع هو الذي يقتضي الفصل بين هذه المتقاربات، لأن في المجاز توسعا ونقلا وتجاوزا في الألفاظ يختلف عما يراه في التشبيه والاستعارة.
وعلى هذا فالمجاز حدث لغوي فضلا عن كونه عنصرا بلاغيا نابضا بالاستنارة والعطاء، هذا الحدث يفسر لنا تطور اللغة العربية بتطور دلالة ألفاظها على المعاني الجديدة، والمعاني الجديدة في عملية ابتداعها لا يمكن إدراكها إلا بالتعبير عنها، والتصوير اللفظي لها، والمجاز خير وسيلة للتعبير عن هذا الاتساع بما يضيفه من قرائن، وبما يخفيه من علاقات لغوية مبتكرة، توازن بين الألفاظ والمعاني في الشكل والمضمون، وتلائم بين عمليتي الإبداع والتجديد في دلالة اللفظ الواحد للخروج باللغة إلى ميدان أوسع، والتطلع بها نحو أفق رحيب ونجد الشيخ عبد القاهر، ينطلق من مقاربته للمجاز باعتباره عدولا جماليا داخل اللغة ونظمها، من النصوص القرآنية، ليدفع شبهة حمل اللفظ على ظاهره، ومن ذلك تحليله لكل من قوله تعالى:
أ- (هل ينظرون إلا أن ياتيهم الله) [البقرة، 210]
ب- (وجاء ربك) [الفجر، 22]
ت- (الرحمن على العرش استوى)[طه 5]
وأوجب أن يكون مجازا لا محالة لأن الإتيان والمجيء انتقال من مكان ، وصفة من وصفات الأجسام وأن الاستواء إن حمل على ظاهره لم يصح إلا في جسم يشغل حيزا، ويأخذ مكانا، والله عز وجل خالق الأمكنة والأزمنة، ومنشئ كل ما تصح عليه الحركة والنقلة والتمكن والسكن والانفصال والاتصال والمحاسنة والمحاذاة .
ولهذا كان لا بد من الاعتماد على المجاز، كآلية بلاغية فاعلة لتفسير الخطاب في شكليه الحقيقي والجمالي معا، لأن كشف الدلالات الكامنة وراء التركيب اللغوي، يكون من صميم محاولة الحصول على حقيقة الخطاب باعتباره قصدا من جهة أولى وعلى جماليته الأدبية باعتباره نوعا خاص من التعبير.
لقد اعتبر الجرجاني المجاز روح العملية الشعرية، وهو يؤطر جهازا نقديا واعيا واصفا لحقيقة الواقعة الأسلوبية، حيث اعتبر مفهوم معنى المعنى، ينطلق من اللغة ذاتها ليصل إلى اللغة في شعريتها وانزياحها، وكما سبقت الإشارة فإن نظرية المعنى ومعنى المعنى أفرزت سياقا مفتوحا للنص الأدبي وفق أنساق تعدد القراءات بغرض اختراق تطابق الدلالة، فالفرق الذي أراده الجرجاني ليس في ما بين ( الشعر والنثر)، وإنما هو فرق بين ما يدل على أنه كلام أدبي وعلى ما يدل على أنه محضر كلام عادي:
- ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده (كلام عادي)
- ضرب أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده (كلام فيه عدول)
فالمعنى ينزاح عن مدلوله اللفظي الكائن في دلالته الظاهرة و المباشرة (معنى أول)، ولكن إلى ما ينزاح المعنى؟
إلى دلالة خفية غير مصرح بها (معنى ثان = معنى المعنى).
والحقيقة أن هذه الدلالة الخفية لا تحقق إلا بتقنية المجاز في شكله العام، ف"جملة الأمر أن صورة المعنى لا تتغير بنقلها من لفظ إلى لفظ حتى يكون هناك اتساع ومجاز وحتى لا يراد من الألفاظ ظواهرها وضعت له في اللغة ولكن يشار بمعانيها إلى معان أخر" .، إذن فالشعرية تضمن وجودها بواسطة قوانين خاصة داخل الأنظمة اللغوية الأخرى، ولكن بوصفها وظيفة شعرية متميزة، ولذلك خصت بمزايا لتجوز والانحراف والاتساع والعدول وكلها يوجزها النظام اللغوي الذي امتاز بهذا النمط من الكلام، إن المسألة، مسألة نظام قائم بذاته، وليس فرقا بين (شعر ونثر) فنظام الشعر يختلف عن الأنظمة اللغوية الأخرى بانتظامه البناء الخاص، وبتشكيل المتميز، وبأسلوبه المغاير، وبصوره وتراكيبه المنزاحة.
والانزياح أو العدول ليس صفة لصيقة بالشعر، إنه الشعر ذاته ويشترك كل من النص والقارئ في تحقيق هذه الصفة، الأول بالأداء والثاني بفاعلية التلقي.
العدول إذن هو أسلوب شعري يميز الجملة الشعرية، ويمنحها فنية خاصة، ومزية لا يمكن لجملة أخرى أن تشترك معها فيها، ومعنى هذا أنه الشكل الذي تجيء به اللغة الشعرية في نظامها التراكيبي والذي يولد من تضافر دواله مع مدلولاته لتوليد المحتمل الدلالي في كينونته المتجددة " فالشعر يكسر البناء المنطقي للجملة فيقف على غير مواضع الوقوف، ويفصل بين أجزاء الجملة بعضها ببعض، ويشعت كثيرا من هذه الأجزاء ويكون هذا مقبولا فيه، لأنه فصل وتشعيت في مقابل غاية فنية، وتحطيم يرمي إلى بناء آخر، فهو هدم من أجل البناء الشعري، وكسر من أجل التركيب الفني" .
ومعنى هذا أن النظم يلزمنا الوقوف على شعرية المجاز التي مدارها الاتساع والذي من شأنه أن يحدث خللا في علائق الدوال في مدلولاتها.
لقد تميزت نظرية " معنى المعنى " بالتفرد، باعتبارها قانونا شاملا لتفسير دلالة المجاز وأدبية الأسلوب، ولعل أهمية ذلك يعود إلى ارتباط هذه النظرية بمساءل النقد الحديث والألسنية والأسلوبية، بل تكاد تشمل كثيرا من قضايا الشعرية التي أثارها الشكلانيون الروس مع بداية القرن. ويمكن التركيز هنا على تمييز الجرجاني بين اللغة والكلام، بطرحه ظاهرة كلامية يفصل فيها بين معاني الألفاظ ومعاني الدلالات، وفي هذا اقتراب من مفهوم تودوروف في الفرق بين المدلول الأول والمدلول الثاني، غير أن الجرجاني في تقسيمه للكلام إلى ضربين يقحم المتلقي الذي يشترك مع الباث في الفهم والاستيعاب والتأويل.
وعلى الرغم من العلاقة الاعتباطية بين اللفظ ومعناه، إلا أن الجرجاني يذهب إلى تمييز الدلالات نفسها:
دلالة اللفظ (معنى أول) المعنى.
دلالة المعنى (معنى ثان) معنى المعنى.
لقد كان تركيز الجرجاني على المدلولات بدل الدوال، أي على معاني الألفاظ لا على الألفاظ ذاتها من صميم الوصول إلى روح العملية المجازية في حقيقتها، التي تعتمد على تجاوز المدلولات كما سماها " تودوروف" حين يقول : إن خصائص شيء ما – على سبيل المثال – تستثار في الذهن عندما يذكر شخص ما إسم هذا الشيء، فاللبن يستثير معنى البياض ، و الأسد يستثير معنى الشجاعة ...ولا يجب ألا ننسى –مع ذلك- أن السياق المشار إليه سياقا لغويا (أي نتيجة لتجاوز الدوال ) ولكن سياق حضاري( أي نتيجة لتجاور المدلولات ) فالتأويل لا يستدعي تماثل الدوال و إنما تماثل المدلولات وإدراك هذه المعاني يتطلب وعيا مرجعيا مشتركا بين المتكلم والمخاطب ويتم ذلك بالوقوف على المعنى المباشر وهدمه وتجاوزه إلى المعنى الخفي.
إذا نظرنا إلى أمر ما استخلصته الشعرية الحديثة واعتبرته في صلب أدبية الخطاب الشعري:
هناك : خطاب +متكلم + متلق
هناك : معنى مباشر( أول ) ومعنى غير مباشر ( ثان)
هناك : مرجعية الخطاب (اللغة+ العالم الخارجي) ومقصديته
هناك : السياق اللغوي والدلالي والحضاري.
نجد في الوقت ذاته أن شعرية الجرجاني تلح على تعالق الدوال والمدلولات ودمجها بالمستوى النحوي، بالإضافة إلى توطيدها بمستويات التلقي التي تؤهل المخاطب، وتساعد على في توسيعه أفقه التقبلي ليس بحصر هذه العلاقات، ولكن بإعادة تصور الشكل الذي انبثقت عنه بما ينسجم مع الاستجابة التأملية لمظاهر العدول الجمالية.
إن اللغة الشعرية هي تلك التي تستثر خلف أقنعة من القتامة والغموض ومن الصعب التعرف على جميع خصائصها الباطنية، وربما مبعث ذلك هو الإحساس النابع من جوهر الكتابة الشعرية لونا جماليا وفنيا مغايرا يستقطب الأسماع ويستجلب الأذواق؛ ولم يخل الوجدان العربي من وعي بهذه التجربة الشعرية، ن