أصول تراثية في نظرية الحقول الدلالية - الدكتور أحمد عزوز - دراسة -
طباعة [حفظ ]
الفصل الرابع: التحليل التكويني للمعنى وعلاقته بالحقول الدلالية
الفصل الرابع: التحليل التكويني للمعنى وعلاقته بالحقول الدلالية
سبقت الإشارة إلى أنَّ نظرية الحقول الدلالية تعتبر منهجاً لتنظيم اللغة وتصنيفها، وحين الحديث عنها يتبادر إلى الذهن أنَّ معنى المفردة يشكّل كلاًّ غير قابل للتجزئة.
وحقيقة الأمر، إنَّ بعض الباحثين يعتقد أنَّ العلاقات بين الكلمات مؤسّسة أو مبنية بوحدات دلالية صغرى، وأنَّ مضمون الكلمة وحدة قابلة للتقسيم والتحليل، بل يتألّف من عدّة عناصر أو مقوّمات دلالية منتظمة وفق قواعد محدّدة (1).
ويسمّى العنصر الدلالي الأصغر بأسماء مختلفة بحسب وجهات نظر الباحثين منها السيم (SEME)، (SEMEME)، (SEMIENE)،، مؤلف، جزء، مكوّن، والشائع من المصطلحات المستعملة في البحوث الدلالية وبخاصة عند الغربيين هو السيم(2).
ويعود هذا النوع من التحليل ـ كما يذكر جورج مونان ـ إلى ليبنتز LEIBNIZ WILLIAM GOTTFRIED (1666- 1716). إن
لم ترجع جذوره إلى ريمون لول (RAYMOND LULLE)، (1235- 1315)، الذي دعا إلى تأليف موسوعة بنائية للمعرفة البشرية، وتجزيئ كلّ المفاهيم إلى عناصرها أو أفكارها البسيطة(3).
يعدّ يلمسلف (LOUIS JHELMSLEV)، في العصر الحديث، رائد المدرسة النسقية بكوبنهاجن أوّل من وضع في أوروبا ابتداء من 1943 اتّجاه تحليل معاني الكلمات انطلاقاً من الملامح أو المميّزات التي تتألّف منها، وذلك في كتابه "مقدّمات إلى نظرية اللغة"، (Prolégoménes à une théorie du langage)، الذي ظهر باللغة الدانماركية سنة 1943، وترجم إلى الإنجليزية سنة 1953، ونشر لأوّل مرة بعنوان (Prolegomena to a theory of language).
أمّا الترجمة الفرنسية فكانت سنة 1968، بعنوان (La structure fondamentale du langage)، وبدا النقص واضحاً في هذه الترجمة فأعادتها جان ماري لوارد Jean Marie Leouard بالعنوان Prolégoménes..
وتعرّض فيه يلمسلف إلى التحليل التكويني للمعنى ـ خاصة ـ في فصليه (مبدأ التحليل)، و(شكل التحليل)، وكان القصد من عمله هو التفكير في نظرية للغة تمكّن من وصف واضح وغير متناقض، ليس لنصّ باللغة الفرنسية فقط، ولكن كل النصوص الفرنسية الموجودة، وليس ذلك فحسب، بل كلّ النصوص الممكنة والمتصوّرة، أي حتّى تلك النصوص ا لتي تصدر غداً، والتي تنتمي إلى مستقبل غير محدّد(4).
وهو لا يبتعد عن نظرية شومسكي (Chomsky) الخاصة بالبنية السطحية والبنية العميقة أو المقدّرة حين تعرّضه للنصوص المتصوّرة؛ أو تلك التي يمكن أن يوجدها عقل الإنسان اليوم أو غداً، ويمكن للنظرية بناء على المعارف التي تتضمنها أن تطبق على نصوص أيّة لغة(5).
ويعتبر رومان ياكبسون ( Roman Jakobson) من الذين تعرّضوا إلى التحليل التكويني للمعنى في كتابه (مقالات في اللسانيات العامة) (Essais de Linguistique génerale) ، وهو من مؤسسي مدرسة براغ الوظيفية بين 1926- 1928 مع نيكولاي تروبتسكوي (IKOLAI TROUBESKOY) الذي أصدر كتاباً مهمّاً بعنوان (مبادئ الفونولوجيا)،
(PRINCIPES DE PHONOLOGIE)، فأصبح مصدراً أساسياً ومؤثّراً في الذين تبنّوا منهج التحليل التكويني.
وسعى ياكبسون في مؤلّفه إلى إيضاح مكانة اللغة بين أنظمة العلامات الأخرى، وتحديد العلاقات الوثيقة والمتعدّدة التي تربط اللسانيات بالعلوم الأخرى، وعلاقتها بالإنسان والطبيعة.
كما تعرّض إلى التحليل التكويني للأصوات في فصله الخاص بـ(ملاحظات حول التصنيف الصوتي للمقاطع) وهو المحاضرة التي ألقاها في أوّل الأمر في (حلقة براغ اللسانية)، ثمّ في المؤتمر العالمي الثالث حول العلوم الصوتية في 1938، وخصّص الفصل السابع من كتابه إلى (المفهوم اللساني للملامح ـ تذكر وتأمّلات)(6).
ويعتبر كلّ من يلمسلف وياكبسون ـ على اختلاف وجهة نظرهما وانتماء كلّ واحد إلى مدرسة مختلفة عن الآخر، أنَّه بالإمكان تطبيق مبادئ تروبتسكوي الفونولوجية في علم الدلالة وعلم التراكيب(7)، وفي تحليل المعنى إلى الملامح والمميّزات استناداً إلى القواعد التي وضعتها الفونولوجيا.
ويرتبط التحليل التكويني للمعنى بالتصوّر التركيبي أو البنائي للفونيم (الوحدة الصوتية الصغرى)، الذي يفترض اشتماله على عدد من الصفات أو الملامح التي تميّزه من فونيم أو فونيمات أخرى في النظام الصوتي للغة معيّنة(.
فاللسانيات الوظيفية تعتبر أنَّ كلّ فونيم يمكنه أن يجزّأ إلى وحدات تكوينية مستنتجة من علم الأصوات المفصلي (La phonétique articulatoire) الذي له القدرة على تحليلها ووصفها (9).
ويسمى هذا التحليل بمصطلحات مختلفة لمنهج واحد، وإجراء واحد عند الدلاليين، فهو التحليل التكويني أو التحليل المؤلّفاتي أو التحليل السيمي، أو التحليل التجزيئي.
ويوظّف يلمسلف مصطلح "التحليل الدلالي المنطقي"
(I’analyse sémantique Logique).
الذي يسمّي مضمون (contenu)، الملفوظ ماهو موجود في ذهن المتكلّم والسامع، ويسمّي التعبير (expression)، ما يظهر هذا الملفوظ، ويكشفه عن طريق الصوت أو الكتابة.
ويرى أنَّ التعبير والمحتوى مترابطان، فلم يكن التعبير كذلك إلاَّ لأنَّه تعبير عن محتوى، ولم يكن المحتوى كذلك أيضاً إلاَّ لأنَّه محتوى للتعبير، فهل يمكن أن يوجد تعبير بدون محتوى أو العكس؟... فإذا فكرنا دون أن نعبّر فإنَّ تفكيرنا في هذه الحالة لن يكون محتوى لسانياً، ثمَّ إذا تكلّمنا دون أن نفكّر، منتجين متوالية من الأصوات بدون معنى يميّزها، لن نحصل على تعبير لساني(10).
ولمّا كانت اللسانيات البنيوية قد أوضحت بأنَّه يمكن تحليل التعبير في لغة معيّنة إلى بنى صوتية ـ صرفية ـ تركيبية، فلا شكّ في أنَّه يفترض وجود بنية للمحتوى أو المضمون، ممّا يؤدّي إلى إمكانية تجزيئ معانيه إلى وحدات دلالية صغرى(11).
ولقد نما هذا التحليل وتطوّر ابتداء من 1950، بظهور ثلاث محاولات أوروبية طبقت المبادئ الصوتية انطلاقاً من الوحدات الصغرى الدالّة، فكانت:
*أولاها: محاولة كانتينو (CANTINEAU)، في 1952، حين نشر مقالاً موسوماً بـ"المقابلات الدلالية"، (Les oppositions significatives).
*وثانيها: محاولة (M.SANCHEZ RIUIPEREZ)، في سنة 1954، في كتابه: (Estructura del Sistema de aspectos y tiempos del verbo grieg Antigo. Analisis functional sincronico.).
*وثالثها: المقال الذي كتبه برييطو (PRIETO) في عام 1954، حول:
(Le signe articulé et le signe proportionnel)، وأعيد طبعه في 1975 (12).
أمّا في أمريكا فقد ظهر اتّجاهان ممّا نشر في مجلة (اللغة)
(LANGUAGE) في 1956، حول إمكانية تحليل المعنى إلى مؤلّفاته الجزئية، وأوّل من اهتمّ به (LOUNSBERY)، في كتابه: (A SEMANTIC ANALYSIS OF THE POWNEE KINSHIP USAGE)...
أمّا الثاني فهو (W.H. GOODENOUGH)، الذي حاول تطوير وصف نظام علاقات الدلالات انطلاقاً من لغة (TRUK)، (هي اللغة التي يكون فيها خداع مثل السينما ولغة السحرة)، فكتب كتاباً بعنوان:
(COMPONENTIAL ANALYSIS AND The STUDY OF MEANING). أي (التحليل المؤلفاتي ودراسة المعنى)(13).
وكانت تهدف أعمال يلمسلف وبرييطو ولونسبيري في شموليتها إلى تنظيم معجم اللغة المعيّنة من خلال الملامح وإبراز المميّزات أو المكوّنات الدلالية لمعرفة القرابة الموجودة بين الكلمات في الحقل الدلالي الواحد (14).
إن المنهج الوظيفي لمدرسة براغ وبخاصة في مجاله الفونولوجي يقوم بدور مهم في عملية الوصف والتحليل، ويستند إلى عنصر الاستبدال الذي يعدّ من مفاتيح البنيوية؛ أي إمكانية استبدال وحدة صوتية صغرى للتأكد من تغيّر المعنى(15).
والمحور الاستبدالي أو الجدولي يقابله المحور النظمي أو الأفقي وهما ثنائية أثارهما دي سوسير وحدّدهما في كتابه: (دروس في الألسنية العامّة).
"والمحور الاستبدالي (PARADIGME) هو الذي ينتمي إلى مجموعات أو مجموعة فرعية تتكوّن من وحدات يمكن أن تؤدّي وظيفة نظمية واحدة في موضع معيّن من الملفوظ"(4)، والأمر يعود هنا إلى الكلمات التي يمكن "أن تتّخذ نفس الموقع في عقل المتحدّث ليختار منها المناسب في تعبيره، فضمائر المخاطب مثلاً تنتظم في النظام اللغوي في نسق واحد، ويختار منها المتكلّم ما يلائمه في الأداء الكلامي، فمجموع هذه الضمائر يمثّل العلاقة الجدولية أو الاستبدالية(16).
أمّا المحور النظمي أو الأفقي (SYNTAGME)، فهو وجود علاقات بين وحدات تنتمي إلى مستوى واحد، وتكون متقاربة ضمن عبارة معيّنة أو مفردة معيّنة، مثل جملة الشرط: (إن غبت ضاع منك الأهمّ)(17).
واعتمدت جميع الاتجاهات البنيوية المحور الاستبدالي في تحليلاتها؛ ومنها الاتجاه التوزيعي حيث يرى هاريس (Zellig Harris) أن أساس المنهج التوزيعي هو تصنيف الأشكال المتبادلة؛ فنضع للغة التي نودّ دراستها قائمة بالأشكال التي لها إمكانية التبادل إحداها بالأخرى؛ أي قائمة بالأشكال التي تظهر في المحيط نفسه(18).
ونجد يلمسلف يضع الملامح الدلالية انطلاقاً من الاستبدال للكلمات التالية:
فرس = حصان + أنثى.
حصان = حصان + ذكر.
رت = خنزير + ذكر.
خنزيرة = خنزير + أنثى.
إذ يلاحظ أن (فرس) تحتوي على وحدتين دلاليتين صغيرتين (حصان + أنثى)، فإذا استبدلنا العنصر الأول (حصان)، بـ(خنزير)، حصلنا على خنزيرة؛ وليس على فرس.
وكذلك في اللغة الألمانية:
إمكانية + مادية = konen
إمكانية + معنوية = durfen (19).
وفي العربية كلمة (رجل) تحتوي على المؤلّفات أو السمات المعنوية التالية:
(ذكر + بالغ+ بشري).
وكلمة (امرأة)، لا تختلف عن (رجل)، إلا من حيث الذكورة (أنثى + بالغ+ بشري)(20).
ويمكن توضيح المثال نفسه بالطريقة التالية:
رجل = اسم/ محسوس/ معدود/ حي/ بشري/ ذكر/ بالغ...
امرأة = اسم/ محسوس/ معدود/حي/بشري/ أنثى/ بالغ...
فكلمة (امرأة)، تختلف عن (رجل)، بسمة واحدة هي سمة الجنس مع اشتراكهما في جميع العناصر الأخرى، وهذه المؤلفات تكوّن المعنى الأساسي للكلمة القابلة للاستبدال(21).
وتعدّ نظرية التحليل التكويني من أحدث الاتجاهات في تحليل معاني كلمات الحقل الدلالي؛ وتعتبر امتداداً لنظرية الحقول الدلالية؛ وهي تحاول أن تضع نظرية أكثر ثباتاً؛ حيث ترى أن معنى الكلمة يتحدّد بما تحمله من ملامح أو عناصر أو بما تحتوي عليه من مكوّنات.
وتندرج نظرية التحليل التكويني ضمن علم الدلالة التفسيري
(SEMANTIQUE INTRERPRETATIVE)، الذي وضعه تلميذ شومسكي مؤسس المدرسة التوليدية التحويلية في اللغة ورائدها؛ والذي وسم ببصماته الدراسة اللسانية المعاصرة.
وإذا كان شومسكي قد بدأ أ عماله بالتنكّر للمعنى؛ وكذا أنصار مذهبه المبكرون الذين اعتبروا المعجم جزءاً من النحو؛ وأعطوا أهمية ضئيلة لمعاني الكلمات والجمل؛ بل أهمل التركيبيون الأمريكيون المتأثرون ببلومفيلد السلوكي دراسة المعجم لأنّها في نظرهم تعالج مفردات توصف بأنها غير تركيبية أو ـ على الأقل ـ يبدو التسيّب في تركيبها(22).
ومع ذلك، فإنَّ هذا التحليل، يندرج في إطار النحو التوليدي كما حدّده شومسكي، وهو توسيع في آفاق الدراسة التركيبية مع إعطاء الاعتبار للجانب الدلالي؛ أي إنه يضيف إلى الجملة ووصفها البنيوي القراءة الدلالية(23).
طباعة [حفظ ]
الفصل الرابع: التحليل التكويني للمعنى وعلاقته بالحقول الدلالية
الفصل الرابع: التحليل التكويني للمعنى وعلاقته بالحقول الدلالية
سبقت الإشارة إلى أنَّ نظرية الحقول الدلالية تعتبر منهجاً لتنظيم اللغة وتصنيفها، وحين الحديث عنها يتبادر إلى الذهن أنَّ معنى المفردة يشكّل كلاًّ غير قابل للتجزئة.
وحقيقة الأمر، إنَّ بعض الباحثين يعتقد أنَّ العلاقات بين الكلمات مؤسّسة أو مبنية بوحدات دلالية صغرى، وأنَّ مضمون الكلمة وحدة قابلة للتقسيم والتحليل، بل يتألّف من عدّة عناصر أو مقوّمات دلالية منتظمة وفق قواعد محدّدة (1).
ويسمّى العنصر الدلالي الأصغر بأسماء مختلفة بحسب وجهات نظر الباحثين منها السيم (SEME)، (SEMEME)، (SEMIENE)،، مؤلف، جزء، مكوّن، والشائع من المصطلحات المستعملة في البحوث الدلالية وبخاصة عند الغربيين هو السيم(2).
ويعود هذا النوع من التحليل ـ كما يذكر جورج مونان ـ إلى ليبنتز LEIBNIZ WILLIAM GOTTFRIED (1666- 1716). إن
لم ترجع جذوره إلى ريمون لول (RAYMOND LULLE)، (1235- 1315)، الذي دعا إلى تأليف موسوعة بنائية للمعرفة البشرية، وتجزيئ كلّ المفاهيم إلى عناصرها أو أفكارها البسيطة(3).
يعدّ يلمسلف (LOUIS JHELMSLEV)، في العصر الحديث، رائد المدرسة النسقية بكوبنهاجن أوّل من وضع في أوروبا ابتداء من 1943 اتّجاه تحليل معاني الكلمات انطلاقاً من الملامح أو المميّزات التي تتألّف منها، وذلك في كتابه "مقدّمات إلى نظرية اللغة"، (Prolégoménes à une théorie du langage)، الذي ظهر باللغة الدانماركية سنة 1943، وترجم إلى الإنجليزية سنة 1953، ونشر لأوّل مرة بعنوان (Prolegomena to a theory of language).
أمّا الترجمة الفرنسية فكانت سنة 1968، بعنوان (La structure fondamentale du langage)، وبدا النقص واضحاً في هذه الترجمة فأعادتها جان ماري لوارد Jean Marie Leouard بالعنوان Prolégoménes..
وتعرّض فيه يلمسلف إلى التحليل التكويني للمعنى ـ خاصة ـ في فصليه (مبدأ التحليل)، و(شكل التحليل)، وكان القصد من عمله هو التفكير في نظرية للغة تمكّن من وصف واضح وغير متناقض، ليس لنصّ باللغة الفرنسية فقط، ولكن كل النصوص الفرنسية الموجودة، وليس ذلك فحسب، بل كلّ النصوص الممكنة والمتصوّرة، أي حتّى تلك النصوص ا لتي تصدر غداً، والتي تنتمي إلى مستقبل غير محدّد(4).
وهو لا يبتعد عن نظرية شومسكي (Chomsky) الخاصة بالبنية السطحية والبنية العميقة أو المقدّرة حين تعرّضه للنصوص المتصوّرة؛ أو تلك التي يمكن أن يوجدها عقل الإنسان اليوم أو غداً، ويمكن للنظرية بناء على المعارف التي تتضمنها أن تطبق على نصوص أيّة لغة(5).
ويعتبر رومان ياكبسون ( Roman Jakobson) من الذين تعرّضوا إلى التحليل التكويني للمعنى في كتابه (مقالات في اللسانيات العامة) (Essais de Linguistique génerale) ، وهو من مؤسسي مدرسة براغ الوظيفية بين 1926- 1928 مع نيكولاي تروبتسكوي (IKOLAI TROUBESKOY) الذي أصدر كتاباً مهمّاً بعنوان (مبادئ الفونولوجيا)،
(PRINCIPES DE PHONOLOGIE)، فأصبح مصدراً أساسياً ومؤثّراً في الذين تبنّوا منهج التحليل التكويني.
وسعى ياكبسون في مؤلّفه إلى إيضاح مكانة اللغة بين أنظمة العلامات الأخرى، وتحديد العلاقات الوثيقة والمتعدّدة التي تربط اللسانيات بالعلوم الأخرى، وعلاقتها بالإنسان والطبيعة.
كما تعرّض إلى التحليل التكويني للأصوات في فصله الخاص بـ(ملاحظات حول التصنيف الصوتي للمقاطع) وهو المحاضرة التي ألقاها في أوّل الأمر في (حلقة براغ اللسانية)، ثمّ في المؤتمر العالمي الثالث حول العلوم الصوتية في 1938، وخصّص الفصل السابع من كتابه إلى (المفهوم اللساني للملامح ـ تذكر وتأمّلات)(6).
ويعتبر كلّ من يلمسلف وياكبسون ـ على اختلاف وجهة نظرهما وانتماء كلّ واحد إلى مدرسة مختلفة عن الآخر، أنَّه بالإمكان تطبيق مبادئ تروبتسكوي الفونولوجية في علم الدلالة وعلم التراكيب(7)، وفي تحليل المعنى إلى الملامح والمميّزات استناداً إلى القواعد التي وضعتها الفونولوجيا.
ويرتبط التحليل التكويني للمعنى بالتصوّر التركيبي أو البنائي للفونيم (الوحدة الصوتية الصغرى)، الذي يفترض اشتماله على عدد من الصفات أو الملامح التي تميّزه من فونيم أو فونيمات أخرى في النظام الصوتي للغة معيّنة(.
فاللسانيات الوظيفية تعتبر أنَّ كلّ فونيم يمكنه أن يجزّأ إلى وحدات تكوينية مستنتجة من علم الأصوات المفصلي (La phonétique articulatoire) الذي له القدرة على تحليلها ووصفها (9).
ويسمى هذا التحليل بمصطلحات مختلفة لمنهج واحد، وإجراء واحد عند الدلاليين، فهو التحليل التكويني أو التحليل المؤلّفاتي أو التحليل السيمي، أو التحليل التجزيئي.
ويوظّف يلمسلف مصطلح "التحليل الدلالي المنطقي"
(I’analyse sémantique Logique).
الذي يسمّي مضمون (contenu)، الملفوظ ماهو موجود في ذهن المتكلّم والسامع، ويسمّي التعبير (expression)، ما يظهر هذا الملفوظ، ويكشفه عن طريق الصوت أو الكتابة.
ويرى أنَّ التعبير والمحتوى مترابطان، فلم يكن التعبير كذلك إلاَّ لأنَّه تعبير عن محتوى، ولم يكن المحتوى كذلك أيضاً إلاَّ لأنَّه محتوى للتعبير، فهل يمكن أن يوجد تعبير بدون محتوى أو العكس؟... فإذا فكرنا دون أن نعبّر فإنَّ تفكيرنا في هذه الحالة لن يكون محتوى لسانياً، ثمَّ إذا تكلّمنا دون أن نفكّر، منتجين متوالية من الأصوات بدون معنى يميّزها، لن نحصل على تعبير لساني(10).
ولمّا كانت اللسانيات البنيوية قد أوضحت بأنَّه يمكن تحليل التعبير في لغة معيّنة إلى بنى صوتية ـ صرفية ـ تركيبية، فلا شكّ في أنَّه يفترض وجود بنية للمحتوى أو المضمون، ممّا يؤدّي إلى إمكانية تجزيئ معانيه إلى وحدات دلالية صغرى(11).
ولقد نما هذا التحليل وتطوّر ابتداء من 1950، بظهور ثلاث محاولات أوروبية طبقت المبادئ الصوتية انطلاقاً من الوحدات الصغرى الدالّة، فكانت:
*أولاها: محاولة كانتينو (CANTINEAU)، في 1952، حين نشر مقالاً موسوماً بـ"المقابلات الدلالية"، (Les oppositions significatives).
*وثانيها: محاولة (M.SANCHEZ RIUIPEREZ)، في سنة 1954، في كتابه: (Estructura del Sistema de aspectos y tiempos del verbo grieg Antigo. Analisis functional sincronico.).
*وثالثها: المقال الذي كتبه برييطو (PRIETO) في عام 1954، حول:
(Le signe articulé et le signe proportionnel)، وأعيد طبعه في 1975 (12).
أمّا في أمريكا فقد ظهر اتّجاهان ممّا نشر في مجلة (اللغة)
(LANGUAGE) في 1956، حول إمكانية تحليل المعنى إلى مؤلّفاته الجزئية، وأوّل من اهتمّ به (LOUNSBERY)، في كتابه: (A SEMANTIC ANALYSIS OF THE POWNEE KINSHIP USAGE)...
أمّا الثاني فهو (W.H. GOODENOUGH)، الذي حاول تطوير وصف نظام علاقات الدلالات انطلاقاً من لغة (TRUK)، (هي اللغة التي يكون فيها خداع مثل السينما ولغة السحرة)، فكتب كتاباً بعنوان:
(COMPONENTIAL ANALYSIS AND The STUDY OF MEANING). أي (التحليل المؤلفاتي ودراسة المعنى)(13).
وكانت تهدف أعمال يلمسلف وبرييطو ولونسبيري في شموليتها إلى تنظيم معجم اللغة المعيّنة من خلال الملامح وإبراز المميّزات أو المكوّنات الدلالية لمعرفة القرابة الموجودة بين الكلمات في الحقل الدلالي الواحد (14).
إن المنهج الوظيفي لمدرسة براغ وبخاصة في مجاله الفونولوجي يقوم بدور مهم في عملية الوصف والتحليل، ويستند إلى عنصر الاستبدال الذي يعدّ من مفاتيح البنيوية؛ أي إمكانية استبدال وحدة صوتية صغرى للتأكد من تغيّر المعنى(15).
والمحور الاستبدالي أو الجدولي يقابله المحور النظمي أو الأفقي وهما ثنائية أثارهما دي سوسير وحدّدهما في كتابه: (دروس في الألسنية العامّة).
"والمحور الاستبدالي (PARADIGME) هو الذي ينتمي إلى مجموعات أو مجموعة فرعية تتكوّن من وحدات يمكن أن تؤدّي وظيفة نظمية واحدة في موضع معيّن من الملفوظ"(4)، والأمر يعود هنا إلى الكلمات التي يمكن "أن تتّخذ نفس الموقع في عقل المتحدّث ليختار منها المناسب في تعبيره، فضمائر المخاطب مثلاً تنتظم في النظام اللغوي في نسق واحد، ويختار منها المتكلّم ما يلائمه في الأداء الكلامي، فمجموع هذه الضمائر يمثّل العلاقة الجدولية أو الاستبدالية(16).
أمّا المحور النظمي أو الأفقي (SYNTAGME)، فهو وجود علاقات بين وحدات تنتمي إلى مستوى واحد، وتكون متقاربة ضمن عبارة معيّنة أو مفردة معيّنة، مثل جملة الشرط: (إن غبت ضاع منك الأهمّ)(17).
واعتمدت جميع الاتجاهات البنيوية المحور الاستبدالي في تحليلاتها؛ ومنها الاتجاه التوزيعي حيث يرى هاريس (Zellig Harris) أن أساس المنهج التوزيعي هو تصنيف الأشكال المتبادلة؛ فنضع للغة التي نودّ دراستها قائمة بالأشكال التي لها إمكانية التبادل إحداها بالأخرى؛ أي قائمة بالأشكال التي تظهر في المحيط نفسه(18).
ونجد يلمسلف يضع الملامح الدلالية انطلاقاً من الاستبدال للكلمات التالية:
فرس = حصان + أنثى.
حصان = حصان + ذكر.
رت = خنزير + ذكر.
خنزيرة = خنزير + أنثى.
إذ يلاحظ أن (فرس) تحتوي على وحدتين دلاليتين صغيرتين (حصان + أنثى)، فإذا استبدلنا العنصر الأول (حصان)، بـ(خنزير)، حصلنا على خنزيرة؛ وليس على فرس.
وكذلك في اللغة الألمانية:
إمكانية + مادية = konen
إمكانية + معنوية = durfen (19).
وفي العربية كلمة (رجل) تحتوي على المؤلّفات أو السمات المعنوية التالية:
(ذكر + بالغ+ بشري).
وكلمة (امرأة)، لا تختلف عن (رجل)، إلا من حيث الذكورة (أنثى + بالغ+ بشري)(20).
ويمكن توضيح المثال نفسه بالطريقة التالية:
رجل = اسم/ محسوس/ معدود/ حي/ بشري/ ذكر/ بالغ...
امرأة = اسم/ محسوس/ معدود/حي/بشري/ أنثى/ بالغ...
فكلمة (امرأة)، تختلف عن (رجل)، بسمة واحدة هي سمة الجنس مع اشتراكهما في جميع العناصر الأخرى، وهذه المؤلفات تكوّن المعنى الأساسي للكلمة القابلة للاستبدال(21).
وتعدّ نظرية التحليل التكويني من أحدث الاتجاهات في تحليل معاني كلمات الحقل الدلالي؛ وتعتبر امتداداً لنظرية الحقول الدلالية؛ وهي تحاول أن تضع نظرية أكثر ثباتاً؛ حيث ترى أن معنى الكلمة يتحدّد بما تحمله من ملامح أو عناصر أو بما تحتوي عليه من مكوّنات.
وتندرج نظرية التحليل التكويني ضمن علم الدلالة التفسيري
(SEMANTIQUE INTRERPRETATIVE)، الذي وضعه تلميذ شومسكي مؤسس المدرسة التوليدية التحويلية في اللغة ورائدها؛ والذي وسم ببصماته الدراسة اللسانية المعاصرة.
وإذا كان شومسكي قد بدأ أ عماله بالتنكّر للمعنى؛ وكذا أنصار مذهبه المبكرون الذين اعتبروا المعجم جزءاً من النحو؛ وأعطوا أهمية ضئيلة لمعاني الكلمات والجمل؛ بل أهمل التركيبيون الأمريكيون المتأثرون ببلومفيلد السلوكي دراسة المعجم لأنّها في نظرهم تعالج مفردات توصف بأنها غير تركيبية أو ـ على الأقل ـ يبدو التسيّب في تركيبها(22).
ومع ذلك، فإنَّ هذا التحليل، يندرج في إطار النحو التوليدي كما حدّده شومسكي، وهو توسيع في آفاق الدراسة التركيبية مع إعطاء الاعتبار للجانب الدلالي؛ أي إنه يضيف إلى الجملة ووصفها البنيوي القراءة الدلالية(23).