ثانياً: مفهوم الشخصيّة في النقد الأدبي
دخل مفهوم الشخصية (Character) في النقد الأدبي الحديث من بوّابة علم النفس، حينما ظهرت دراسات تحاول تفسير الأدب تفسيراً نفسياً(15).
وهناك من يرى أن الاهتمام بالشخصية ظهر مع أرسطو، حينما علّق أهمية على الفاعل بأن يُنظر إليه وهو يفعل أو يتكلم(16)، وقد اهتمت كثير من الأعمال بالشخصية في المسرح، إلاّ أن دراسة الشخصية بوصفها عنصراً في العمل القصصي لم تنل العناية المطلوبة إلى هذا العصر(17)، وسنحاول فيما يأتي، استعراض الجهود المقدمة حول الشخصيّة التي ظهرت منذ القرن التاسع عشر، حينما عُني بالشخصية التي لها أهمية في استقطاب الحدث ودلالته وتسمى البطل النقيض أو اللابطل، وهو مختلف عن البطل القديم الذي تدور حوله حوادث القصة جميعاً، وقد طُورّت صورة اللابطل في المسرح، في خمسينات القرن العشرين، ولكن هذه الجهود ظلت على مستوى العمل المسرحي دون التنظير أو الدراسة، وقد أشارت ناتالي ساروت بأن الشخصية فقدت -في عصر الشك- كثيراً من سماتها(18)، كما نص ميشيل بوتور على تطوّر الشخصية في العمل الأدبي(19)، وقد لاحظ تودوروف أن مقولة الشخصية من أكثر المقولات غموضاً، وأشار إلى قلة الاهتمام بدراستها(20)، كماعرض فيليب هامون دراسة عن سيميولوجية الشخصية، كاشفاً عن أنماط مختلفة من الشخصيات القصصية(21)، وقد أشار فرانسو راستييه وغيره إلى أن مفهوم الشخصية لا يزال مقصوراً على جانب معين منها وهو جانب الشخص الإنسان، فقد كانت الدراسات السابقة تجعل مفهوم الشخصية مرادفاً لمفهوم الشخص(22)، وقد ارتبط هذا الفهم بالأعمال الإبداعية التي تجعل أفعال الشخصيّة في النص ماهي إلا صورة معطاة سلفاً تحمل قيماً وإسقاطات. ومع الواقعية، منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، ركّزت الأعمال الإبداعية على الشخصيّة، باعتبارها فاعلاً في الحكاية، وأصبحت الشخصية حصيلة معطيات كثيرة وعلاقات متشابكة في النص. وبذلك يمكن الإشارة إلى أن مفهوم الشخصية، بوصفها صيغة وجود معينة لشخص ما؛ وقد تبلور ذلك المفهوم من خلال الأعمال الإبداعية دون الدراسات التنظيرية.
وهناك من ربط الشخصيّة بكاتب النص، لتكون الشخصية هي «الكاتب الذي ظل في بعض تجربته في حال كمون»(23)، وكأن الشخصية القصصية إسقاط لشخصية الكاتب، وهو ما اهتمّ به التحليل النفسي للأدب. وهناك من ربط الشخصية بالواقع، لكي تمثل نماذج اجتماعية معينة، وبذلك تكتسب الشخصية أصالتها(24). وربط الشخصية بكاتب النص أو بالواقع يجعل الشخصية معطى خارجياً، يمثله الإنسان سواء أكان هو الكاتب، أم كان أنموذجاً واقعياً، ومن هنا فإن مفهوم الشخصية كان متّصلاً بالإنسان الشخص.
وتُعيّن بعض المعاجم الحديثة عدة استعمالات للشخصية منها:
- «الفرد المتمتع بحظوة اجتماعية بارزة».(25)
- «الفرد التاريخي أو الخيالي في الأعمال الفنية، أو الدور الذي يؤديه المؤدي»(26).
- «الفرد الذي يسلك سلوك غيره في مقام السخرية»(27).
وتبين هذه الاستعمالات معنى الشخصية، من حيث كونها شخصاً، يقوم بدور معين في العمل الخيالي (القصصي)، ونلاحظ أنّ ثمة ثلاثة عناصر في هذا التعريف تشترك في إبراز مفهوم الشخصية هي:
- الشخص، وهو الفرد الذي يُسند إليه الدور.
- الدور، وهو الوظيفة التي يقوم بها الشخص.
- الشخصية، وهي مجموع العلاقات بين الشخص والدور الذي يقوم به، مضاف إليهما ما يرتبط بهذه العلاقة من مكونات فطرية أو مكتسبة. ومعنى هذا أن الشخصية صيغة وجود قائمة على شبكة من العلاقات المتداخلة فيما بينها، ولا تدرك الشخصية إلا من خلال إدراك هذه الشبكة مجتمعة. وسوف نحاول فيما يأتي استعراض آراء بعض الدارسين المعنيين بالشخصيّة القصصيّة.
فقد أشار بيرسي لوبوك إلى الشخصية حينما تحدث عن الطرق التي صاغ بها فلوبير شخصية مدام بوفاري في روايته المسماة باسم الشخصية، وطرق روايته للأحداث المرتبطة بها، وقد أشار إلى ارتباط الشخصيّة بعناصر مختلفة منها مايتعلق بقدرات البطل التي تؤهله للدور، ومنها مايسنده المؤلف لهذا البطل لكي يكون بالكيفية التي ظهر بها. ويلاحظ لوبوك أنه لايمكن لأي شخصية أخرى الحلول محل مدام بوفاري؛ ومع أن لوبوك لم يُحلّل الشخصيّة بما يكشف عن مفهومها لديه إلاّ أنه يعدها عنصراً رئيساً في العمل القصصي، وأن الأحداث هي التي ترتبط بالشخصية وتدور حولها؛ ممّا يجعلنا نفهم الشخصيّة من خلال أفكارها المعبّر عنها بالألفاظ والأفعال(28).
ويحاول فورستر تفسير الشخصية من خلال النظر إليها في النص من جهة، ومن خلال علاقتها بالمؤلف، بوصفه يشترك مع الشخصية بكونه كائناً بشرياً، من جهة أخرى؛ ويرى أن الشخصية القصصية ليست مماثلة لماهو في الواقع فحسب ولكنها ينبغي أن تكون مطابقة له. ويشير إلى أن معرفة المؤلف بشخصياته هي على وجه التقريب؛ ولهذا فربما يفهم القارىء عنها أكثر مما يفهمه المؤلف. ويُسجل ملاحظة بشأن العلاقات التي ترتبط بها الشخصيات في القصة، مؤكداً أنها علاقات مؤقته غالباً، وإذا وجدت علاقات دائمة فإنما تمثل عادات هي من إفراز المجتمع؛ ويخلص إلى تقسيم الشخصيّة إلى نوعين، فهي إما مسطّحة وإما مغلقة، ويقصد بالشخصيّة المسطّحة مايعرف بالشخصية الهزلية أو الكاريكاتير، وهي تمثل الأنموذج الذي لايكاد يتغيّر ولاتتبدل سماته طوال النص، فيظل محافظاً على ثباته دون أن يتأثر بالمتغيرات، وفي الوقت نفسه ليس له أثر يذكر مهما تغيّرت الظروف المحيطة به؛ ويرى أن هذه الشخصيّة المسطّحة هي التي يتذكرها القارىء بسهولة، ولاتحتاج من المؤلف إلى إعادة تقديم؛ لكونها لاتتطوّر عمّا كانت عليه. أما الشخصية المغلقة، فهي مركّبة من مجموعة من السمات التي تبدو غير منسجمة، ولاتستقر هذه الشخصية على حال واحدة، ويصعب التنبؤ بمصيرها، فهي تدهش القارىء بمالم يتوقّعه، ثم إنّها مع هذا الإدهاش تقنعه بواقعية ما تفعل، ولها تأثير على الأحداث والشخصيات الأخرى بسبب تطورها الدائم؛ ويرى أن ذلك نابع من تعدُّديّة هذه الشخصية في الحياة داخل النص(29). ويؤكد فورستر أنه يمكن تصنيف القصص تبعاً لهذين النوعين؛ مشيراً إلى جهد المؤلف في تقديم كل نوع. ويلاحظ أن هذا التقسيم للشخصيّة يعتمد على الدور الذي تقوم به مربوطاً بالإقناع والإدهاش، فإن حصل هذا الأثر فهي مغلقة، أما إذا لم تؤثر فهي مسطّحة. ولكننا نجد أنّ تعيين أثر الشخصيّة على القارىء يصعب قياسه والتحقق منه، ولهذا ُإنّ هذا الأثر يبقى خاضعاً للانطباع؛ ومن هنا فلعلّ ربط نوع الشخصية بالأفعال التي تقوم بها يثري هذا التمييز الذي قال به فورستر في كونه أساساً لتصنيفات لاحقة للشخصيّة من حيث ثباتها من عدمه، أوركودها وتطورها، أوإيجابيتها وسلبيتها؛ وغير ذلك من الأقسام التي يمكن وصف سلوك الشخصية بها(30).
وحاول إدوين موير وصف الشخصية من خلال ماتمثله من عالم قصصي، منتقداً آراء فورستر، ولوبوك بشأن وجود نمط ثابت للشخصية، ويرى أن الشخصية لايمكن الغض من شأنها بتصنيفها في نماذج، لكون الشخصية كالحياة فهي مليئة بالعناصر التي تستعصي على الحصر والتوقّع، فثمّة شخصية تتمحور حولها الأحداث وتتوافر في رواية الشخصية، وقد تكون الشخصية عنصراً في الحدث كما في الرواية التسجيلية والدرامية(31).
أمّا وين بوث، فقد أَشار إلى الشخصيّة في أكثر من موضع في كتابه "بلاغة الفن القصصي" وقد لاحظ أنّ تطوّر الشخصيّة أَو انحطاطها مرتبط بصيغة الرواية التي تعرض الشخصيّة، وتكشف عن تحوّلها من شكل إلى آخر(32)؛ كما أشار إلى تأثير الشخصية القصصية في القارىء، من حيث تفاعل القارىء معها أو تعاطفه وتقييمه لها؛ ويرى أن هذا التأثير ربما لايكون له علاقة بالسمات المكشوفة للشخصية، ولكنه راجع للصفات المخفيّة منها(33)؛ ويُقارن بين الأبطال الهزليين الذين يؤثرون في القارىء، مُبيّناً أن ذلك راجع إلى طبيعة الفعل الذي تقوم به الشخصيّة، ويرى أن الأخطاء التي يرتكبونها تظهر من خلال المبالغة في الفضيلة(34). وقد نظر بوث إلى الشخصية من زاوية علاقتها بالقارىء من جهة، وبالمؤلف من جهة أخرى؛ ويربطها بالقارىء من حيث تعاطفه معها أو تقديره لها بأنها جذابة أو مخيفة أو مضحكة..إلخ، أي أن الشخصيّة تظهر للقارىء من خلال الأفعال والكلام والأدوار التي تؤديها، فهذه هي التي تعطينا المفاتيح لحقيقة الشخصيّة(35). أَمّا المؤلّف، فترتبط به من خلال وجهة النظر التي يصوغ الشخصية وفقاً لها(36) وقدرته على مسرحة الشخصية أو عرضها من خلال صوته أو صوت الراوي؛ ويؤكد على أن إبراز الشخصيّة يحصل من خلال وجهة النظر التي تُقدّم لنا من خلالها الشخصيّة. وقد اقتصر بوث على هذه الإشارات التي تُعدّ مهمّة في سياق العلاقات التي ترتبط بالشخصيّة من خارج النص التي يمكن أن تُعيّن القيمة الدلالية للشخصيّة من خلال كونها الإنسان أو صورته داخل النص، عن طريق سماتها التي يدركها القارىء.
هذا بالنسبة للجهود التي تناولت الشخصيّة بشكل عام وقد أثمرت عن فهم معين للشخصيّة في العمل القصصي؛ أما الدراسات التي لها اتصال مباشر بالشخصيّة فسوف نحاول استعراضها مركّزين على مفهوم الشخصيّة فيها، ذلك المفهوم الذي تطوّر من ربط الشخصية بالشخص إلى ربط الشخصيّة إما بدورها أو بوظيفتها أو بمعطى لغوي أو سردي، وفيما يأتي بيان لذلك:
1- الشخصية/البطل
لقد كان البطل لدى الإغريق يمثل صورة أنموذجية في الأفعال النبيلة المسندة إليه، ويسمى في الحرب بطلاً من يكون شجاعاً قوياً؛ وقد ارتبط مفهوم البطل بالفعل القوي الشديد، وميّز أرسطو بين البطل الدرامي والبطل التراجيدي من خلال وصف أفعاله(37). ثم أطلق مفهوم البطل في المسرح على الشخصية الرئيسة التي تظهر بكثرة وتقوم بدور مركزي(38)، وقد انتقل هذا المفهوم إلى القصة، ويقابله الشخصية الثانوية. وقد جعل توماشفسكي مفهوم البطل هو مفهوم الشخصيّة من خلال استبعاده لها من القصّة بوصفها متغيّراً؛ لكنه لايستبعدها من حيث كونها عنصراً لايتم السرد إلاّ به(39). ويلاحظ أن مفهوم البطل صار مختلفاً عن مفهوم الشخصيّة فيما بعد، بوصف البطل معطى وصفياً للشخصية؛ لكنه ليس هو الشخصيّة دائماً.
2- الشخصية/الدور
ظهرت العناية بالدور الذي تقوم به الشخصية مع بروب الذي ركز على الأفعال الذي تقوم بها الشخصية في الحكاية، وقد قَلّل من أهمية نوع الشخصية وأوصافها وأخلاقها وطبائعها، لكون هذه العناصر متغيّرة في الشخصية، أما العناصر الثابتة فهي ما تقوم به الشخصية من دور؛ لهذا فقد ربط الشخصية بالدور وبطبيعة هذا الدور، وحصر الشخصيات تبعاً للدور في سبع هي: «الشرّير، والمانح، والمساعد، والأَميرة، والمرسل، والبطل، والبطل المزيف»(40)؛ ويرى أنّ كلاً من هذه الشخصيات يمكن تعيينها من خلال الدور الذي تقوم به.
وقد أكد كلود بريمون على أهمية الدور القصصي، بوصفه يحوي قانوناً يمكن تكراره مع قصص كثيرة، ولكنه يقترح أن يجعل الشخصية تمرّ بثلاث مراحل تحوي كل مرحلة احتمالين؛ فالمرحلة الأولى هي وجود وضع «يفتح إمكانية حصول الفعل أو لا..»(41)، والمرحلة الثانية هي الانتقال من بداية الفعل لتلك الإمكانية، أما المرحلة الثالثة فهي نهاية الحدث، الذي يغلق مسار المرحلتين السابقتين بالنجاح أو بالفشل(42) ؛ وقد أورد هذه المراحل لكي يكشف عن الإمكانات التي تقوم بها الشخصية في القصة. ويلاحظ أنّ هذه المراحل تجعل الأدوار متشعبة ومتداخلة؛ ولهذا فإنه يصف الشخصية من خلال هذه المتتالية الحكائية البسيطة من الوظائف.
3- الشخصية/الفاعل
بدأ الربط بين الشخصية في العمل القصصي والفاعل في الجملة النحوية، مع الدراسات اللسانية(43)، فقد أشار رولان بارت إلى كون الشخصيّة فاعلاً في النص القصصي؛ ولهذا الفاعل وظائف يظهر من خلالها دوره في القصة كما تظهر سماته، وله أعمال تظهر بواسطتها علاقات الفاعل في ثلاثة محاور هي: «الحب، والتواصل، والمساعدة»(44)، وهذه العلاقات مرتبطة بدلالة «التواصل والرغبة والاختيار»(45). ويلاحظ أن الفاعل صفة مجردة، قد تعني الشخص، وقد تعني العامل الذي لايكون شخصاً، وقد عني بارت بالكشف عن هذه العلاقة المتداخلة، من خلال شبكة العلاقات التي تربط الفاعل بالنص، ليكشف عن عدد من الثنائيات مثل: الفاعل، والمفعول، والواهب، والموهوب، والمساعد، والمعين، والخادع، والمخدوع...إلخ(46) بوصف هذه الثنائيات أنماطاً للشخصية تقوم بعلاقات وظيفية مختلفة.
وقد اهتم جيرارجينيت بفكرة الفاعل في العمل القصصي، من حيث كونها ترتبط بفعل يُلخّص الحكاية وفق نظام مرتبط بالزمن؛ وقد جاء اهتمامه بالفاعل من خلال وقوفه على جزئيات النص القصصي من منطلق لغوي؛ ليُفرّق بين جانب الفاعل في القص، والجانب التأمّلي في الوصف، فالأول يركز على الأفعال التي تقوم بها الشخصية، ويركز الثاني على ذوات الشخصيات، ويُعدّ الفاعل أساس تغيير الأفعال، إذ بمقتضاه تنتهي القصّة ويمكن إنشاء قصة أخرى؛ نظراً لأنّ الشخصيّة ماهي إلاّ الفاعل المجرد للقصّة(47).
4- الشخصيّة/العامل
ويمثل العامل مجموعة علاقات في النص القصصي، وقد أشار غريماس إلى أن العامل هو تطوير لمفهوم الوظيفة؛ لكون العامل يتيح فرصة لجميع الإمكانات المفترضة التي يتوقع حدوثها, وتأتي الشخصيّة بوصفها عاملاً مجرداً في النص. ويمكن توضيح مفهوم العامل من خلال الشخصيات السبع التي صنفها بروب تبعاً لأدوارها، وقد جعلها غريماس في ستة أدوار(48)، من خلال ثلاثة أزواج من الأضداد الثنائية للعلاقات التي تجمع هذه الأدوار، وهي:
1- علاقة الرغبة: بين الذات والموضوع.
2- علاقة الاتصال: بين المرسل والمتلقي.
3- علاقة الإعاقة: بين المساعد والخصم.
ومن خلال هذه الأدوار نلاحظ أن ثمة ست شخصيات، فهناك شخصيّة ترغب في شيء وهي الذات، وأخرى تكون مرغوباً فيها وهي الموضوع. وثمة شخصيات أخرى تقوم بأدوار كالمرسل والمتلقي، والمساعد والخصم، وهي شبيهة بالأدوار التي أشار إليها بروب. ولكن غريماس يجعل الشخصيّة تمر بالعلاقات التي تجعلها تمثل مفهوماً مجرداً في أي حكي من خلال العامل، أما صورة الفرد الذي يقوم بالعلاقات فلا حدود لها.
5- الشخصية/المُمثّل
ظهر مفهوم الممثل من خلال المسرح؛ فقد أشار أرسطو إلى محاكاة البطل للفعل في المأساة، مبيناً العلاقة بينه وبين الفعل الذي يؤديه بوصف الممثل مجرد أداة تؤدي الشخصيّة أو تتقنَّع بها(49). فثمة تمييز بين من يظهر على خشبة المسرح وبين من يبقى غائباً عن الخشبة؛ ولكن صورته هي التي تظهر من خلال الممثل وتربطنا به.
وقد بيّن غريماس أن الذي يؤدي العامل أو العوامل ماهو إلاّ ممثلّ للعامل، وهو يرى كما سبق أن الشخصيّة هي مجموعة العوامل التي تبقى ثابتة وفق منظومة معيّنة، وهذه الشخصيّة يمكن أن يؤديها عدد لانهائي من الممثلين(50). ومن خلال إشارة غريماس إلى الممثّل، نلاحظ أنه يختلف عن مفهوم أرسطو للممثل في كونه يسعى إلى تقديم أنماط ثابتة للشخصيّة، فثمة دور وفاعل وممثل، وهو بهذا يقترب من مفهوم الممثل في المسرح؛ في حين كان أرسطو يقصر الممثل على كونه مجرّد مُؤدٍ للدور، وبالإمكان إحلال آخر محلّه، لكن دور البطل يظل قائماً. ويتفق غريماس مع أرسطو في أنّ العامل يمكن أن ينتمي إليه عدد كبير من الأشخاص، ولكن الفرق بينهما أنّ غريماس يجعل من كل شخص ممثلاً لدور معين، وليس كل الأشخاص ممثلين لدور واحد.
6- الشخصية/البنية العقلية
وقد أشار ليفي شتراوس إلى كون الشخصية -في شكلها الأسطوريي- تمثل شكلاً منتجاً في المجتمع من النماذج التي لها علاقة بالقرابة والأزياء وغيرها، فهي تمثل بنية منطقية مجردة في العقل البشري؛ فتظهر بوصفها من إنتاج العقل الجمعي، لكون مايرتبط بالشخصيّة من علاقات وسلوك اجتماعي أولغوي هو من إنتاج قوانين موحدة للنظام العقلي(51) . ويلاحظ أن هذا الربط لم يُعيّن إلا النماذج المجردة التي قد تتداخل فيما بينها، فقد تنتمي الشخصية إلى أكثر من بنية موحدة نظراً لاستبعاد شتراوس للسياق السردي الذي يُعيّن الشخصيّة؛ ونظراً لأن غاية شتراوس كانت محاولة تغطية الطرق التي يُشكل بها البشر حياتهم بربطها ببنية ثابتة؛ ولهذا فإنّ عنايته كانت منصبّة على الروابط أكثر من عنايته بمن تكون لهم تلك الروابط.
7- الشخصية/الحالة
أشار تودوروف إلى أنّ الشخصية مرتبطة بالحالة التي تمرّ بها في القصة. وتعني الحالة مرحلة حدثية تعيشها الشخصية من توازن، فقوة، ثم فقدان للتوازن، ثم قوة، إلى أن يصل إلى الحالة الخامسة، وهي التوازن(52). وقد عني بالحالة في القصة، لكونها في نظره تمثل نظاماً مكرراً في الحكايات وترتبط بها الشخصية دوماً، وتتداخل مع الحالة المماثلة لها التي ترد في الخطاب؛ بوصف الخطاب يتخذ ترتيباً مختلفاً عن ترتيب القصّة. ومن هنا فقد صارت الشخصية لديه بمثابة الحالة أو الحالات؛ ونظراً لأنه قد اتخذ من الشخصية عنصراً يصف نظام الحكي؛ فإنه لم يكشف عن سمات الشخصيّة إلا من خلال ارتباطها ببنية النص القصصي؛ فالحالة تُعبّر عن بنية القصة أكثر من تعبيرها عن الشخصيّة التي تصبح مجرد نظام يرتبط بالحدث. وتختلف الشخصية/الحالة عن مفاهيم الشخصية السابقة، في كونها تشمل العامل والوظيفة والفاعل والممثل من حيث تمثيلها لمواقع تلك المفاهيم في الحكي؛ كما أنّّها تقتصر على كونها مجرد وظيفة تركيبية يمكنها تعيين الشخصية، بوصفها موضوع القضيّة السردية، وتقوم الصفات والأفعال بدور العلاقة، ويطابق تودوروف بين الشخصية في تمثيلها للدور وبين اسم العلم في تمثيله للشخص، من حيث أن الاسم بلاقيمة ذاتيّة وإنما قيمته وصفية لتمييز هذا العلم من غيره، وكذلك الأمر في صفات الشخصية فماهي إلامؤشرات موجهة للقارىء(53).
8- الشخصيّة/العلامة
عرض فيليب هامون، مفهوم الشخصية من عدة جوانب، مؤكداً أنّ الشخصية هي إعادة بناء للنص يقوم به القاريء. ويرى أنّ الشخصيّة أشمل من كونها شخصاً إنسانياً، فقد تكون مجردة كالعقل أو المنصب أو المادة.. فكلها شخصيات غير محصورة في نظام واحد(54).
وبهذا تكون الشخصية لديه علامة ضمن نسق النص، كماهي لدى غريماس، ولكن هامون يُقسّم العلامة بوصفها نشاطاً معيناً إلى دال يشمل السمات، وإلى مدلول يتعلق بالمعنى. ويتضح المعنى من خلال علاقات التشابه والتقابل والتراتب والتوزيع التي تربطها بالشخصيات الأخرى وببقية عناصر السرد، سواء من داخل النص أم من خارجه. ويقسم الشخصيات إلى ثلاث فئات: فئة الشخصيات المرجعية، التي تمثل الشخصيات التاريخية (نابليون مثلاً) والأسطورية (فينوس، أدونيس)، والمجازية (الحب، الكراهية مثلاً) والاجتماعية (العامل، المحتال، الفارس مثلاً) وهذه الشخصيات تمثل معنى ثقافياً ثابتاً في المجتمع وله استعمالات معينة(55). ووجود هذه الشخصيات يحمل دلالة مرجعية نحو الثقافة. وهناك فئات الشخصيات الإشارية التي تدل على حضور المؤلف أو القارىء أومن ينوب عنهما في النص، كالرواة والرسام والفنان، وغير ذلك مما يصعب الإمساك به(56). والفئة الثالثة هي فئة الشخصيات الاستذكاريّة التي تعد إما جملة أوكلمة أوفقرة، تكون وظيفتها تنظيمية وترابطية، وتمثل هذه الشخصيات الاستذكارية علامة لشحذ ذاكرة القارىء، مثل الحلم والاعتراف والتمنى والتكهّن، والاستشهاد بالأسلاف، وغير ذلك من العناصر والصور التي تمثل شخصية لها ذاكرة من خلال إثارتها للقارىء(57). ويلاحظ هامون أن الفئات الثلاث قد تتداخل فيما بينها في وقت واحد، كما يلاحظ أن الفئات السابقة تنتمي إلى ثلاث علامات هي: المعادلة بالنسبة للشخصيات المرجعية، بوصفها تعادل الأنموذج المعُطى. والاستبدال بالنسبة للشخصيات الإشارية التي تعوّض عن المؤلف أو القارىء أو نوابهما. والعلامة الثالثة هي الاستذكار المرتبط باللغة(58). ويرى أن مدلول الشخصية قابل للوصف والتحليل من خلال العلامات السابقة، مميزاً بين «المعايير الكمية (تواتر معلومة تتعلق بشخصية معطاة بشكل صريح داخل النص) والمعايير الكيفية»(59) التي يمكن اكتشافها ضمناً من النص مشيراً إلى مواصفات للشخصية من خلال فعلها ونشاطها وما يمكن أن يكوّن نمطاً لغوياً يرتبط بها.
وقد حاول هيمون استيعاب الجهود السابقة التي تُقدّم الشخصيّة وأفعالها، في سبيل وصف مستويات مختلفة لتحليل الشخصية، باعتبارها مورفيماً أو علامة فارغة لاتحيل إلا على نفسها؛ ومن هنا فإنه يرى أن الشخصية تحتاج إلى بناء يملأ الفراغ من خلال وصف الوحدات التي تنتمي إليها الشخصية من عوامل أو صفات يقدمها النص.
ثالثاً: مفهوم الشخصيّة في قصص الأمثال
إنّ المفاهيم التي سبق ذكرها للشخصيّة تمثل أبرز مفاهيم الشخصية في التصورات المختلفة التي قدّمها الدرس النقدي، ويعنينا منها مفهوم الشخصية الذي سنتطرق له في قصص الأمثال، وينبغي أن نُشير هنا إلى أنّ مفهوم الشخصية في بحثنا سيتّضح بشكل أوضح من خلال البحث، ولكن ثمّة جوانب سوف نُعنى بها أكثر من غيرها بسبب اتّصالها بطبيعة مادة الدراسة، إضافة إلى أنّ الجوانب التي سنُركّز عليها في الشخصية هي ممّا يُعطينا فرصة لاستثمار الدلالات المختلفة للشخصية من خلال معطيات النصوص المختلفة.
إنّ مفهوم الشخصيّة الذي نُحاول تناوله يقتصر على شخوص القصّة المذكورين في النص صراحة دون أن يشمل الشخصيات الخيالية أوالأسطورية أوالمجازيّة أوالحيوانيّة. إضافة إلى أن الشخصيّة تشير إلى الإنسان بصرف النظر عما يرتبط به من علاقات؛ وتتناول الشخصية جانبين في الإنسان هما: الأول، السمات المظهرية التي يُصرّح بها في النص كالجنس والمكانة الاجتماعية والحالة الاجتماعية والحرفة وغير ذلك ممّا يكون سمات الشخص الفرد المذكور في القصة. أما الجانب الآخر، فهو السمات الباطنة للشخصيّة من معطيات عقلية أونفسية، سواءٌ صُرّح بها أولم يُصرّح ممّا يمكن استنباطه من النص.
ومن خلال هذا المفهوم يُلاحظ أن الفعل أوالدور أوالوظيفة التي تقوم بها الشخصيّة حينما تعزل عن الشخصية فإنّها لن تُشكل مفهوماً معيناً يكشف عن خصوصيتها، وإنما يكون إسهام هذه العناصر في الكشف ضمناً عن السمات التي تدخل في مفهوم الشخصية. وقد استبعدنا تصنيف الشخصية تبعاً لمعطيات سابقة مثل مايتعلق بشخصية المؤلف أوالراوي، أوما يتعلق بوظيفة الشخصيّة وما يتعلق بالعوامل أوالحالات؛ وأخذنا بالبحث في النص القصصي للكشف عن وجود أنماط للشخصيّة تمثل نسباً تكرارية معيّنة من عدمها. ويرى هذا البحث أن تصنيف الشخصيات وفقاً لمعطيات سابقة لايسمح بالكشف عن خصوصيتها، ولو نظرنا إلى التصنيف المسبق تبعاً للدور(الوظيفة): إلى الشرير والمانح والمعتدي وغيرها، أوتبعاً للفعل: إلى فاعل ومفعول وواهب وموهوب.. وغير ذلك؛ فإن هذا يكشف عن سمة سردية عامة، لكن الشخصية في قصة المثل تظل بعيدة عن التناول في ظل تلك المعطيات، لأنّها تبقى مجرّد أنموذج للتمثيل على مقولة معطاة. ومن هنا فقد كان مفهوم الشخصية الذي نحاول دراسته مرتبطاً بالنص مباشرة؛ ولعل الأمثلة التطبيقية تُسهم في تجسيد الطرح النظري وتبرز جوانبه، ومن تلك الأمثلة المثال الآتي:
1-1: زعموا أن رجلين من أهل هجر، أخوين، ركب أحدهما ناقة صعبة، وكانت العرب تحمّق أهل هجر، وأن الناقة ندّت، ومع الذي لم يركب منهما قوس ونبل، واسمه هُنين، فناداه الراكب منهما: ياهنين أنزلني ولو بأحد المغروّين -يعني سهميه- فرماه أخوه فصرعه فمات، فذهب قوله: ولو بأحد المغروّين مثلاً [30أ].
1- نلاحظ أن ثمة عناصر يدخلها البعض -كما سبق- في مفهوم الشخصيّة، وإذا كان لهذه العناصر علاقة بالشخصية، فإن مفهوم الشخصية يُسجّل هذه العلاقة لكنه لايَعّدها ضمن الشخصية. فهناك عناصر في النص لاتدخل ضمن مفهوم الشخصية في هذا البحث، ومن ذلك المؤلف الذي يظهر من خلال قوله «زعموا أن» وقوله «يعني سهميه» ويظهر في ذكره للمثل في آخر النص. ولكن المؤلف مستقل عن الشخصيّة، ونُسميه صوت المؤلف، ومثله صوت الراوي الذي يظهر بعد المؤلف في تقديم القصة.
2- أما الشخصية في النص السابق فتُعرف بأنها: هنين وأخوه، وهما من أهل هجر. وهذه سمات للشخص معلنة في النص، ثم إنهما أحمقان، وهذه سمة عقلية معلنة في النص، ولكننا نلاحظ كذلك سوء تقدير الفعل من خلال إنزال هنين لأخيه من على الناقة.
3- لانعدّ الناقة شخصيّة قصصية، وإنما هي عنصر مساعد مثلها مثل القوس؛ ولهذا العنصر وظيفة مرتبطة بالشخصيّة. ومن هنا فإن ثمة سمة يمكن أن تكون للشخصيّة من خلال وجود عناصر كالناقة الشرود وكالسهام في اليد؛ مما ساعد في اختيار التصّرف الخاطىء الذي وصفت الشخصية بناء عليه بالحمق؛ أو أن القصة جُلبت للبرهنة على سمة الحمق المذكورة.
4- نجد أن ثمة سمات أخرى مرتبطة بالحمق، مثل ضيق أفق الشخصيّة للبحث عن حل، واستعجالها في الرد؛ مما يكشف عن ضعف الشخصية في صراعها مع القوى الأخرى، وبهذا تتحول الشخصيّة من كونها حمقاء تتصف بالرعونة المرتبطة بسلوكها الخاطىء؛ إلى شخصيّة هي ضحيّة مفارقةٍ وليست ضحية حمق، فربما أراد هنين أن يُصيب الناقة لتكفّ عن شرودها، وهذا ما يُفهم من كلام الراكب: "أنزلني ولو بأحد المغروّين" فقد طلب من البداية إنزاله وليس تخليصه من الناقة بقتله؛ وربما نفهم أنّه لم يرد الهلاك لمّا طلب إنزاله، من فهمنا لمعنى الإنزال بأنّه مرتبط بالحياة والتكاثر أكثر من ارتباطه بمعنى الهلاك(60).
5- وهذا يجعلنا نميز بين الشخصية وسماتها المعطاة وبين الشخصية من خلال أفعالها. ومن هنا فإن البحث في الشخصيّة يستند إلى ما يُعطى في النص -كالحمق- ولكنه يحاول استقراء دلالة النص للتعريف بالشخصيّة من جهة، وتصنيفها إلى نوع أو إلى وظيفة أو إلى علاقة، من جهة أخرى. أي أن ثمة تفريقاً بين الصوت الذي يُقدّم الشخصيّة، وبين الدور المسند إليها، وبين الشخصيّة ذاتها، سواء أكانت تلك الشخصية حقيقية (تاريخيّة) أم صورة للحقيقة أي مجرد ممثل للدور؛ وسواء أصدر منها الفعل أم وقع عليها، فالتعامل يكون معها من خلال المعطيات المرتبطة بها من غير أن تلغيها تلك المعطيات وتحلّ محلها.
6- أمّا تقسيم الشخصيّة تبعاً لدورها إلى رئيسة أوثانوية أوهامشية، أو تقسيمها تبعاً لنوعها، وكذلك تبعاً لوظيفتها وعلاقاتها. فهذا تقسيم يؤكد الشخصيّة في أكثر من مجال دون أن يكون مفهوماً مستقلاً لها، ولهذا فإنّنا نلاحظ ما يرد في النص من تلك المعطيات، ونُصنّف الشخصية وفقاً له بقصد الكشف عن الترابط بين تلك السمات المختلفة للشخصية وبين ماتُفرزه الشخصية من خلال استنطاق النص.
أما ارتباط الشخصيّة بحالة الحدث أوببنية العقل الجمعي؛ فإنّنا نفيد منه في حالة ارتباط الشخصية بتكرار معيّن يشهد على نمط ثقافي تُقدمّه قصص الأمثال. وممّا يجدر ذكره أنّ الوصول إلى هذا النمط الثقافي للمجتمع يمثل دلالة الشخصية التي يهتم بها هذا البحث، فالحمق المنسوب للأخوين في النص السابق يُحيل إلى حمق أهل هجر (المزعوم) كما يُعلن ذلك النص، وهذا التصريح مأخوذ من نظرة المجتمع -كما يزعم النص- لأهل هجر؛ وفي هذا الربط محاولة لتفسير الجزء الظاهر من السلوك الذي فيه عدول عن معيار السلوك العام، وهو تفسير لايبحث في السبب وإنما ينسبه إلى فئة اجتماعية تسكن في مكان معين فتلتصق بهم هذه الصفة، وهذا أمرٌ ملاحظ في المجتمعات الحديثة أيضاً، وليس ثمّة دراسة علمية تقدم تفسيراً واضحاً لمثل هذا الربط. ولعلّ ربط الناس بين سلوك معيّن -كالحمق أو النكتة مثلاً- ببلد معيّن أو بجماعة ما يكشف عن شيوع هذه الصفة أو تلك في قطاع واسع من تلك المجتمعات، ولهذا فإنّ هذا الشيوع بحد ذاته أصبح سبباً في هذا الربط. ولكنّنا حينما ننظر في أصل هذا الربط ونسبة مصدر السلوك ربّما نجد أنّ ذلك عائد إلى الرغبة في الإيهام بواقعية القصّة، لأن ذهن المجتمع جاهز لتصديق مثل هذه النسبة(61). وبهذا فإنّ مفهوم الشخصية يتناول الدلالات الضمنية التي تُعبّر عن جزء من نظرة الثقافة العربية لبعض الشخصيات.
ونخلص بعد هذا إلى أنّ دلالة الشخصيّة تنبع من مجموعات من المعطيات التي يتعلق بعضها بطريقة التأليف، وبعضها بالوظيفة، وبعضها بالنمط، كما سيتضح ذلك من خلال دراسة الشخصية في قصص الأمثال. على أنّ قصّة المثل تمثل نوعاً من القص التراثي، وتكوّن بمجملها بنية حكائيّة، وتفضي إلى مقولة موجزة تتضمن تلخيصاً لمغزى القصة(62). وسيتّضح المراد من قصّة المثل من خلال تناول عناصرها في مجمل هذا البحث.
(15)- انظر: جان إيفان تادييه، النقد الأدبي في القرن العشرين، ترجمة قاسم المقداد، (دمشق: وزارة الثقافة، 1993)، ص191.
(16)- انظر: بونيت، الشخصية في المسرح المغربي، ص74.
(17)- Kenan, Rimmon, Narrative Fiction, P:35. (18)- انظر: بونيت، الشخصية في المسرح المغربي، ص78.
(19)- انظر: ميشال بوتور، بحوث في الرواية الجديدة، ترجمة فريد أنطونيوس، ط3، (بيروت: منشورات عويدات، 1986)، ص ص 104- 105.
(20)- انظر: تزفتان تودوروف، «اللغة والأدب»، ترجمة سعيد الغانمي، ضمن كتاب: اللغة والخطاب الأدبي، (بيروت: المركز الثقافي العربي، 1990)، ص37.
(21)- انظر: هامون، سيمولوجية الشخصيات الروائية، ص17.
(22)- Chatman,s,Story & Discourse,P:111
(23)- هنري برجسون، الضحك، ترجمة سامي الدروبي وعبدالله عبدالدائم، ط3(بيروت: دارالعلم للملايين، 1983)، ص129و130.
(24)- انظر: جورج لوكاتش، دراسات في الواقعيّة، ترجمة أميراسكندر، (القاهرة: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 1972)، ص156.
(25)-جميل صليبا، المعجم الفلسفي، (بيروت: دار الكتاب اللبناني، 1982) ج2، ص323.
(26)- مجدي وهبه وكمال المهندس، معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، ط2(بيروت: مكتبة لبنان، 1984) ص208. كما أشارعناني إلى هذا المعنى من خلال تقسيم الشخصيات ومايرتبط بها من مقولات. انظر محمد عناني، المصطلحات الأدبية الحديثة، (القاهرة: الشركة العالمية للنشر-لونجمان، 1996)، ص ص 8 -9.
(27)- صليبا، المعجم الفلسفي، 2/323
(28)- انظر: بيرسي لوبوك، صنعة الرواية، ترجمة عبدالستار جواد، (بغداد: دار الرشيد للنشر، 1981)، ص68.
(29)- فورستر، أركان الرواية، ترجمة موسى عاصي، (طرابلس لبنان: جروس برس، 1994) ص61.
(30)- وقد ناقشت كثير من الأبحاث تصنيفات الشخصية وفق هذه المعطيات الثنائية. انظر في ذلك: عبدالملك مرتاض، في نظرية الرواية، (الكويت: سلسلة عالم المعرفة، رقم 240 ديسمبر، كانون الأول، 1998) ص102.
(31)- إدوين موير، بناء الرواية، ترجمة إبراهيم الصيرفي، (القاهرة: الدار المصرية للتأليف والترجمة، د ت) ص 87.
(32)- انظر: وين بوث، بلاغة الفن القصصي، ترجمة أحمد عرادات وعلي الغامدي، (الرياض: جامعة الملك سعود، 1994) ص183.
(33)- انظر: بوث، بلاغة الفن القصصي، ص286.
(34)- انظر: بوث، بلاغة الفن القصصي، ص287.
(35)- انظر: بوث، بلاغة الفن القصصي، ص319و320. وانظر: رينيه ويليك و اوستن وارين، نظرية الأدب، ترجمة محيي الدين صبحي ط2(بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1987)، ص133.
________________________________________
دخل مفهوم الشخصية (Character) في النقد الأدبي الحديث من بوّابة علم النفس، حينما ظهرت دراسات تحاول تفسير الأدب تفسيراً نفسياً(15).
وهناك من يرى أن الاهتمام بالشخصية ظهر مع أرسطو، حينما علّق أهمية على الفاعل بأن يُنظر إليه وهو يفعل أو يتكلم(16)، وقد اهتمت كثير من الأعمال بالشخصية في المسرح، إلاّ أن دراسة الشخصية بوصفها عنصراً في العمل القصصي لم تنل العناية المطلوبة إلى هذا العصر(17)، وسنحاول فيما يأتي، استعراض الجهود المقدمة حول الشخصيّة التي ظهرت منذ القرن التاسع عشر، حينما عُني بالشخصية التي لها أهمية في استقطاب الحدث ودلالته وتسمى البطل النقيض أو اللابطل، وهو مختلف عن البطل القديم الذي تدور حوله حوادث القصة جميعاً، وقد طُورّت صورة اللابطل في المسرح، في خمسينات القرن العشرين، ولكن هذه الجهود ظلت على مستوى العمل المسرحي دون التنظير أو الدراسة، وقد أشارت ناتالي ساروت بأن الشخصية فقدت -في عصر الشك- كثيراً من سماتها(18)، كما نص ميشيل بوتور على تطوّر الشخصية في العمل الأدبي(19)، وقد لاحظ تودوروف أن مقولة الشخصية من أكثر المقولات غموضاً، وأشار إلى قلة الاهتمام بدراستها(20)، كماعرض فيليب هامون دراسة عن سيميولوجية الشخصية، كاشفاً عن أنماط مختلفة من الشخصيات القصصية(21)، وقد أشار فرانسو راستييه وغيره إلى أن مفهوم الشخصية لا يزال مقصوراً على جانب معين منها وهو جانب الشخص الإنسان، فقد كانت الدراسات السابقة تجعل مفهوم الشخصية مرادفاً لمفهوم الشخص(22)، وقد ارتبط هذا الفهم بالأعمال الإبداعية التي تجعل أفعال الشخصيّة في النص ماهي إلا صورة معطاة سلفاً تحمل قيماً وإسقاطات. ومع الواقعية، منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، ركّزت الأعمال الإبداعية على الشخصيّة، باعتبارها فاعلاً في الحكاية، وأصبحت الشخصية حصيلة معطيات كثيرة وعلاقات متشابكة في النص. وبذلك يمكن الإشارة إلى أن مفهوم الشخصية، بوصفها صيغة وجود معينة لشخص ما؛ وقد تبلور ذلك المفهوم من خلال الأعمال الإبداعية دون الدراسات التنظيرية.
وهناك من ربط الشخصيّة بكاتب النص، لتكون الشخصية هي «الكاتب الذي ظل في بعض تجربته في حال كمون»(23)، وكأن الشخصية القصصية إسقاط لشخصية الكاتب، وهو ما اهتمّ به التحليل النفسي للأدب. وهناك من ربط الشخصية بالواقع، لكي تمثل نماذج اجتماعية معينة، وبذلك تكتسب الشخصية أصالتها(24). وربط الشخصية بكاتب النص أو بالواقع يجعل الشخصية معطى خارجياً، يمثله الإنسان سواء أكان هو الكاتب، أم كان أنموذجاً واقعياً، ومن هنا فإن مفهوم الشخصية كان متّصلاً بالإنسان الشخص.
وتُعيّن بعض المعاجم الحديثة عدة استعمالات للشخصية منها:
- «الفرد المتمتع بحظوة اجتماعية بارزة».(25)
- «الفرد التاريخي أو الخيالي في الأعمال الفنية، أو الدور الذي يؤديه المؤدي»(26).
- «الفرد الذي يسلك سلوك غيره في مقام السخرية»(27).
وتبين هذه الاستعمالات معنى الشخصية، من حيث كونها شخصاً، يقوم بدور معين في العمل الخيالي (القصصي)، ونلاحظ أنّ ثمة ثلاثة عناصر في هذا التعريف تشترك في إبراز مفهوم الشخصية هي:
- الشخص، وهو الفرد الذي يُسند إليه الدور.
- الدور، وهو الوظيفة التي يقوم بها الشخص.
- الشخصية، وهي مجموع العلاقات بين الشخص والدور الذي يقوم به، مضاف إليهما ما يرتبط بهذه العلاقة من مكونات فطرية أو مكتسبة. ومعنى هذا أن الشخصية صيغة وجود قائمة على شبكة من العلاقات المتداخلة فيما بينها، ولا تدرك الشخصية إلا من خلال إدراك هذه الشبكة مجتمعة. وسوف نحاول فيما يأتي استعراض آراء بعض الدارسين المعنيين بالشخصيّة القصصيّة.
فقد أشار بيرسي لوبوك إلى الشخصية حينما تحدث عن الطرق التي صاغ بها فلوبير شخصية مدام بوفاري في روايته المسماة باسم الشخصية، وطرق روايته للأحداث المرتبطة بها، وقد أشار إلى ارتباط الشخصيّة بعناصر مختلفة منها مايتعلق بقدرات البطل التي تؤهله للدور، ومنها مايسنده المؤلف لهذا البطل لكي يكون بالكيفية التي ظهر بها. ويلاحظ لوبوك أنه لايمكن لأي شخصية أخرى الحلول محل مدام بوفاري؛ ومع أن لوبوك لم يُحلّل الشخصيّة بما يكشف عن مفهومها لديه إلاّ أنه يعدها عنصراً رئيساً في العمل القصصي، وأن الأحداث هي التي ترتبط بالشخصية وتدور حولها؛ ممّا يجعلنا نفهم الشخصيّة من خلال أفكارها المعبّر عنها بالألفاظ والأفعال(28).
ويحاول فورستر تفسير الشخصية من خلال النظر إليها في النص من جهة، ومن خلال علاقتها بالمؤلف، بوصفه يشترك مع الشخصية بكونه كائناً بشرياً، من جهة أخرى؛ ويرى أن الشخصية القصصية ليست مماثلة لماهو في الواقع فحسب ولكنها ينبغي أن تكون مطابقة له. ويشير إلى أن معرفة المؤلف بشخصياته هي على وجه التقريب؛ ولهذا فربما يفهم القارىء عنها أكثر مما يفهمه المؤلف. ويُسجل ملاحظة بشأن العلاقات التي ترتبط بها الشخصيات في القصة، مؤكداً أنها علاقات مؤقته غالباً، وإذا وجدت علاقات دائمة فإنما تمثل عادات هي من إفراز المجتمع؛ ويخلص إلى تقسيم الشخصيّة إلى نوعين، فهي إما مسطّحة وإما مغلقة، ويقصد بالشخصيّة المسطّحة مايعرف بالشخصية الهزلية أو الكاريكاتير، وهي تمثل الأنموذج الذي لايكاد يتغيّر ولاتتبدل سماته طوال النص، فيظل محافظاً على ثباته دون أن يتأثر بالمتغيرات، وفي الوقت نفسه ليس له أثر يذكر مهما تغيّرت الظروف المحيطة به؛ ويرى أن هذه الشخصيّة المسطّحة هي التي يتذكرها القارىء بسهولة، ولاتحتاج من المؤلف إلى إعادة تقديم؛ لكونها لاتتطوّر عمّا كانت عليه. أما الشخصية المغلقة، فهي مركّبة من مجموعة من السمات التي تبدو غير منسجمة، ولاتستقر هذه الشخصية على حال واحدة، ويصعب التنبؤ بمصيرها، فهي تدهش القارىء بمالم يتوقّعه، ثم إنّها مع هذا الإدهاش تقنعه بواقعية ما تفعل، ولها تأثير على الأحداث والشخصيات الأخرى بسبب تطورها الدائم؛ ويرى أن ذلك نابع من تعدُّديّة هذه الشخصية في الحياة داخل النص(29). ويؤكد فورستر أنه يمكن تصنيف القصص تبعاً لهذين النوعين؛ مشيراً إلى جهد المؤلف في تقديم كل نوع. ويلاحظ أن هذا التقسيم للشخصيّة يعتمد على الدور الذي تقوم به مربوطاً بالإقناع والإدهاش، فإن حصل هذا الأثر فهي مغلقة، أما إذا لم تؤثر فهي مسطّحة. ولكننا نجد أنّ تعيين أثر الشخصيّة على القارىء يصعب قياسه والتحقق منه، ولهذا ُإنّ هذا الأثر يبقى خاضعاً للانطباع؛ ومن هنا فلعلّ ربط نوع الشخصية بالأفعال التي تقوم بها يثري هذا التمييز الذي قال به فورستر في كونه أساساً لتصنيفات لاحقة للشخصيّة من حيث ثباتها من عدمه، أوركودها وتطورها، أوإيجابيتها وسلبيتها؛ وغير ذلك من الأقسام التي يمكن وصف سلوك الشخصية بها(30).
وحاول إدوين موير وصف الشخصية من خلال ماتمثله من عالم قصصي، منتقداً آراء فورستر، ولوبوك بشأن وجود نمط ثابت للشخصية، ويرى أن الشخصية لايمكن الغض من شأنها بتصنيفها في نماذج، لكون الشخصية كالحياة فهي مليئة بالعناصر التي تستعصي على الحصر والتوقّع، فثمّة شخصية تتمحور حولها الأحداث وتتوافر في رواية الشخصية، وقد تكون الشخصية عنصراً في الحدث كما في الرواية التسجيلية والدرامية(31).
أمّا وين بوث، فقد أَشار إلى الشخصيّة في أكثر من موضع في كتابه "بلاغة الفن القصصي" وقد لاحظ أنّ تطوّر الشخصيّة أَو انحطاطها مرتبط بصيغة الرواية التي تعرض الشخصيّة، وتكشف عن تحوّلها من شكل إلى آخر(32)؛ كما أشار إلى تأثير الشخصية القصصية في القارىء، من حيث تفاعل القارىء معها أو تعاطفه وتقييمه لها؛ ويرى أن هذا التأثير ربما لايكون له علاقة بالسمات المكشوفة للشخصية، ولكنه راجع للصفات المخفيّة منها(33)؛ ويُقارن بين الأبطال الهزليين الذين يؤثرون في القارىء، مُبيّناً أن ذلك راجع إلى طبيعة الفعل الذي تقوم به الشخصيّة، ويرى أن الأخطاء التي يرتكبونها تظهر من خلال المبالغة في الفضيلة(34). وقد نظر بوث إلى الشخصية من زاوية علاقتها بالقارىء من جهة، وبالمؤلف من جهة أخرى؛ ويربطها بالقارىء من حيث تعاطفه معها أو تقديره لها بأنها جذابة أو مخيفة أو مضحكة..إلخ، أي أن الشخصيّة تظهر للقارىء من خلال الأفعال والكلام والأدوار التي تؤديها، فهذه هي التي تعطينا المفاتيح لحقيقة الشخصيّة(35). أَمّا المؤلّف، فترتبط به من خلال وجهة النظر التي يصوغ الشخصية وفقاً لها(36) وقدرته على مسرحة الشخصية أو عرضها من خلال صوته أو صوت الراوي؛ ويؤكد على أن إبراز الشخصيّة يحصل من خلال وجهة النظر التي تُقدّم لنا من خلالها الشخصيّة. وقد اقتصر بوث على هذه الإشارات التي تُعدّ مهمّة في سياق العلاقات التي ترتبط بالشخصيّة من خارج النص التي يمكن أن تُعيّن القيمة الدلالية للشخصيّة من خلال كونها الإنسان أو صورته داخل النص، عن طريق سماتها التي يدركها القارىء.
هذا بالنسبة للجهود التي تناولت الشخصيّة بشكل عام وقد أثمرت عن فهم معين للشخصيّة في العمل القصصي؛ أما الدراسات التي لها اتصال مباشر بالشخصيّة فسوف نحاول استعراضها مركّزين على مفهوم الشخصيّة فيها، ذلك المفهوم الذي تطوّر من ربط الشخصية بالشخص إلى ربط الشخصيّة إما بدورها أو بوظيفتها أو بمعطى لغوي أو سردي، وفيما يأتي بيان لذلك:
1- الشخصية/البطل
لقد كان البطل لدى الإغريق يمثل صورة أنموذجية في الأفعال النبيلة المسندة إليه، ويسمى في الحرب بطلاً من يكون شجاعاً قوياً؛ وقد ارتبط مفهوم البطل بالفعل القوي الشديد، وميّز أرسطو بين البطل الدرامي والبطل التراجيدي من خلال وصف أفعاله(37). ثم أطلق مفهوم البطل في المسرح على الشخصية الرئيسة التي تظهر بكثرة وتقوم بدور مركزي(38)، وقد انتقل هذا المفهوم إلى القصة، ويقابله الشخصية الثانوية. وقد جعل توماشفسكي مفهوم البطل هو مفهوم الشخصيّة من خلال استبعاده لها من القصّة بوصفها متغيّراً؛ لكنه لايستبعدها من حيث كونها عنصراً لايتم السرد إلاّ به(39). ويلاحظ أن مفهوم البطل صار مختلفاً عن مفهوم الشخصيّة فيما بعد، بوصف البطل معطى وصفياً للشخصية؛ لكنه ليس هو الشخصيّة دائماً.
2- الشخصية/الدور
ظهرت العناية بالدور الذي تقوم به الشخصية مع بروب الذي ركز على الأفعال الذي تقوم بها الشخصية في الحكاية، وقد قَلّل من أهمية نوع الشخصية وأوصافها وأخلاقها وطبائعها، لكون هذه العناصر متغيّرة في الشخصية، أما العناصر الثابتة فهي ما تقوم به الشخصية من دور؛ لهذا فقد ربط الشخصية بالدور وبطبيعة هذا الدور، وحصر الشخصيات تبعاً للدور في سبع هي: «الشرّير، والمانح، والمساعد، والأَميرة، والمرسل، والبطل، والبطل المزيف»(40)؛ ويرى أنّ كلاً من هذه الشخصيات يمكن تعيينها من خلال الدور الذي تقوم به.
وقد أكد كلود بريمون على أهمية الدور القصصي، بوصفه يحوي قانوناً يمكن تكراره مع قصص كثيرة، ولكنه يقترح أن يجعل الشخصية تمرّ بثلاث مراحل تحوي كل مرحلة احتمالين؛ فالمرحلة الأولى هي وجود وضع «يفتح إمكانية حصول الفعل أو لا..»(41)، والمرحلة الثانية هي الانتقال من بداية الفعل لتلك الإمكانية، أما المرحلة الثالثة فهي نهاية الحدث، الذي يغلق مسار المرحلتين السابقتين بالنجاح أو بالفشل(42) ؛ وقد أورد هذه المراحل لكي يكشف عن الإمكانات التي تقوم بها الشخصية في القصة. ويلاحظ أنّ هذه المراحل تجعل الأدوار متشعبة ومتداخلة؛ ولهذا فإنه يصف الشخصية من خلال هذه المتتالية الحكائية البسيطة من الوظائف.
3- الشخصية/الفاعل
بدأ الربط بين الشخصية في العمل القصصي والفاعل في الجملة النحوية، مع الدراسات اللسانية(43)، فقد أشار رولان بارت إلى كون الشخصيّة فاعلاً في النص القصصي؛ ولهذا الفاعل وظائف يظهر من خلالها دوره في القصة كما تظهر سماته، وله أعمال تظهر بواسطتها علاقات الفاعل في ثلاثة محاور هي: «الحب، والتواصل، والمساعدة»(44)، وهذه العلاقات مرتبطة بدلالة «التواصل والرغبة والاختيار»(45). ويلاحظ أن الفاعل صفة مجردة، قد تعني الشخص، وقد تعني العامل الذي لايكون شخصاً، وقد عني بارت بالكشف عن هذه العلاقة المتداخلة، من خلال شبكة العلاقات التي تربط الفاعل بالنص، ليكشف عن عدد من الثنائيات مثل: الفاعل، والمفعول، والواهب، والموهوب، والمساعد، والمعين، والخادع، والمخدوع...إلخ(46) بوصف هذه الثنائيات أنماطاً للشخصية تقوم بعلاقات وظيفية مختلفة.
وقد اهتم جيرارجينيت بفكرة الفاعل في العمل القصصي، من حيث كونها ترتبط بفعل يُلخّص الحكاية وفق نظام مرتبط بالزمن؛ وقد جاء اهتمامه بالفاعل من خلال وقوفه على جزئيات النص القصصي من منطلق لغوي؛ ليُفرّق بين جانب الفاعل في القص، والجانب التأمّلي في الوصف، فالأول يركز على الأفعال التي تقوم بها الشخصية، ويركز الثاني على ذوات الشخصيات، ويُعدّ الفاعل أساس تغيير الأفعال، إذ بمقتضاه تنتهي القصّة ويمكن إنشاء قصة أخرى؛ نظراً لأنّ الشخصيّة ماهي إلاّ الفاعل المجرد للقصّة(47).
4- الشخصيّة/العامل
ويمثل العامل مجموعة علاقات في النص القصصي، وقد أشار غريماس إلى أن العامل هو تطوير لمفهوم الوظيفة؛ لكون العامل يتيح فرصة لجميع الإمكانات المفترضة التي يتوقع حدوثها, وتأتي الشخصيّة بوصفها عاملاً مجرداً في النص. ويمكن توضيح مفهوم العامل من خلال الشخصيات السبع التي صنفها بروب تبعاً لأدوارها، وقد جعلها غريماس في ستة أدوار(48)، من خلال ثلاثة أزواج من الأضداد الثنائية للعلاقات التي تجمع هذه الأدوار، وهي:
1- علاقة الرغبة: بين الذات والموضوع.
2- علاقة الاتصال: بين المرسل والمتلقي.
3- علاقة الإعاقة: بين المساعد والخصم.
ومن خلال هذه الأدوار نلاحظ أن ثمة ست شخصيات، فهناك شخصيّة ترغب في شيء وهي الذات، وأخرى تكون مرغوباً فيها وهي الموضوع. وثمة شخصيات أخرى تقوم بأدوار كالمرسل والمتلقي، والمساعد والخصم، وهي شبيهة بالأدوار التي أشار إليها بروب. ولكن غريماس يجعل الشخصيّة تمر بالعلاقات التي تجعلها تمثل مفهوماً مجرداً في أي حكي من خلال العامل، أما صورة الفرد الذي يقوم بالعلاقات فلا حدود لها.
5- الشخصية/المُمثّل
ظهر مفهوم الممثل من خلال المسرح؛ فقد أشار أرسطو إلى محاكاة البطل للفعل في المأساة، مبيناً العلاقة بينه وبين الفعل الذي يؤديه بوصف الممثل مجرد أداة تؤدي الشخصيّة أو تتقنَّع بها(49). فثمة تمييز بين من يظهر على خشبة المسرح وبين من يبقى غائباً عن الخشبة؛ ولكن صورته هي التي تظهر من خلال الممثل وتربطنا به.
وقد بيّن غريماس أن الذي يؤدي العامل أو العوامل ماهو إلاّ ممثلّ للعامل، وهو يرى كما سبق أن الشخصيّة هي مجموعة العوامل التي تبقى ثابتة وفق منظومة معيّنة، وهذه الشخصيّة يمكن أن يؤديها عدد لانهائي من الممثلين(50). ومن خلال إشارة غريماس إلى الممثّل، نلاحظ أنه يختلف عن مفهوم أرسطو للممثل في كونه يسعى إلى تقديم أنماط ثابتة للشخصيّة، فثمة دور وفاعل وممثل، وهو بهذا يقترب من مفهوم الممثل في المسرح؛ في حين كان أرسطو يقصر الممثل على كونه مجرّد مُؤدٍ للدور، وبالإمكان إحلال آخر محلّه، لكن دور البطل يظل قائماً. ويتفق غريماس مع أرسطو في أنّ العامل يمكن أن ينتمي إليه عدد كبير من الأشخاص، ولكن الفرق بينهما أنّ غريماس يجعل من كل شخص ممثلاً لدور معين، وليس كل الأشخاص ممثلين لدور واحد.
6- الشخصية/البنية العقلية
وقد أشار ليفي شتراوس إلى كون الشخصية -في شكلها الأسطوريي- تمثل شكلاً منتجاً في المجتمع من النماذج التي لها علاقة بالقرابة والأزياء وغيرها، فهي تمثل بنية منطقية مجردة في العقل البشري؛ فتظهر بوصفها من إنتاج العقل الجمعي، لكون مايرتبط بالشخصيّة من علاقات وسلوك اجتماعي أولغوي هو من إنتاج قوانين موحدة للنظام العقلي(51) . ويلاحظ أن هذا الربط لم يُعيّن إلا النماذج المجردة التي قد تتداخل فيما بينها، فقد تنتمي الشخصية إلى أكثر من بنية موحدة نظراً لاستبعاد شتراوس للسياق السردي الذي يُعيّن الشخصيّة؛ ونظراً لأن غاية شتراوس كانت محاولة تغطية الطرق التي يُشكل بها البشر حياتهم بربطها ببنية ثابتة؛ ولهذا فإنّ عنايته كانت منصبّة على الروابط أكثر من عنايته بمن تكون لهم تلك الروابط.
7- الشخصية/الحالة
أشار تودوروف إلى أنّ الشخصية مرتبطة بالحالة التي تمرّ بها في القصة. وتعني الحالة مرحلة حدثية تعيشها الشخصية من توازن، فقوة، ثم فقدان للتوازن، ثم قوة، إلى أن يصل إلى الحالة الخامسة، وهي التوازن(52). وقد عني بالحالة في القصة، لكونها في نظره تمثل نظاماً مكرراً في الحكايات وترتبط بها الشخصية دوماً، وتتداخل مع الحالة المماثلة لها التي ترد في الخطاب؛ بوصف الخطاب يتخذ ترتيباً مختلفاً عن ترتيب القصّة. ومن هنا فقد صارت الشخصية لديه بمثابة الحالة أو الحالات؛ ونظراً لأنه قد اتخذ من الشخصية عنصراً يصف نظام الحكي؛ فإنه لم يكشف عن سمات الشخصيّة إلا من خلال ارتباطها ببنية النص القصصي؛ فالحالة تُعبّر عن بنية القصة أكثر من تعبيرها عن الشخصيّة التي تصبح مجرد نظام يرتبط بالحدث. وتختلف الشخصية/الحالة عن مفاهيم الشخصية السابقة، في كونها تشمل العامل والوظيفة والفاعل والممثل من حيث تمثيلها لمواقع تلك المفاهيم في الحكي؛ كما أنّّها تقتصر على كونها مجرد وظيفة تركيبية يمكنها تعيين الشخصية، بوصفها موضوع القضيّة السردية، وتقوم الصفات والأفعال بدور العلاقة، ويطابق تودوروف بين الشخصية في تمثيلها للدور وبين اسم العلم في تمثيله للشخص، من حيث أن الاسم بلاقيمة ذاتيّة وإنما قيمته وصفية لتمييز هذا العلم من غيره، وكذلك الأمر في صفات الشخصية فماهي إلامؤشرات موجهة للقارىء(53).
8- الشخصيّة/العلامة
عرض فيليب هامون، مفهوم الشخصية من عدة جوانب، مؤكداً أنّ الشخصية هي إعادة بناء للنص يقوم به القاريء. ويرى أنّ الشخصيّة أشمل من كونها شخصاً إنسانياً، فقد تكون مجردة كالعقل أو المنصب أو المادة.. فكلها شخصيات غير محصورة في نظام واحد(54).
وبهذا تكون الشخصية لديه علامة ضمن نسق النص، كماهي لدى غريماس، ولكن هامون يُقسّم العلامة بوصفها نشاطاً معيناً إلى دال يشمل السمات، وإلى مدلول يتعلق بالمعنى. ويتضح المعنى من خلال علاقات التشابه والتقابل والتراتب والتوزيع التي تربطها بالشخصيات الأخرى وببقية عناصر السرد، سواء من داخل النص أم من خارجه. ويقسم الشخصيات إلى ثلاث فئات: فئة الشخصيات المرجعية، التي تمثل الشخصيات التاريخية (نابليون مثلاً) والأسطورية (فينوس، أدونيس)، والمجازية (الحب، الكراهية مثلاً) والاجتماعية (العامل، المحتال، الفارس مثلاً) وهذه الشخصيات تمثل معنى ثقافياً ثابتاً في المجتمع وله استعمالات معينة(55). ووجود هذه الشخصيات يحمل دلالة مرجعية نحو الثقافة. وهناك فئات الشخصيات الإشارية التي تدل على حضور المؤلف أو القارىء أومن ينوب عنهما في النص، كالرواة والرسام والفنان، وغير ذلك مما يصعب الإمساك به(56). والفئة الثالثة هي فئة الشخصيات الاستذكاريّة التي تعد إما جملة أوكلمة أوفقرة، تكون وظيفتها تنظيمية وترابطية، وتمثل هذه الشخصيات الاستذكارية علامة لشحذ ذاكرة القارىء، مثل الحلم والاعتراف والتمنى والتكهّن، والاستشهاد بالأسلاف، وغير ذلك من العناصر والصور التي تمثل شخصية لها ذاكرة من خلال إثارتها للقارىء(57). ويلاحظ هامون أن الفئات الثلاث قد تتداخل فيما بينها في وقت واحد، كما يلاحظ أن الفئات السابقة تنتمي إلى ثلاث علامات هي: المعادلة بالنسبة للشخصيات المرجعية، بوصفها تعادل الأنموذج المعُطى. والاستبدال بالنسبة للشخصيات الإشارية التي تعوّض عن المؤلف أو القارىء أو نوابهما. والعلامة الثالثة هي الاستذكار المرتبط باللغة(58). ويرى أن مدلول الشخصية قابل للوصف والتحليل من خلال العلامات السابقة، مميزاً بين «المعايير الكمية (تواتر معلومة تتعلق بشخصية معطاة بشكل صريح داخل النص) والمعايير الكيفية»(59) التي يمكن اكتشافها ضمناً من النص مشيراً إلى مواصفات للشخصية من خلال فعلها ونشاطها وما يمكن أن يكوّن نمطاً لغوياً يرتبط بها.
وقد حاول هيمون استيعاب الجهود السابقة التي تُقدّم الشخصيّة وأفعالها، في سبيل وصف مستويات مختلفة لتحليل الشخصية، باعتبارها مورفيماً أو علامة فارغة لاتحيل إلا على نفسها؛ ومن هنا فإنه يرى أن الشخصية تحتاج إلى بناء يملأ الفراغ من خلال وصف الوحدات التي تنتمي إليها الشخصية من عوامل أو صفات يقدمها النص.
ثالثاً: مفهوم الشخصيّة في قصص الأمثال
إنّ المفاهيم التي سبق ذكرها للشخصيّة تمثل أبرز مفاهيم الشخصية في التصورات المختلفة التي قدّمها الدرس النقدي، ويعنينا منها مفهوم الشخصية الذي سنتطرق له في قصص الأمثال، وينبغي أن نُشير هنا إلى أنّ مفهوم الشخصية في بحثنا سيتّضح بشكل أوضح من خلال البحث، ولكن ثمّة جوانب سوف نُعنى بها أكثر من غيرها بسبب اتّصالها بطبيعة مادة الدراسة، إضافة إلى أنّ الجوانب التي سنُركّز عليها في الشخصية هي ممّا يُعطينا فرصة لاستثمار الدلالات المختلفة للشخصية من خلال معطيات النصوص المختلفة.
إنّ مفهوم الشخصيّة الذي نُحاول تناوله يقتصر على شخوص القصّة المذكورين في النص صراحة دون أن يشمل الشخصيات الخيالية أوالأسطورية أوالمجازيّة أوالحيوانيّة. إضافة إلى أن الشخصيّة تشير إلى الإنسان بصرف النظر عما يرتبط به من علاقات؛ وتتناول الشخصية جانبين في الإنسان هما: الأول، السمات المظهرية التي يُصرّح بها في النص كالجنس والمكانة الاجتماعية والحالة الاجتماعية والحرفة وغير ذلك ممّا يكون سمات الشخص الفرد المذكور في القصة. أما الجانب الآخر، فهو السمات الباطنة للشخصيّة من معطيات عقلية أونفسية، سواءٌ صُرّح بها أولم يُصرّح ممّا يمكن استنباطه من النص.
ومن خلال هذا المفهوم يُلاحظ أن الفعل أوالدور أوالوظيفة التي تقوم بها الشخصيّة حينما تعزل عن الشخصية فإنّها لن تُشكل مفهوماً معيناً يكشف عن خصوصيتها، وإنما يكون إسهام هذه العناصر في الكشف ضمناً عن السمات التي تدخل في مفهوم الشخصية. وقد استبعدنا تصنيف الشخصية تبعاً لمعطيات سابقة مثل مايتعلق بشخصية المؤلف أوالراوي، أوما يتعلق بوظيفة الشخصيّة وما يتعلق بالعوامل أوالحالات؛ وأخذنا بالبحث في النص القصصي للكشف عن وجود أنماط للشخصيّة تمثل نسباً تكرارية معيّنة من عدمها. ويرى هذا البحث أن تصنيف الشخصيات وفقاً لمعطيات سابقة لايسمح بالكشف عن خصوصيتها، ولو نظرنا إلى التصنيف المسبق تبعاً للدور(الوظيفة): إلى الشرير والمانح والمعتدي وغيرها، أوتبعاً للفعل: إلى فاعل ومفعول وواهب وموهوب.. وغير ذلك؛ فإن هذا يكشف عن سمة سردية عامة، لكن الشخصية في قصة المثل تظل بعيدة عن التناول في ظل تلك المعطيات، لأنّها تبقى مجرّد أنموذج للتمثيل على مقولة معطاة. ومن هنا فقد كان مفهوم الشخصية الذي نحاول دراسته مرتبطاً بالنص مباشرة؛ ولعل الأمثلة التطبيقية تُسهم في تجسيد الطرح النظري وتبرز جوانبه، ومن تلك الأمثلة المثال الآتي:
1-1: زعموا أن رجلين من أهل هجر، أخوين، ركب أحدهما ناقة صعبة، وكانت العرب تحمّق أهل هجر، وأن الناقة ندّت، ومع الذي لم يركب منهما قوس ونبل، واسمه هُنين، فناداه الراكب منهما: ياهنين أنزلني ولو بأحد المغروّين -يعني سهميه- فرماه أخوه فصرعه فمات، فذهب قوله: ولو بأحد المغروّين مثلاً [30أ].
1- نلاحظ أن ثمة عناصر يدخلها البعض -كما سبق- في مفهوم الشخصيّة، وإذا كان لهذه العناصر علاقة بالشخصية، فإن مفهوم الشخصية يُسجّل هذه العلاقة لكنه لايَعّدها ضمن الشخصية. فهناك عناصر في النص لاتدخل ضمن مفهوم الشخصية في هذا البحث، ومن ذلك المؤلف الذي يظهر من خلال قوله «زعموا أن» وقوله «يعني سهميه» ويظهر في ذكره للمثل في آخر النص. ولكن المؤلف مستقل عن الشخصيّة، ونُسميه صوت المؤلف، ومثله صوت الراوي الذي يظهر بعد المؤلف في تقديم القصة.
2- أما الشخصية في النص السابق فتُعرف بأنها: هنين وأخوه، وهما من أهل هجر. وهذه سمات للشخص معلنة في النص، ثم إنهما أحمقان، وهذه سمة عقلية معلنة في النص، ولكننا نلاحظ كذلك سوء تقدير الفعل من خلال إنزال هنين لأخيه من على الناقة.
3- لانعدّ الناقة شخصيّة قصصية، وإنما هي عنصر مساعد مثلها مثل القوس؛ ولهذا العنصر وظيفة مرتبطة بالشخصيّة. ومن هنا فإن ثمة سمة يمكن أن تكون للشخصيّة من خلال وجود عناصر كالناقة الشرود وكالسهام في اليد؛ مما ساعد في اختيار التصّرف الخاطىء الذي وصفت الشخصية بناء عليه بالحمق؛ أو أن القصة جُلبت للبرهنة على سمة الحمق المذكورة.
4- نجد أن ثمة سمات أخرى مرتبطة بالحمق، مثل ضيق أفق الشخصيّة للبحث عن حل، واستعجالها في الرد؛ مما يكشف عن ضعف الشخصية في صراعها مع القوى الأخرى، وبهذا تتحول الشخصيّة من كونها حمقاء تتصف بالرعونة المرتبطة بسلوكها الخاطىء؛ إلى شخصيّة هي ضحيّة مفارقةٍ وليست ضحية حمق، فربما أراد هنين أن يُصيب الناقة لتكفّ عن شرودها، وهذا ما يُفهم من كلام الراكب: "أنزلني ولو بأحد المغروّين" فقد طلب من البداية إنزاله وليس تخليصه من الناقة بقتله؛ وربما نفهم أنّه لم يرد الهلاك لمّا طلب إنزاله، من فهمنا لمعنى الإنزال بأنّه مرتبط بالحياة والتكاثر أكثر من ارتباطه بمعنى الهلاك(60).
5- وهذا يجعلنا نميز بين الشخصية وسماتها المعطاة وبين الشخصية من خلال أفعالها. ومن هنا فإن البحث في الشخصيّة يستند إلى ما يُعطى في النص -كالحمق- ولكنه يحاول استقراء دلالة النص للتعريف بالشخصيّة من جهة، وتصنيفها إلى نوع أو إلى وظيفة أو إلى علاقة، من جهة أخرى. أي أن ثمة تفريقاً بين الصوت الذي يُقدّم الشخصيّة، وبين الدور المسند إليها، وبين الشخصيّة ذاتها، سواء أكانت تلك الشخصية حقيقية (تاريخيّة) أم صورة للحقيقة أي مجرد ممثل للدور؛ وسواء أصدر منها الفعل أم وقع عليها، فالتعامل يكون معها من خلال المعطيات المرتبطة بها من غير أن تلغيها تلك المعطيات وتحلّ محلها.
6- أمّا تقسيم الشخصيّة تبعاً لدورها إلى رئيسة أوثانوية أوهامشية، أو تقسيمها تبعاً لنوعها، وكذلك تبعاً لوظيفتها وعلاقاتها. فهذا تقسيم يؤكد الشخصيّة في أكثر من مجال دون أن يكون مفهوماً مستقلاً لها، ولهذا فإنّنا نلاحظ ما يرد في النص من تلك المعطيات، ونُصنّف الشخصية وفقاً له بقصد الكشف عن الترابط بين تلك السمات المختلفة للشخصية وبين ماتُفرزه الشخصية من خلال استنطاق النص.
أما ارتباط الشخصيّة بحالة الحدث أوببنية العقل الجمعي؛ فإنّنا نفيد منه في حالة ارتباط الشخصية بتكرار معيّن يشهد على نمط ثقافي تُقدمّه قصص الأمثال. وممّا يجدر ذكره أنّ الوصول إلى هذا النمط الثقافي للمجتمع يمثل دلالة الشخصية التي يهتم بها هذا البحث، فالحمق المنسوب للأخوين في النص السابق يُحيل إلى حمق أهل هجر (المزعوم) كما يُعلن ذلك النص، وهذا التصريح مأخوذ من نظرة المجتمع -كما يزعم النص- لأهل هجر؛ وفي هذا الربط محاولة لتفسير الجزء الظاهر من السلوك الذي فيه عدول عن معيار السلوك العام، وهو تفسير لايبحث في السبب وإنما ينسبه إلى فئة اجتماعية تسكن في مكان معين فتلتصق بهم هذه الصفة، وهذا أمرٌ ملاحظ في المجتمعات الحديثة أيضاً، وليس ثمّة دراسة علمية تقدم تفسيراً واضحاً لمثل هذا الربط. ولعلّ ربط الناس بين سلوك معيّن -كالحمق أو النكتة مثلاً- ببلد معيّن أو بجماعة ما يكشف عن شيوع هذه الصفة أو تلك في قطاع واسع من تلك المجتمعات، ولهذا فإنّ هذا الشيوع بحد ذاته أصبح سبباً في هذا الربط. ولكنّنا حينما ننظر في أصل هذا الربط ونسبة مصدر السلوك ربّما نجد أنّ ذلك عائد إلى الرغبة في الإيهام بواقعية القصّة، لأن ذهن المجتمع جاهز لتصديق مثل هذه النسبة(61). وبهذا فإنّ مفهوم الشخصية يتناول الدلالات الضمنية التي تُعبّر عن جزء من نظرة الثقافة العربية لبعض الشخصيات.
ونخلص بعد هذا إلى أنّ دلالة الشخصيّة تنبع من مجموعات من المعطيات التي يتعلق بعضها بطريقة التأليف، وبعضها بالوظيفة، وبعضها بالنمط، كما سيتضح ذلك من خلال دراسة الشخصية في قصص الأمثال. على أنّ قصّة المثل تمثل نوعاً من القص التراثي، وتكوّن بمجملها بنية حكائيّة، وتفضي إلى مقولة موجزة تتضمن تلخيصاً لمغزى القصة(62). وسيتّضح المراد من قصّة المثل من خلال تناول عناصرها في مجمل هذا البحث.
(15)- انظر: جان إيفان تادييه، النقد الأدبي في القرن العشرين، ترجمة قاسم المقداد، (دمشق: وزارة الثقافة، 1993)، ص191.
(16)- انظر: بونيت، الشخصية في المسرح المغربي، ص74.
(17)- Kenan, Rimmon, Narrative Fiction, P:35. (18)- انظر: بونيت، الشخصية في المسرح المغربي، ص78.
(19)- انظر: ميشال بوتور، بحوث في الرواية الجديدة، ترجمة فريد أنطونيوس، ط3، (بيروت: منشورات عويدات، 1986)، ص ص 104- 105.
(20)- انظر: تزفتان تودوروف، «اللغة والأدب»، ترجمة سعيد الغانمي، ضمن كتاب: اللغة والخطاب الأدبي، (بيروت: المركز الثقافي العربي، 1990)، ص37.
(21)- انظر: هامون، سيمولوجية الشخصيات الروائية، ص17.
(22)- Chatman,s,Story & Discourse,P:111
(23)- هنري برجسون، الضحك، ترجمة سامي الدروبي وعبدالله عبدالدائم، ط3(بيروت: دارالعلم للملايين، 1983)، ص129و130.
(24)- انظر: جورج لوكاتش، دراسات في الواقعيّة، ترجمة أميراسكندر، (القاهرة: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 1972)، ص156.
(25)-جميل صليبا، المعجم الفلسفي، (بيروت: دار الكتاب اللبناني، 1982) ج2، ص323.
(26)- مجدي وهبه وكمال المهندس، معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، ط2(بيروت: مكتبة لبنان، 1984) ص208. كما أشارعناني إلى هذا المعنى من خلال تقسيم الشخصيات ومايرتبط بها من مقولات. انظر محمد عناني، المصطلحات الأدبية الحديثة، (القاهرة: الشركة العالمية للنشر-لونجمان، 1996)، ص ص 8 -9.
(27)- صليبا، المعجم الفلسفي، 2/323
(28)- انظر: بيرسي لوبوك، صنعة الرواية، ترجمة عبدالستار جواد، (بغداد: دار الرشيد للنشر، 1981)، ص68.
(29)- فورستر، أركان الرواية، ترجمة موسى عاصي، (طرابلس لبنان: جروس برس، 1994) ص61.
(30)- وقد ناقشت كثير من الأبحاث تصنيفات الشخصية وفق هذه المعطيات الثنائية. انظر في ذلك: عبدالملك مرتاض، في نظرية الرواية، (الكويت: سلسلة عالم المعرفة، رقم 240 ديسمبر، كانون الأول، 1998) ص102.
(31)- إدوين موير، بناء الرواية، ترجمة إبراهيم الصيرفي، (القاهرة: الدار المصرية للتأليف والترجمة، د ت) ص 87.
(32)- انظر: وين بوث، بلاغة الفن القصصي، ترجمة أحمد عرادات وعلي الغامدي، (الرياض: جامعة الملك سعود، 1994) ص183.
(33)- انظر: بوث، بلاغة الفن القصصي، ص286.
(34)- انظر: بوث، بلاغة الفن القصصي، ص287.
(35)- انظر: بوث، بلاغة الفن القصصي، ص319و320. وانظر: رينيه ويليك و اوستن وارين، نظرية الأدب، ترجمة محيي الدين صبحي ط2(بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1987)، ص133.
________________________________________