نتناول تحت هذا العنوان مفهوم المعنى كقاعدة تتمحور حولها أي تجربة في القراءة . حيث تتشكل تجربة القراءة من خلال بحث القارئ عن معنى للنص ، و لذلك تقوم أي تجربة للقراءة على مفهوم محدد للمعنى ، و تؤسس إجراءاتها من خلال استراتيجيات عامة لتكوينه.
ويمثل المستوى الدلالي أحد أهم مفاهيم المعنى لدى القاريء العادي ، إلا أن المعنى بهذا الوصف لا يعبر عن تجربة متكاملة في القراءة ، فالتعامل مع المعنى كمحتوى دلالي للنص هو جزء من التجربة ، يتعلق بالمرجع الواقعي الذي يشير إليه تركيب النص .
و ينتج أثناء تكوين القارئ للمعنى أشكال مختلفة من التفاعل بين القارئ و النص ، تعبر عن مظاهر متنوعة لتجربة القراءة ، تعتمد في مجملها على التعامل مع المعنى كأثر نصي و يتطلب تكوين القارئ للمعنى تعامل القارئ مع معطيات التركيب النصي ، فالمظهر التركيبي للنص هو معطى حاضر ثابت ، بينما المظهر المعنوي يكتسب وجوده من خلال وجود قارئ يجسده بواسطة تفاعل متبادل مع المعطى التركيبي للنص ، و يتعامل القارئ مع تركيب النص بواسطة استراتيجيات معينة فاستراتيجيات القراءة إذاً هي وسائل بواسطتها يوظف القارئ معطيات التركيب النصـي من أجل تكوين المعنى .
وبحسب منهج القارئ المخبر يتحقق معنى النص من خلال فعاليات التجربة الكاملة ، و ذلك باعتبـار أن معنى النص هو كل رد فعل يثيره النص في ذهن القارئ ، و بذلك يشتمل معنى النص على عناصر تجربة القراءة الكاملة ، فكل شئ يحدثه القارئ في تفاعله مع النص هو جزء من معناه . و تنطلق إجراءات القراءة لدى القارئ المخبر كمخطط نظري من مفهوم معين للمعنى ، حيث يرى صاحب المشروع ( ستانلي فش ) أن المعنى ليس موضوعاً كامناً في النص ، بل هو أثر على القارئ ( تحرير : جين . ب . تومبكنز : نقد استجابة القاريء )
وبذلك يشتمل مفهوم المعنى على مختلف عناصر تجربة القراءة ، حيث تتكون تلك التجربة أثناء بحث القارئ عن المعنى ، وهذا هو التفسير الأولي الذي يقدمه منهج القارئ المخبر لاختلاف القراءات على النص الواحد ، فإذا كان معنى النص هو ردود فعل القارئ التي يثيرها النص بتركيبه اللغوي فلا يمكن أن تتكرر ردود الفعل التي يثيرها النص عبر أكثر من قراءة له .
ويتضمن المعنى في منهج القارئ المخبر الخاصية الزمنية للحدث ، حيث تتطور تجربة القارئ للنص عبر تطور ردود فعله باتجاه بنية النص اللغوية ، فمع تقدم القراءة يتفاعل كل جزء من النص مع ما يسبقه فيؤيد تماسك التجربة أو يقوض ذلك التماسك موجهاً التجربة باتجاه جديد .
ونتيجة للخاصية الزمنية في القراءة لا يمكن إغفال أي جزء من بنية النص اللغوية ، فالمعنى يأتي من تجاور الاجزاء بحيث تسهم كل مفردة في تجربة القراءة لا بمعناها المعجمي بل بما يثيره من رد فعل ناتج عن موقعها في النص وعلاقتها بما قبلها وما بعدها . (( فالمعنى قد ينتج من اللامعنى ))
ووفق هذا المفهوم للمعنى بوصفه حدثاً تأتي إجراءات القراءة في منهج القارئ المخبر ، حيث ينطلق المنهج من محاولة تقديم وصف لما يحدث فعلياً في أي تجربة للقراءة ، و يعتـمد ذلك على تتبـع خطـوات القراءة انطلاقاً من مفهومه للمعنى ، على أساس أن تجربة القراءة تحدث أثناء بحث القارئ عن معنى النص ، و محاولة تجميع عناصره عبر التفاعل مع معطيات البنية التركيبية للنص ، و ذلك وفق تتابع زمني يتبع ظهور وحدات النص على الصفحة .
و من هنا تأتي أهمية وعي القارئ بتجربته حيث يراقب القارئ ردود فعله تجاه النص من خلال التزامه بكل أجزاء النص ومتتالياته ، وفق تتابعها الزمني ، وهنا تأتي المرحلة الأولى من إجراءات القراءة في منهج القارئ المخبر ، وتتمثل في توظيف التركيب اللغوي للنص بشكل وحدات متتالية ، تتكون كل وحدة من طبقات متراتبة ( يقصد بهذه الطبقات مستويات الجملة : الصوتي ، الصرفي ، التركيبي ، المعجمي ، الدلالي ) ، ويمكّن هذا التقسيم القارئ من أن يختبر ردود فعله تجاه النص ، وذلك بمراعاة الخاصية الزمنية التي يكتسب النص معناه بواسطتها من خلال تجاور مكوناته اللغوية وموقع تلك المكونات من التجربة حسب ترتيب ظهورها على الصفحة ، و تتضمن هذه المرحلة إبطاء التجربة لملاحظة خطواتها الفعلية كما تحدث أثناء تكوين القارئ للمعنى ..
و تستوعب إجراءات تكوين المعنى جميع أشكال التفاعل بين القارئ والنص في أي قراءة حقيقية ، حيث تحدث تلك الفعاليات أثناء تكوين المعنى بواسطة إجراءات المعنى التي تمثل المرحلة الأولى من التجربة ، و بذلك تترتب مراحل القراءة التالية على تلك المرحلة و توظف إجراءاتها بطرق متنوعة لتحقيق أنواع متعددة من التفاعل مع النص . فقد تكون الدلالات التي يحدثها النص ببنيته التركيبية لغوية ، او تكون ذات طابع نفسي ، او رمزي ، او فلسفي . كما ان وجهة الناقد الجمالية تحكم نوع المنهج الذي سيختاره و يختبر من خلاله ردود فعله تجاه بنية النص .
وهنا تأتي المرحلة الثانية من إجراءات القراءة في منهج القارئ المخبر حيث يتضمن المعنى بوصفه كل ما يحدثه القارئ في تفاعله مع النص أخطاء التجربة ، وذلك لأن مراجعة القارئ لهذه الأخطاء و تصحيحه لها عبر اجراءات أخرى هو جزء من التجربة ( نقد استجابة القاريء ) * وبذلك تكون المرحلة الثانية من القراءة هي مراجعة أخطاء التجربة لإعادة بناء تماسكها ، حيث يدل تماسك التجربة على صحة خطوات القراءة ، ويعتمد القارئ في هذه المرحلة على خبرته اللغوية والادبية التي تشكل منها منظوراته الخاصة للنص .
من جهة أخرى يستوعب منهج القارئ المخبر القيمة الجمالية للنص ، فلايمكن إغفال القيمة الجمالية إذا كانت جزءاً من اهتمامات القارئ التي تدخل في خطوات القراءة الفعلية ، و يتمثل ذلك في بحث القارئ عن وقع جمالي للنص وفق إجراءات خاصة ، حيث لاتتعارض تلك الإجراءات مهما كانت مع منهج القارئ المخبر مادامت تدخل في نطاق التجربة كأثر للنص ، و ذلك باعتبار أن كل ما يحدث في أي قراءة فعلية هو جزء من تجربة القارئ للمعنى .
و فعاليات القراءة الأساسية والقضايا التي تتمحور حولها تعتمد في الأساس على اختيارات القراء و خبراتهم الذاتية السابقة على لحظة القراءة ، و التي تكونت من خلال علاقة معينة بالبيئة الثقافية المحيطة و شكلت آفاقاً للتواصل مع النص ، في حين أن إجراءات القراءة أو استراتيجياتها هي توظيف للنص من خلال علاقة تفاعليه معنية مع بنيته التركيبية
و لابد من مراعاة تعدد القراء واختلافات القراءة الناشئة عن العوامل الذاتية لدى كل قارئ . فكل شارح ينطلق من اهتماماته الخاصة وخبراته الشخصية في تكوين أفق توقعاته للنص ، و ذلك حين يختار القضايا والمنظورات التي يتعامل من خلالها مع موضوعه و يعد مفهوم الأفق عند ياوس مفيداً في هذا المجال . و ينطلق القاريء من البنية اللغوية للنص ، و من خلال هذه البنية يتحكم النص في استراتيجيات القراءة ، عبر استراتيجيات نصّية يشكل النص بواسطتها بنيته الفنية في تركيبه اللغوي الخاص . وفي هذا المجال يمكن أن نستفيد من نظريات القراءة التي تتناول دور النص في القراءة وتضع منطلقات نظرية لوصفه
وتساهم المفردات كوحدة معنوية أساسية في تجربة الشراح لسقط الزند من خلال الاتجاه الزمني لتجربة القراءة . و وفق الاتجاه الزمني للتجربة تتجه القراءة فعلياً باتجاه مكونات النص اللغوية من اليمين إلى اليسار * ( نقد استجابة القاريء ) ، و بذلك يتضح أثر الاتجاه الزمني للمعنى حيث تساهم كل مفردة في تكوين القارئ للمعنى من خلال تدعيم اتجاه التجربة أو تعديله أو تغيير مساره باتجاه آخر جديد .
و لا يسمح لي المجال هنا بضرب أمثلة على قراءات تعتمد مناهج النقد الحديثة لضيق الوقت فقط ، لكنني سأقتص من ذاكرة حاسوبي بعض الأمثلة الناجزة من تطبيقات النقد العربي القديم . و مثالاً على ذلك نورد شرح الخوارزمي لبيت أبي العلاء ( شروح سقط الزند :1 /184) :-
إذا شربت رأيت الماء فيها أزيرق ليس يستره الجران
حيث تدعم مفردة ( أزيرق ) عبر صياغتها اللغوية الشرح الجمالي للبيت كما يشرحه الخوارزمي فيقول : (( و لقد طبق المفصل بالتصغير ، لأنه لما جعل رقابهن دقيقة كالخيزران حسن أن يجعل ما يمر فيها من الماء مويهاً )) فتصغير صفة الماء ( أزيرق ) يقوّي تشبيه رقاب الإبل بالخيزران بجامع الدقة .
و هناك مثال آخر من الكتاب نفسه أكثر عمقاً في وصف الاتجاه الزمني للتجربة ، و هو شرح البطليوسي للبيت 1 / 232 :
إن يكن عيدهم بغير هلال فالهلال المضيء وجه الأمير
حيث يشرح البطليوسي هذا البيت جمالياً بربطه ببيت سابق ، مع وجود فاصل من خمسة أبيات بينهما ، فيقول : (( هذا البيت معيب عند أهل النقد لأنه قال قبل هذا " أنت شمس الضحى " ثم شبّهه ههنا بالهلال فحطّه مراتب كثيرة عما أعطاه أولاً )) . وهنا نجد مفردة ( الهلال ) تعدل اتجاه المعنى من حيث هو هنا أثر جمالي ، فتسبب خللاً في التذوق الجمالي للمعنى من منظور نقدي معين يتمثل هنا في تلاؤم المعنى مع السياق الاجتماعي له . *( يشير البطليوسي بـ " شمس الضحى " إلى البيت1/229:
أنت شمس الضحى فمنك يفيد الـ............... صبح ما فيه من ضياء ونور
و عبر مفهوم المعنى يمكن وصف القراءة من خلال وصف خطوات التفاعل بين القارئ و النص ، و مدى إسهام كل من طرفي القراءة في ذلك التفاعل ، و تعتبر استراتيجيات القراءة مجالاً أساسياً للتفاعل ، حيث يتضح فيها كيفية استجابة القراء لمعطيات النص التركيبية ، من حيث إخضاع النص لمنظورات القراءة ، أو تكييف تلك المنظورات لمعطيات النص .
انظر: المختارات 280 شروط التفاعل قائمة في النص
281 تعريف القارئ الخبير و القدرة
دور النص عند ايزر 284
************
فيما يلي سأضرب مثالا موجزا على تطبيق معطيات منهج القاريء المخبر على الشرح الشعري القديم كما تمثله شروح السقط الآنفة الذكر ، و هو وصف سريع لطريقة من طرق تطبيق المنهج على قراءة تعتمد مناهج النقد قديم ، على أن النقد الحديث هو مجال اكثر سهولة و حيوية لتطبيق نموذج القاريء المخبر . و يجدر الاشارة ان هذا مجال بكر للبحث النقدي العربي ، حيث تندر بل تكاد تنعدم الدراسات في هذا الحيز .
استراتيجيات القراءة في شروح سقط الزند :
1 - الاستراتيجيات الدلالية :
يمثل هذا النوع من الاستراتيجيات المرحلة الأولى من استراتيجيات القراءة في شروح سقط الزند ، و في هذه المرحلة ينظر الشراح للمعنى على أنه المحتوى الدلالي للنص ، و يتم تكوين المعنى في هذه الاستراتيجيات من خلال علاقة النص بالواقع ، و ذلك عبر تجميع عناصر المكون الواقعي للتركيب النصي ، و من ثمّ اعتبار الصورة الواقعية التي يثيرها هذا المكون الواقعي أثراً دلالياً للنص ، يتمثل فيه أحد مظاهر المعنى في شروح السقط كأثر لمعطياته التركيبية .
و يعتبر التعامل مع النص من خلال دلالته الواقعية مرحلة ضرورية للفهم تسبق التفاعل الجمالي مع النص في أي قراءة * ( ايزر : نظرية التلقي ، المختارات الشعرية282 : القراءة المرجعية )، فالبنية الجمالية للنص الأدبي تقوم على أساس أسلوب النص في صياغة علاقته بسياقه الواقعي ، من خلال استثمار مكونات الواقع من القيم الاجتماعية و التاريخية و الادبية لصنع التأثير الجمالي للنص ، يمكن شرح ذلك من خلال مفهوم الذخيرة عند ايزر ، حيث تضمن الذخيرة انشاء قناة للتواصل مع النص بواسطة احتوائها على عناصر مألوفة عند القارئ في واقع الحياة اليومية ، فالنص " يمتص عناصر سابقة عليه و معروفة بشكل أو بآخر ، وهي عناصر لا توجد في النصوص المشابهة له فقط ، و إنما ترجع أيضا إلى قيم تاريخية واجتماعية تشكل سياقه الثقافي بالمعنى العام لهذا المصطلح ،........ وهي ذخيرة تمثل بالنسبة للقارئ درجات مختلفة من التأثير في عملية تفاعله مع النص ، فإدماج القيم الاجتماعية و الثقافية ضمن نص معين ، ثم تكرار العناصر الأدبية السابقة عليه يحددان بدقة درجات ردود الفعل لدى لقارئ، إنهما يكونان الإطار السياقي للحوار الذي ينبثق بين النص و المتلقي أثناء عملية القراءة " المختارات 283
" لكن هذا لا يجب أن ينسينا أن العلاقة بين النص و القارئ علاقة إيجابية و منتجة ، أي أن المتلقي لا يخضع بشكل سلبي لفعالية الخطاطة التي تؤثر فيه من حيث وقعها الجمالي الذي يتضمن مكوناتها الأدبية و الدلالية ، و إنما تتحدد لعلاقة التفاعلية بين النص و المتلقي عند ايزر في كون التلقي سننا ثانيا ينتجه القارئ على أساس تفاعلي بينه وبين السنن الأولي الذي تتكون منه الخطاطة ، و معنى هذا أن الموضوع الجمالي أو الفني يتشكل في استقلال عن النص ، و لكنهفي الوقت نفسه لا يكاد ينفصل عن هذا النص " المختارات 284
ونحاول عبر متابعة هذه الاستراتيجيات الإجابة على سؤالين هما : كيف وظف الشراح المظهر الدلالي للمعنى لصالح منظوراتهم في القراءة ؟ و هل تجاوز الشراح مرحلة الفهم الى التفاعل الجمالي مع النص من خلال علاقته بمرجعه الواقعي ؟
و سنتناول أثر هذه الاستراتيجيات في التفاعل من خلال مفهوم المعنى بوصفه محوراً لتجربة القراءة كما في منهج القارئ المخبر ، حيث ينتج المعنى وفق العلاقات التركيبية بين وحدات النص اللغوية الصغرى ، و بمراعاة الاتجاه السطري لتلك الوحدات عبر الاتجاه الزمني للمعنى كخطوة منهجية .
و من نظرة عامة يمكن استنتاج ان المفهوم الدلالي للمعنى في حدود مرجعه الواقعي قد ضيق حدود القراءة الجمالية لدى الشراح ، لا سيما ان أحد معايير القراءة الجيدة في النقد التقليدي القديم هو عدم مخالفة المعايير الموضوعة المتضمنة في عمود الشعر . بل عدم الخروج عن معطيات العالم الواقعي عبر صور خيالية بعيدة عن المألوف . القراءة المرجعية " قراءة تنفتح عن أفق انتظار جاهز يسعى بكل مكوناته إلى ربط النص باللغة اليومية و التقاليد الأدبية المتداولة ، ثم إلى اعتبار هذا النص محيلا إلى جزئيات الوقع و معطياته " المختارات 341
" إن الاعتقاد الراسخ لدى القراءة المرجعية بأن لغة الشعر لغة تمثيلية و أمينة، يجعلها قراءة متفاعلة مع البعد الحرفي و المعجمي للوحدات التركيبية ، و مع ما قد يوجد في الدلالة الفنية من سمات واقعية وقيم متداولة ، فيصبح هذا البعد الحرفي تراكما لغويا نفسر في ضوئه كل انتاج فني ، و تصبح سمات الواقع وقيمه تقاليد متوارثة يجب الحفاظ عليها و إعادة صياغتها في أمانة. و لذلك فإن الموروث اللغوي ، و الواقعي هما المكونان الأساسيان لأفق انتظار القراءة المرجعية ، أي أنها قراءة تتفاعل بالموروث اليومي في مستوى اللغة وفي مستوى الواقع " . ( المختارات الشعرية 360 )
3 - بناء التآلف :-
يعد تماسك التجربة و تآلف أجزائها دلالة جمالية مهمة على فعالية القراءة ، ويعتمد منهج الشرح الشعري على مفهوم المعنى لمراقبة هذا التآلف ، حيث وضعت استراتيجيات المعنى في الشرح بحيث تتيح للشارح مراقبة تجربته ليقدم تجربة متماسكة مقنعة ، وذلك عن طريق تقسيم النص إلى وحدات تركيبية صغيرة هي الأبيات ، وبذلك يسهل مراقبة خطوات تجربة القراءة التي تسير باتجاه وحدات النص وتتطور مع كل وحدة تضاف إلى تجربة القراءة .
و في شروح سقط الزند يمثل التفاعل الجمالي المثالي مع أسلوب أبي العلاء هدفاً للقراءة و محوراً لها ، ويرجع ذلك إلى خصوصية المشكلات الجمالية التي يثيرها شعره ، و لذلك يبحث الشراح عن تماسك التجربة من خلال علاقة التوافق بين أسلوب أبي العلاء و بين مرجعياتهم من معايير النظام الجمالي للنصوص الشعرية كما يرسخها الإطار النقدي المحيط بلحظة القراءة ، و التي تتشكل منها منظورات القراءة في الشروح .
حيث تعتبر هذه المعايير وسيلة لتنظيم التجربة في منهج القارئ المخبر ، تجعل التجربة قابلة للوصف ، (( فإذا ما كان متكلموا لغة معينة يشتركون في نظام من القوانين يستبطنها كل واحد منهم ، ويفهمها بطريقةأو بأخرى ، فسوف تكون بمعنى معين منتظمة ، أي سوف تسير بموجب نظام من القوانين يشترك فيه جميع المتكلمين ، وبقدر ما تكون تلك القوانين تقييدات على الانتاج ،...... فسوف تكون أيضاً تقييدات لنظام الاستجابة وحتى لاتجاهها ، بمعنى أنها ستجعل من الاستجابة قابلة - إلى حد معين – لأن يتنبّأ بها وتجعلها معيارية )) . [ نقد استجابة القارئ – 163]
و يتطلب تماسك التجربة التفاعل المتبادل بين القارئ و النص ، (( حيث يقوم النص بمجموعة من التوجيهات تقود القارئ نحو تجميعه للمعنى من أجل نفسه ، وبهذا العمل فإنه يبلغ قدرا من المعلومات ، ولكنه يستدعي ايضا التجارب المختزنه من قبل في ذهن القارئ الخاص )) * ( من قضايا التلقي والتأويل –223 )
و قد يحدث تعارض بين توجيهات النص و منظورات القارئ ، و هنا يحدث الخلل في تماسك تجربة القراءة ، و يحاول القارئ مواجهة ذلك الخلل في سبيل بناء تجربة مقنعة من خلال تآلف النص مع منظوراته للقراءة ، و ذلك عبر استراتيجيات متعددة .
يكتشف القارئ بواسطة الخلل في تماسك التجربة أخطائه في إجراءات القراءة ، ويعتبر تلك الأخطاء جزءاً من التجربة ، لأنها ناشئة عن استراتيجيات خاطئة تشكل جزءاً من تفاعله مع النص ، حيث (( يكون التبني الوقتي لتلك الاستراتيجيات غير الملائمة هو ذاته – على أية حال – استجابة لاستراتيجية مؤلفٍ مّا ، وإن الأخطاء المتمخضة هي جزء من التجربة التي تقدمها لغة المؤلف ، وبالتالي هي جزء من معناها )) * ( نقد استجابة القارئ – 166 ) . ويرتبط هذا التوجه المنهجي بكون المنهج يقوم على مراقبة خطوات التجربة الكلية كنموذج لما يحدث فعلياً أثناء القراءة .
وفي شروح السقط يورد الشراح مواضع الخلل في التجربة في صورة استراتيجيات خاطئة ، و يواجه الشراح مواضع الخلل في التجربة بواسطة استراتيجيات تعيد صياغة العلاقة بين النص و منظورات القراءة بصورة متوافقة ، بحيث يتوصلون إلى تقديم تجربة متماسكة في التفاعل الجمالي مع أسلوب أبي العلاء ، كهدف فعلي للقراءة في الشروح ، و ذلك عبر تجريب أنواع من التفاعل مع معطيات التركيب النصي ، فـالشارح كقارئ يقدم تجربة في القراءة (( يجرب بما فيه الكفاية ليستنبط خصائص الخطابات الأدبية التي تشتمل على كل شيء بدءاً من اكثر الرسائل محلية ( مجازات الخطاب .... الخ ) ، وفي هذه النظريات إذن تصبح اهتمامات مدارس النقد الأدبية الأخرى مثل خواص النوع الأدبي والمواضعات والخلفية الفكرية .... الخ معادة التحديد بمقتضى الاستجابة الممكنة والمحتملة )) [ نقد استجابة القارئ – 167]
وهكذا تمثل مراجعة الشراح لتجاربهم بوجه ٍ من الوجوه ذلك القارئ المخبر عند فش ، وهو القارئ الهجين فهو (( ليس نتاج عملية تجريد ، ولا قارئاً حياً فعلياً ، إنما هو قارئ حقيقي يفعل كل شيء ضمن حدود قدرته كما يجعل من نفسه مخبراً )) [ نقد استجابة القارئ – 167]
أرجو ملاحظة ان هذه الورقات هي جهد شخصي و اجتهادات تحتمل وجهات النظر كافة ، و يسعدني الحوار البناء ممن يتفاعل مع ما أكتب .
vBulletin v4.0.2,
ويمثل المستوى الدلالي أحد أهم مفاهيم المعنى لدى القاريء العادي ، إلا أن المعنى بهذا الوصف لا يعبر عن تجربة متكاملة في القراءة ، فالتعامل مع المعنى كمحتوى دلالي للنص هو جزء من التجربة ، يتعلق بالمرجع الواقعي الذي يشير إليه تركيب النص .
و ينتج أثناء تكوين القارئ للمعنى أشكال مختلفة من التفاعل بين القارئ و النص ، تعبر عن مظاهر متنوعة لتجربة القراءة ، تعتمد في مجملها على التعامل مع المعنى كأثر نصي و يتطلب تكوين القارئ للمعنى تعامل القارئ مع معطيات التركيب النصي ، فالمظهر التركيبي للنص هو معطى حاضر ثابت ، بينما المظهر المعنوي يكتسب وجوده من خلال وجود قارئ يجسده بواسطة تفاعل متبادل مع المعطى التركيبي للنص ، و يتعامل القارئ مع تركيب النص بواسطة استراتيجيات معينة فاستراتيجيات القراءة إذاً هي وسائل بواسطتها يوظف القارئ معطيات التركيب النصـي من أجل تكوين المعنى .
وبحسب منهج القارئ المخبر يتحقق معنى النص من خلال فعاليات التجربة الكاملة ، و ذلك باعتبـار أن معنى النص هو كل رد فعل يثيره النص في ذهن القارئ ، و بذلك يشتمل معنى النص على عناصر تجربة القراءة الكاملة ، فكل شئ يحدثه القارئ في تفاعله مع النص هو جزء من معناه . و تنطلق إجراءات القراءة لدى القارئ المخبر كمخطط نظري من مفهوم معين للمعنى ، حيث يرى صاحب المشروع ( ستانلي فش ) أن المعنى ليس موضوعاً كامناً في النص ، بل هو أثر على القارئ ( تحرير : جين . ب . تومبكنز : نقد استجابة القاريء )
وبذلك يشتمل مفهوم المعنى على مختلف عناصر تجربة القراءة ، حيث تتكون تلك التجربة أثناء بحث القارئ عن المعنى ، وهذا هو التفسير الأولي الذي يقدمه منهج القارئ المخبر لاختلاف القراءات على النص الواحد ، فإذا كان معنى النص هو ردود فعل القارئ التي يثيرها النص بتركيبه اللغوي فلا يمكن أن تتكرر ردود الفعل التي يثيرها النص عبر أكثر من قراءة له .
ويتضمن المعنى في منهج القارئ المخبر الخاصية الزمنية للحدث ، حيث تتطور تجربة القارئ للنص عبر تطور ردود فعله باتجاه بنية النص اللغوية ، فمع تقدم القراءة يتفاعل كل جزء من النص مع ما يسبقه فيؤيد تماسك التجربة أو يقوض ذلك التماسك موجهاً التجربة باتجاه جديد .
ونتيجة للخاصية الزمنية في القراءة لا يمكن إغفال أي جزء من بنية النص اللغوية ، فالمعنى يأتي من تجاور الاجزاء بحيث تسهم كل مفردة في تجربة القراءة لا بمعناها المعجمي بل بما يثيره من رد فعل ناتج عن موقعها في النص وعلاقتها بما قبلها وما بعدها . (( فالمعنى قد ينتج من اللامعنى ))
ووفق هذا المفهوم للمعنى بوصفه حدثاً تأتي إجراءات القراءة في منهج القارئ المخبر ، حيث ينطلق المنهج من محاولة تقديم وصف لما يحدث فعلياً في أي تجربة للقراءة ، و يعتـمد ذلك على تتبـع خطـوات القراءة انطلاقاً من مفهومه للمعنى ، على أساس أن تجربة القراءة تحدث أثناء بحث القارئ عن معنى النص ، و محاولة تجميع عناصره عبر التفاعل مع معطيات البنية التركيبية للنص ، و ذلك وفق تتابع زمني يتبع ظهور وحدات النص على الصفحة .
و من هنا تأتي أهمية وعي القارئ بتجربته حيث يراقب القارئ ردود فعله تجاه النص من خلال التزامه بكل أجزاء النص ومتتالياته ، وفق تتابعها الزمني ، وهنا تأتي المرحلة الأولى من إجراءات القراءة في منهج القارئ المخبر ، وتتمثل في توظيف التركيب اللغوي للنص بشكل وحدات متتالية ، تتكون كل وحدة من طبقات متراتبة ( يقصد بهذه الطبقات مستويات الجملة : الصوتي ، الصرفي ، التركيبي ، المعجمي ، الدلالي ) ، ويمكّن هذا التقسيم القارئ من أن يختبر ردود فعله تجاه النص ، وذلك بمراعاة الخاصية الزمنية التي يكتسب النص معناه بواسطتها من خلال تجاور مكوناته اللغوية وموقع تلك المكونات من التجربة حسب ترتيب ظهورها على الصفحة ، و تتضمن هذه المرحلة إبطاء التجربة لملاحظة خطواتها الفعلية كما تحدث أثناء تكوين القارئ للمعنى ..
و تستوعب إجراءات تكوين المعنى جميع أشكال التفاعل بين القارئ والنص في أي قراءة حقيقية ، حيث تحدث تلك الفعاليات أثناء تكوين المعنى بواسطة إجراءات المعنى التي تمثل المرحلة الأولى من التجربة ، و بذلك تترتب مراحل القراءة التالية على تلك المرحلة و توظف إجراءاتها بطرق متنوعة لتحقيق أنواع متعددة من التفاعل مع النص . فقد تكون الدلالات التي يحدثها النص ببنيته التركيبية لغوية ، او تكون ذات طابع نفسي ، او رمزي ، او فلسفي . كما ان وجهة الناقد الجمالية تحكم نوع المنهج الذي سيختاره و يختبر من خلاله ردود فعله تجاه بنية النص .
وهنا تأتي المرحلة الثانية من إجراءات القراءة في منهج القارئ المخبر حيث يتضمن المعنى بوصفه كل ما يحدثه القارئ في تفاعله مع النص أخطاء التجربة ، وذلك لأن مراجعة القارئ لهذه الأخطاء و تصحيحه لها عبر اجراءات أخرى هو جزء من التجربة ( نقد استجابة القاريء ) * وبذلك تكون المرحلة الثانية من القراءة هي مراجعة أخطاء التجربة لإعادة بناء تماسكها ، حيث يدل تماسك التجربة على صحة خطوات القراءة ، ويعتمد القارئ في هذه المرحلة على خبرته اللغوية والادبية التي تشكل منها منظوراته الخاصة للنص .
من جهة أخرى يستوعب منهج القارئ المخبر القيمة الجمالية للنص ، فلايمكن إغفال القيمة الجمالية إذا كانت جزءاً من اهتمامات القارئ التي تدخل في خطوات القراءة الفعلية ، و يتمثل ذلك في بحث القارئ عن وقع جمالي للنص وفق إجراءات خاصة ، حيث لاتتعارض تلك الإجراءات مهما كانت مع منهج القارئ المخبر مادامت تدخل في نطاق التجربة كأثر للنص ، و ذلك باعتبار أن كل ما يحدث في أي قراءة فعلية هو جزء من تجربة القارئ للمعنى .
و فعاليات القراءة الأساسية والقضايا التي تتمحور حولها تعتمد في الأساس على اختيارات القراء و خبراتهم الذاتية السابقة على لحظة القراءة ، و التي تكونت من خلال علاقة معينة بالبيئة الثقافية المحيطة و شكلت آفاقاً للتواصل مع النص ، في حين أن إجراءات القراءة أو استراتيجياتها هي توظيف للنص من خلال علاقة تفاعليه معنية مع بنيته التركيبية
و لابد من مراعاة تعدد القراء واختلافات القراءة الناشئة عن العوامل الذاتية لدى كل قارئ . فكل شارح ينطلق من اهتماماته الخاصة وخبراته الشخصية في تكوين أفق توقعاته للنص ، و ذلك حين يختار القضايا والمنظورات التي يتعامل من خلالها مع موضوعه و يعد مفهوم الأفق عند ياوس مفيداً في هذا المجال . و ينطلق القاريء من البنية اللغوية للنص ، و من خلال هذه البنية يتحكم النص في استراتيجيات القراءة ، عبر استراتيجيات نصّية يشكل النص بواسطتها بنيته الفنية في تركيبه اللغوي الخاص . وفي هذا المجال يمكن أن نستفيد من نظريات القراءة التي تتناول دور النص في القراءة وتضع منطلقات نظرية لوصفه
وتساهم المفردات كوحدة معنوية أساسية في تجربة الشراح لسقط الزند من خلال الاتجاه الزمني لتجربة القراءة . و وفق الاتجاه الزمني للتجربة تتجه القراءة فعلياً باتجاه مكونات النص اللغوية من اليمين إلى اليسار * ( نقد استجابة القاريء ) ، و بذلك يتضح أثر الاتجاه الزمني للمعنى حيث تساهم كل مفردة في تكوين القارئ للمعنى من خلال تدعيم اتجاه التجربة أو تعديله أو تغيير مساره باتجاه آخر جديد .
و لا يسمح لي المجال هنا بضرب أمثلة على قراءات تعتمد مناهج النقد الحديثة لضيق الوقت فقط ، لكنني سأقتص من ذاكرة حاسوبي بعض الأمثلة الناجزة من تطبيقات النقد العربي القديم . و مثالاً على ذلك نورد شرح الخوارزمي لبيت أبي العلاء ( شروح سقط الزند :1 /184) :-
إذا شربت رأيت الماء فيها أزيرق ليس يستره الجران
حيث تدعم مفردة ( أزيرق ) عبر صياغتها اللغوية الشرح الجمالي للبيت كما يشرحه الخوارزمي فيقول : (( و لقد طبق المفصل بالتصغير ، لأنه لما جعل رقابهن دقيقة كالخيزران حسن أن يجعل ما يمر فيها من الماء مويهاً )) فتصغير صفة الماء ( أزيرق ) يقوّي تشبيه رقاب الإبل بالخيزران بجامع الدقة .
و هناك مثال آخر من الكتاب نفسه أكثر عمقاً في وصف الاتجاه الزمني للتجربة ، و هو شرح البطليوسي للبيت 1 / 232 :
إن يكن عيدهم بغير هلال فالهلال المضيء وجه الأمير
حيث يشرح البطليوسي هذا البيت جمالياً بربطه ببيت سابق ، مع وجود فاصل من خمسة أبيات بينهما ، فيقول : (( هذا البيت معيب عند أهل النقد لأنه قال قبل هذا " أنت شمس الضحى " ثم شبّهه ههنا بالهلال فحطّه مراتب كثيرة عما أعطاه أولاً )) . وهنا نجد مفردة ( الهلال ) تعدل اتجاه المعنى من حيث هو هنا أثر جمالي ، فتسبب خللاً في التذوق الجمالي للمعنى من منظور نقدي معين يتمثل هنا في تلاؤم المعنى مع السياق الاجتماعي له . *( يشير البطليوسي بـ " شمس الضحى " إلى البيت1/229:
أنت شمس الضحى فمنك يفيد الـ............... صبح ما فيه من ضياء ونور
و عبر مفهوم المعنى يمكن وصف القراءة من خلال وصف خطوات التفاعل بين القارئ و النص ، و مدى إسهام كل من طرفي القراءة في ذلك التفاعل ، و تعتبر استراتيجيات القراءة مجالاً أساسياً للتفاعل ، حيث يتضح فيها كيفية استجابة القراء لمعطيات النص التركيبية ، من حيث إخضاع النص لمنظورات القراءة ، أو تكييف تلك المنظورات لمعطيات النص .
انظر: المختارات 280 شروط التفاعل قائمة في النص
281 تعريف القارئ الخبير و القدرة
دور النص عند ايزر 284
************
فيما يلي سأضرب مثالا موجزا على تطبيق معطيات منهج القاريء المخبر على الشرح الشعري القديم كما تمثله شروح السقط الآنفة الذكر ، و هو وصف سريع لطريقة من طرق تطبيق المنهج على قراءة تعتمد مناهج النقد قديم ، على أن النقد الحديث هو مجال اكثر سهولة و حيوية لتطبيق نموذج القاريء المخبر . و يجدر الاشارة ان هذا مجال بكر للبحث النقدي العربي ، حيث تندر بل تكاد تنعدم الدراسات في هذا الحيز .
استراتيجيات القراءة في شروح سقط الزند :
1 - الاستراتيجيات الدلالية :
يمثل هذا النوع من الاستراتيجيات المرحلة الأولى من استراتيجيات القراءة في شروح سقط الزند ، و في هذه المرحلة ينظر الشراح للمعنى على أنه المحتوى الدلالي للنص ، و يتم تكوين المعنى في هذه الاستراتيجيات من خلال علاقة النص بالواقع ، و ذلك عبر تجميع عناصر المكون الواقعي للتركيب النصي ، و من ثمّ اعتبار الصورة الواقعية التي يثيرها هذا المكون الواقعي أثراً دلالياً للنص ، يتمثل فيه أحد مظاهر المعنى في شروح السقط كأثر لمعطياته التركيبية .
و يعتبر التعامل مع النص من خلال دلالته الواقعية مرحلة ضرورية للفهم تسبق التفاعل الجمالي مع النص في أي قراءة * ( ايزر : نظرية التلقي ، المختارات الشعرية282 : القراءة المرجعية )، فالبنية الجمالية للنص الأدبي تقوم على أساس أسلوب النص في صياغة علاقته بسياقه الواقعي ، من خلال استثمار مكونات الواقع من القيم الاجتماعية و التاريخية و الادبية لصنع التأثير الجمالي للنص ، يمكن شرح ذلك من خلال مفهوم الذخيرة عند ايزر ، حيث تضمن الذخيرة انشاء قناة للتواصل مع النص بواسطة احتوائها على عناصر مألوفة عند القارئ في واقع الحياة اليومية ، فالنص " يمتص عناصر سابقة عليه و معروفة بشكل أو بآخر ، وهي عناصر لا توجد في النصوص المشابهة له فقط ، و إنما ترجع أيضا إلى قيم تاريخية واجتماعية تشكل سياقه الثقافي بالمعنى العام لهذا المصطلح ،........ وهي ذخيرة تمثل بالنسبة للقارئ درجات مختلفة من التأثير في عملية تفاعله مع النص ، فإدماج القيم الاجتماعية و الثقافية ضمن نص معين ، ثم تكرار العناصر الأدبية السابقة عليه يحددان بدقة درجات ردود الفعل لدى لقارئ، إنهما يكونان الإطار السياقي للحوار الذي ينبثق بين النص و المتلقي أثناء عملية القراءة " المختارات 283
" لكن هذا لا يجب أن ينسينا أن العلاقة بين النص و القارئ علاقة إيجابية و منتجة ، أي أن المتلقي لا يخضع بشكل سلبي لفعالية الخطاطة التي تؤثر فيه من حيث وقعها الجمالي الذي يتضمن مكوناتها الأدبية و الدلالية ، و إنما تتحدد لعلاقة التفاعلية بين النص و المتلقي عند ايزر في كون التلقي سننا ثانيا ينتجه القارئ على أساس تفاعلي بينه وبين السنن الأولي الذي تتكون منه الخطاطة ، و معنى هذا أن الموضوع الجمالي أو الفني يتشكل في استقلال عن النص ، و لكنهفي الوقت نفسه لا يكاد ينفصل عن هذا النص " المختارات 284
ونحاول عبر متابعة هذه الاستراتيجيات الإجابة على سؤالين هما : كيف وظف الشراح المظهر الدلالي للمعنى لصالح منظوراتهم في القراءة ؟ و هل تجاوز الشراح مرحلة الفهم الى التفاعل الجمالي مع النص من خلال علاقته بمرجعه الواقعي ؟
و سنتناول أثر هذه الاستراتيجيات في التفاعل من خلال مفهوم المعنى بوصفه محوراً لتجربة القراءة كما في منهج القارئ المخبر ، حيث ينتج المعنى وفق العلاقات التركيبية بين وحدات النص اللغوية الصغرى ، و بمراعاة الاتجاه السطري لتلك الوحدات عبر الاتجاه الزمني للمعنى كخطوة منهجية .
و من نظرة عامة يمكن استنتاج ان المفهوم الدلالي للمعنى في حدود مرجعه الواقعي قد ضيق حدود القراءة الجمالية لدى الشراح ، لا سيما ان أحد معايير القراءة الجيدة في النقد التقليدي القديم هو عدم مخالفة المعايير الموضوعة المتضمنة في عمود الشعر . بل عدم الخروج عن معطيات العالم الواقعي عبر صور خيالية بعيدة عن المألوف . القراءة المرجعية " قراءة تنفتح عن أفق انتظار جاهز يسعى بكل مكوناته إلى ربط النص باللغة اليومية و التقاليد الأدبية المتداولة ، ثم إلى اعتبار هذا النص محيلا إلى جزئيات الوقع و معطياته " المختارات 341
" إن الاعتقاد الراسخ لدى القراءة المرجعية بأن لغة الشعر لغة تمثيلية و أمينة، يجعلها قراءة متفاعلة مع البعد الحرفي و المعجمي للوحدات التركيبية ، و مع ما قد يوجد في الدلالة الفنية من سمات واقعية وقيم متداولة ، فيصبح هذا البعد الحرفي تراكما لغويا نفسر في ضوئه كل انتاج فني ، و تصبح سمات الواقع وقيمه تقاليد متوارثة يجب الحفاظ عليها و إعادة صياغتها في أمانة. و لذلك فإن الموروث اللغوي ، و الواقعي هما المكونان الأساسيان لأفق انتظار القراءة المرجعية ، أي أنها قراءة تتفاعل بالموروث اليومي في مستوى اللغة وفي مستوى الواقع " . ( المختارات الشعرية 360 )
3 - بناء التآلف :-
يعد تماسك التجربة و تآلف أجزائها دلالة جمالية مهمة على فعالية القراءة ، ويعتمد منهج الشرح الشعري على مفهوم المعنى لمراقبة هذا التآلف ، حيث وضعت استراتيجيات المعنى في الشرح بحيث تتيح للشارح مراقبة تجربته ليقدم تجربة متماسكة مقنعة ، وذلك عن طريق تقسيم النص إلى وحدات تركيبية صغيرة هي الأبيات ، وبذلك يسهل مراقبة خطوات تجربة القراءة التي تسير باتجاه وحدات النص وتتطور مع كل وحدة تضاف إلى تجربة القراءة .
و في شروح سقط الزند يمثل التفاعل الجمالي المثالي مع أسلوب أبي العلاء هدفاً للقراءة و محوراً لها ، ويرجع ذلك إلى خصوصية المشكلات الجمالية التي يثيرها شعره ، و لذلك يبحث الشراح عن تماسك التجربة من خلال علاقة التوافق بين أسلوب أبي العلاء و بين مرجعياتهم من معايير النظام الجمالي للنصوص الشعرية كما يرسخها الإطار النقدي المحيط بلحظة القراءة ، و التي تتشكل منها منظورات القراءة في الشروح .
حيث تعتبر هذه المعايير وسيلة لتنظيم التجربة في منهج القارئ المخبر ، تجعل التجربة قابلة للوصف ، (( فإذا ما كان متكلموا لغة معينة يشتركون في نظام من القوانين يستبطنها كل واحد منهم ، ويفهمها بطريقةأو بأخرى ، فسوف تكون بمعنى معين منتظمة ، أي سوف تسير بموجب نظام من القوانين يشترك فيه جميع المتكلمين ، وبقدر ما تكون تلك القوانين تقييدات على الانتاج ،...... فسوف تكون أيضاً تقييدات لنظام الاستجابة وحتى لاتجاهها ، بمعنى أنها ستجعل من الاستجابة قابلة - إلى حد معين – لأن يتنبّأ بها وتجعلها معيارية )) . [ نقد استجابة القارئ – 163]
و يتطلب تماسك التجربة التفاعل المتبادل بين القارئ و النص ، (( حيث يقوم النص بمجموعة من التوجيهات تقود القارئ نحو تجميعه للمعنى من أجل نفسه ، وبهذا العمل فإنه يبلغ قدرا من المعلومات ، ولكنه يستدعي ايضا التجارب المختزنه من قبل في ذهن القارئ الخاص )) * ( من قضايا التلقي والتأويل –223 )
و قد يحدث تعارض بين توجيهات النص و منظورات القارئ ، و هنا يحدث الخلل في تماسك تجربة القراءة ، و يحاول القارئ مواجهة ذلك الخلل في سبيل بناء تجربة مقنعة من خلال تآلف النص مع منظوراته للقراءة ، و ذلك عبر استراتيجيات متعددة .
يكتشف القارئ بواسطة الخلل في تماسك التجربة أخطائه في إجراءات القراءة ، ويعتبر تلك الأخطاء جزءاً من التجربة ، لأنها ناشئة عن استراتيجيات خاطئة تشكل جزءاً من تفاعله مع النص ، حيث (( يكون التبني الوقتي لتلك الاستراتيجيات غير الملائمة هو ذاته – على أية حال – استجابة لاستراتيجية مؤلفٍ مّا ، وإن الأخطاء المتمخضة هي جزء من التجربة التي تقدمها لغة المؤلف ، وبالتالي هي جزء من معناها )) * ( نقد استجابة القارئ – 166 ) . ويرتبط هذا التوجه المنهجي بكون المنهج يقوم على مراقبة خطوات التجربة الكلية كنموذج لما يحدث فعلياً أثناء القراءة .
وفي شروح السقط يورد الشراح مواضع الخلل في التجربة في صورة استراتيجيات خاطئة ، و يواجه الشراح مواضع الخلل في التجربة بواسطة استراتيجيات تعيد صياغة العلاقة بين النص و منظورات القراءة بصورة متوافقة ، بحيث يتوصلون إلى تقديم تجربة متماسكة في التفاعل الجمالي مع أسلوب أبي العلاء ، كهدف فعلي للقراءة في الشروح ، و ذلك عبر تجريب أنواع من التفاعل مع معطيات التركيب النصي ، فـالشارح كقارئ يقدم تجربة في القراءة (( يجرب بما فيه الكفاية ليستنبط خصائص الخطابات الأدبية التي تشتمل على كل شيء بدءاً من اكثر الرسائل محلية ( مجازات الخطاب .... الخ ) ، وفي هذه النظريات إذن تصبح اهتمامات مدارس النقد الأدبية الأخرى مثل خواص النوع الأدبي والمواضعات والخلفية الفكرية .... الخ معادة التحديد بمقتضى الاستجابة الممكنة والمحتملة )) [ نقد استجابة القارئ – 167]
وهكذا تمثل مراجعة الشراح لتجاربهم بوجه ٍ من الوجوه ذلك القارئ المخبر عند فش ، وهو القارئ الهجين فهو (( ليس نتاج عملية تجريد ، ولا قارئاً حياً فعلياً ، إنما هو قارئ حقيقي يفعل كل شيء ضمن حدود قدرته كما يجعل من نفسه مخبراً )) [ نقد استجابة القارئ – 167]
أرجو ملاحظة ان هذه الورقات هي جهد شخصي و اجتهادات تحتمل وجهات النظر كافة ، و يسعدني الحوار البناء ممن يتفاعل مع ما أكتب .
vBulletin v4.0.2,