صيّادون بلا سُفن وبلا شباك
نموذج تطبيق التحليل السرديّ على لو5: 1-11
د. دانيال ألبرتو عيّوش
جامعة البلمند
مقدمة
بعد المعمودية والتجربة في البريّة، يبدأ يسوع عمله في الجليل، مقتادًا بقوّة الروح (لوقا 4: 14). وكانت الناصرة وكفرناحوم أولى القرى التي شهدت عمل الربّ. الواحدة لم تؤمن والأخرى آمنت. رأت الناصرةُ (لوقا 4: 16-30) في يسوع صورةً مشوّهة لابن يوسف، ذلك الابن الذي من قرية لا يخرج منها شيء مهمّ. ولذا حاول أبناء الناصرة أن يخنقوا نشاط ذاك الابن القرويّ الجسور. أمّا كفرناحوم (لوقا 4: 31-44) فسمعت ما قاله يسوع، وقبلته بدهشة وورع، وأرادت أن تستبقيه. لكنّ يسوع فضّل أن يتابع بشارته في المدن الأخرى ليكمل رسالته.
هنا يبدأ مشهد بحيرة جنيسارت، الذي ينسبه النقد الأدبيّ إلى المصدر اللوقانيّ الخاص (S L). وعليه فإنّ هذا المشهد يتضمّن خطوطًا رئيسيّةً من لاهوت لوقا الإنجيليّ ومن مفهومه لافتقاد الناصري ودوره في خلاص البشر.
السفن، والشباك، والصيادون عناصر نموذجية في المشهد اليوميّ على ضفاف بحيرة جنيسارت. مشهد متناغم، خالٍ من التعقيدات الكبرى. عنصره اللافت معلمّ يعلّم جموعًا مزدحمةً ، ويصرّ على التدخّل في عالم الصيادين، وخصوصًا في عالم سمعان، قائدهم.
سوف نحاول، من خلال التحليل السرديّ، أن نعيد قراءة هذا المقطع، آخذين بعين الاعتبار المراحل الرئيسية من سير أحداثه، وتطوّر حبكته، وما بين شخصياته من علاقات، وتبدّل الأمكنة، وحلّه النهائيّ.
تحتوي هذه القصّة على تعليم لاهوتيّ عميق، سوف نسعى إلى اكتشافه تدريجيًّا وبمنهجيّة. إنّها قصّة تنكشف فيها وظائف شخصياتها بقدر ما يتقدّم عمل يسوع وتعليمه باتجاه مستوى أوّل، ملقيَين على القصة بكاملها أنوارًا وألوانًا جديدة. يستثمر لوقا هنا كلّ موهبته ككاتب، ويظهر، بمهارة، أنّ فنّ السرد الروائي هو فنّ يبني القرّاء في الإيمان.
تحديد المقطع وتجزئته
1 وإذْ كان الجمع يزدحم عليه ليسمع كلمة الله، كان هو وافقًا عند بحيرة جنّيسارت.
2 فرأى سفينتين واقفتين عند البحيرة.
والصيادون، إذ قد خرجوا منهما، غسلوا الشباك.
3 فدخل إحدى السفينتين التي كانت لسمعان وسأله أن يبعد قليلاً عن البر.
ثمّ جلس وصار يعلّم الجموع من السفينة.
4 ولمّا فرغ من الكلام قال لسمعان:
"ابعد إلى العمق وألقوا شباككم للصيد.
5 فأجاب سمعان وقال له:
"يا معلم، قد تعبنا الليل كله ولم نأخذ شيئًا، ولكن على كلمتك ألقي الشبكة."
6 ولمّا فعلوا ذلك أمسكوا سمكًا كثيرًا جدًّا،
فصارت شبكتهم تتخرّق.
7 فأشاروا إلى شركائهم الذين في السفينة الأخرى أن يأتوا ويساعدوهم.
فأتوا وملأوا السفينتين حتى أخذتا في الغرق.
8 فلمّا رأى سمعان بطرس ذلك خرّ عند ركبتيّ يسوع قائلاً:
"اخرج منّي يا رب، لأنّي رجل خاطئ."
9 إذ اعترته وجميع الذين معه دهشة على صيد السمك الذي أخذوه.
10 وكذلك أيضًا يعقوب ويوحنّا ابنا زبدي اللذان كانا شريكي سمعان.
فقال يسوع لسمعان:
"لا تخف! من الآن تكون تقبض الناس على قيد الحياة."
11 ولمّا جاءوا بالسفينتين إلى البرّ تركوا كلّ شيء وتبعوه.
يسمح لنا تبدّل المكان، والزمان، والأشخاص الذي نجده في لوقا 5: 1-11، مقارنةً مع المقطع السابق (4: 42-44) والمقطع اللاحق (5: 12-16)، بأن نحدّد بسهولة مشهد الصيد العجائبيّ الذي تدور أحداثه ، بخلاف المقطعين الآخرين ، في بحيرة جنيسارت، بين يسوع، والجمع، وسمعان ورفاقه، أثناء الاستماع إلى الكلمة.
لتجزئة النص اخترنا ترجمة فان دايك التي تعكس، بشكل واضح جدًا، البنية القواعدية للأصل اليونانيّ. أما الكلمات المطبوعة بشكل مائل، فتشير إلى التغييرات التي أعتبرها ضرورية لفهم رسالة المقطع بشكل أفضل.
يميّز المستويان العاموديان للنص بين أحداث الرواية ومضمون الحوارين اللذين يجريان بين شخصياتها. الأفعال التي تحتها خطّ هي التي تؤلّف الحبكة الحقيقيّة للقصّة؛ وهي كلّها مستعملة في أزمنة الماضي في صيغة رفع الفعل. بهذه الطريقة يمكننا أن نميّز بين الأحداث الرئيسية في تطوّر السرد الروائي، والأحداث الأخرى الثانوية، التي تنتمي إلى الخلفية، والتي تؤثر، بشكل جزئيّ، على الأفعال الرئيسية في النص .
وفقًا لـ "المخطّط الخُماسيّ" الذي وضعه لاريفاي [1]، نجد الوضع البدئيّ للقصة في تقديم الزمان والمكان في الآيتين 1-2. تلي ذلك العقدة في بشارة يسوع وقبول سمعان الخروج للصيد في الآيات 3-5، والحدث المتحوّل في الآيتين 6-7، والذي يحتوي على الصيد وتدخّل المركب الآخر. ثمّ يأتي الحلّ في الآيات 8-10، باعتراف بطرس ودعوة يسوع. تُختم القصّة في الآية 11، التي تقدّم الوضع النهائيّ، وفيها إهمال السفينتين، واتباع يسوع. لقد قمنا بالتجزئة الأفقيّة للنصّ وفقًا لهذا النموذج.
التفسير السرديّ
إنّ الوضع البدئيّ للرواية مهمّ. يستهلّ الكاتب قصته بإشارة إلى معطى نوعيّ للزمان الذي تدور فيه الأحداث، وهو الزمان الذي "كان [فيه] الجمع يزدحم عليه ليسمع كلمة الله (الآية 2)." [2] تقدّم لنا زاوية المقاربة الزمنية التي يختارها الإنجيليّ منظورًا للقصّة خاصًا جدًا، ترتبط فيه معجزة الصيد النهاريّ بالشباك باجتماع الشعب لسماع بشارة يسوع، ارتباطًا مباشرًا. أما المعطى المكانيّ فمطابق تمامًا للحدث الرئيسيّ. تحمل القصّة القارئ إلى شاطئ بحيرة جنيسارت بين المراكب، والصيادين، والشباك (الآيتان 1-2).
بعد تحديد الزمان والمكان، يجتمع الجمع ليصير شاهدًا على الحدث، وتظهر الشخصية الرئيسيّة، التي يشار إليها بالضمير المنفصل للتشديد "هو" في الآية 1ب، وتوجّه نظرها نحو مكان محدّد: مركبين على شاطئ البحيرة وصياديهما، وهم يقومون بآخر أعمال الصيد، ألا وهو غسل الشباك. وضع الراوي كلّ العناصر في مشهد واحد، ليخلق توترًا غايته دفع الحبكة السرديّة إلى الأمام: اللقاء بين مبشّر بكلمة الله وصيادين، أي أناس اشتهروا في الأزمنة القديمة بثقافتهم المحدودة وقلّة اكتراثهم للشؤون الدينية. [3] وما هذا إلاّ تحدٍّ يقبل المبشّر بأن يقوم به بحضور تابعيه. نحن، دون شكّ، أمام أحد أعمال يسوع النموذجية.
تسلسل الأفعال
لكي نفهم حبكة القصة وتفاعل شخصياتها بشكل أفضل، يمكننا أن نجمع الأفعال الرئيسية (تلك التي تحتها خط في النص المجزّأ) اثنين اثنين، وفقًا لمبدأ الفعل وردّ الفعل. في اللائحة التالية تطبيق لهذا المنهج على المخطّط الخُماسيّ الذي تبنّيناه في التجزئة للنص:
الوضع البدئيّ [4] : 2 رأى [هو] ç الصيادون غسلوا الشباك
العقدة : 3 سأل سمعانَ ç صار يعلّم الجموعَ
4 قال لسمعان ç 5 سمعان قال له
الحدث المحوّل : 6 أمسكوا سمكًا ç صارت شبكتهم تتخرّق
7 أشاروا إلى شركائهم ç أتوا وملأوا السفينتين
الحلّ : 8 بطرس خرّ عند ركبتيّ يسوع ç 10 قال يسوع لسمعان
الوضع النهائيّ : 11 تبعوه.
تماشيًا مع عدم التوازن الموجود في الوضع البدئيّ، الذي يتمثّل في "مبشّرٍ يواجه جهل الصيادين وقلّة تقواهم"، تأتي الأفعال التي تستعمل لوصف سير الأحداث كأفعال حوارٍ وتفاهم، أي أفعال القول، مثل سأل، علّم، قال، وحتّى الفعل أشار.
والواقع أنّ الاتصال الأوّل بين يسوع وسمعان، قائد الصيادين، كان اتصالاً كلاميًا: يطلب يسوع من سمعان أن يبعد مركبه قليلاً عن اليابسة ليستعمله كمنبر للتعليم (الآية 3). يتصرّف يسوع بسلطان. والمفاجئ في الأمر أنّ سمعان يطيعه دونما تردّد. قلت إنّ هذا الأمر "مفاجئ" لأنّ الراوي لا يقول إنّ سمعان والصيادين كانوا جزءًا من الجمع الذي كان يتبع يسوع. على العكس؛ فإنّ لوقا يميّز بين فريق وآخر، بحيث يبدو وضع يد يسوع على أحد المركبين مبادرةً يأخذها المعلّم على نحو متعمّد، لا بل هجوميّ إذا جاز التعبير. [5] مع ذلك، يقبل رئيس الفريق المعتدى عليه تصرّف يسوع السلطويّ. بعد هذا الحدث يبدأ الصيادون يستمعون إلى تعليم يسوع الذي تكلّم إلى أن قرّر التوقّف (الآية 4أ).
فلنلاحظ كيف يركّز السرد الروائي على شخصية سمعان. يقول لنا لوقا إنّ يسوع اختار مركبه ليدخله، وإنّ سمعان هو الذي أبعده عن الشاطئ لكي يعلّم المعلّم من هناك. بعد الخطبة، بادر يسوع سمعان بطلب أصعب بكثير: أن يبحر إلى العمق ويلقي الشباك بعد أن كان قد غسلها وانتهى من الصيد، أي في النهار. تجدر الإشارة إلى أنّ يسوع لم يتخذ هذه الخطوة الحاسمة إلاّ بعد أن أتمّ مهمته الأساسية، أي بعد أن أعطى تعليمه للجمع ولسمعان. والواقع أنّ سمعان وجد في كلمة يسوع السبب الوحيد المقنع حتى يرمي الشباك بعد أن بدا له، بعد ليل طويل من التعب، أنّه ما من جدوى في الاستمرار في محاولة الصيد (الآية 5).
بإقرار سمعان بأهميّة كلمات المعلّم، تجاوز يسوع محنة أخرى في القصّة. كانت المحنة الأولى عندما تحقّق له الدخول إلى مركب سمعان ليعلّم. أما المحنة الثانية الآن، فهو حثّه الصيادين على أن يصطادوا "على كلمته"، لا بمجرّد فعل الصيد. أصبح سمعان ورفاقه يعملون الآن بأمر من كلمة يسوع، وهي التي جعلت صيدهم ناجحًا في الآية 6. وقد أتى هذا النجاح على نحو غير متوقّع، بحيث لم يستطع الصيادون، في وضعهم الطبيعيّ، تحمّله، ذلك أن الشباك أوشكت على أن تتمزّق.
كان ينبغي القيام بشيء على الفور حتى لا تضيع النعمة المكتسبة. هنا نفهم لماذا ركّز الراوي العارف بكلّ شيء انتباه القارئ على مركبين متوقفين عند البحيرة، منذ البداية. كان على المركب الآخر أن يعمل الآن ليضمن نجاح المشروع الذي باشره سمعان على أساس كلمة يسوع.
إنّ الاتصال الذي قام بين شركاء سمعان (في اليونانية koinônoi) ورفاقه في المركب الآخر (في اليونانية metochoi)، اتصال بدائيّ ومحدود. إنّه اتصال بالإيماء لا بالكلمات. لا ننسينّ المسافة بين المركبين. لكن، رغم ضآلة هذا الاتّصال، يستطيع المركب الآخر أن يفهم ما يريده سمعان، ويساعده في عمله، ولا ينجح في إنقاذ صيد سمعان فحسب بل شباكه أيضًا. في أيّ حال، ليس لأيّ من المركبين قدرة كافية لاحتواء العطايا المكتسبة بفضل نعمة كلمة يسوع (الآية 7).
وهنا، بعد أن رأى سمعان النجاح (الآية ، وبعد أن أعطى الراوي له اسمًا جديدًا، أخذ سمعان بطرس المبادرة الصحيحة التي تناسب دوره كمتقبّل إيجابيّ لعمل يسوع النبويّ وكشف علنًا الهوية الحقيقيّة للمبشّر: يسوع هو الربّ الإله. أما بطرس فلم يعترف بهويّة يسوع فحسب، ولكنّه أدرك وضعه كخاطئ، واعترف بأنّ العلاقة مع يسوع لا تتحقّق في الوضع الذي هو فيه. لذلك ينحني أمامه على ركبتيه، ويطلب إليه، بخوف، أن يبتعد عنه. [6] ترد أسماء شركاء بطرس في المركب وكأنها تشارك رئيس الصيد في موقفه. فقد حملت حبكة الرواية الصيادين إلى وضع أخير عليهم أن يختاروا فيه بين أمرين: إما أن يطلبوا من المتطفّل ألاّ يتدخّل في حياتهم الطبيعية، فيستمروا في استعمال مراكبهم للصيد الليليّ، وإما أن يتكيفوا مع الوضع الجديد الذي فرضه عليهم المعلّم، فيكون لهم صيد وفير على أساس كلمته.
قبل أن يتمّ اتخاذ أيّ قرار، يقترح يسوع على سمعان ما يأتي: "من الآن تكون تقبض الناس على قيد الحياة" (الآية 10). [7] يولّد هذا القول في حبكة السرد توترًا ضروريًا بالنسبة للحلّ النهائيّ، الذي يتمثّل في نهاية سعيدة ليسوع. يهمل الصيادون المراكبَ، أعداء يسوع، ويتبعون طريقه (الآية 11). ينجح المبشّر في تجاوز المحنة الثالثة والأخيرة ومعها التحدي الرئيسيّ في الرواية: وهو أن يعمل صيادون جهّال وخطأة على أساس كلمته ويتبعوا تعاليمه متخلين عن وسطهم الخاص وأسلوب حياتهم.
الشخصيات وعلاقتها العاملية
إنّ الدراسة في حبكة الأفعال أعطتنا نظرة جديدة إلى القصة، التي قد تبقى ناقصة إذا لم نبحث في ملامح كلّ من الشخصيات ووظائفها، آخذين بعين الاعتبار العلاقات القائمة في ما بينها، وتبدّل الملامح الذي يتحقّق في الوضع النهائيّ.
ليس من الصعب، في مقطعنا هذا، أن نصنّف الشخصيات بحسب كثافة حضورها. فالجمع في الآية 1 يأخذ، بوضوح، دور ما يسمّى في النقد السرديّ بخيط (ficelle)، والذي تتحدّد وظيفته في كونه ستارًا وخلفيةً للمشهد. في المقابل، يسوع وسمعان هما بطلا القصّة. يتأكّد هذا إذا ما لاحظنا كيف يسهب الراوي، نسبيًا، في وصف يسوع وسمعان، معطيا إياهما ميزات الشخصية المتكاملة. فيسوع معلّم متجوّل يعلّم كلمة الله، ويتصرّف بسلطان لأنّه هو نفسه الربّ، وينجح في جعل الصيّادين تابعين له. أمّا بطرس فصياد من الجليل، وبخلاف سمعته، فإنّه يسمع كلمة الله، ويطيع، ويخاف الله، ويتعجّب، ويقبل دعوته. ونجد، من جهة أخرى، الصيادين، شركاء سمعان ورفاقه على مستوى ثانٍ. لهؤلاء ملامح الشخصية المتكاملة من غير أن يكونوا أبطال القصّة: يذكر لوقا اسم بعضهم (الآية ، وهم العاملون الحقيقيون في الصيد، ويندهشون (الآية 9)، ويرافقون سمعان بطرس عندما اتخذ قراره النهائيّ بأن يترك كلّ شيء ويتبع يسوع.
قبل الاستنتاجات وبعيدًا عن التلوين النفسيّ الذي استعنّا به لتوّنا في وصف الشخصيات، يمكننا أيضًا، أن نحلّل هذه الشخصيّات انطلاقًا من وظيفتها السردية الأساسيّة في الحبكة. هذا ما ندعوه العامل (actant). ثمّة، بحسب غْرَيماس، على الأكثر ستّة أدوار للعوامل: بعد إرساله من قبل مرسِل، يبحث الفاعل عن غرض أو موضوع ذي قيمة عليه أن يسلّمه إلى مرسَل إليه. في بحثه عن الموضوع، قد يتلقى الفاعل مساعدة أو يواجه معوقات. [8] إذا طبقنا هذه النظرية المهمّة في التحليل السرديّ على قصّة الصيد العجائبي نحصل على لائحة العوامل الآتية:
عناصر القصة العوامل
قوّة الروح (من سياق الرواية، لوقا 4: 14) المرسل
هو/ يسوع الفاعل
بشارة الكلمة الموضوع
سمعان بطرس والذين في سفينته المرسل إليه
السفينتان والشباك المعيق
كلمة يسوع والذين في السفينة الأخرى المساعد
بهذه الطريقة يتأكّد دور يسوع كبطل وفاعل للقصّة ووظيفة سمعان بطرس كمتقبّل رئيسيّ لعمل الفاعل. فقد أراد يسوع أن يصل إليه منذ المقطع الأوّل من القصة عندما قرّر أن يدخل إلى مركبه.
أمّا في ما يتعلّق بالمرسِل فمن المهمّ أن نكتشفه لكي نوضح بشكل أفضل دور يسوع كمبشّر متجوّل مرسَلٍ من الله نفسه، "بقوّة الروح". إنّ إرسال يسوع إلى عمله مرحلة أساسيّة في إنجيل لوقا تبدأ بالمعمودية (3: 21-22) وتنتهي ببدء بشارته في الجليل (4: 14-15). وهي توضح الأسس التي يحقّق عليها يسوع رسالته. هكذا يكون المرسِل ذاك العامل الذي جاء ذكره في بداية العمل وهو لا يزال فاعلاً في كلّ خطوة يقوم بها يسوع كحاملٍ لرسالة أبيه السماوية مقودًا من الروح.
يشير المعطى الزمنيّ في الوضع البدئيّ، إذ كان الجمع يزدحم عليه ليسمع كلمة الله، بوضوح إلى موضوع القصّة العجائبيّة. نضيف إلى هذا موقف يسوع اللائق بالمعلّم عندما "جلس" "ليعلّم"، [9] وإلحاح سمعان على كلمة الربّ، والدعوة إلى اصطياد الناس للملكوت المفعمة بالتحدي. إضافة إلى ذلك، إذا نظرنا إلى سياق المقطع المباشر نجد خيطًا موضوعيًا دقيقًا يحيط بموضوع بشارة كلمة الله. [10] ويلتقي كلّ هذا في نقطة واحدة: يتصرّف يسوع لغاية واحدة لا تتغيّر، وهي إعلان الرسالة التي أوكلها الله إليه.
أمّا العاملان الآخران، أي المعيق والمساعد، فعندهما وظيفة عمليّة سائدة، ولئن كانا على مسافة معيّنة من المستوى الرئيسيّ.
عندنا، من جهة، تشديد مهم للراوي على وصف المعيق، "السفينتين والشباك"، بطريقة سلبية. فعندما لا تكون هذه جافة وفارغة على الشاطئ، نجدها في المياه على وشك أن تغرق وتتمزّق. اللحظة الوحيدة التي تصبح فيها إحدى أدوات الصيد هذه صالحة، هي عندما يضع يسوع يده على المركب، ليستعمله كمنبر للتعليم. أضف إلى هذا أنّ دورها كمعيق يتمّ إيضاحه في النهاية، عندما يصبح من الضروريّ إهمال المراكب و"كلّ شيء" لاتباع خطى يسوع.
من جهة أخرى، لدينا عنصران مختلفان يلعبان دور العامل المساعد في بلوغ يسوع إلى غايته، أي بشارة كلمة الله. أحد هذين العنصرين هو، دون شكّ، كلمة يسوع (في اليونية rema) التي تبدو وكأنّها هي التي دفعت سمعان بطرس إلى رمي الشباك وحصول الصيادين على صيد وفير. أما العنصر الآخر فهو رفاق سمعان (في اليونانية metochoi )، الصيادون الذين في المركب الآخر. ولئن كانت لهؤلاء مكانة ثانوية في مجموعة الشخصيات، إلاّ أنهم يسارعون إلى إنقاذ الوضع الدقيق لشباك سمعان التي لم تتمكن من الاحتواء على العطايا الممنوحة بكلمة يسوع. هؤلاء الصيادون هم الذين يساعدون شركاء سمعان بطرس ويمكننون الجميع من الوصول إلى البرّ سالمين لكي يشرعوا في السير على خطى يسوع.
تتنوّع ملامح الأبطال بشكل كبير بين الوضع البدئيّ والوضع النهائيّ. بفضل تسلسل الأحداث، لم يعد يسوع مجرّد مبشّر متجوّل، بل أصبح الربّ الذي يخرج ليفتش عن الانسان الخاطئ ليخلّصه. من جهته، يكفّ سمعان عن أن يكون صيادًا عاديًا ليصير ممثلاً لكلّ إنسانٍ غارق في الخطايا ومختبرًا في لحمه "صيد الناس" الذي يتمه المعلّم, وقد انتهى به الأمر في اتباع يسوع ليتعلّم منه فنّ الخلاص هذا. من مبشّر إلى مخلّص، ومن صياد بالمراكب إلى صياد باتباع يسوع. تلك هي أهمّ التغييرات التي يجريها السرد على أبطال القصّة. [11]
قصة الصيد العجائبيّ من منظور وظائفيّ
ما من شكّ في أنّنا أمام قصة نموذجية للبشارة بكلمة الله، ممثلّة مجازيًّا (allegorically) في مشهد الصيد. فالصيد هو البشارة، والبشارة هي صيد الناس للملكوت. يدعو لونينغ النوع الأدبيّ لهذه الرواية "قصّة معجزة مجازية" (في الألمانية (allegorischeWundergeschichte، وهو نوع يقلّ شيوعه بين معجزات العهد الجديد، جذوره في الحكمة الرؤيوية في اليهودية الأولى، وهو يستعمل للتعبير عن المعرفة المعلنة من السماوات المفتوحة. يطلق هذا العلم السماويّ الجديد المعرفة الاختبارية اليومية للبشر نحو رؤية كونية جديدة. [12]
تشكّل الكميات الكبيرة من المياه، في العالم المعاصر للعهد الجديد، تحدٍّ للإنسان، وهي عالم معادٍ ورمز للمجهول. قليلون هم الذين يستطيعون أن يتحركوا في هذه المياه من غير أن يفنوا. من بينهم الصيادون، الذين عندهم مراكب، والذين استطاعوا أن يكيّفوا حياتهم مع تحديات هذا العالم الوبيء والمضني. أمّا يسوع، الذي يدرك الوضع الصعب الذي يعيش فيه الإنسان، محاطًا بعدائية مياه الخطيئة، بشباكه الفارغة، فقرّر أن "يدخل إلى المركب" ليخلّصه. ولأنّ نعمة هذا الافتقاد فتحت عيني الإنسان على حياة جديدة [13]، وحوّلت العدائية إلى كرم ووفرة، وجب على الانسان أن يتخلّى عن حقيقته القديمة، ووضعه الخاطئ، ومسكنه غير اللائق، ليتّبع خطى المخلّص. وفي هذا ليسوا بحاجة إلى أسلحة أو أدوات ليعيشوا. الأمر الوحيد الضروريّ هو أن يسمعوا كلمة المعلّم ويتّبعوا خطاه نحو الملكوت.
المراكب هي إذًا تلك المعرفة، وتلك الثقافة، وتلك الوسائل التي يستعملها الناس ليعيشوا في عالم الخطيئة. تشير الحبكة السرديّة والعلاقات القائمة بين المركبين إلى أنّهما يمثّلان، من جهة، التقليد الدينيّ والثقافيّ لبطرس وشركائه، ومن جهة أخرى، التقليد الدينيّ والثقافيّ لرفاقه في المركب الآخر. ولا يؤمّن الحوار بالإيماء ومن على بعد إلاّ تفاهمًا محدودًا وناقصًا بين الناس الملتجئين إلى هذا الكنف أو ذاك من العلم والإيمان. من غير أن يمثّلا تفسيرًا حصريًا، تذكّر وظيفة هذين المركبين وعلاقتهما المتبادلة، على نحو مجازيّ، بصعوبة التفاهم التي كانت قائمة بين اليهود المسيحيين وبين المسيحيين من الأمم. [14] ليس هذا فحسب، ولكنّ لوقا يشدّد في سرده على أنّه من المستحيل الخلاص من مياه الشرّ والخطيئة ما لم يتّحد كلاّ المركبين لينالا النعمة التي أعطاها يسوع المسيح. وأخيرًا عليهم أن يتخلّوا عن كلّ ما كانوا لكي يبدأوا طريقًا جديدًا مع معلّمهم على شواطئ البحر الذي كان يتوعّدهم، والذي تغلّبوا عليه بمعونة يسوع المسيح. وتكمن وظيفتهم من الآن فصاعدًا في أن ينقذوا كلّ الذين كانوا استسلموا إلى كفر المياه، وذلك بمعونة بشارة كلمة الله وحدها، من غير أن يضطروا إلى استعمال الأيدي، أو المراكب، أو الشباك.
إن الملامح المفصَّلة لشخصيّة البطل الثاني، بطرس، تتمتّع، من دون شكّ، بوظيفة عملية تتمثّل في حثّ القارئ على التماهي معه. بطرس مثلٌ ملموس عن الوضع البشريّ. لقد تعب بطرس من محاولات الصيد طوال الليل، في وسط الظلمات، دون أن يحصل على أيّ نتيجة. يعاني بطرس من الظلمة والعجز والتعب. وهو يعرف أنّ حياته ومحيطه واقعان تحت سيطرة الخطيئة والفساد. هذا بالإضافة إلى أنّ تقليده الدينيّ اليهوديّ يعلّمه أنّ أي اتصال مع المقدّس والإلهيّ، في وضع كهذا، يمكن أن يتسبّب في موته، ولهذا يلتمس من يسوع أن "يخرج منه"، ويتركه بسلام.
لقد جاء يسوع ليصحّح هذه النظرة اللاهوتية اليهودية. ولا ينتظر يسوع، الذي اعترف سمعان بطرس بأنّه الربّ، أن يتطهّر الإنسان ويخرج من مياه الخطيئة ليأتي إليه. على العكس. يخرج يسوع للقائه في عالم الخطيئة نفسه ويستعين بكلّ وسائل هذا العالم لكي يظهر حبّه وإصراره على خلاص الإنسان وليظهر له طريق الحياة الحقيقيّة. بعكس الاهوت الفريسيّ يظهر يسوع بعمله أنّ الخلاص لا يقوم على الطلب من الله بأن يتخلّى عن الخطأة، بل على الطلب من الخطأة بأن يتخلوا عن الخطيئة. القداسة لا تقتل ولا تلوّث، ولكنها تعطي الحياة، وتمتدّ لتصل إلى كلّ إنسان. إنّ يسوع في قصة الصيد العجائبيّ سلطويّ وهجوميّ لأنّه هو الإله نفسه الذي قرّر أن يخرج لملاقاة الانسان ليخلّصه من وبائه وشرّه. قرّر أن يخلّص خليقته ويعطيها فرصة جديدة للحياة، بعيدًا عن تعب الليل، وبتوافق مع مشيئة خالقها.
خلاصة
لقد مكّننا هذا التحليل السرديّ من اكتشاف غنى قصة الصيد العجائبيّ، وجعلنا نقترب من كلّ من شخصياتها بعمق وكثافة كبيرين. وفي تطبيقنا لهذا المنهج استطعنا أن نحدّد بدقّة كبيرة سير الأحداث الرئيسيّ للحبكة وركّزنا على الأبطال والعناصر المهمّة.
في هذا المقطع الإنجيلي تعليم خلاصيّ ليسوع. يصل الخلاص إلى الإنسان فقط من خلال كلمة الله. وعلى الإنسان أن يتعلّم كيف يسير، أي كيف يعيش وفق هذه الكلمة. ليس الحديث هنا عن إبعاد الخطأة، بل عن خلاصهم، وجعلهم مشاركين في شعب الله. بطرس هو الخاطئ الذي جاءه الخلاص على نحو نموذجيّ. وسيبشّر من الآن وصاعدًا ويحيا بما رآه وسمعه من يسوع.
ما بدأ كمجرّد مشهدٍ على شاطئ البحيرة، انتهى بالحديث عن المعاناة الوجودية للإنسان الذي يعرف أنّه عليه أن يعيش في عالم معادٍ ودنيء إلى أن تأتي ساعة فنائه. غير أنّ الأهمّ هو أنّ لوقا يقدّم حلاًّ جذريًا لهذا الإنسان المرهق، الذي يقترب منه يسوع ليخلّصه ويظهر له رؤية كونية جديدة، وسببًا حقيقيًا للحياة مبنيًا على إعلان أسرار مشيئة الله.
هكذا يبدأ يسوع صيده في الجليل وينطلق ليجمع شعبًا يسمع كلمة الله، ليخرج بدوره إلى لقاء كلّ البشرية ليقدّم لها الخلاص. نحن أمام بداية "صيد الناس الكبير". نحن أمام بدء العمل الخلاصيّ والأخرويّ للناصريّ، الربّ، وابن الله.
________________________________________
[1] أنظر Maguerat, D./Bourquin, Y., Cَmo leer los relatos bيblicos. Iniciaciَn al anلlisis narrativo, Santander, 2000, p. 71-72.
[2] إنّ العبارة التي يختارها الكاتب لتحديد زمن القصة هي من أهمّ الصيغ النموذجية التي تستعمل في يونانية العهد الجديد لاستهلال السرد الروائي: egéneto dè en tô + a.c.i..
[3] في ردّه على كلسوس (1. 62)، يعرض أوريجنس لمهن الرسل السابقة، ويتحدّث على الدور البارز الذي تلعبه بساطتهم ومحدوديتهم العلمية في دورهم كمذيعين لكلمة الله، ذلك لأنّ إيمان سامعيهم واقتناعهم، لا يأتي، في هذه الحال، من فصاحة المبشرّ، أو قوّة الاقناع عنده، بل يصدران عن قوة كلمة الله نفسها. للمزيد من المعلومات حول الأوضاع الاجتماعية للمسيحيين الأوائل أنظر Horell, P.G. (Ed.), Social-Scientific Approaches to New Testament Interpretation, Edinburgh, 1999.
[4] الفعل الوحيد الذي يرد في زمن الماضي من صيغة رفع الفعل في الآية 1 هو "كان واقفًا" –ên estôs-، ولكونه ليس من أفعال الحركة فهو لا يعتبر حدثًا في الرواية.
[5] نستعمل عبارة "هجوميّ" هنا كميزة للكلمة النبويّة، كما يحدّدها الأب بولس طرزي في كتابه مدخل إلى العهد القديم. الجزء الثاني، التقاليد النبوية، بيروت، 1998، ص 21-23.
[6] في الآية 8 تورد ترجمة فان دايك جملة "أخرج من سفينتي"، فيما تقول اليونانية "أخرج مني" éxelthe ap’ emoû -.
[7] مرّة أخرى نشير إلى أنّ ترجمة فان دايك تورد "تصطاد الناس" حيث يقول الأصل اليونانيّ "تقبض الناس على قيد الحياة". لا يستعمل لوقا هنا عبارة "صياد" - alieْs -المذكورة في 5: 2 بل يقرّر أن يختلف عن مرقس 1: 17 ليشدّد على العمل الخلاصيّ لصيد الناس بعبارة "يقبض [أحدًا] حيًا" - zôgréô. بخصوص الاستعمال الخاص لهذه العبارات أنظر Balz, H./Schneider, G., , en: DENT I, p. 1756 و Fitzmyer, J.A, El Evangelio segun Lucas II. Traduccion y Comentarios. Capitulos 1-8, 21, Madrid, 1987, 485.
[8] أنظر Maguerat, D./Bourquin, Y., relatos, p. 103-104 و العيد، يمنى، تقنيات السرد الروائيّ. قي ضوء المنهج البنيويّ، بيروت، 19992، ص 54 و187-189.
[9]أنظر أوضاع سردية مشابهة في لو 2: 46 و4: 20.
[10] يشير Maguerat, D./Bourquin, Y., relatos, p. 103-104 إلى هذا الخيط المرشد بين لو 4: 42-44؛ و5: 15 و5: 5.
[11] حول الميزات الجديدة لسمعان بطرس في وضعه النهائيّ أنظر Lِning, K., Das Geschichtswerk des Lukas I. Isarels Hoffnung und Gottes Geheimnisse, Stuttgart-Berlin-Kِln, 1997, p. 168.
[12] أنظر Lِning, K., Geschichtswerk I, p. 168-169.
[13] في لو 5: 8 يرى بطرس ما فعله يسوع.
[14] Lِning, K., Geschichtswerk I, p. 170.
نموذج تطبيق التحليل السرديّ على لو5: 1-11
د. دانيال ألبرتو عيّوش
جامعة البلمند
مقدمة
بعد المعمودية والتجربة في البريّة، يبدأ يسوع عمله في الجليل، مقتادًا بقوّة الروح (لوقا 4: 14). وكانت الناصرة وكفرناحوم أولى القرى التي شهدت عمل الربّ. الواحدة لم تؤمن والأخرى آمنت. رأت الناصرةُ (لوقا 4: 16-30) في يسوع صورةً مشوّهة لابن يوسف، ذلك الابن الذي من قرية لا يخرج منها شيء مهمّ. ولذا حاول أبناء الناصرة أن يخنقوا نشاط ذاك الابن القرويّ الجسور. أمّا كفرناحوم (لوقا 4: 31-44) فسمعت ما قاله يسوع، وقبلته بدهشة وورع، وأرادت أن تستبقيه. لكنّ يسوع فضّل أن يتابع بشارته في المدن الأخرى ليكمل رسالته.
هنا يبدأ مشهد بحيرة جنيسارت، الذي ينسبه النقد الأدبيّ إلى المصدر اللوقانيّ الخاص (S L). وعليه فإنّ هذا المشهد يتضمّن خطوطًا رئيسيّةً من لاهوت لوقا الإنجيليّ ومن مفهومه لافتقاد الناصري ودوره في خلاص البشر.
السفن، والشباك، والصيادون عناصر نموذجية في المشهد اليوميّ على ضفاف بحيرة جنيسارت. مشهد متناغم، خالٍ من التعقيدات الكبرى. عنصره اللافت معلمّ يعلّم جموعًا مزدحمةً ، ويصرّ على التدخّل في عالم الصيادين، وخصوصًا في عالم سمعان، قائدهم.
سوف نحاول، من خلال التحليل السرديّ، أن نعيد قراءة هذا المقطع، آخذين بعين الاعتبار المراحل الرئيسية من سير أحداثه، وتطوّر حبكته، وما بين شخصياته من علاقات، وتبدّل الأمكنة، وحلّه النهائيّ.
تحتوي هذه القصّة على تعليم لاهوتيّ عميق، سوف نسعى إلى اكتشافه تدريجيًّا وبمنهجيّة. إنّها قصّة تنكشف فيها وظائف شخصياتها بقدر ما يتقدّم عمل يسوع وتعليمه باتجاه مستوى أوّل، ملقيَين على القصة بكاملها أنوارًا وألوانًا جديدة. يستثمر لوقا هنا كلّ موهبته ككاتب، ويظهر، بمهارة، أنّ فنّ السرد الروائي هو فنّ يبني القرّاء في الإيمان.
تحديد المقطع وتجزئته
1 وإذْ كان الجمع يزدحم عليه ليسمع كلمة الله، كان هو وافقًا عند بحيرة جنّيسارت.
2 فرأى سفينتين واقفتين عند البحيرة.
والصيادون، إذ قد خرجوا منهما، غسلوا الشباك.
3 فدخل إحدى السفينتين التي كانت لسمعان وسأله أن يبعد قليلاً عن البر.
ثمّ جلس وصار يعلّم الجموع من السفينة.
4 ولمّا فرغ من الكلام قال لسمعان:
"ابعد إلى العمق وألقوا شباككم للصيد.
5 فأجاب سمعان وقال له:
"يا معلم، قد تعبنا الليل كله ولم نأخذ شيئًا، ولكن على كلمتك ألقي الشبكة."
6 ولمّا فعلوا ذلك أمسكوا سمكًا كثيرًا جدًّا،
فصارت شبكتهم تتخرّق.
7 فأشاروا إلى شركائهم الذين في السفينة الأخرى أن يأتوا ويساعدوهم.
فأتوا وملأوا السفينتين حتى أخذتا في الغرق.
8 فلمّا رأى سمعان بطرس ذلك خرّ عند ركبتيّ يسوع قائلاً:
"اخرج منّي يا رب، لأنّي رجل خاطئ."
9 إذ اعترته وجميع الذين معه دهشة على صيد السمك الذي أخذوه.
10 وكذلك أيضًا يعقوب ويوحنّا ابنا زبدي اللذان كانا شريكي سمعان.
فقال يسوع لسمعان:
"لا تخف! من الآن تكون تقبض الناس على قيد الحياة."
11 ولمّا جاءوا بالسفينتين إلى البرّ تركوا كلّ شيء وتبعوه.
يسمح لنا تبدّل المكان، والزمان، والأشخاص الذي نجده في لوقا 5: 1-11، مقارنةً مع المقطع السابق (4: 42-44) والمقطع اللاحق (5: 12-16)، بأن نحدّد بسهولة مشهد الصيد العجائبيّ الذي تدور أحداثه ، بخلاف المقطعين الآخرين ، في بحيرة جنيسارت، بين يسوع، والجمع، وسمعان ورفاقه، أثناء الاستماع إلى الكلمة.
لتجزئة النص اخترنا ترجمة فان دايك التي تعكس، بشكل واضح جدًا، البنية القواعدية للأصل اليونانيّ. أما الكلمات المطبوعة بشكل مائل، فتشير إلى التغييرات التي أعتبرها ضرورية لفهم رسالة المقطع بشكل أفضل.
يميّز المستويان العاموديان للنص بين أحداث الرواية ومضمون الحوارين اللذين يجريان بين شخصياتها. الأفعال التي تحتها خطّ هي التي تؤلّف الحبكة الحقيقيّة للقصّة؛ وهي كلّها مستعملة في أزمنة الماضي في صيغة رفع الفعل. بهذه الطريقة يمكننا أن نميّز بين الأحداث الرئيسية في تطوّر السرد الروائي، والأحداث الأخرى الثانوية، التي تنتمي إلى الخلفية، والتي تؤثر، بشكل جزئيّ، على الأفعال الرئيسية في النص .
وفقًا لـ "المخطّط الخُماسيّ" الذي وضعه لاريفاي [1]، نجد الوضع البدئيّ للقصة في تقديم الزمان والمكان في الآيتين 1-2. تلي ذلك العقدة في بشارة يسوع وقبول سمعان الخروج للصيد في الآيات 3-5، والحدث المتحوّل في الآيتين 6-7، والذي يحتوي على الصيد وتدخّل المركب الآخر. ثمّ يأتي الحلّ في الآيات 8-10، باعتراف بطرس ودعوة يسوع. تُختم القصّة في الآية 11، التي تقدّم الوضع النهائيّ، وفيها إهمال السفينتين، واتباع يسوع. لقد قمنا بالتجزئة الأفقيّة للنصّ وفقًا لهذا النموذج.
التفسير السرديّ
إنّ الوضع البدئيّ للرواية مهمّ. يستهلّ الكاتب قصته بإشارة إلى معطى نوعيّ للزمان الذي تدور فيه الأحداث، وهو الزمان الذي "كان [فيه] الجمع يزدحم عليه ليسمع كلمة الله (الآية 2)." [2] تقدّم لنا زاوية المقاربة الزمنية التي يختارها الإنجيليّ منظورًا للقصّة خاصًا جدًا، ترتبط فيه معجزة الصيد النهاريّ بالشباك باجتماع الشعب لسماع بشارة يسوع، ارتباطًا مباشرًا. أما المعطى المكانيّ فمطابق تمامًا للحدث الرئيسيّ. تحمل القصّة القارئ إلى شاطئ بحيرة جنيسارت بين المراكب، والصيادين، والشباك (الآيتان 1-2).
بعد تحديد الزمان والمكان، يجتمع الجمع ليصير شاهدًا على الحدث، وتظهر الشخصية الرئيسيّة، التي يشار إليها بالضمير المنفصل للتشديد "هو" في الآية 1ب، وتوجّه نظرها نحو مكان محدّد: مركبين على شاطئ البحيرة وصياديهما، وهم يقومون بآخر أعمال الصيد، ألا وهو غسل الشباك. وضع الراوي كلّ العناصر في مشهد واحد، ليخلق توترًا غايته دفع الحبكة السرديّة إلى الأمام: اللقاء بين مبشّر بكلمة الله وصيادين، أي أناس اشتهروا في الأزمنة القديمة بثقافتهم المحدودة وقلّة اكتراثهم للشؤون الدينية. [3] وما هذا إلاّ تحدٍّ يقبل المبشّر بأن يقوم به بحضور تابعيه. نحن، دون شكّ، أمام أحد أعمال يسوع النموذجية.
تسلسل الأفعال
لكي نفهم حبكة القصة وتفاعل شخصياتها بشكل أفضل، يمكننا أن نجمع الأفعال الرئيسية (تلك التي تحتها خط في النص المجزّأ) اثنين اثنين، وفقًا لمبدأ الفعل وردّ الفعل. في اللائحة التالية تطبيق لهذا المنهج على المخطّط الخُماسيّ الذي تبنّيناه في التجزئة للنص:
الوضع البدئيّ [4] : 2 رأى [هو] ç الصيادون غسلوا الشباك
العقدة : 3 سأل سمعانَ ç صار يعلّم الجموعَ
4 قال لسمعان ç 5 سمعان قال له
الحدث المحوّل : 6 أمسكوا سمكًا ç صارت شبكتهم تتخرّق
7 أشاروا إلى شركائهم ç أتوا وملأوا السفينتين
الحلّ : 8 بطرس خرّ عند ركبتيّ يسوع ç 10 قال يسوع لسمعان
الوضع النهائيّ : 11 تبعوه.
تماشيًا مع عدم التوازن الموجود في الوضع البدئيّ، الذي يتمثّل في "مبشّرٍ يواجه جهل الصيادين وقلّة تقواهم"، تأتي الأفعال التي تستعمل لوصف سير الأحداث كأفعال حوارٍ وتفاهم، أي أفعال القول، مثل سأل، علّم، قال، وحتّى الفعل أشار.
والواقع أنّ الاتصال الأوّل بين يسوع وسمعان، قائد الصيادين، كان اتصالاً كلاميًا: يطلب يسوع من سمعان أن يبعد مركبه قليلاً عن اليابسة ليستعمله كمنبر للتعليم (الآية 3). يتصرّف يسوع بسلطان. والمفاجئ في الأمر أنّ سمعان يطيعه دونما تردّد. قلت إنّ هذا الأمر "مفاجئ" لأنّ الراوي لا يقول إنّ سمعان والصيادين كانوا جزءًا من الجمع الذي كان يتبع يسوع. على العكس؛ فإنّ لوقا يميّز بين فريق وآخر، بحيث يبدو وضع يد يسوع على أحد المركبين مبادرةً يأخذها المعلّم على نحو متعمّد، لا بل هجوميّ إذا جاز التعبير. [5] مع ذلك، يقبل رئيس الفريق المعتدى عليه تصرّف يسوع السلطويّ. بعد هذا الحدث يبدأ الصيادون يستمعون إلى تعليم يسوع الذي تكلّم إلى أن قرّر التوقّف (الآية 4أ).
فلنلاحظ كيف يركّز السرد الروائي على شخصية سمعان. يقول لنا لوقا إنّ يسوع اختار مركبه ليدخله، وإنّ سمعان هو الذي أبعده عن الشاطئ لكي يعلّم المعلّم من هناك. بعد الخطبة، بادر يسوع سمعان بطلب أصعب بكثير: أن يبحر إلى العمق ويلقي الشباك بعد أن كان قد غسلها وانتهى من الصيد، أي في النهار. تجدر الإشارة إلى أنّ يسوع لم يتخذ هذه الخطوة الحاسمة إلاّ بعد أن أتمّ مهمته الأساسية، أي بعد أن أعطى تعليمه للجمع ولسمعان. والواقع أنّ سمعان وجد في كلمة يسوع السبب الوحيد المقنع حتى يرمي الشباك بعد أن بدا له، بعد ليل طويل من التعب، أنّه ما من جدوى في الاستمرار في محاولة الصيد (الآية 5).
بإقرار سمعان بأهميّة كلمات المعلّم، تجاوز يسوع محنة أخرى في القصّة. كانت المحنة الأولى عندما تحقّق له الدخول إلى مركب سمعان ليعلّم. أما المحنة الثانية الآن، فهو حثّه الصيادين على أن يصطادوا "على كلمته"، لا بمجرّد فعل الصيد. أصبح سمعان ورفاقه يعملون الآن بأمر من كلمة يسوع، وهي التي جعلت صيدهم ناجحًا في الآية 6. وقد أتى هذا النجاح على نحو غير متوقّع، بحيث لم يستطع الصيادون، في وضعهم الطبيعيّ، تحمّله، ذلك أن الشباك أوشكت على أن تتمزّق.
كان ينبغي القيام بشيء على الفور حتى لا تضيع النعمة المكتسبة. هنا نفهم لماذا ركّز الراوي العارف بكلّ شيء انتباه القارئ على مركبين متوقفين عند البحيرة، منذ البداية. كان على المركب الآخر أن يعمل الآن ليضمن نجاح المشروع الذي باشره سمعان على أساس كلمة يسوع.
إنّ الاتصال الذي قام بين شركاء سمعان (في اليونانية koinônoi) ورفاقه في المركب الآخر (في اليونانية metochoi)، اتصال بدائيّ ومحدود. إنّه اتصال بالإيماء لا بالكلمات. لا ننسينّ المسافة بين المركبين. لكن، رغم ضآلة هذا الاتّصال، يستطيع المركب الآخر أن يفهم ما يريده سمعان، ويساعده في عمله، ولا ينجح في إنقاذ صيد سمعان فحسب بل شباكه أيضًا. في أيّ حال، ليس لأيّ من المركبين قدرة كافية لاحتواء العطايا المكتسبة بفضل نعمة كلمة يسوع (الآية 7).
وهنا، بعد أن رأى سمعان النجاح (الآية ، وبعد أن أعطى الراوي له اسمًا جديدًا، أخذ سمعان بطرس المبادرة الصحيحة التي تناسب دوره كمتقبّل إيجابيّ لعمل يسوع النبويّ وكشف علنًا الهوية الحقيقيّة للمبشّر: يسوع هو الربّ الإله. أما بطرس فلم يعترف بهويّة يسوع فحسب، ولكنّه أدرك وضعه كخاطئ، واعترف بأنّ العلاقة مع يسوع لا تتحقّق في الوضع الذي هو فيه. لذلك ينحني أمامه على ركبتيه، ويطلب إليه، بخوف، أن يبتعد عنه. [6] ترد أسماء شركاء بطرس في المركب وكأنها تشارك رئيس الصيد في موقفه. فقد حملت حبكة الرواية الصيادين إلى وضع أخير عليهم أن يختاروا فيه بين أمرين: إما أن يطلبوا من المتطفّل ألاّ يتدخّل في حياتهم الطبيعية، فيستمروا في استعمال مراكبهم للصيد الليليّ، وإما أن يتكيفوا مع الوضع الجديد الذي فرضه عليهم المعلّم، فيكون لهم صيد وفير على أساس كلمته.
قبل أن يتمّ اتخاذ أيّ قرار، يقترح يسوع على سمعان ما يأتي: "من الآن تكون تقبض الناس على قيد الحياة" (الآية 10). [7] يولّد هذا القول في حبكة السرد توترًا ضروريًا بالنسبة للحلّ النهائيّ، الذي يتمثّل في نهاية سعيدة ليسوع. يهمل الصيادون المراكبَ، أعداء يسوع، ويتبعون طريقه (الآية 11). ينجح المبشّر في تجاوز المحنة الثالثة والأخيرة ومعها التحدي الرئيسيّ في الرواية: وهو أن يعمل صيادون جهّال وخطأة على أساس كلمته ويتبعوا تعاليمه متخلين عن وسطهم الخاص وأسلوب حياتهم.
الشخصيات وعلاقتها العاملية
إنّ الدراسة في حبكة الأفعال أعطتنا نظرة جديدة إلى القصة، التي قد تبقى ناقصة إذا لم نبحث في ملامح كلّ من الشخصيات ووظائفها، آخذين بعين الاعتبار العلاقات القائمة في ما بينها، وتبدّل الملامح الذي يتحقّق في الوضع النهائيّ.
ليس من الصعب، في مقطعنا هذا، أن نصنّف الشخصيات بحسب كثافة حضورها. فالجمع في الآية 1 يأخذ، بوضوح، دور ما يسمّى في النقد السرديّ بخيط (ficelle)، والذي تتحدّد وظيفته في كونه ستارًا وخلفيةً للمشهد. في المقابل، يسوع وسمعان هما بطلا القصّة. يتأكّد هذا إذا ما لاحظنا كيف يسهب الراوي، نسبيًا، في وصف يسوع وسمعان، معطيا إياهما ميزات الشخصية المتكاملة. فيسوع معلّم متجوّل يعلّم كلمة الله، ويتصرّف بسلطان لأنّه هو نفسه الربّ، وينجح في جعل الصيّادين تابعين له. أمّا بطرس فصياد من الجليل، وبخلاف سمعته، فإنّه يسمع كلمة الله، ويطيع، ويخاف الله، ويتعجّب، ويقبل دعوته. ونجد، من جهة أخرى، الصيادين، شركاء سمعان ورفاقه على مستوى ثانٍ. لهؤلاء ملامح الشخصية المتكاملة من غير أن يكونوا أبطال القصّة: يذكر لوقا اسم بعضهم (الآية ، وهم العاملون الحقيقيون في الصيد، ويندهشون (الآية 9)، ويرافقون سمعان بطرس عندما اتخذ قراره النهائيّ بأن يترك كلّ شيء ويتبع يسوع.
قبل الاستنتاجات وبعيدًا عن التلوين النفسيّ الذي استعنّا به لتوّنا في وصف الشخصيات، يمكننا أيضًا، أن نحلّل هذه الشخصيّات انطلاقًا من وظيفتها السردية الأساسيّة في الحبكة. هذا ما ندعوه العامل (actant). ثمّة، بحسب غْرَيماس، على الأكثر ستّة أدوار للعوامل: بعد إرساله من قبل مرسِل، يبحث الفاعل عن غرض أو موضوع ذي قيمة عليه أن يسلّمه إلى مرسَل إليه. في بحثه عن الموضوع، قد يتلقى الفاعل مساعدة أو يواجه معوقات. [8] إذا طبقنا هذه النظرية المهمّة في التحليل السرديّ على قصّة الصيد العجائبي نحصل على لائحة العوامل الآتية:
عناصر القصة العوامل
قوّة الروح (من سياق الرواية، لوقا 4: 14) المرسل
هو/ يسوع الفاعل
بشارة الكلمة الموضوع
سمعان بطرس والذين في سفينته المرسل إليه
السفينتان والشباك المعيق
كلمة يسوع والذين في السفينة الأخرى المساعد
بهذه الطريقة يتأكّد دور يسوع كبطل وفاعل للقصّة ووظيفة سمعان بطرس كمتقبّل رئيسيّ لعمل الفاعل. فقد أراد يسوع أن يصل إليه منذ المقطع الأوّل من القصة عندما قرّر أن يدخل إلى مركبه.
أمّا في ما يتعلّق بالمرسِل فمن المهمّ أن نكتشفه لكي نوضح بشكل أفضل دور يسوع كمبشّر متجوّل مرسَلٍ من الله نفسه، "بقوّة الروح". إنّ إرسال يسوع إلى عمله مرحلة أساسيّة في إنجيل لوقا تبدأ بالمعمودية (3: 21-22) وتنتهي ببدء بشارته في الجليل (4: 14-15). وهي توضح الأسس التي يحقّق عليها يسوع رسالته. هكذا يكون المرسِل ذاك العامل الذي جاء ذكره في بداية العمل وهو لا يزال فاعلاً في كلّ خطوة يقوم بها يسوع كحاملٍ لرسالة أبيه السماوية مقودًا من الروح.
يشير المعطى الزمنيّ في الوضع البدئيّ، إذ كان الجمع يزدحم عليه ليسمع كلمة الله، بوضوح إلى موضوع القصّة العجائبيّة. نضيف إلى هذا موقف يسوع اللائق بالمعلّم عندما "جلس" "ليعلّم"، [9] وإلحاح سمعان على كلمة الربّ، والدعوة إلى اصطياد الناس للملكوت المفعمة بالتحدي. إضافة إلى ذلك، إذا نظرنا إلى سياق المقطع المباشر نجد خيطًا موضوعيًا دقيقًا يحيط بموضوع بشارة كلمة الله. [10] ويلتقي كلّ هذا في نقطة واحدة: يتصرّف يسوع لغاية واحدة لا تتغيّر، وهي إعلان الرسالة التي أوكلها الله إليه.
أمّا العاملان الآخران، أي المعيق والمساعد، فعندهما وظيفة عمليّة سائدة، ولئن كانا على مسافة معيّنة من المستوى الرئيسيّ.
عندنا، من جهة، تشديد مهم للراوي على وصف المعيق، "السفينتين والشباك"، بطريقة سلبية. فعندما لا تكون هذه جافة وفارغة على الشاطئ، نجدها في المياه على وشك أن تغرق وتتمزّق. اللحظة الوحيدة التي تصبح فيها إحدى أدوات الصيد هذه صالحة، هي عندما يضع يسوع يده على المركب، ليستعمله كمنبر للتعليم. أضف إلى هذا أنّ دورها كمعيق يتمّ إيضاحه في النهاية، عندما يصبح من الضروريّ إهمال المراكب و"كلّ شيء" لاتباع خطى يسوع.
من جهة أخرى، لدينا عنصران مختلفان يلعبان دور العامل المساعد في بلوغ يسوع إلى غايته، أي بشارة كلمة الله. أحد هذين العنصرين هو، دون شكّ، كلمة يسوع (في اليونية rema) التي تبدو وكأنّها هي التي دفعت سمعان بطرس إلى رمي الشباك وحصول الصيادين على صيد وفير. أما العنصر الآخر فهو رفاق سمعان (في اليونانية metochoi )، الصيادون الذين في المركب الآخر. ولئن كانت لهؤلاء مكانة ثانوية في مجموعة الشخصيات، إلاّ أنهم يسارعون إلى إنقاذ الوضع الدقيق لشباك سمعان التي لم تتمكن من الاحتواء على العطايا الممنوحة بكلمة يسوع. هؤلاء الصيادون هم الذين يساعدون شركاء سمعان بطرس ويمكننون الجميع من الوصول إلى البرّ سالمين لكي يشرعوا في السير على خطى يسوع.
تتنوّع ملامح الأبطال بشكل كبير بين الوضع البدئيّ والوضع النهائيّ. بفضل تسلسل الأحداث، لم يعد يسوع مجرّد مبشّر متجوّل، بل أصبح الربّ الذي يخرج ليفتش عن الانسان الخاطئ ليخلّصه. من جهته، يكفّ سمعان عن أن يكون صيادًا عاديًا ليصير ممثلاً لكلّ إنسانٍ غارق في الخطايا ومختبرًا في لحمه "صيد الناس" الذي يتمه المعلّم, وقد انتهى به الأمر في اتباع يسوع ليتعلّم منه فنّ الخلاص هذا. من مبشّر إلى مخلّص، ومن صياد بالمراكب إلى صياد باتباع يسوع. تلك هي أهمّ التغييرات التي يجريها السرد على أبطال القصّة. [11]
قصة الصيد العجائبيّ من منظور وظائفيّ
ما من شكّ في أنّنا أمام قصة نموذجية للبشارة بكلمة الله، ممثلّة مجازيًّا (allegorically) في مشهد الصيد. فالصيد هو البشارة، والبشارة هي صيد الناس للملكوت. يدعو لونينغ النوع الأدبيّ لهذه الرواية "قصّة معجزة مجازية" (في الألمانية (allegorischeWundergeschichte، وهو نوع يقلّ شيوعه بين معجزات العهد الجديد، جذوره في الحكمة الرؤيوية في اليهودية الأولى، وهو يستعمل للتعبير عن المعرفة المعلنة من السماوات المفتوحة. يطلق هذا العلم السماويّ الجديد المعرفة الاختبارية اليومية للبشر نحو رؤية كونية جديدة. [12]
تشكّل الكميات الكبيرة من المياه، في العالم المعاصر للعهد الجديد، تحدٍّ للإنسان، وهي عالم معادٍ ورمز للمجهول. قليلون هم الذين يستطيعون أن يتحركوا في هذه المياه من غير أن يفنوا. من بينهم الصيادون، الذين عندهم مراكب، والذين استطاعوا أن يكيّفوا حياتهم مع تحديات هذا العالم الوبيء والمضني. أمّا يسوع، الذي يدرك الوضع الصعب الذي يعيش فيه الإنسان، محاطًا بعدائية مياه الخطيئة، بشباكه الفارغة، فقرّر أن "يدخل إلى المركب" ليخلّصه. ولأنّ نعمة هذا الافتقاد فتحت عيني الإنسان على حياة جديدة [13]، وحوّلت العدائية إلى كرم ووفرة، وجب على الانسان أن يتخلّى عن حقيقته القديمة، ووضعه الخاطئ، ومسكنه غير اللائق، ليتّبع خطى المخلّص. وفي هذا ليسوا بحاجة إلى أسلحة أو أدوات ليعيشوا. الأمر الوحيد الضروريّ هو أن يسمعوا كلمة المعلّم ويتّبعوا خطاه نحو الملكوت.
المراكب هي إذًا تلك المعرفة، وتلك الثقافة، وتلك الوسائل التي يستعملها الناس ليعيشوا في عالم الخطيئة. تشير الحبكة السرديّة والعلاقات القائمة بين المركبين إلى أنّهما يمثّلان، من جهة، التقليد الدينيّ والثقافيّ لبطرس وشركائه، ومن جهة أخرى، التقليد الدينيّ والثقافيّ لرفاقه في المركب الآخر. ولا يؤمّن الحوار بالإيماء ومن على بعد إلاّ تفاهمًا محدودًا وناقصًا بين الناس الملتجئين إلى هذا الكنف أو ذاك من العلم والإيمان. من غير أن يمثّلا تفسيرًا حصريًا، تذكّر وظيفة هذين المركبين وعلاقتهما المتبادلة، على نحو مجازيّ، بصعوبة التفاهم التي كانت قائمة بين اليهود المسيحيين وبين المسيحيين من الأمم. [14] ليس هذا فحسب، ولكنّ لوقا يشدّد في سرده على أنّه من المستحيل الخلاص من مياه الشرّ والخطيئة ما لم يتّحد كلاّ المركبين لينالا النعمة التي أعطاها يسوع المسيح. وأخيرًا عليهم أن يتخلّوا عن كلّ ما كانوا لكي يبدأوا طريقًا جديدًا مع معلّمهم على شواطئ البحر الذي كان يتوعّدهم، والذي تغلّبوا عليه بمعونة يسوع المسيح. وتكمن وظيفتهم من الآن فصاعدًا في أن ينقذوا كلّ الذين كانوا استسلموا إلى كفر المياه، وذلك بمعونة بشارة كلمة الله وحدها، من غير أن يضطروا إلى استعمال الأيدي، أو المراكب، أو الشباك.
إن الملامح المفصَّلة لشخصيّة البطل الثاني، بطرس، تتمتّع، من دون شكّ، بوظيفة عملية تتمثّل في حثّ القارئ على التماهي معه. بطرس مثلٌ ملموس عن الوضع البشريّ. لقد تعب بطرس من محاولات الصيد طوال الليل، في وسط الظلمات، دون أن يحصل على أيّ نتيجة. يعاني بطرس من الظلمة والعجز والتعب. وهو يعرف أنّ حياته ومحيطه واقعان تحت سيطرة الخطيئة والفساد. هذا بالإضافة إلى أنّ تقليده الدينيّ اليهوديّ يعلّمه أنّ أي اتصال مع المقدّس والإلهيّ، في وضع كهذا، يمكن أن يتسبّب في موته، ولهذا يلتمس من يسوع أن "يخرج منه"، ويتركه بسلام.
لقد جاء يسوع ليصحّح هذه النظرة اللاهوتية اليهودية. ولا ينتظر يسوع، الذي اعترف سمعان بطرس بأنّه الربّ، أن يتطهّر الإنسان ويخرج من مياه الخطيئة ليأتي إليه. على العكس. يخرج يسوع للقائه في عالم الخطيئة نفسه ويستعين بكلّ وسائل هذا العالم لكي يظهر حبّه وإصراره على خلاص الإنسان وليظهر له طريق الحياة الحقيقيّة. بعكس الاهوت الفريسيّ يظهر يسوع بعمله أنّ الخلاص لا يقوم على الطلب من الله بأن يتخلّى عن الخطأة، بل على الطلب من الخطأة بأن يتخلوا عن الخطيئة. القداسة لا تقتل ولا تلوّث، ولكنها تعطي الحياة، وتمتدّ لتصل إلى كلّ إنسان. إنّ يسوع في قصة الصيد العجائبيّ سلطويّ وهجوميّ لأنّه هو الإله نفسه الذي قرّر أن يخرج لملاقاة الانسان ليخلّصه من وبائه وشرّه. قرّر أن يخلّص خليقته ويعطيها فرصة جديدة للحياة، بعيدًا عن تعب الليل، وبتوافق مع مشيئة خالقها.
خلاصة
لقد مكّننا هذا التحليل السرديّ من اكتشاف غنى قصة الصيد العجائبيّ، وجعلنا نقترب من كلّ من شخصياتها بعمق وكثافة كبيرين. وفي تطبيقنا لهذا المنهج استطعنا أن نحدّد بدقّة كبيرة سير الأحداث الرئيسيّ للحبكة وركّزنا على الأبطال والعناصر المهمّة.
في هذا المقطع الإنجيلي تعليم خلاصيّ ليسوع. يصل الخلاص إلى الإنسان فقط من خلال كلمة الله. وعلى الإنسان أن يتعلّم كيف يسير، أي كيف يعيش وفق هذه الكلمة. ليس الحديث هنا عن إبعاد الخطأة، بل عن خلاصهم، وجعلهم مشاركين في شعب الله. بطرس هو الخاطئ الذي جاءه الخلاص على نحو نموذجيّ. وسيبشّر من الآن وصاعدًا ويحيا بما رآه وسمعه من يسوع.
ما بدأ كمجرّد مشهدٍ على شاطئ البحيرة، انتهى بالحديث عن المعاناة الوجودية للإنسان الذي يعرف أنّه عليه أن يعيش في عالم معادٍ ودنيء إلى أن تأتي ساعة فنائه. غير أنّ الأهمّ هو أنّ لوقا يقدّم حلاًّ جذريًا لهذا الإنسان المرهق، الذي يقترب منه يسوع ليخلّصه ويظهر له رؤية كونية جديدة، وسببًا حقيقيًا للحياة مبنيًا على إعلان أسرار مشيئة الله.
هكذا يبدأ يسوع صيده في الجليل وينطلق ليجمع شعبًا يسمع كلمة الله، ليخرج بدوره إلى لقاء كلّ البشرية ليقدّم لها الخلاص. نحن أمام بداية "صيد الناس الكبير". نحن أمام بدء العمل الخلاصيّ والأخرويّ للناصريّ، الربّ، وابن الله.
________________________________________
[1] أنظر Maguerat, D./Bourquin, Y., Cَmo leer los relatos bيblicos. Iniciaciَn al anلlisis narrativo, Santander, 2000, p. 71-72.
[2] إنّ العبارة التي يختارها الكاتب لتحديد زمن القصة هي من أهمّ الصيغ النموذجية التي تستعمل في يونانية العهد الجديد لاستهلال السرد الروائي: egéneto dè en tô + a.c.i..
[3] في ردّه على كلسوس (1. 62)، يعرض أوريجنس لمهن الرسل السابقة، ويتحدّث على الدور البارز الذي تلعبه بساطتهم ومحدوديتهم العلمية في دورهم كمذيعين لكلمة الله، ذلك لأنّ إيمان سامعيهم واقتناعهم، لا يأتي، في هذه الحال، من فصاحة المبشرّ، أو قوّة الاقناع عنده، بل يصدران عن قوة كلمة الله نفسها. للمزيد من المعلومات حول الأوضاع الاجتماعية للمسيحيين الأوائل أنظر Horell, P.G. (Ed.), Social-Scientific Approaches to New Testament Interpretation, Edinburgh, 1999.
[4] الفعل الوحيد الذي يرد في زمن الماضي من صيغة رفع الفعل في الآية 1 هو "كان واقفًا" –ên estôs-، ولكونه ليس من أفعال الحركة فهو لا يعتبر حدثًا في الرواية.
[5] نستعمل عبارة "هجوميّ" هنا كميزة للكلمة النبويّة، كما يحدّدها الأب بولس طرزي في كتابه مدخل إلى العهد القديم. الجزء الثاني، التقاليد النبوية، بيروت، 1998، ص 21-23.
[6] في الآية 8 تورد ترجمة فان دايك جملة "أخرج من سفينتي"، فيما تقول اليونانية "أخرج مني" éxelthe ap’ emoû -.
[7] مرّة أخرى نشير إلى أنّ ترجمة فان دايك تورد "تصطاد الناس" حيث يقول الأصل اليونانيّ "تقبض الناس على قيد الحياة". لا يستعمل لوقا هنا عبارة "صياد" - alieْs -المذكورة في 5: 2 بل يقرّر أن يختلف عن مرقس 1: 17 ليشدّد على العمل الخلاصيّ لصيد الناس بعبارة "يقبض [أحدًا] حيًا" - zôgréô. بخصوص الاستعمال الخاص لهذه العبارات أنظر Balz, H./Schneider, G., , en: DENT I, p. 1756 و Fitzmyer, J.A, El Evangelio segun Lucas II. Traduccion y Comentarios. Capitulos 1-8, 21, Madrid, 1987, 485.
[8] أنظر Maguerat, D./Bourquin, Y., relatos, p. 103-104 و العيد، يمنى، تقنيات السرد الروائيّ. قي ضوء المنهج البنيويّ، بيروت، 19992، ص 54 و187-189.
[9]أنظر أوضاع سردية مشابهة في لو 2: 46 و4: 20.
[10] يشير Maguerat, D./Bourquin, Y., relatos, p. 103-104 إلى هذا الخيط المرشد بين لو 4: 42-44؛ و5: 15 و5: 5.
[11] حول الميزات الجديدة لسمعان بطرس في وضعه النهائيّ أنظر Lِning, K., Das Geschichtswerk des Lukas I. Isarels Hoffnung und Gottes Geheimnisse, Stuttgart-Berlin-Kِln, 1997, p. 168.
[12] أنظر Lِning, K., Geschichtswerk I, p. 168-169.
[13] في لو 5: 8 يرى بطرس ما فعله يسوع.
[14] Lِning, K., Geschichtswerk I, p. 170.