منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    السيميائيات العامة ورهانات الأنموذج اللساني

    avatar


    تاريخ التسجيل : 01/01/1970

    السيميائيات العامة ورهانات الأنموذج اللساني Empty السيميائيات العامة ورهانات الأنموذج اللساني

    مُساهمة   الإثنين يناير 11, 2010 5:07 pm



    السيميائيات العامة ورهانات الأنموذج اللساني: النسق،الدلالة والتواصل

    عبد القادر فهيم الشيباني
    السيميائيات العامة ورهانات الأنموذج اللساني
    جامعة وهران-الجزائر



    تعد السيميائيات العامة فضاء نظريا لمساءلة قوانين المعرفة السيميائية وحدودها، إذ تستطيع هذه المساءلة أن تصبغ عليها نعم المادة العلمية فتحدد موضوعها وتجانس منهجها، وأن ترسي عبر بسط المقومات النظرية للعموم مرجعيتها التي ظلت غائبة، كونها قد أضحت اليوم تؤلف حقلا للأبحاث وفهرسا مفتوحا للاهتمامات. إن السيميائيات العامة هي فلسفة للمفاهيم تعف عن التحليلات الخاصة، وتسعى لطرح جملة من المقولات العامة التي تشرف على احتواء مختلف الوقائع السيميائية؛ فلسفة تتحاشى لحظة الاكتمال المسبق وتنزع بخطابها نحو النسبية دون هيمنة إيديولوجية على الخطابات.

    يرتبط تحديد الحيز المعرفي للسيميائيات العامة داخل الاقتصاد العام للمعرفة السيميائية، بإيجاد منظور نظري موحد تنصهر في بوتقته جل التباينات الشكلية لتمثلية العلامات ودلالاتها، حيث تحظى كل علامة من العلامات على اختلاف حقل الممارسة المرتبط بها بنفس الوضع النظري. إن رهان السيميائيات العامة على المظهر الموضوعي في الأنساق الدالة لا يعني أنها تؤلف مركز اهتماماتها؛ فالسيميائيات العامة ليست بالوصفية ولا هي بالتطبيقية، ولكنها تروم بناء أنموذج نظري يقولب الوقائع السيميائية ويمنحها شكلا موحدا، وذلك عبر إنشاء خطاب نظري خالص تستطيع من خلاله الحديث عن موضوع العلامة. والواقع أن أكثر المفاهيم تجريدا هي أكثرها تطبيقا، لأن استهداف بناء أية نظرية قابلة للتطبيق متوقف على تطويرها باستقلالية عن تطبيقاتها. بيد أننا لا يمكن أن نتصور وجود سيميائيات عامة إلا بوجود سيميائيات خاصة حقيقية مهمتها إثراء الأولى بالمناهج الخاصة وتوسيع دائرة اهتماماتها؛ أي إمدادها بديمومة الحياة العلمية عبر إبراز بواطن الخصوصيات الإبستمولوجية التي تتقاطع وتتكامل في سبيل إعادة بناء أو توسيع أو تصحيح الأنموذج المعلن سلفا. فيبدو بذلك نشاط السيميائيات العامة قائما في جوهره على مبادئ التحليل المقارن لمختلف السيميائيات الخاصة.

    يفترض الضبط الدقيق لصورة العلامة اللسانية تحديدها داخل دارة الكلام؛ مهمتها ضبط أساس تلك التمظهرات الصوتية المتغايرة في اللسان، ذلك أن التلاحم الحاصل بين الصوت والفكرة يقوم على تعاضد بين العناصر الآكوستيكية النطقية والعناصر الفيزيولوجية الذهنية، حيث يتولى الكيان الآكوستيكي-الذهني من خلاله تحديد هوية العلامة اللسانية داخل اللسان عبر مبدأ التشاكل والتباين، وتقديمها في شكل كيان النفسي مجرد يلتحم ضمنه الأثر النفسي الصادر عن الصوت الفيزيائي بالصورة الذهنية التي ترتسم عن الأثر.

    تستقل العلامة اللسانية بوصفها كيانا نفسيا عن إرادة الفاعل المتكلم، ولا تتحدد إلا ضمن المجال الاجتماعي الذي يستطيع- حســــــب فردينان دو سوسير Ferdinand de Saussure - إلغاء كل تلك الفوارق التمييزية للمؤسسة اللسانية، ودمجها عبر مفهوم العلامة ضمن مجموع الأنساق الدالة، التي تختص بالدلالة على الأفكار. وعبر هذه الخصيصة يرتفع اللسان عن رتابة المدونة ليغدو شبيها بالكتابة، بألفبائية الصم- البكم؛ بالطقوس ؛ بأشكال الآداب؛ والعلامات العسكرية، الخ1. إن السيميائيات التي تعني بدراسة العلامة، تستمد من خصائص هذه الأخيرة وضعها ضمن الاقتصاد العام للعلوم بوصفها جزءا من علم النفس الاجتماعي؛ وتاليا فرعا من علم النفس العام، لذلك فهي تراهن على اللسان في فهم طبيعة الإشكالات السيميائية.

    تقوم الاستراتيجية السيميائية السوسيرية على دراسة اللسان؛ بالتغاضي عن تلك الخصائص التي لا تعمل إلا على تمييزه عن باقي الأنساق السيميائية، وتبدو في المقابل مهمة للوهلة الأولى (كجهاز النطق مثلا). وبهذا الفعل، فإن اللساني لا يستوضح المشكل اللساني فحسب بل سيلفي نفسه أمام أنساق سيميائية متعددة، تستمد مشروعية تصنيفها وشرحها من قوانين اللسانيات، ضمن فضاء السيميائيات العامة.

    إن التعادل الذي أثاره التجريد اللساني بين الدال والمدلول، قد يغيب حسب آندريه مارتيني (André Martinet) أهمية الدال على صعيد الكلام بوصفه وسيلة تمظهرية للمدلول. وتثير هذه الفرضية ضمن حقل السيميائيات، ضرورة تحديد الطبيعة الجوهرية المتباينة بين الدال والمدلول، فوضع الوساطة الذي يأخذه الدال، يقتضي بالضرورة جوهرا ماديا ( صورة، شيء، صوت، الخ.) يجعل من السيميائيات، وضمن اشتغالها على الأنساق المختلطة، تعمل على جمع كل العلامات تحت مظلة المادة الواحدة، أي ضمن "العلامة النوعية" التي تنتمي إليها: فهناك العلامات الأيقونية، اللفظية، الخطية، والإشارية، الخ.

    وقد حدد لويس يامسليف(Louis Hjelmslev)صورة العلامة بشيء من التدقيق حين فصل بين "الشكل" و"الجوهر"في كل من التعبير والمحتوى، واعتبر أن الجوهر السوسيري ليس سوى مادة للعلامة سماه بـ"الحاوي"(continuum) .فإذا كان سوسير يرى في الدال والمدلول ذلك الانتظام الشكلي للجوهر الصوتي مع الفكرة، فإن يامسليف يرى أن "الحاوي" هو الذي يعطي للتعبير والمحتوى شكليها في صورة نسق مبنين قادر على إنتاج الجواهر والتعريف بها.

    يستطيع شكل التعبير حسب آ. إيكو[1] على غرار شكل المحتوى، أن يلائم جملة من المواد أو المجالات المحددة من "الحاويات" (أصوات؛ ألوان؛ علاقات فضائية، الخ.) عبر إنشائه لنسق من "النماذج" المبنينة عبر التقابلات، حيث تؤلف الجواهر المفردة الناتجة عنه "تــواردات". وكذلك يفعل شكل المحتوى بالتجربة الممكنة. كل ذلك يتجلى بوضوح داخل الإجراء، فالإجراء الذي تخضع له الإشارات الضوئية المرورية مثلا، يسمح لنا برصد شكل كل من التعبير والمحتوى في صورة أربعة أوضاع ثابتة ومتداولة (نسق من النماذج)، تأخذ ضمنها التمظهرات الضوئية وضع تواردات جوهرية متفردة، فيترتب عن هذا الانتظام ملائمة تلك الأضواء المتباينة والأوامر المختلفة بغطاء الحاويات[2]. قد ينسحب هذا الإجراء على عديد الأنساق السيميائية، بيد أن تورط الذات بالاختيارات الانزياحية في بعض الأنساق المعقدة قد يرهن معيارية العلاقة بين الأنماط والتواردات، التي تظل في بعض الأنساق السيميائية الأخرى من الخصوصيات الثابتة.

    ترتبط حياة العلامة بالخاصية الاجتماعية، فالعلامة لا توجد سوى داخل المؤسسة الاجتماعية. إن دراسة العلامة اجتماعيا بالنسبة لـسوسير تعني التقاط تلك الخصائص اللسانية التي تستطيع أن تصل اللسان بباقي المؤسسات الأخرى عبر جملة من القواسم المشتركة بين الأنساق السيميائية عامة والنسق اللساني خاصة. لذلك فهو عندما يقرر بأن المشكل اللساني هو سيميائي قبل كل شيء، فهو يرى ضرورة الارتفاع بخواص المؤسسة السيميائية عن الخاصية الاجتماعية التي تبدو عامة.



    إن قيام غالبية الأنساق التعبيرية على مبدأ التعاقد يعني، في الواقع، إخضاع المستعملين لوضع قسري يقيد عفويتهم التواصلية، فإذا كان سجود الصيني، مثلا، تسع مرات يدل على تحية الإمبراطور،فإن نسق هذه العلامات لا يقل اعتباطية عن نسق اللسان، ومن ثم فقد تنبه سوسير إلى أن الخاصية الاعتباطية للعلامة هي واحدة من الخصائص الأولية التي تستطيع أن تخص المؤسسات السيميائية بالتميز عن باقي المؤسسات الاجتماعية. إن اعتباطية العلامة لا تتعلق بالفاعل المستعمل ولا بحرية اختياراته[3]، فالعلاقة بين الدال و المدلول ضرورية، وغير معللة في الوقت نفسه.

    لكنه من الواجب على السيميائيات، كما يرى سوسير، أن تطالب بحق تلك الأنساق السيميائية التي تنفلت من خاصية الاعتباط كالأنساق الرمزية مثلا – كل ذلك سعيا لاستكمال مشروع الشمولية. إن استكشاف درجات الاعتباط المتفاوتة من نسق سيميائي لآخر يعني الخوض في واحدة من الإشكالات التي تهم السيميائيات ذاتها؛ ألا وهو استكشاف أنواع العلامات وتصنيفها.

    إن التفاوت الحاصل في درجات الاعتباط بين مجموع الأنساق السيميائية لا ينفي مطلقا حقيقية النسق السيميائي المشترك، فالعلامة اللسانية لا تختلف عن العلامة الملبسية – أو عن أي علامة أخرى – في فقدها لمعناها جراء الاستعمال، أو حتى في تلك التغيرات الصوتية التي تشترك في المبدأ مع تلك التغيرات التي تحكم نسق الموضة ( مبدأ المحاكاة النفسي). يستطيع الاستعمال أن يكفل للأنساق السيميائية عامة تفعيل قوة التميز وقوة التواصل في آن واحد،[4] فكثيرا ما تلغي الفطرة الانزياحية حرص المستعمل على إرساء دعائم التواصل أولا. يـــقر دو سوسير بمدى تميز النسق اللساني؛« فلا شيء فيه يمنع ربط فكرة معينة بتتابع صوتي ما[5]«، وهو مالا نلفيه في تلك الأنساق التي تقوم على مبدأ التوافق، إذ لا يكاد نسق الموضة مثلا، يحييد بعلاماته التي تبدو أكثر اعتباطية عن تفاصيل الجسد الإنساني. وبهذا المعنى، فإنه يمكن للسانيات أن تكون الأنموذج العام للسيميائيات، على الرغم من أن اللسان ليس سوى نسق خاص.

    لايرتبط تأسيس الخاصية الاعتباطية في الأنساق السيميائية بقاعــدة التعــــاقد،فـرولان بارت (Roland Barthes)، يقرن الاعتباط بتلك القرارات الأحادية ليجعل منه خاصية عرضية ترتهن بالقبلية، إذ يرى أن كل العلامات تفقد اعتباطيتها ضمن وضعها البعدي. بهذا المعنى نستطيع أن نميز بين الاعتباط واللاتعليل، فلا يتوقف شرط الأول على انتفاء العلاقة التماثلية بين الدال والــمدلول بل على مبدأ "الضرورة" كما يحدده إميل بنفنيستEmile Benveniste .

    إن زي البرلماني، أو الشرطي، أو القاضي ما هي إلا قرارات أحادية تؤسس للاعتباط، لكنها سرعان ما تندرج ضمن مجال الثقافة لتتحول إلى وحدات ثقافية يرتبط قسرها بالزمان والمكان. وقد يأخذ نسق الموضة وضع قرار – أحادي مستقبلي؛ كتلك الألبسة التي يعلن عنها قبل أوانها، فهي اعتباطية ضمن وضعها القبلي، لكنها سرعان ما تفقد اعتباطيتها ساعة تسويقها فتكون بذلك سببية ومسجلة ضمن نسق الموضة.

    يفصل روى هاريس[6](Roy Harris) مثله كمثل رولان بارت بين مفهومي اللاتعليل والاعتباط، إذ إن احتكام بعض العلامات المحاكية لمبدأ التعليل؛ كتلك التي يشترك فيها الدال والمدلول في الجوهر لا يلغي أساسها الاعتباطي، فعلى الرغم من إحالة بعض حالات التمثيل الأيقوني إلى موضوعها بصورة تواردية، إلا أنها تظل اعتباطية بأيقونيتها فقط؛ بالنظر إلى قابلية تعويضها بعلامات غير أيقونية. فالاعتباط إذا لا يتحدد فقط بين الدال والمدلول بقدر ما يكمن في كفاية العلامة في استبدال دوالها. إن للاعتباط كامل القدرة على اقتصاد الموروث الأنثروبولوجي للدلالة ضمن المجال السيميائي العام، حيث يتأسس بوصفه سيرورة تكاملية تسعى إلى تطبيع كل نسق غير معلل من جهة، وإدراج النسق المعلل ضمن مجال الثقافة من جهة أخرى.

    تستطيع صورة التلاحم بين الدال والمدلول، ضمن مجال اللسان، أن تجلي شكل العلامة؛ أي ذلك المظهر القابل للدراسة العلمية منها عبر مبدأ الاختلاف؛ إذ يستطيع هذا المبدأ أن يحدد اللسان بصفة سلبية إما على صعيد الدال و إما على صعيد المدلول،بينما تعمل تلك التقابلات القائمة بين العلامات على تحديد نسق هذا الأخير بوصفه معطى إيجابيا. ومن ثم فإن النسق اللساني لا يتحدد إلا بوصفه سلسلة من الاختلافات بين الدوال، المرتبطة بسلسلة من الاختلافات بين المدلولات؛ حيث يؤدي هذا الارتباط إلى توليد نسق من القيم.

    تسعى هذه القيم النسقية إلى ضمان صورة التلاحم الفعلي بين الدال والمدلول داخل كل علامة؛ ذلك أن الاختلاف لا يتعارض مع الاعتباط[7]، وإلى تأمين نسقية العلامات ذاتها عبر مبدأ التقابل، في حين تكمن أهمية الاعتباط في ضمان نسبية هذه القيم، فباختلال هذا الشرط يتحول كل نسق سيميائي إلى جملة من القيم المطلقة التي تتضمن مفروضات خارجية.

    تتحقق نسبية القيمة في النسق السيميائي عامة بتحديد أشكال العلامات في صورة وحدات ملموسة؛ لذلك تراهن اللسانيات ومن ثم السيميائيات على فرضية التمفصل لاستكشاف قيم النسق السيميائي من جهة، والتحري عن موضوعيتها من جهة أخرى. إذ لا نستطيع مفصلة الدال بمعزل عن المدلول إلا في حالات التجريد. وقد استطاع لويـس ج.برييتو (J. Prieto Louis) باعتماد آلية التمفصل أن يستكشف تغاير تمفصلات الأنساق السيميائية من نسق لآخر ( سنن المرور، أرقام غرف الفنادق، الهواتف، أرقام الحافلات، الخ).

    وإذا كانت مهمة عالم اللسان كما يرى سوسير، تكمن في البحث عن كل ما يجعل من اللسان نسقا خاصا، فإن مهمة السيميائي هي البحث عن تلك البنية المشتركة التي تنخرط فيها الأنساق السيميائية العديدة بما فيها اللسان؛ أي عن ذلك » الأنمودج المبسط الذي يسمح بتقريب ظواهر مختلفة انطلاقا من بعض الجوانب المشتركة«[8]، إن الأنساق السيميائية عامة بما فيها اللسان، تشترك في مبدأ القيمة التقابلية، إذ لا يمكننا أن نميز ضمنها بين ما يخالف شيئا عن آخر، وما يؤسس للشيء ذاته[9] كونها تخضع لإكراهات الاختلاف.

    وقد حاول نيكولا تروبتسكواي(Nicola Troubetzkoy) ضمن مؤلفه
    (Principes de phonologie 1939) ضبط تلك المبادئ المنطقية التي تحكم تصنيف التقابلات التمييزية انطلاقا من فونيمات اللسان الألماني، في حين عمل ج .كانتيـــــــــنو (J .Contineau ) على استثمار هذه المبادئ ضمن إطار التقابلات الدالة للفونيمات داخل نسق اللسان .

    يرى رولان بارت أن تصوركانـتينو، ضمن إطار الوحدات الدالة، يقترب كثيرا من التصور السيميائي، كونه يقلص الفارق بين الوحدات الفونولوجية والسيميائية، وذلك بالانتقال إلى التقابلات الدلالية، ويعطي للقيمة بعدها السيميائي. إن الأنساق السيميائية التي تستطيع أن تحقق مبدأ المبادلة والمقارنة تستطيع أن تحقق بتقابلاتها المحددة لوحدات العلامات مبدأ القيمة .

    يلفي بارت[10] معالم القيمة في سنن المرور، محددة ضمن مجال التقابلات المتناسبة، والمتعددة- الجوانب؛ تلك التقابلات التي تستطيع أن تؤسس للقيم اللونية والشكلية للإشارة المرورية، فإذا كان التقابل اللوني بين الأحمر والأبيض يمنح قيمة المنع ضمن أوجه متعددة (تقابل متعدد-الجوانب)، فإن التقابل الشكلي للصفيحة (مثلث ؛ مستدير) يمنح؛ بالتناسب قيمة الأخطار والتعاليم على التوالي ( التقابل المتناسب). ونظرا للطبيعة التواصلية لهذا النسق السيميائي، فإن قيمه التقابلية تتحاشى كل صور التعقيد، فهو يقوم على تقابلات ثابتة؛ وسالبة ( إذ يكفي اختراق العارضة الحمراء في الصفيحة المستديرة لصورة الدراجة، ليكتسب التقابل قيمة المنع)، ويستبعد تلك التقابلات المتكافئة والقابلة- للتحييد (أي المتغيرة)، كل ذلك سعيا لتفادي حالات الانسداد التواصلي. بينما تملي الطبيعة الإبداعية لنسق الموضة مثلا؛ تحديد قيمها ضمن كل التقابلات، ماعدا تلك التقابلات الثنائية والثابتة لكونها تنزع نحو التجدد والتميز باستمرار.

    يرتبط أنموذج القيمة بوصفه معطى أوليا بمفهوم النسق. فالقيمة تستمد مرجعيتها من الصورة المجردة لكل ما هو سيميائي، لكن بعض الأحداث السيميائية تستمد نسقها من تركيبها الخاص؛ كتلك الأحداث السيميائية التي لا تخضع لمبدأ "الوحدة" (l’unité). ثم إن كل وحدة ليست بالضرورة هي علامة[11]، لذلك تسعى السيميائيات إلى مراعاة الأوضاع التمظهرية للأنساق الدالة والاهتمام بآليات اشتغالها.
    لا يحتكر اللسان وحده آلية التركيب والترابط، بل تمتد هذه الآلية إلى أنساق سيميائية أخرى تقوم على خلاف اللسان بتدعيم مبدأ الهيمنة بين العلاقتين، وذلك إما على أساس استعاري؛تهيمن فيه علاقة الترابط، وإما على أساس مجازي؛ تهيمن فيه علاقة التركيــــب. إذ نستطيع عبر هذين المبدأين أن نميز حسب رومان ياكوبسون (Roman Jakobson) بين الرسم التكعيبي والسريالي، أو بين أفلام شابلنChaplin) ) وأفلام غريفث ( Griffith).

    يفترض رولان بارت[12] ضمن مجال التحري عن آلية اشتغال الأنساق السيميائية، ضرورة إخضاع تمظهراتها للتقطيع التركيبي الذي يستطيع أن يمدنا بالوحدات المؤلفة لمحور الاستبدال، فاللباس بوصفه نسقا سيميائيا لا يتمظهر إلا في صورة أزياء أو بدلات تتجاور ضمنها جملة من القطع الملبسية المختلفة، مثلا: قميص +معطف+سروال (علاقة تركيبية)، حيث يرتبط كل اختيار من الاختيارات بمجموع القطع الملبسية التي تتناسب معه في موضع اللبس وفي الوظيفة، مثلا: قبعة / طاقية / عمامة، الخ. (علاقة استبدالية). و بذلك تتزامن تحولات التركيب مع تحولات المعنى الملبسي. وينطبق الأمر نفسه على الوجبات الغذائية، فباختيارات الفرد بين: المقبلات/ الأحسية/ التحلية،الخ. (علاقة استبدالية) تتحول سلسلة الأطبـــاق المختارة (علاقة تركيبية) إلى وجبة كاملة مثلما ينطبق الحال على فن التأثيث، فالمؤثث لا يعمل إلا على تركيب جملة من الاختيارات الأثاثية، مثل: سرير +خزانة +كرسي (علاقة تركيبية)، حيث يفترض الأثاث الواحد-أو كل اختيار- جملة من التغيرات التي تسمح بتحويل أسلوب التأثيـث (علاقة استبدالية)، وهو حال عديد الأنساق السيميائية المعمارية وغيرها.

    إن الطبيعة التواصلية لغالبية الأنساق الدالة، دفعت ثلة من السيميائيين إلى الربط«بين السيميائيات بوصفها علما يدرس أنساق العلامات الدالة وبين وظيفتها التواصلية مقتدين بما قررته اللسانيات من أن التواصل هو عصب الوظيفة اللسانية ومن ثمة فهو أساس الخطاب»[13]، وقد كان لهذا الاقتداء أثر استثمار المفاهيم اللسانية للتواصل وتعميمها على مجموع الأنساق الدالة.

    يرتبط التصور العام للعلامة اللسانية في الفكر السوسيري بدارة الكلام، إذ يمكن لهذه الدارة أن تقودنا إلى مكونات العلامة وقوانينها، وبذلك تبدو السيميائيات بشكل عام أحوج إلى تطوير هذه الدارة وتحويلها إلى أنموذج عام أساسه التواصل. تتحدد العلامة اللسانية داخل دارة الكلام بوصفها كيانا نفسيا مجردا يتألف من تلاحم الصورة الآكوستيكية (الدال) مع التصور (المدلول)؛ تلاحم يترجمه مبدأ التداعي في أثناء كل عملية تواصلية.

    وتأخذ هذه العملية التواصلية صورتها المبسطة، ضمن التصور الآلي الذي يستند إلى المرجعية السلوكية ( بلومفيلدBloumfield )، حيث تتحول العلامة إلى كيان سلوكي ذي وجهين يستدعي أحدهما الآخر في أثناء عمليات التواصل. إن التصور السلوكي لا يعمل سوى على تغييب مركزية العلامة بوصفها إنتاجا تواصليا، إذ إنه يحدد التواصل بين الوضعين السابق واللاحق عن إنتاج العلامة (مثير¬استجابة)[14]، و يلغي قيمة العلاقة التمثلية ليحولها إلى مجرد فراغ.

    بظهور أعمال كل من شانونShannon) ) وويفرweaver)) تحددت الملامح الأنموذجية للاتصال عامة، عبر تحديد تلك الأدوات التقنية التي تحرك سيرورة المعلومة ضمن مجال السيبرنيطيقا. إذ يحتاج كل بث إعلامي -حسبهما -إلى وجود مصدر للمعلومة (ولتكن الإذاعة المسموعة مثلا)، حيث تقتضي عملية البث تدخل المرسل (المذيع) الذي يسعى إلى تسنين الرسالة بحسب طبيعة القناة (مكبر الصوت)، فتغدو ملائمة للاستقبال (سلسلة من الإشارات الفيزيائية تنتقل في شكل موجات ارتدادية)، وبذا تصل إلى الناقل المستقبل ( المذياع) فيفك تسنينها ليجعلها قابلة للتلقي من قبل المرسل إليه (المستمع) [15].

    يفترض التواصل الإنساني في مقابل الاتصال الآلي حســب أمبرتو إيكو[16] Umberto Eco))، ضرورة استخلاف الإنسان للآلة ضمن وضعه كمرسل ومرسل إليه، حيث المجال الرحب لتعددية الأسنن بين المتواصلين ، وكثيرا ما يغدو السنن نفسه محلا للنقاش بين المرسل والمرسل إليه .

    بذلك تتحول الشبكة التواصلية إلى سيرورة دلالية، بتحول الإشارة من سلسلة من الوحدات الملموسة إلى شكل دال يلزم المرسل إليه بتعبئتها بمدلول، وذلك انطلاقا من السنن القاعدي الذي يحتكم إليه؛ سنن يتضمن بدوره أسنن أخرى فرعية ذات وظيفة إيحائية في الغالب[17]. فالظرف كفيل بتحديد اختيار السنن المناسب بوصفه سياقا للتواصل السيميائي.

    تتغاير نوعية العلاقة بين المرسل والمرسل إليه ولا تقف عند حدود النقل المباشر بل تتعداه داخل إطار البنية العامة للتواصل إلى نمـاذج متباينة تختلف باختلاف طبيعة التواصــل وغاياته

    إن السيميائيات في مقابل هذا كله، لا تهتم سوى بآثار المعنى الناتجة عن انتظام الرسائل؛ أي بشكل الرسالة، وبآلية اشتغالها التي تستطيع أن تمظهر الاستراتجيات الخطابية والتواصلية[18]. لقد « كادت السيميائيات تعرف بأنها علم يختص بمدارسة السنن طورا وبمدارسة جميع الأنساق الدالة طورا آخر؛ ولهذا انكبت السيميائيات الواصفة على تتبع سماته العامة وعلاقته بالسيرورة العامة للتواصل، ودوره الحاسم في عملية التفاوض »[19]. إن هذا الاهتمام لا يعمل إلا على حصر »السيميائي ضمن مجال مختزل شيئا فشيئا،...، يتخلى ضمنه عن كل ما هو واقعي ، لصالح الانتظام الوحيد الذي تخضع له المرسلات [20]«، وإذا كانت الأنساق الدالة هي من تحدد صور الانتظام ومادته، فإن الأسنن هي من تتولى المصادقة على قابليتها التواصلية.

    لقد كان لانفتاح العلامة اللسانية على المرجع مع أوغدن ( Ogden ) وريتشاردز Richards ) )، أثر ظهور الخطاطة التواصلية عند ياكبسون، فقد قادته فرضية التحري عن وظائف اللغة إلى تطوير أطروحة بوهلر (Buhler)، مستندا إلى الخطاطة القاعدية للتواصل الآلي لدى كل من شانون وويفر. تلغي خطاطة ياكبسون مركزية المرسلة داخل الواقعة التواصلية، وتسعى إلى تقديم عناصر الشبكة التواصلية ( المرسل، المرسل إليه، المرسلة، السياق، القناة، السنن) مقترنة بالوظائف المنوطة بها في أثناء عمليات التواصل ( الوظيفة الانفعالية، الوظيفة الإفهامية، الوظيفة الشعرية، الوظيفة المرجعية، الوظيفة الاتصالية، ووظيفة اللغة الواصفة). لقد حاول أحمد يوسف انطلاقا من تفعيل مبدأ الحوار في سيميائيات التواصل، تقديم قراءة نقدية لمشروع هذه الخطاطة، ومن ثم دأب على مناقشة الوظائف التواصلية بالنظر إلى الأركان التواصلية الملازمة لها وذلك سعيا منه لأخلقت النزوع الوحشي للتواصل إلى الانفصال .

    يرتبط مفهوم السنن(code) لدى سوسير بمفهوم الكلام*؛ أي بكل ما هو إنجاز واستعمال، ومن ثم بمفهوم التواصل، ذلك أن الكلام تحدده دورة تضم فردين على الأقل. فالسنن هو المخزون الذي يتخير منه الفاعل المتكلم مجموع الوحدات التي تؤلف الملفوظ أو الرسالة، ولكنه يتضمن في الوقت نفسه مجموع القواعد التي تسمح لنا بنظم الوحدات فيما بينها، وبهذا المعنى فإننا ننتقل إلى مفهوم النسق[21]. إن السنن « هو مجموعة البرامج التي تضطلع بترجمة المثيرات الطبيعية التي تستقبلها مدارك الحس لتندمج ضمن وحدة عضوية مع المكونات المعرفية الأخرى، فتنتقل من طور الممارسة إلى طور التفكير المجرد، إذ يقوم بتحويل المثيرات الخالية من المعنى والمرجع إلى علامات ذات دلالة داخل المرسلات؛ وذلك بالاستعانة بالخبرات الحسية السابقة واستثمار المعرفة بالعالم التي تؤدي دورا حاسما في تحليل الخطابات وتحديد العالم الدلالي داخلها »[22]. إن للسنن وجودا بالقوة وللنسق وجودا بالفعل.

    والواقع أن ارتباط كل وسيلة تواصلية بمفهوم السنن يعني استقلاليتها عن أي تمفصل آخر للتجربة نفسها، وأنها لا تمثل سوى نسخ جزئي لنسق آخر ليس شرطا أن يكون لسانيا[23]. إن آلية التواصل، ضمن وضعها العام، لا تتحدد إلا بوصفها نظاما تحويليا يسمح بنقل تمظهرات الأسنن من شكل لآخر؛ فالكتابة مثلا، هي سنن يتيح للمتواصلين فرضية تحويل الرسالة الخطية إلى رسالة آكوستيكية؛ مثلما يتيح سنن "المورس" تحويل الرسالة الخطية إلى رسالة آلية، إلخ. لذلك يرى جون ديبوا ( Jean Dubois ) أن مجموع الآليات التي تسمح بعملية النقل هذه، انطلاقا من فعل التسنين ووصولا إلى فك التسنين، هي التي تؤلف آلية التواصل.

    وحتى وإن ذهب روني مورو ( René Moreau) مذهب التشكيك في قدرة علامات اللسان على تحقيق المظهر السنني تحقيقا تماما، فإن مارتينيه[24] يؤكد على المستويين السنني والدلالي في انبناء اللسان؛ إذ لسننية اللسان دور في إلباس رسائلنا الذهنية لباس الكلام المتمفصل، انطلاقا من فهرس التكافؤات القائمة بين الصور الذهنية والصور الآكوستيكية. في حين تأخذ عملية "الإشباع الدلالي"[25] دورا تسنينيا أساسيا في التواصل، تعمل من خلاله على تحويل الأشكال الآكوستيكية للرسالة إلى نظام جديد من العلاقات؛ إنه نظام الفكرة. لذلك فإن ألجرداس جوليان غريماس[26]Algirdas Julien Greimas)) لا يستبعد إمكانية وجود سنن دلالي.

    تراهن السيمائيات العامة على مفهوم السنن بوصفه ذلك الأنموذج النظري لسلسلة من العقود التواصلية التي تسمح باشتمال تلك الإمكانات التبليغية للرسائل، لذلك فهي تسعى إلى تأسيس ذلك الأنموذج السنني (سنن الأسنن)[27] لتغطية العمليات والعلاقات نفسها ضمن كل عملية تواصلية. إن أولى الخطوات لتأسيس هذا الأنموذج، تبدو مقترنة بالتحري عن أصناف الأسنن و تحديد مجالاتها، وهي خطوة نراها من صميم اهتمامات السيميائيات العامة.

    ترتبط الـــتباينات النوعية للأسنن تباعا بتباينات في عملية التسنين وفكه، إذ لا يجد أحمد يوسف لهاتين العمليتين تأثيرا في بناء المعنى وتشييده، فقد « يتداخل مفهوم التسنين بالفهم وبخاصة إذا تعلق الأمر بالنسق اللساني الذي أضفى عليه دو سوسير بعدا سيميائيا، ولم يعرفه بأنه سنن. إن المستقبل يتلقى المرسلة عبر متتالية من الإشارات يحاول أن يضفي عليها معنى يقصده المتكلم أو يقترب من قصده؛ لأنه لا تواصل خارج العملية القصدية وهذا ما لا يقوم به إلا الإنسان، ولا تستطيع الآلة في الراهن على الأقل منافسة البشر في ذلك لكونه حيوانا ناطقا ورامزا »[28]. لذلك يقترح برييتو آلية الفعل السيمي سعيا لتبسيط صور التواصل اللساني وتعميمها على الأنساق السيميائية.

    يتمحور اهتمام نظرية الإعلام حول الجوهر الكمي للمعلومة، وتراهن على السنن بدل الرسالة في تقييم محتوى المرسلـة وصورتها الإنجازية. ولا يقف الأمر عند ذلك فحسب، إذ للسنن أهمية بالغة في إحصاء مجموع المرسالات الممكنة وتقدير الاحتمالات المتوالية لكل علامة داخل المرسلة التواصلية[29]. لذلك تتوجه السيبرنيطيقا إلى نظام الرقمنة لاستيعـاب زخم الكم. في حين تعمل السيميائيات على تجاوز الوضع الحدسي لمستعمل السنن، إلى إدراك معطيات المرسلة عبر الجرد الكيفي للدوال التي تهيكل المدلولات، وذلك لاعتقادها باستحالة وجود أي نقل للمدلول في غياب وساطة الدال . وعبر هذا التجريد الكلي للمدلول، يستطيع التحليل السيميائي للتواصل حسب جاك. دوران[30]) (j. Durandأن يقودنا إلى إدراك الخصائص الشكلية للمرسلة ضمن إطار مبدأ الملائمة ، ما يجعل أهمية تحديد المدلولات تكمن في ضبط الوحدات الدالة.

    تمثل الإشارة (signal) بالنسبة لـبرييتو أداة أولية لنقل المرسلات والتواصل بها؛ بوصفها وسيلة فعالة في إقامة العلاقات الاجتماعية (الإبلاغ، الاستفهام، الأمر)، حيث يأخذ فعل إنتاجها من طرف المرسل وضع إرسال لـ"فعل سيمي". فسائق السيارة عندما يشهر الأضواء الخلفية لسيارته مثلاً، يأخذ وضع مرسل لفعل سيمي، يسعى عبره إلى إبلاغ كل سائق يليه باستعداده لتغيير وجهة المسير، وكذلك هو الحال في الأمر، أوالمنع (الأمر السلبي) أوالاستفهام.

    مربع نص:


    إن اختلاف طبيعة الإشارة عن القرينة لا ينفي اشتراكهما في تزويد المتواصلين بمجالات التوجيه المزدوج إيجابا أو سلبا، فالقرينة حتى وإن بدت في جوهرها استدلالية فهي توجهنا إلى قسم من المعاني الممكنة، وتقصي قسما آخر. فالأثر الحيواني، مثلا، يحيل المقتفي على جملة من المعاني الممكنة، ويقصي عبر خصائصه التمييزية معان أخرى، وكذلك هو الحال بالنسبة للقرائن الجوية وغيرها.


    لقد لاحظ برييتو[31] في هذا الصدد، أن القاسم المشترك بين المرسل والمرسل إليه، داخل إطار الفعل السيمي، يكمن في بروز "سيم"(séme) مشترك ينشأ عن التلاحم الثنائي بين الدال والمدلول، فالمرسل لا ينظر لمرسلته إلا بوصفها تمظهرا لمدلول "سيم" معين، فيختار لها من الإشارات ما يستطيع أن يوفر لها شق الدال؛ بينما لا يرى المرسل إليه في الإشارة إلا دالا لـ"السيم" نفسه، ومن ثم فإنه يتخير من الرسائل ما يوفر لهذا السيم صعيد المدلول ويتوافق في الوقت نفسه مع الإشارة.

    يعد "السيم" الحلقة المشتركة بين المتواصلين؛ حلقة تبرز في صورة علامة(دال ومدلول) ناتجة عن فعل التواصل، حيث يؤسس كل فعل سيمي لنسق من السيمات التي تستطيع أن تحدد كل سيم جديد إما على صعيد الدال داخل الحقل السيماتيchamp sématique ) )،وإما على صعيد المدلول داخل الحقل النووي (champ noétique )[32]. فإذا ما أبدلنا خاصية من خصائص إشارة ما بطريقة نحصل بها على إشارة من السنن نفسه ، فإن الإشارة الجديدة تكتسب مدلولا مغايرا إذا كانت الخاصية المستخلفة خاصية ملائمة، في حين تحتفظ بالمدلول نفسه إذا كانت الخاصية المستخلفة خاصية غير ملائمة[33]. إن تباين إشارات السنن الواحد لا ينفي عنها الخضوع لبنية أنمودجية مشتركة تحددها الصيغة التمفصلية العامة للسنن.

    لقد أثارت فرضية التمفصل نزعة وثوقية ضمن مجال التطبيق السيميائي، فـكلود ليفي شتراوس(Claude Levi-Straus) مثلا، يرهن خصيصة التواصل اللغوي بخاصية التمفصل المزدوج؛ التي تعد في نظره من المقومات الثابتة والقارة في النسق اللساني ومجموع الأنساق الدالة. بيد أن إيكو يقر بوجود أسنن تواصلية تتغاير ضمنها أنماط التمفصل إلى درجة تصبح فيها مستويات التمفصل ذات طبيعة إبدالية، وهو حال سنن لعبة الورق حيث ترتد ضمنه القيم الرقمية و الشعارية بين القيمة الدالة والقيمة الاختلافية بحسب نظام اللعب، وبهذا الارتداد تتغاير صفة التمفصل ضمن كل وضع (أولي/ ثانوي).

    يفترض ضبط الآليات المتحكمة في بلورة القصد التواصلي تحديد الحالات العامة لنجاح "الفعل السيمي" وفشله، فالمرسل يختار من الإشارات ما يراه كفؤا لحمل المرسلة التي يبغي نقلها إلى المرسل إليه؛ وموافقا لتقديرات الظروف، في حين تنفتح إمكانيات الإشارة لدى المرسل إليه على حمل مرسلات متباينة فيختار منها ما يراه موافقا لها بحسب تقديراته للظروف.

    فإذا ما أخطأت تقديرات المرسل للظرف، بصورة لا تتطابق فيها تلك الظروف التي افترضها مع الظروف الواقعية للفعل السيمي، فإن المرسلة تجد لنفسها موضعين قصديين متباينين ضمن مجال هذه الأخيرة[34]. ويحصل أن تتباين وجهات النظر بخصوص الإشارة نفسها، ضمن حالات الالتباس أو سوء الفهم، فقد يرتبط التوجيه الدال الذي تمارسه الإشارة لدى المرسل بمجال محدد من المرسلات، وذلك في الوقت الذي تتحدد فيه نفس الإشارة بالنسبة للمرسل إليه ضمن مجال آخر من المرسلات أو المقاصد، بالصورة التي لا تتطابق فيها المرسلة التي يريد المرسل إبلاغها مع المرسلة التي يمنحها المرسل إليه للإشارة[35]. ويحدث أن تصير الإشارة محلا للقصد ضمن الوضع الذي يختار فيه المرسل من الإشارات ما يتوافق مع مرسلتين أو أكثر، معتمدا على ظروف التواصل في إجازة مرسلة أكثر من غيرها، ما يجعل المستقبل أمام احتمالين مقصديين[36].

    يتباين وضع العلامة التواصلية عن العلامة العفوية لارتباط القصد التواصلي بدرجة وعي المرسل بالعلامات التي يبثها، فإذا كانت الأولى تحمل طابعا قصديا بوصفها مسننة ضمن قواعد تعاقدية يتوافق ضمنها كل دال مع مدلول، فإن الثانية تخرج عن كل قصد تواصلي كونها لا تخضع لأي تسنين ولا تفهم إلا حدسا. بيد أن لإرادة المرسل أهمية قصوى في تحويل العلامة العفوية إلى علامة تواصلية، ومن ثم تحويل كل ما هو عفوي إلى تواصل قصدي، فإرادة الممثل، مثلا، في تقليد مشية رجل غني، تحول صفة المشي بوصفها علامة تعبيرية إلى علامة مصطنعة موكلة بتمرير معلومة خاصة؛ أي إلى علامة قصدية تواصلية مسننة[37]. ولا تقترن مسألة الإرادة بالمرسل وحده أو بالمرسل إليه فحسب، ولكنها تتعدى ذلك إلى الموقف القصدي الذي ينسبه
    المرسل إليه للمرسلة. فقد يحدث أن ترسل العلامة وتدرك بصورة إرادية لدى كل من المرسل والمرسل إليه، في حين يعزى القصد من قبل المرسل إليه بصفة لا إرادية. فمثلا، يستطيع رجل ما أن يتظاهر المرض بصفة إرادية أمام شخص آخر فيتلقى هذا الأخير العلامة بصفة إرادية، لكن وضع التمويه يجعله يعزي لهذه العلامة قصدا لا-إراديا، ويحدث العكس إذا ما أخذ هذا التظاهر وضع تمثيلية مسرحية مثلا، فالجمهور يعزي قصده إلى هذه العلامة بصفة إرادية، وهو يعي تمام الوعي أن الأمر لا يعدو أن يكون أداء لدور معين[38]. إن قصد المرسل هو قصد أولي مرتقب من المرسل إليه ويكون تارة إراديا وأخرى لا إراديا، فالمموه مثلا، لا يريد من المرسل إليه قصدا إراديا للعلامة محل التواصل حتى ينجح التمويه، فإذا ما أبان له المرسل إليه عن قصد إرادي، فهو يبين بذلك عن فشل فعل التمويه في حد ذاته. وخلافا لذلك، فإن الأعراض اللاإرادية للمرض، تجعل المريض يرتقب قصـدا إراديا من الطبيـب، على الرغم من إرساله لها بصفـة لاإرادية[39]. بيد أن هناك حالات تستوي فيها إرادة المرسل بلا إرادته في التواصل فينهار القصد بهذا الصراع الداخلي وتنقطع أحبال التواصل لحدة الوساوس ومجاذبات التكهنات.

    لقد قاد إدراج الاتصال الحيواني في قائمة البحث السيميائي، إلى استكناه حقيقة القصد واستبانة ارتباطه بحالات الوعي، ومن ثم رده إلى منبت ظهوره الأول في رحاب الطبيعة. وفي هذا المقام تعد أعمال كارل فن فريش[40]( Karl Von Frish ) سباقة للخوض في مثل هذا الإشكال. فقد لاحظ، أن للنحل كامل القدرة على نقل رسائل مختلفة (وجود الرحيق؛ وضعيته؛ المسافة الفاصلة) وذلك عبر إنتاج علامات اتصالية (رقصة الثمانية 8 التي تأخذ أوضاعا متباينة؛ الرقصة الدورانية الأفقية) تتخذ وضع ذاكرة شبه تعاقدية؛ وتضعنا أمام سنن حقيقي تتحقق ضمنه الخاصية الإبلاغية في التواصل.

    بيد أن بنفنيست[41] قد لاحظ أن المرسلات في لغة النحل تظل مستغنية عن الإجابة، فالنحلة المبلغة تقف عاجزة عن تبليغ المرسلة التي تتلقاها مالم تتحسس مصدر الجني بنفسها، لكونها لا تقوى على إنتاج أية مرسلة انطلاقا من مرسلة أخرى، وبذلك تغيب لغة النحل مبدأ استكمال دورة التواصل (مبدأ الحوار)، بينما يقترن شكل المرسلة في لغة النحل بثبات محتواها الدلالي (مصدر الجني)، ولا تحيد تلك التغيرات التي تعتريها عن الدلالة على الفارق المكاني.

    تستمد الأسنن الإبلاغية في الاتصال الحيواني دقتها من قوة الحس والغريزة، فلا غرو أن يوصف مثل هذا الاتصال بالنشاط الحسي المتميز؛ إنه ذلك النشاط الذي يقع خارج مجال المعنى والدلالة، وقد لا تكفي الحياة الجماعية للنحل أو لدى باقي الحيوانات في خلق واكتساب لغة تواصلية تتأسس على الحياة التفاعلية (= الاجتماعية) المشتركة كما هو حال اللسان. ضمن هذا الإطار يتحدد الفارق الجوهري بين التواصل والاتصال.

    لقد جرى الاعتقاد بين « أنصار سيميائيات التواصل بأنهم يستطيعون أن يضعوا أسسا صلبة ستجد فيها سيميائيات الدلالة لبناء متصورات مفاهيمها وأدواتها العلمية أكثر مما ستجده في الأنموذج الذي قدمته اللسانيات »[42]. إنه إذا ما حددنا مجال السيميائيات التواصلية ضمن الأحداث المدركة والمرتبطة بحالات الوعي، فإن كثيرا من الأحداث المدركة غير المرتبطة بحالات الوعي ستتموقع على تخوم مجال التواصل بوصفها تمظهرات دالة وبسيطة داخل فضاءات الدلالة، حتى وإن كان مشروع الدلالة لا يستقيم إلا في ضوء سيميائيات تواصلية أكثر تطورا.

    يقترن بروز الوجه الأمثل لصورة الدلالة باللسان، فهو يمثل بامتياز أسمى حالات النشاط الدال، على أن تظل إمكانية التأسيس لأي أنموذج دال جديد مرهونة بمدى تقاطعه مع اللسان ضمن مظهر أو أكثر. تتمتع العلامة بوصفها عنصرا دنيويا داخل اللسان بمظهر دلالي مستقل، تستطيع من خلاله أن تؤسس للمظهر السيميائي للسان[43]؛ أي لنسقيته الدالة.

    يفترض وصف الوحدات السيميائية في اللسان الوعي بمظهري "الشكل" و"المعنى" للعلامة اللسانية وإدراك طبيعتها الثنائية. حيث يأخذ الدال وضع بنية فونيماتية شكلية تعبيء الفونيمات عبرها الوظيفة الاختلافية داخل كل بنية، ولا يتحدد المدلول إلا داخل الاستعمال.

    يسهم الاستعمال في نظر بنفنست[44] بإبراز المظهر السيميائي للسان، فمن خلاله تنصهر العلامة داخل شبكة من العلاقات والتقابلات ؛ شبكة تستمد مرجعيتها أساسا من الطبيعة الاختلافية لكل علامة. تمثل القيمة التصورية للعلامة اللسانية وتقابلاتها الثنائية داخل النسق، الخاصية السيميائية للسان، لذلك تستدعي سميائيات اللسان إهمال تلك العلاقات القائمة بين العلامة وموضوعها أو بين اللسان والعالم بوجه عام.

    إن أهمية الفصل بين "الشكل" و"المعنى"، لدى بنفنست[45]، تنبع من أهمية الفصل بين مجالين متباينين داخل نسق اللسان نفسه، فاللسان مجال للمعنى بدلالياته التي تتخذ الكلمة وحدة لها والجملة أساسا لها، إن الجملة تمثل في الحقيقة ذلك النشاط الذي يرتبط من خلاله المتواصلين بعالم الأشياء خارج مجال اللسان، حيث يأخذ المعنى صورة فكرة مدركة عبر الفهم وعبر الإحالة إلى وضع الخطاب والمخاطب، بينما تأخذ الكلمات وضع علامات للفهرس السيميائي للسان؛ علامات توجد لذاتها، وتؤسس للواقع الجوهري للسان؛ أي لمظهره الشكلي بوصفها تصورية، عامة وغير مرتبطة بالظرف.

    إن اهتمام السيميائيات العامة ضمن مجال الشكل الدال المنتج والمتبادل بين أطراف الفاعلين المتواصلين، بإنتاج الدلالة انطلاقا من بنية المرسلة؛ أي بآثار المعنى الناتجة عن الاستعمال التواصلي للعلامات، هو الذي يفصل مجال الدلالة عن التواصل.فالدلالة تكتسب إطارها الموضوعي من شكل المرسلة أي من تلك العلاقات التي تنظم العلامات داخل نسق دال أو داخل سيرورة للدلالات المفتوحة[46]. ويتوجب في هذا المقام إدراك الفرق بين "محتوى الدلالة" و"إجراء الدلالة"؛ فمحتوى الدلالة يخص مجال الدلاليات كونه يهتم بصياغة المحتوى ضمن مفردات دالة على الخصائص الدلالية ( سيم، سميم، كلاسيم ،الخ.)، بينما تختص إجراء الدلالة بتلك الآليات
    التي تتحكم في تحديد دلالة معينة لدال ما[47]. ومن هنا يكمن الفرق بين الدلالة الجاهزة التي تتخذ العلامة مدخلا إدراكيا لها، وبين الدلالة بوصفها آلية تعتمل ضمن تضاريس العلامة.

    وقد وجد رولان بارت في الأسطورة، ضمن أولى محاولاته، مجالا رحبا للتقصي عن عوالم الدلالة، وذلك في خطوة نحو سيميائيات عامة تشتمل تلك الأنساق التي تمثل أساطير هذا الزمن، كتلك المسائل اليومية البسيطة ( السينما، الصحافة، الصورة، الذوق، الأدب، السيارات، المصارعة، الخ.)؛ التي تكشف عن نسق اجتماعي وكوني، إذ تبدو للوهلة الأولى أكثر تحررا وعقلانية في ظاهرها بيد أنها تخضع لاختيارات واستعمالات أسطورية مشروطة بتمثلات
    لا واعية[48]، إنها تلك التمظهرات التي لا ندركها لذاتها، بل فقط للصور أو العلامات التي تثيرها.

    يرى رولان بارت[49] أن الأسطورة هي ذلك الكلام المعرف بمقصده لا بحروفه، ومن ثم فهي تثير للوهلة الأولى، الانتباه إلى الطريقة التي تعتمل بها بوصفها علامة؛ أي إلى صورة التضايف الحاصل بين "التصور" (concept ) و"الشكل"( forme ) الأسطوريين. وعلى نقيض الأنساق السيميائية الأخرى التي تخفي فيها الأشكال التصورات، فإن الأسطورة لا تخفي أي شيء، بل إنها تطمح إلى التشكيل والتشويه، فالدال الأسطوري يدلي بمعناه عن طريق مادة الشكل بكل أبعادها الإدراكية (الخطية؛ الصوتية؛ البصرية، الخ.)، بينما تبرز كلية التصور في شكل ترابطي عبر حضور ذاكرتي سديم لا يقود تكثيف المعرفة ضمنه إلى أي شيء واضح المعالم.

    تتحدد دلالة الأسطورة ضمن إطار هذا التضايف التشويهي بين "التصور" و"المعنى"، فإذا كان المدلول في النسق اللساني لا يستطيع تشويه أي شيء وذلك نظرا لضعف مقاومة الدال المفرغ والاعتباطي في الوقت نفسه، فإن الدال الأسطوري يتجلى ضمن مظهرين: مظهر معبأ هو المعنى، ومظهر مفرغ هو الشكل، على أن يعمل التصور على تشويه الوجه المعبأ (أي المعنى) عبر تحويله من سياق إلى سياق آخر، من دون فسخ أو إبطال لوجوده، وبين شكل فارغ حاضر ومعنى غائب معبأ يتحدد الدال الأسطوري[50]. خلافا للعلامة اللسانية، فإن العلامة الأسطورية
    تحقق بعدها الدلالي ضمن العلاقة التماثلية المعللة للمعنى والشكل، فالشكل يجد تعليله في فراغه؛ فلا أسطورة من دون شكل معلل، ويجد المعنى تعليله في تعبئته، لذلك تراهن الأسطورة بشكل عام على تلك الصور العامة التي تفتقر للشحن الدلالي، لتقحمها في غياهب الموروث الأنثروبولوجي.

    تأخذ المصارعة الحرة بالنسبة لـبارت[51]، وضع علامة أسطورية، إذ يسعى ضمنها "التصور" إلى تشويه معنى المصارعة الحرة عبر نقله من سياقه الأصلي ( المصارعة الإغريقية) إلى سياق الفرجة والعرض، حيث يأخذ السياق الأول وضع معنى غائب لكنه في الوقت نفسه معبأ بالظروف المشهدية التي تفترضها المصارعة الحرة (العراك، الصراخ، القوة، صخب الجمهور، الخ)، بينما يتحدد شكل الدال الأسطوري ضمن الفراغ والحضور، إذ يحاول المتصارعون نقل صورة ألم المتصارعين الإغريق عبر ذلك الألم المصطنع الذي يبدونه، وهو ما يعطي لدال الأسطورة شكلا مفرغا لكنه حضوري، وبين هذا وذاك تبرز العلاقة التماثلية المعللة ويحصل التشويه والتشكيل لدلالة الصراع المفتوح بين الخير والشر.

    إن فضح البعد الدلالي في كل نسق سيميائــي يقتضي لدى بارت البحث عن تفاصيل النسـق ذاته عبر الأدوات التحليلية للسانيات. فهو يقـول: »بالنسبة لي­ ]فإن اللسانيات[ قد منحتني الأدوات الفعالة في تفكيك النص الأدبي أو أي نسق من العلامات[52]«، وذلك انطلاقا من أن مجموع الأشياء المعقدة لا تستطيع أن تدل خارج إطار اللغة؛ إنها بذور الصوت المتناثرة في ثنايا كل نسق سيميائي.

    يعتمد إدراك النسقية السيميائية للموضة الملبسية حسب بارت[53] الوعي بخصوصية تمظهراتها، فبين مظهرها المكتوب (الوصف اللساني للباس) ومظهرها التقني (اللباس الواقعي) أو الأيقوني (اللباس المصور) تتولى "المحولات" وصل هذه المظاهر المتباينة وتقديم صورة كلية لهذا النسق عبر التحول من مظهر لآخر، إذ تأخذ هذه المحولات تارة شكل تصميم أنموذجي يسمح بتحويل اللباس الواقعي إلى لباس مرسوم، وأخرى شكل برنامج تعليمي يسمح بنقل اللباس الواقعي إلى لباس مكتوب، أو شكل "عائدات" تحيل متعلم الخياطة مثلا إلى الانتقال من اللباس
    المكتوب إلى اللباس المصور. وخشية الوقوع في مزالق إيديولوجية (أو البورجوازية الصغيرة)، فقد عمد بارت إلى اختيار مظهرها المكتوب بوصفه أكثرها حيادا وأقلها إشهارا، إنه المظهر الذي لا يستطيع أن يجاوز حدود تفاصيل الوصف الملبسي.

    تفترض الطبيعة المركبة للعلامة الملبسية لدى بارت[54]، وجود تركيب يسمح بملائمة وحداتها داخل التباينات المقطعية بين الدال والمدلول؛ تركيب تمليه تلك التحولات التي تقيمها الكتلة المستعملة (=الكتلة المتكلمة) كالشركة المنتجة وجرائد الموضة وغيرها،وذلك على خلاف بعض الأحداث السيميائية التي تستمد تركيبها من مجموع القيم التي يحددها نسقها القار.إن هذه الخاصية تجعل من العلامة الملبسية علامة اعتباطية كغيرها من العلامات المنتجة داخل الثقافة، ولا ينفي الاعتباط، إذ ذاك، عنها بعض أوجه التعليل التجانسي أو الجوهري أحيانا أخرى.

    إذ يقتضي البحث عن الآلية الدلالية للباس، معالجة كل ملفوظ تقرره جريدة الموضة داخل السنن الملبسي المكتوب بوصفه دالا، حتى وإن تجلى ضمن وحدة دلالية وحيدة، وعلى السيميائي ضمن هذا الإطار البحث في مجموع تلك التراكيب المتنوعة للملفوظات واستكشاف شكل ثابت يسمح له بالتحول إلى آلية إنتاج المعنى الملبسي[55]. فإذا ما أخذنا الملفوظ التالي على سبيل المثال:

    (سترة للرياضية و للبس العادي بحسب جيبها المفتوح أو المغلق)

    فإننا سنلفي الأمر، ضمن هذا المثال، متعلقا بدلالة مزدوجة ناتجة عن تركيب ملفوظين اثنين:

    سترة . جيب . مفتوح º للرياضة

    سترة . جيب . مغلق º لباس عادي

    إذ يلاحظ بارت[56] أن العلامة- الملفوظ تتألف من وحدتين دالتين ثابتتين (السترة/ الجيب) تتحددان في الواقع بوصفهما جوهرين ماديين، ووحدتين دالتين (مفتوح/مغلق) متغيرتين تحددان التحول الدلالي للعلامة- الملفوظ بوصفهما جوهرين غير ماديين، حيث تأخذ السترة وضع "موضوع مقصود"، والجيب وضع "دعامة"، بينما تأخذ صورة الانغلاق والانفتاح وضع "محــول". إذ يستطيع هذا الأخير تحديد الطاقة الدلالية للملبس ضمن سيرورة دلالية تتخذ
    التغاير ( مفتوح/ مغلق) منطلقا للدلالة، على أن يدعم (الجيب) نقلها إلى الوحدة الدلالية للسترة. إن هذا العنصر الفاعل في السيرورة الدلالية للعلامة الملبسية يؤلف بالنسبة

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 4:57 pm