(أي اذا رأتك هذه المرأة رأت منك الفضيلة مقبولة غير مردودة ،كالشمس إذا كانت مشرقة والسحاب إذا كان كنهورا ، وهي القطع من السحاب العظام يريد وضوح أمره وسعة جوده) ثم يرد عليه ابو القاسم الاصفهاني صاحب كتاب الواضح في مشكلات شعر المتنبي بقوله : (رواية ابي الفتح بضم التاء ولا يصح للبيت معنى على هذا وإنما الرواية الصحيحة التي قالها المتنبي (لا تردّ) بفتح التاء ومعنى هذا البيت : أي ان فضيلتك في علوم العرب لا تردّ فضلك في علوم العجم لتناسب الفضائل ، كما ان الشمس تشرق في افق من السماء والسحاب في آخر ...) وهو تفسير انسب للسياق من تفسير ابن جني . وكما اخذ الشراح على ابن جني انصرافه عن ادراك بعض المعاني أخذوا عليه ايضا إسرافه احيانا في ايراده مسائل نحوية يستهلك فيها جهده ويغفل عن شرح اللفظ والمعنى وكذلك شكوا في قوله عند بعض المسائل المحيرة (بهذا أجابني المتنبي عند الاجتماع به)( ) هذه الاجراءات الابستمولوجية تتجلى فيها تلك الصياغات المتعلقة ببلاغة المعنى التي تسمح بالتاويل على المستوى الصوتي والصرفي – والنحوي – والدلالي اضافة الى التأثير بالوحدات اللغوية التي يتأثر بها المعنى . ولم يرد هذا الشرح كذلك في الفسر الموجز وإنما فيه (وترى فضائلك مثل الشمس – والسحاب أي نيرة مشرقة بارزة ... الخ) وإنما النقل هنا عن شرح ابن جني لابيات المتنبي . وان خلاصة راي ابي القاسم عبد الله بن عبد الرحمن الاصفهاني انه سريع الهجوم على المعاني ونعت الخيل والحرب من خصائصه ، وما كان يراد طبعه في شيء مما يسمح به ، يقبل الساقط الرد كما يقبل النادر المبدع ، وفي متن شعره وهي وفي الفاظه تعقيد وتعويص (ص27-28) وهو يقيم نظرته الى الشعر عامة على ايمانه بأن (المعاني مطروحة نصب العين وتجاه الخاطر يعرفها نازلة الوبر وساكنة المدر) مرددا فكرة الجاحظ( ) .
(مطارحات البنائية)
تناول المتنبي العلاقة السياقية ، والايمائية في فلسفته النظرية للغة فكانت التركيبة الفلسفية للغة تتعلق بالعلاقات التجاورية والتشابه في الاسلوب الرسمي القديم . والمتنبي لم يغادر هذا الاسلوب الاّ بملّمح سيكولوجي يؤكد وظيفة اللغة به وهذا يأتي بعد معترك ذاتي حيث تم التغلّب بالمنطق العام على الخاص حين تتحدد تقاطعات طبيعية تستدعي الشكل الجزئي الخاص او منطق الحكمة الذي يتعلق بالحياة ، والوجود حيث يستخدم ثنائية تتحرك وفق ارتباط الاسلوب الباطني ، وياتي الاسلوب الايمائي في التقابلية ، والاستبدال وهذان الموضوعان يتعلقان بالمنهج السيكولوجي . والعلاقات السياقية عند المتنبي هو كل ما يتعلق بالجملة الشعرية او النص الشعري ، هذا الموضوع يتم تصنيفه حتى يصل الى الوحدات الدالة . والمتنبي : تأثر بالفلسفة الاسماعيلية وكان اكثر تعبيرا عن المنهج القرمطي والفلسفة الباطنية ، وكان المتنبي قبل ان يتصل بالحمدانيين يمدح نفسه والاعتداد بها ويرى في ذلك شأنا كبيرا في الذات العارفة والشجاعة ، ثم انتقاله الى معترك الحياة وما تشكله من اختلاف في وجهات النظر ، وما يختمر في سيكولوجية المتنبي من عوامل (الوقت والثورة) وعندما إتصل بسيف الدولة اصبح اكثر رصانة وتفكيرا (بالوقت والثورة) وكانت شخصيته ممدوحة اكثر بروزا وتقديما ، والمرحلة القادمة هو مغادرته البلاط الحمداني حيث اشتداد الالم الذاتي بعد ان شاهد بأم عينيه من وراء هذه الخيبة وكان رد فعله يغلب عليه الاشمئزاز لكنه من الجانب الآخر مضيء ورائع سيكولوجيا . لقد استخدم المتنبي خصخصة التجربة في اللغة ، وكانت حلقة البدائل تترتب عليه عملية التغيير في المدلول السياقي اذا ضغط عليه الظرف اللّغوي بتبديل وحدته الدالة . فقد قسم المتنبي سياق النص الى وحدة دالة تقوم بتحديد القوانين وتسلسلها المتعلق بتتابع مركزية النص الشعري والانطلاق به وفق قوانين من الحرية ، ولكن خواص هذه الحرية ما يتعلق بمنطق نظرية المتنبي الباطنية والتي تخضع لشروط موضوعية تتميز بخاصية العلاقات المختلفة في سياقاتها وفي علاقة التضامن حيث يقتضي وجود الوحدة الطردية في هذا التضمين السردي والعلاقة التوافقية التي تؤدي الى الصيرورة . والمتنبي حرر الوسائل الامكانية في العلاقات السياقية في مجال الدراسة التجديدية للغة بوضع صيرورات وقوانين تضع الجمل الشعرية في منظومة لغوية ايمائية حيث يكون عمل الذاكرة الاحتياطي في اعتماده على العمل التقابلي الاختلافي مما يجعل هذه المنظومة اللغوية الايمائية تقوم بوظيفة المنطق الدلالي .
يقول المتنبي في مدح سيف الدولة :
هو البحرُ غضْ فيه اذا كان ساكناً
هنيئاً لكَ العيد الذي انت عيدهُ
ولا زالتِ الأعيادُ لبسك بعدهُ
فذا اليومُ في الأيَّامِ مثلكَ في الورى
على الدُّرِّ واحذرهُ إذا كان مُزْبدا
وعيدٌ لمنْ سمَّى وصحَّى وعيَّدا
تسلِّمُ مخروقاً وتُعْطي مجدَّدا
كما كنت فيهم أوحداً كان أوحدا
وتأتي المقابلات الثنائية باشتراك العنصر الإيمائي وبالتقابلات المتعددة الاتجاهات وبنسبيتها المعتادة مع الفارق في المقابلات داخل المنظومة نفسها .
مثال ذلك :
اذا انت أكرمت الكريم ملكته
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى
أزِلْ حسد الحسادِ عني بكبتهم
وإنْ انت أكرمت اللئيم تمردَّا
مضَّر ، كَوْضع السيف في موضع الندى
فانتَ الذي صيرتهم لـــي حُسدا( )
وتتأكد هذه المقابلات عبر كنه هذه المطارحات التي أكدها المتنبي بقوانينه الموسومة بالاستخدامات حيث تكون هذه المقابلات ذات اهمية منطقية في الجملة الشعرية لتنال أهمية خاصة في المحايث الذي تنطلق منه التعادلية اللغوية والمنطقية في لغة المتنبي الشعرية لتعتمد الثنائية في المنظومة اللغوية ويترتب عليها شيء من هذه الصيرورة المقطعية في اللغة ، وهذا لا يترتب عليه أيّ خلاف أو تغيير في المعاني ليتعالق في تفاصيل المخالفات التوافقية وسوف نعود الى هذا الموضوع في الصفحات القادمه حول اشكالية البيت الثاني (ووضع الندى) .
مثال ذلك :
وربَّ مُريد ضَدَّه ضَدَّ نفسه
ومستكبرٍ لم يعرف الله ساعةً
وهادٍ اليه الجيش أهدى وما هدى
رأى سيفه في كفه فتشهدا( )
والعملية الاختلافية في شبكة التوقيت عند المتنبي يستوقفها المنهج التطوري في التشكيلات اللغوية ، فانها توجد بوضع تتمركز فيه حول مركزية اللغة من الناحية الفكرية وجدلية التاريخ الذي يسوق تاريخ اللغة ونظامها بمطارحات اختلافية (المتنبي) والتغيرات المختلفة التي تحصل بهذه الاختلافية ، وكان لابد لنا ان نحصر هذه المتغيرات وفق المنهجية الجدلية التاريخية ونظامها وحدوثها الذي يشوبه الخلط والابهام ، ونحن نبحث عن المستويات الفكرية العليا في المطارحات التي جاء بها المتنبي ومستوى تطورها من ناحية تكنيك الصورة الشعرية ، لان اللغة عند المتنبي هي مستوى تطوري خلاّق يستند الى ثنائية اختلافية تتمركز فيها المستويات العلائقية من تكنيك – وصورة – وتوقيتات سيكولوجية .
والامثلة على ذلك :
ويمشي به العُكَّاز في الدير تائباً
وما تابَ حتى غادر الكَرُّ وجهه
فلو كان ينجي منَ عليّ ترهبُ
وكلُّ امرئٍ في الشرق والغرب بعدهُ
وما كان يرضى مشى أشقر أجردا
جريحاً وخلَّى جفنهُ النفعُ أرمدا
ترهَّبت الأملاكُ مثنى وموحدا
يُعدُّ لهُ ثوباً من الشعرٍ أسودا( )
والتوقيت اختلافي غير ثابت في اللغة ، فهو يتعلق بالدرجات الاسلوبية والمنظومة اللغوية تخضع لزمكان رمزي مضيفا اليه دلالة توقيتية تنطلق منها المتغيرات اللغوية ، والمتنبي شاكل التطور التاريخ في اللغة ولذلك جاءت ابياته الشعرية مرتبطة بالحس التوقيتي التاريخي ثم تاتي المنظومة الدلالية باعتبارها الطرف الآخر الذي يدخل في تكوين المنهج اللغوي باعتباره التحديث المستمر في اللغة بعدها تاتي الاصوات التي تظهر في النصوص الشعرية عند المتنبي والتي تسبق الدلالة وقبله النحو . والمنظومة اللغوية عند ابي الطيب هي : منظومة لا شعورية ، فالعلاقة القائمة في خواص التحليل التركيبي عند المتنبي هي الخلاصة الرئيسية في التوقيت الاختلافي واستنتاجا للمعلوم في النصوص الشعرية .
مثال على ذلك :
وما الدهرُ إلاّ من رواة قصائدي
أجزني إذا أنشدتَ شعراً فإنما
إذا قُلتُ شعراً أصبح الدهر منشدا
بشعري أتاك المادحون مُردَّدا
(مطارحات الرؤية)
شكل المتنبي ، منذ اندماجه المنهجي بعمق الصورة الشعرية واستمرار الرؤية التي اندمجت في اندماج عالمه الاختلافي حتى تلابست معه فجوته القلقة بين شعوره العميق في المفارقة ، وهي تستوطن الغور العميق الذي شقه بعناء وصبر يعتبره عالم متسامي فوق عالم البشر وفق الاشياء المحسوسة وهذا ما وازنه والتزم به بين معاناته وكبريائه ومشكلات هذا العالم الذي يتعامل معه والذي يعيش فيه . وما يتعلق بانواع هذه المشاهد ونحن نتأمل الفخامة في انتاج (النص والمعنى والدلالة) الى حد الحلم الذي ينتقل الى عالم نهائي عالم يتحرك من خلال رؤية الذاكرة والتأمل واستعادة هذا المعراج في التأمل والفخامة التي تعيد وحدة الوعي وقدرة التفحّص للصورة الشعرية دون حدود . ومنذ تلك اللحظة وفي حدودها الكبيرة ، كان لعطاء المتنبي بعدا فاعلا ، والمسافة حملته حتى وهو في منفاه في الفيافي ، وكان المتنبي يحدد رؤياه الحربية ويبدع في التقاط تفاصيلها وتشكيلها في الصورة الشعرية لان صورة المتنبي الشعرية صورة ملحمية يقوم بعرض الوقائع للحرب عرضا ايجازيا مع تفصيل مكاني دقيق مطعّم بسرديات حكائية أي انك تقرأ ملحمة شعرية متكنكة بتقنيات السرد .
يقول المتنبي :
رمى الدَّرْبَ بالمجردِ الجيادِ الى العدى
فلما تجلَّى من دلوكٍ وضجةٍ
فما شعروا حتىَّ رأوْها مغيرةً
وما علموا أنَّ السِّهامَ خيولُ
علتْ كُلَّ طودٍ رايةٌ ورعيلُ
قباحاً وأمَّا خُلقُها فجميلُ
لان حرب الثغور في رؤيا المتنبي هي حالة من الاظهار للبداعة والقوة . والمتنبي كان يرى في سيف الدولة شاخصا بسيفه في رؤياه واتصاله به ، عملية سيكولوجية ومرحلة تاريخية يفوق بها المتوقع من الاشياء . ورؤياه لما بعد هذه الرؤيا الذاتية هو : الاتصال الذهني بفجوات غير مرئية في عالم من الحكمة والاحكام في ادراك ما وراء التجديد العقلي ، وهنا ياتي فعل الرؤية في الشخصية الممدوحة فيعطيها معنىً آخر من خلال القراءة الدقيقة للنص الشعري بالفعل الظاهر – والفعل الباطن وفق تركيبات في المعاني تضمر نصا خفيا يفصح عن حكمة فلسفية منتشرة في فضاء النص . والمعنى الذي يظهر القراءة واضحة في النص اضافة الى التحريض السياسي الذي يضمره المتنبي ضد الدولة العباسية . يقول المتنبي :
يدق على الافكار ما أنْتَ فاعلٌ
إذا شدَّ زنْدي حُسنُ رأيك فيهم
وما أنا إلاّ سمهريٌّ حملتهُ
فتركُ ما يخفي ويؤخذُ ما بدا
ضربتُ بسيفٍ يقطعُ الهامَ مغمدا
فزَّينَ معروضاً وراع مُسدَّدا
عبر هذا النسيج السيكولوجي يظهر ان المتنبي يمتلك رؤية فلسفية ومنطقية قياسية عقلانية تربط منعطفات ايديولوجية وفق صياغات عقلية في الترتيب الدلالي واستعمال الالفاظ الفلسفية فهو يتفهم في تفاصيل هذه القصيدة بمدارك خاصة به وتعبيرات مكتشفة من قبله ، فاراد في هذه القصيدة ان يضع ثقله الفكري والفلسفي والسيكولوجي والسياسي في رواق الخليفة فالجملة كانت قد بدأت بقياس منطقي وفكرة العقيدة فكرة فلسفية مبدئيا ترتكز على تفاصيل علمية عمل بها أبي الطيب بمصدرية افعاله الغريبة في (الظاهر والباطن) والحسد والحساد وما افضت عليَّ من نعمتك يقول له فاصرف شرهم وحسدهم عني اذا قويت ساعدي بحسن رأيك وانا لك سمهري أي كالرمح ان حملته مسددا راع اعداءك والمتنبي في رؤياه هذه كان متماسكا في خوض غمار المعترك الشعري بحجة فكرية ولغوية اضافة الى الايجاز والدقة والعمق في التشكيل المعرفي بالاعتماد على المنظومة الفلسفية واللغوية والبيان والمعنى واللفظ وموسيقى الشعر وموقعها في الجملة الشعرية والحكمة الموحية والمهارة في القوة والبناء والبيت ادناه وهو من الابيات المهمة في القصيدة :
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى
مُضر كوضع السيف في موضع الندى
والندى في البيت يعني الجود ، فالمتنبي يحتاج الى سيف الدولة لأنه الندى ويقول بالعلى : يقصد مضر فالبيت يتركب من انسجة في الحكمة السسيولوجية والسياسية ، أبي الطيب في بناء تفاصيله الشعرية يستند الى الكثير من الدلالات الطردية في اللغة ويلازمها تصاعد في الانساق الشعرية ويتحرك النص الشعري في الكثير من الاحيان باستعارات وطباقات وطرديات ، وان كل هذه الخواص تأتي على رأس المنظومات (الشعرية – واللغوية) لكي تتحقق وتتجسم الصورة الشعرية بشكل دقيق وعميق ، وحتى تنتشر في فضاء الصورة المتسامي في رحاب النص . فالصياغة الدقيقة للنص من الناحيتين (الشعرية – واللغوية) افضت بالرؤية لان تتحرك وفق معنى سياقي ينتج موضوعة لغوية لتؤكد منحى شعريا يضم معنى دلاليا متجددا عبر خواص النص من الناحية التراثية وتفاصيل الوعي من خلال انفتاحه على النص . والخطاب الشعري وهو الآخر معني بالرؤية والتأويل لهذه الرؤية والمعنيين (الظاهر – والباطن) والتحاقهما بالجملة الشعرية عبر رؤية وكذلك الجملة في تركيبها في بعض المعاني فهي حلقة تتعلق بمنطق الرؤية المتنبية . والمتنبي على العموم يقوم بحصر النص وفق فضاءات مسكونة بالوعي الشعري وصورته وبالاعتماد على اصول وفلسفة النص وفق عدة دلالات تتعاقب باطر فلسفية وباطنية وصوفية وسياسية – وسيكولوجية . فأبو تمام يقول :
لو كان يفنى الشعر افنته ما قرت
لكنه فيض العقول إذا انجلت
حياضك منه في العصور الذواهب
سحائب منه اعقبت بسحائب
ثم تاتي شرارة المتنبي في تفصيل الرؤية على مستوى الذات ، والمعترك ، لان المتنبي بانفتاحه على هذه الرؤية يعطينا اختلافية منطقية في تفاصيل النص ويبلغ بنا حد الاختلافية (الباطنية الفكرية) وجدل الذات المتميزة بالصوت الحي والمصورة للاشياء بان خارج حلقات اللاوعي في ظروف جدلية ناطقة ، منذ سقراط الذي لم يترك شيئا وراءه ابدا . والمتنبي في هذه الرؤية استحضر المداخل الدقيقة لهذه النصوص الشعرية ليعطينا وضوح اكثر في هذه الاشكالية الاختلافية في منطق الوعي الشعري ومعنى الصياغة وربط هذه الالفاظ في مجسات شاعرية فهو لم يترك الاعمى والاصم الا وحلّق في رؤياه وترك الاشياء تحلّق متسامية في إدراكه ووعيه لتختصم في هذه الرؤية : وقد تم شرح بيت المتنبي (أنا الذي) في الصفحات السابقة من ناحية تركيب البنية الدلالية وتوحده في تشكيلات النصوص الاخرى وان المتنبي ليس كباقي الناس يقنع بما يقنعون الآخرين او من الذين تأخذهم ملذات الحياة وان عمره لو طال لاستطاع ان يبالغ به حد الذهول ولكن العمر له حدود فهو كهبة اللئام ، فالخوف كل الخوف في ادارك ما اصبو اليه وفي هذا المجال يقول الواحدي : وكأن هذا من قول أبي تمام :
وكأنَّ الاناملَ اعتصرتها
بعد كَدّ من ماءِ وجه البخيل
يقول المتنبي :
أنا الذي نظر الأعمى الى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
ويقول في مدحه المغيث بن العجلي :
فؤادٌ ما تُسلِّيه المدامُ
ودهرٌ ناسهُ ناسٌ صغارٌ
وعمرٌ مثلُ ما تهب اللِّئام
وإنْ كانتْ لهُمْ جثثٌ ضخامُ
وفي هذه الرؤية يصبح الزمن تحركه بيادق هي صغار الاقدار والهمم وان امتلكوا في المكان أبدان ضخمة .
وقول حسّان بن ثابت في هذا الاشكال :
لا عيبَ بالقومِ منْ طولٍ ومنْ قصرٍ
جسمُ البغالِ وأحلامُ العصافير( )
وما يتعلق بالتأويل للرؤية عند المتنبي : هو أن مصطلح التأويل يتحرك وفق حقيقة العلاقة التي تربط (بين المنطوق والمفهوم) فالنص الشعري هو توافق الحالات المنطوقة مع مفهوم النطق الذي لا يحتمل التأويل والذي يتوافق مع دلالتين في منطوقه والذي يتأكد بالظاهر من حلقات النص وياتي المؤول ، وهو الذي يجمع دلالتين في منطوقه ويتأكد بالباطن او الخفي من الاشياء في النص ، والمشترك الذي يجمع حقيقتين ليصبح حمل المنطوق متساويا في تركيبة النص( ) ثم يأتي الايجاز في الرؤية عند المتنبي ، فهو يقوم بتركيبة المفهوم على سياق المنطوق في اطار الدرس البلاغي حيث يتساوى فعل المنطوق بخواص المفهوم وكل هذا الموضوع يتعلق بالنقطة الاولى . وما يتعلق ثانية بالمنطوق والمفهوم يحتفظ (السكاكي) في هذه القضية وتعبيرها نسبي حيث ارتبطت كل محتويات (الزمكان الذاتي) فالذي يتحقق من موقعه في هذا الأمر هو المتلقي ومن وجهة نظر اخرى يتعلق بالأمر نفسه أي علاقة (المنطوق – والمفهوم) وعلاقة هذان العنصران بحقيقة الرؤية وانفتاحها على خواص الدوائر المفتوحة والمغلقة حسب المعادلة التي تتعلق بالانفتاح وتتمثل هذه بعلاقة التشبيه . ثم يأتي المعنى داخل خلايا النص ، كالجوهر وهناك رأي (للسكاكي) في انفتاح هذا النص لا يمكن ان يدخل منطقة البلاغة الاّ اذا احتوى على انتاجية التجديد في الدلالة او الانفتاح على عدة مداخل – ومخارج في الرؤية مثال على ذلك ما يقوله ابي الطيب المتنبي( ) :
هل الحدثُ الحمراءُ تعرفُ لوْنها
سقتها الغمامُ الغُرُّ قبل نزوله
بناها فاعلى والقنا تقرع القنا
وتعلمُ أيُّ السَّاقيين الغمائمُ
فلمَّا دنا منها سقتها الجماجمُ
وموجُ المناياحوْلهـــا متلاٍطمُ( )
من خلال ما تقدم شكلت الرؤية المنفتحة نتائج وخواص في التعدد للإحتمالات من خلال المتابعة بالرجوع الى طبيعة انفتاح الرؤية واخراج النص المحكم ثم يأتي البناء الثاني الذي يحكم ماسبقة بحركة ترددية والغوص في ثنايا النص للوصول الى الاستخراج والابتداع . وفي هذا المنطوق وصل عبد القاهر الجرجاني الى اصطلاح (معنى المعنى) من خلال رؤية النص وفق مستويين دلاليان في (معنى المعنى) أي المعنى الاول + المعنى الثاني والمعنى في ظاهر اللفظ والذي تصل اليه بسهولة من خلال السياق العام : ومعنى المعنى ان تتوغل في منطوق اللفظ الى ان تصل الى المعنى ثم يفضي بك هذا المعنى الى جدلية معنى آخر باطني في خصخصة النصوص المنفتحة احتماليا وبنتائج تاتي وفق خواص احتمالية والبنية النصية لا تحتمل الا الوجه الواحد والذي عليه تتشكل المعلومات وان مركزية الصواب في ذلك هو لامركزية في الفصل اذا كان يحتمل منعطف في الظاهر هو غير المنعطف الخفي في النصوص وان هذه الاحتمالية النصية تقع في منطقة الخروج عن المألوف في التكامل مع خصخصة التركيبات التعبيرية ، قد تكون عالية الهواجس الجمالية مثل التشبيه – والاستعارة .
والمتنبي في خلاصات الصور والمعاني ، لا تتغير عندما تنتقل من لفظ الى لفظ آخر ليكون هناك اتساع في المجاز او الاستعاره او التشبيه وحتى لا تأتي الزيادة في لفظ ما وضع في تفاصيل اللغة اشاره الى معانيها معنىً آخر( ) وبهذا الاستدراك اعطى الجرجاني الاحتمال الدلالي وتأثيره على حالة المتلقي ، وبهذا الانفتاح في الرؤية : وازن الجرجاني بين انتاجية المعنى وفق الضوابط الفنية واعطائه خصوصية من الجوهر وبين انتاجية خالية من الشعرية وخالية من ايّ قيمة جمالية . فيأتي البناء مبتذل لا يغني مستوى المعاني . وان ما حسن لفظه فتشهد له بالركيزة التعبيرية وتكسبه خصوصية ويزدك المعنى طلبا وطربا ثم يأتي العمق ليشكل منعطفا قائما في البناء .
يقول المتنبي :
أتوكَ يجروُّنَ الحديدَ كأنَّهمْ
إذا برقوا لمْ تعرفِ البيضُ منهمُ
خميسٌ بشرقِ الارضِ والغربِ زحفهُ
تجمَّع فيهِ كلُّ لِسْنٍ وأمَّةٍ
فللّه وقتٌ ذوَّبَ الغشَّ نارهُ
نقَّطعَ ما لا يقطعُ الدِّرْعَ والقنا
وقفْت وما في الموتِ شكٌّ لواقفٍ
سَرَوْا بجيادٍ ما لُهُنَّ قوائمُ
ثيابُهمُ منْ مثلها والعمائمُ
وفي أذُنِ الجوْزاءِ مِنهُ زمازِمُ
فما تُفهمُ الحدَّثَ إلاَّ التراجمُ
فلمْ يبق إلاّ صارمٌ أوْ ضبارمُ
وفرَّ مِنَ الأبْطالِ مَنْ لا يُصادمُ
كأنَّك في جفْنِ الرّدى وهوَ نائمُ( )
من جهة أخرى ، فان الرؤية المدركة للّغة فهي فاتحة الفعل الادراكي أي انها تعني افتراض سابق في الرؤية لوجود منطق اللغة وهي شبيهة بنظرية (تشومسكي) عن القدرة اللغوية الكامنة في الذهن ثم تأتي الكتابة باعتبارها طاقة فطرية تسبق كل الخبرات الحسية وهي مختفية لا تتضح أو تظهر الاّ عند الاستخدام للّغة . وفرويد أكد هذا الموضوع وحدده (بالاثر القديم) وهي اشارة الى أثر القلم على الشمع بوصفه الأثر اللاواعي . وكان (جاك دريدا) قد طور هذا المنحى ليجربه على الكتابة ، بان هناك علاقة بين فعلية الكتابة وخلجات الكاتب المتأكدة بخواص الكتابة فيخرج دريدا : بان الكتابة كفعل : هو مجرد تحقيق لأثر قديم سيكولوجيا وهذا الاثر ، يعد تعبيرا وجوديا كاملا وهكذا كانت النظرية التقليدية للغة من حيث هي تكوين وتواصل لتأكيد عملية التواصل في المنهج الفكري ، وتحقيقا للمبحث العلمي باعتباره يقع داخل مؤسسة اجتماعية وهو المجتمع . وجاك دريدا انتقد هذه النظرة التقليدية لخواص الكتابة بحالتها المألوفة في النشأة الغربية( ) ابتداء من افلاطون من الناحية التاريخية وحتى القرن العشرين لأنها تقع خارج الذات وتابعة الى الصوت . وهذا الموضوع يشوبه الابهام والآلية التقليدية مقابل وجود البدائل التقليدية في الصوت وهو حضور تصوري فيزيقي وحدته الفكرة التقليدية . فاللغة : هي خطاب فلسفي خفي موجود فسلجيا في الرؤية ، وهي التي ارتكزت عليها بدايات النطق الاولى . فالكتابة ومتغيراتها الفلسفية هي القوة الكامنة في الصوت وقوة وقوعه وشروط دلالته في المنطق الناطق بالصوت . ورؤية الكتابة عند المتنبي وهو ما يعنينا في هذه المقدمة هو المألوف – والمحسوس – والمعادل الحقيقي للاداء الفردي تقوم بتحقيقه اداة وظيفية للتواصل عبر الكتابة وصياغة المنطوق في المنظومة الشعرية . نقول ان حضور المتنبي كان في صوته الذي يقوم بالتحكم بخواص المعنى والدلالة بعيدا عن الغثيان والتشويه لأنه مرتبط جدليا بوعي وآلية وعي اللغة فسلجيا – وتاريخيا ، ويمكن فهم الخطاب عند المتنبي شعريا باعتباره حدًا يتعلق بالمنطق الشفاهي لان ماهية المتنبي الوظيفية من الناحية الشعرية لا تنمو عملية تفكيره من طبيعة صرفة ، بل نمت من قوى ومجسات متحركة رؤيويا بعد ان تم اعادة العملية التكنولوجية في وظيفة الكتابة بشكل مباشر او غير مباشر . لقد غير المنطق الكتابي في الرؤية والصوت واللغة شكل ومنهج الوعي الشعري عند المتنبي ، واصبح الخطاب الشعري وما يحدثه في الآخرين هو خطاب يكاد يكون منفصل عن الشاعر لأنه استقل بالصيغة السيكولوجية الطقسية وبالنبوءات لان اساسيات الخطاب عند المتنبي يعود الى انه تكون من صوت النبي المرسل في مصدرية باعتباره نصا عصيّا بطبيعته اللغوية والفكرية .
يقول المتنبي :
ما مقامي بارض نخلة إلاّ
أنا تربُ الندَّى ، وَرَبُّ القوافي
كمقام المسيح بين اليهودِ
وَسهامُ العِدى وغيظ الحسودِ
الخيل والليل والبيداء تعرفني
إني اصادق حلمي وهو بي كرم
ولا أقيم على مال أذلُّ به
أنا في أمةٍ تداركها اللُه
والسَّيْفُ والرُّمحُ والقرطاسُ والقلمُ
ولا أصاحب حلمي وهو بي جبنُ
ولا ألذُّ بما عرض به درنُ
غريبٌ (كصالح في ثمود)
ان المتنبي رؤية واحساس متميز بالعصر الذي عاش فيه بوضوح في الرؤية المتزايدة والحدس في انتاجه الشعري ، كان متصلا اتصالا وثيقا بحلقات ما قبله من الابستمية الشعرية ، ولذلك كانت صفته في التميز هو المبرر في تكامل الرؤية وحدودها في اطار الكيان الكلي والعام داخل حدود الابستمية . وان التعامل في هذا يجري وفق قياسات تستند في تفاصيلها على التفسير العلمي للحياة من خلال حلقة الانبثاق الشعرية . والمتنبي لديه التفسير ولديه الكنه الابستمولوجي الذي من خلاله يناظر هذا القياس وفق منطق محمول اخرجه الى هذه الحلبة من المنازلة . فالمتنبي يعتقد وبدراية ان ما احس به وما خزّنه من اصغاء الى ذاته والى حركة الاشياء والعناصر وطبيعة ما يحتاج اليه الشاعر . فبدا بدراسة اعمق نقطة في طبيعة الحياة الاجتماعية ، والسيكولوجية والسياسية ، وخرج بنتيجة ، ان اهم قيم التمرد في الشعر هي : الاصالة التي تربط الشاعر بالمجتمع والحياة ومن خلال هذه الاصالة يستطيع ان يحقق الشاعر مهمته الصعبة ، وهي الاشد بدائية حين يتقدم الى الفحص والدقة وادراكه للحس المتوالي والذي يظهر له من لمحة او في حركة تأمل لهذه الحياة المعقدة أو الهروب من الاخطار او الالتحام بالمنفعة الشخصية أو المجد الذي رسمه المتنبي لنفسه أو القول المجافي للحقيقة وعبر مهارة دقيقة في العثور على الخواص التي تتطابق مع هذه الحركة الشعورية او اللاشعورية او الارتباط بحلقات الشر او التلبس بالروح الشريرة والاستمالة الى الشفافية والروح السمحة الطيبة ، وكل هذا وذاك بقي المعنى الابدي في النصوص الشعرية وبقيت مهمة الاكتمال وهي تكتسب عدة اتجاهات من الابهام ، ولا زال الاثر الشعري عند ابي الطيب شاخصا وقائما حين يصور الطبيعة الانسانية الصادقة وحين يصور العذاب – والموت – والقبح – والفزع البشري- وسر قوة هذا الفزع الذي حال بينه وبين مرتسمه الذي نقله باحساس حتى وهو يهجو فهو احساس يغتلى بالطاقة الشعرية وايقاعه يكاد يلامس أقصى المجهودات حين يجعل المتبني الطباع الشخصية هي طباع عامة تسود في نصوصه الشعرية .
وتتجه البنية الشعرية في مطارحات المتنبي الى اشكالين : الاشكال الاول وهو الاشكال الصوتي الذي يتعلق بالمنظومة البنائية وهذا ينقلنا الى علاقة الصوت بالنظومة الدلالية لانها تشكل مستوى الاختلاف في الصياغة الشعرية في حالة الترجمة من لغة الى لغة اخرى صحيح ان المعنى يبقى في حالة تراوحية ولكن يتحول النص الشعري الى نثر ثم بعد ذلك يضيع شكله والاشكال الثاني يتعلق بالشاعر وانتقاله الى حالات تعبيرية متعددة . فالذي يقوله بنصوصه فهو لا يشبه احد او يشبه الآخرين ، فالطريقة في التعبير الكيفي تنتقل الى الحلقة الكمية بحساب المنظومة الشعرية . فالمتنبي محدد في تفاصيل اللغة الشعرية ومكوناتها العملية والتمثل يأتي بصدق الشاعر والشعر لانه يمثل ويتمثل حقيقة التاريخ على ضوء المنهجية البنائية في تركيبة الرؤية الشعرية ، والمتنبي : حدد رموز هذا التمثيل باللغة في اختيار المفردة العملية في طريقة نظمها وصورتها ، وايقاعها وكيفية التعبير عن الرموز والاشياء لتمثل التمثيل الفكري والسسيولوجي والعاطفي والمفردة والجملة الشعرية هي الكفيلة بجعل الحياة ذات ابعاد تتناسب مع ما مطروح من اشكاليات داخل حركية الوعي الابداعي ، وان العلاقة بين المنظومة الشعرية عند المتنبي والحياة هي كالعلاقة بين المقدمة – والنتيجة ، وهذا يتعلق بمنطق المعنى في النص الشعري والتركيبة اللغوية للنص من ناحية الرؤية الجدلية التاريخية فالوصول الى المنهج الشعري وماضيه في حلقات الوعي لأنه حضورًا بيناً ارتبط بآليات الحضور المؤوّلة والتي وسعت المنطق الدلالي فتعددت مهامه واعطته انتاجية في الصياغات الصورية اضافة الى القيام بتنوع سياقاته لان حلقة التاويل في نصوص المتنبي الشعرية قد توثّقت بآلية كانت قد تجاوزت السطوح من هذه الظواهر لتنطلق الى اعماق النص وبواطنه .
يقول المتنبي :
رمانيّ خِساسُ الّناسِ مِنْ صائبِ أسِتهِ
وآخرُ قطنُ مِنْ يدْيهِ الجنادلُ
ومِنْ جاهلٍ بي وَهوَ يجهلُ جهلهُ
ويجهلُ علمي أنَّه بي جاهلُ
ويجهل أنيّ مالك الأرض معسرٌ
وأنيّ على ظَهرِ السماكين راجلُ( )
(المنحى الحسي عند المتنبي)
ما يتعلق بغطاء ووعاء الجذب الذهني في اخذ صياغة المضمون وفق اسلوب يدركه الشكل وهذا مستوى متطور في حلقة الكتابة والقيم الجمالية ، وهي امور تتعلق بالمسؤولية الفنية في تقديم هكذا نص يعي منهجية الاستخدام الذهني في تشكيلة العمل الفردي . ولكن صياغة المضامين تبقى حجر الزاوية في التشكيل المشترك للاشياء . فالمتنبي قدم منعطفا حسيا في القصيدة التجربيبة بصورتها الشعرية وخواصها الذاتية في الشكل ، والشكل في المعادلة الموضوعية هي القصيدة المتفردة بهذا الاطار، فغياب الشكل يعني غياب القصيدة ، ويشكل الادراك تجريبية حسية صادقة تعبر عن تجسيد لمعنى الخواص في الفعل الحسي وما مرهون بالشكل والمضمون يعتبر عطاء في تجربة تعطي اختلافية في صدى ذهني يتعلق بالموضوع ، وينسجم مع استنباط حسي يحدد المعنى وحركية القصيدة وتفاصيل المزاوجة بين (الحلم والواقع) باعتبارهما متعلقان باقيان في الحس منهما بتاكيد النقيض من التفسير التقليدي للعمل الادبي .
والقصيدة تحقق الاثر المباشر من خلال المحاكاة عبر الحس في الشكلية . في هذه الحالة علينا الانتباه الى المداخلة التي تحصل للادراك حيث يكون العمل فوق مستوى الحس بتوافق الحدس ، وهذا يعطينا برنامجا يتكون من خطوط وقواعد – ومساحات – وفضاءات – وعناصر – ومعاني – وموضوعات ، كلها تشكل مستوى تنظيمي عالي ، يبرهن على قوة الفعل العقلي وما أخرجه من مؤثرات في دعم المرتسم الموضوعي ودعم خواص شبكة القصيدة عند المتنبي وهذه القصيدة قالها عند خروجه من مصر :
عيدٌ بأية حالٍ عدت يا عيدُ
أما الأحّبةُ فالبيداء دونهمُ
لولا العلى لم تجب بي ما أجوبُ
وكان أطيب من سيفي معانقةً
يا ساقييّ أخمرٌ في كُؤوسكما
أصخرة أنا ما لي لا تحرّكني
بما مضى أمْ لأمرٍ فيك تجديدُ
فليتَ دونك بيدًا ُدونها بيدُ
وجناءُ حرفٌ ولا جرداءُ قيدودُ
اشباهُ رونقه الغيد الاماليدُ
أم في كؤوسِكُما همٌّ وتسهيدُ
هذي المدامُ ولا هذي الأغاريدُ( )
في هذا المسار الحسي الحكائي يتصاعد الاستخصار في التعرف على شبكة الخطاب ، وفق سياق الملازمة للنصوص الشعرية ونبدأ عملية الحصر للمخيال الذي ساهم في الكشف عن البناء في نواظم القصيدة وفق مقاييس (الزمن – والرؤية + الحس) وهنا يتمركز ميدان الاسلوبية التي تعمل على ادغام كل اختلاف بين منطق الحكاية والخطاب الذي يستحضره الشاعر .
اذا أردتُ كميتَ اللّون صافيةً
ماذا لقيتُ من الدُنيا وأعجبه
وجدتها وحبيبُ النفس مفقودُ
أنيّ بما أنا شاكٍ منهُ محسودُ( )
فالموجود في الكأس لونه كمتي وصافي كصفاء عين الديك ولكن الوجود بكامله مفقود فالبيت الشعري يتأسس على تعريف يتعلق باشكالية تفهم الحدث ، ثم يقدم تعريفا للخمرة بلونها الاحمر الذي يطغي عليه السواد ثم في هذا التعريف يبرمج هذه الاشكالية في اتمام المقاربة بين وجود الخمرة وغياب الحبيبة . والسؤال سابق الادراك عند المتنبي وهو مثير للادراك نفسه . فالوجود عند المتنبي سابق دائما على التفكير ويأتي السؤال بوصفه اجابة عن سؤال سابق له ، فالمشروعية في هذا تلزم حلقة تعريفية عن رغبة حقيقية في كنه التعريف .
جود الرجال من الايدي وجُودُهمُ
ساقبضُ الموتُ نفساً من نفوسهمُ
من اللسان فلا كانوا ولا الجودُ
إلاَّ وفي يده من نِتْنها عودُ
فليس هناك سياقات متكاملة وجاهزة عن منطق الشيئية او الوجود وعدمه وعن خلاصات جوهرية لهذه الأشياء . فالمتنبي يستنتج من هذه الأشياء جوهر فعلي يتجلى بالحس + الحدس والوجود يمنح هذه الحالة في الامكانية السيكولوجية من حق الانسان ان يقول ما يشاء سيما وان هناك وجود سابق لهذا الادراك ، والسؤال يصبح عمل فعلي للشاعر ، ان يسأل والجواب يتشكل بحقيقة مؤكده مؤداها ان الوجود الانساني (مكان وزمان) متحرك في هذه الاشكالية ، وينطوي على عمق وفير وبقصدية في هذا الوجود بوصفه مجرد الوجود ، بل بوصفه مبدأ مفترض يتحرك في فضاءات حرجة ليس من اجل منحى فردي بل هو خلاصة سيكولوجية لمفهوم متحقق وجوديا . واللغة الشعرية في مقام ما ربما تكون لغة افتراضية تتعلق بالميتافيزيقا سواء على مستوى مفصلها (الموتي او الحياتي) او (بموت الاله كما يقول نيتشه) بوصفه حلقة فيزيقية . فالوجود من رؤية حدسية اخرى ينظر لها المتنبي وفق منظومة التغير الافتراضي سيكولوجيا ، يفعل هذا المتنبي ليكشف هذه اللغة الافتراضية التي وصف بها كافور عن وجوده ومركزه وهي حالة من الكشف تستلزم تحولا جوهريا في لغة الهجاء واتجاها آخر نحو خواص التحول . لكن المتنبي يكشف المفردة الوجودية المقروءة . من هنا تبدأ الدقة في الوصف لكافور الأخشيدي .
صار الخصيُّ إمامَ الآبقين بها
نامت نواطيرُ مصرٍ عن ثعالبها
العبدُ ليس لحُرّ صالحٍ باخٍ
ما كنتُ أحسبني احيا الى زمنٍ
وأنَّ ذا الاسود المثقوب مشفرهُ
فالحرُّ مستعبدٌ والعبد معبودُ
وقد بشمن وما تفني العناقيدُ
إن العبيد لأنجاسٌ مناكيدُ
يسيءُ فيه عبدٌ وهو محمودُ
تطيقهُ العضــاريط الرعاديدُ( )
والمتنبي يتم تحويل خطابه الى مفردة تتعلق بالوجود ، ويبقى النص الشعري يستخدم منحى الدقة بوجود الصيرورة التي انتهى اليها المتنبي بالرجال الجوف فاستخدم المفردة لأن اللغة تحولت الى العمق الوجودي .
ان ادراك وعي تخلل المفردة من مجرد علاقة الى جوهر يعمل على نزع حالة التذكر في مرحلتها الاولى باتجاه ذاكرة تعيد جوهر المعنى تحت سيطرة اكثر متانة في التعبير لان الذاكرة اصبحت ذاكرة وجود عند المتنبي هذه الذاكرة تجنبت الغزو من ناحية وسيطرة الوصاية على الذاكرة من ناحية اخرى ولذلك فقد تعامل المتنبي مع محمولات للغة قديمة ومفردة فاضحة ومباشرة ليخاطر باشكالية التأمل في خواص الجوهر الوجودي ، فهو يخضع لمتطلبات قديمة تتعلق بفحوى الموضوع فهو تحرير المفردة من أسر اللغة لتقديم الخلاص في البيت الشعري .
يقول المتنبي :
ولا توهَّمتُ أن الناس قد فقدوا
من علم الاسود المخصي مكرمةً
أم أذنهُ في يد النخاس داميةً
وأنَّ مثل أبي البيضاء موجودُ
أقومهُ البيضُ أم آباؤهُ الصيد ُمردودُ
أم قدره وهو بالفلسين مردودُ( )
فالمفردة التي انجزها المتنبي هي الأثر الذي يحمل طقوسا تتعلق بالأثر الوجودي لتحرير كل المفاهيم من زيف اصلي وراسخ وفي غاية الثبات ، في عقول تؤكد مرتبتها الادنى ولكن المدلول المتعالي عند دريدا :
Transcenden Tal signified ( )
فالذي يبقيه هو مفهوم يتعلق بالفكرة العليا التي تتعلق بالوجود الحاضر ليقودنا هذا الحاضر الوجودي الى سؤال عن فعل هذا المعنى في اطاره النهائي لأنه اصبح مدلولا نهائيا ومرجعا ترجع اليه الدوال . لكن المتنبي في تهمشه لكل من لا يتضمن خواص في الدلالة لانه في نظر المتنبي ، هو سابق ومتميز في هذه الخاصية لانه يتحكم في تفاصيل المدلول . والمتنبي يكشف عن هذا المستور بمفردة هجومية توضح خواص البيت الشعري وحدوده في استباق المفاهيم الفيزيقية في النصوص الشعرية :
وما تنفعُ الخيل الكرامُ ولا القنا
إلى كم تردُّ الرُّسلَ عمَّا أقوْلهُ
وإنْ كُنتَ لا تعطي الذِّمامَ طواعةً
وإنَّ نفوساً أممّتك منيعةٌ
إذا لم يكنْ فوق الكرام كرامُ
كأنَّهمُ فيما وهبتَ ملامُ
فعوذُ الأعادي بالكريم ذمامُ
وإنَّ دماءً أمَّلتك حرامُ
وما يتعلق بالحضور الشعري ومفهوم العلامة عند المتنبي يأتي عبر توليدية تلقائية وفق مدلول زمكاني في كل الاحوال يقلب موازين في الوعي الشعري من خلال المعترك السيكولوجي ووحدة التولد الذي يأتي بحركة تلقائية وعلامة حضورية تكتنز المدلول من زاوية دينميكية . وتؤكد المفردة بعيدا عن التواصلية والخواص الجزئية للعلامة وبسبب المنطق الاختلافي في بناء النصوص الشعرية ، وبناء على السعي لهذه الرغبة في تشكيل الوعي الاختلافي داخل المقطع الصوتي او العلامة الصوتية المتعلقة بالمنهج الكتابي باعتباره حضورا أزليا ذاتيا في المنهجية الفكرية للذات الصامتة ولكن الذي يحدث ان هناك ابتعاد بين تماثل الصوت وولادة الفكر أي بين الصوت والمنهجية الفكرية الذاتية ، لان عملية الكشف تكون قد ابتعدت قليلا ، لان الدال الصوتي غير الدال الكتابي ، ونحن نناقش فكرة المدلول المتعالي عند المتنبي .
العلامة الصوتية والكتابية
التفكيك المتعالي
يجب ان نحدد خواص الصيرورة التي تجمع البنية الاختلافية الذاتية ، ليس في مجال كنه الوجود ، بل وحتى في الحلقة الاختلافية الملغية في كنه الآخر وفق خصائص المعنى في اطار علامتها وهو غريب الانغراس ويقع في منطقة اختلافية منعرجة ، بحيث ان نصفها لا يقع في هذا الاختلاف وكذلك نصفها المتوالي هو ليس النصف المحدد في هذه الاختلافية بمعنى أن البنية الاختلافية في منهجية المتنبي بالنسبة للعلامة تقع بحدود وجود هذا الآخر والذي يقع في الغياب دائما والآخر غائب الاختلافية وغير موجود ، والمعجم يشير : ان في كشف العلامة الاختلافية تتوالد بعلامة سارية اخرى ، هذا التسامي في العلو ، هو تعبير يقع باطار دلالات كثيرة من التفكير المتعالي الذي يغير في عملية التسامي والعزلة والنقاء والتوحد (الغربة – الوحشة) وكان تفكير المتنبي يتجاوز عصره أي انه قد تفوّق على عصره وتجاوزه في خطابه والمتنبي قد تنفس الهواء الاعلى وهو الهواء القاسي والشديد على الانسان وهو يسبر الجليد والوحدة القاتلة والتفرد الاعلى يأتي بالهواء النقي ، ويستتبعه الشعور بالوحدة والبرد الشديد لكن في النهاية تأتي الحرية حتى تتكشف الانوار . من اصعب ما عاناه المتنبي وكل المبدعين في هذه الحياة وهي الهوة الكبيرة بينه وبين معاصريه ، والاختلاف الشديد في هذا الشعور الذي يترجم الى حالتين في هذه الاختلافية (1) حالة التسامي والتفرد (2) وحالة التفرد والوحشة ، وحيث تسامى ابي الطيب المتنبي ونيتشه في تفاصيل عدم النسبة والتناسب ، بين جسامة هذه الاختلافية الدقيقة .
فالتسامي الاعلى في نظر المتنبي ، هو تعبير عن حالة التفرد الابداعي التي يحياها كل المبدعين في كل مرحلة تاريخية وكل عصر . هذه الايقونة التي حددها المتنبي هي الجسر الذي يربط المبدعين في مختلف العصور ، انه الهواء الذي تعيشه النخبة ، هذه النخبة التي تحدث عنها (ابن المقفع) في كتابه (الادب الكبير) هو ذلك التعالي الانساني الذي ترجمه المتنبي في نصوصه الشعرية التي رثا بها كل من لم يستطع ان يصل الى هذا الارتقاء . كذلك نيتشه الذي كان راثيا معاصريه الذين فقدوا القدرة على السمو وبقوا قابعين في ذلك المستنقع الآسن والذين مثلوا الاختلاف في منظور المتنبي . فكان المتنبي يحس الغربة في غربته الذاتية وحتى الموضوعية ، ولذلك نظر الى كل الاشياء نظرة استهزاء واحتقار حيث يقول :
ضاق ذرعاً بأن أضيقَ به ذرْ
واقفاً تحت أخمص قدر نفسي
عاً زماني واستكرمتني الكرامُ
واقفاً تحت أخمصيَّ الأنامُ
فهو الذي استطاع ان يتسامى باكثر قدرة وان رزح الانام تحته ، وهي اشارة الى العلو والسمو وهذه الحلقة من السمو قد تكون لها رابطة موضوعية تربط هذا الشاعر او هذا الفيلسوف باقرباء له من الاجداد الاموات افضل من الاحياء الذين تربطهم به علاقة زيف وانحطاط وفي هذا يقول ابي تمام في هذه العلاقة المتسامية بين الادباء مخاطبا صديقه علي بن الجهم :
ان يختلف ماء الوصال فماؤنا
او يختلف نسبٌ يؤلِّف بيننا
عذبٌ تحدّر من غمام واحد
أدبٌ أقمناه مقام الوالد
وقول دريدا ويستشهد بـ(لامبرت وبيرس) ويقابلهما بهوسرل وهيدجر ينبغي على الفلسفة ان تختزل نظرية الاشياء الى خواص العلامات . ففكرة التجلي والتسامي الاعلى هي : فكرة العلامة هذا المسمى برداءة
The sign is that ill named thng what is .. ?( )
واصل المتعالي يجعل صيرورته محورا مهما في اثره الاصلي هي الصيرورة ، ان الأثر يتحرك على ضوء محور الأصل من الناحية التبادلية بين الداخل والخارج . فالسلطة التي يطلقها المتنبي في مرجعيته في الاصل هو الاثر الذي يتعلق بالخطاب الفلسفي داخل المنظومة الشعرية بتعبير يحمل نقيضه . فالخطاب الشعري عند المتنبي هو خطاب فلسفي يحمل نقيضه الجدلي التاريخي بضرورة من الميراث الحضاري الذي يحمل اختلافية ، وهذا يأتي في انتقالية متعددة الجوانب في اللحظة الفعلية التي يستخدم فيها المتنبي لغته الجدلية التأريخية بهذا المفهوم فهو يتفق مع (ليفي شتراوس) في المقصد المزدوج في حفظ الاداة الفعلية في تمثيلها الانتقادي اضافة الى حدودها المحورية . فيتعامل معها وكانها مادة يمكن استخدامها ولكن في نظره وقدرته العلمية انها مفاهيم وقيم قديمة لانه حدد حدودها دون أية قيمة علمية . والمتنبي استعمل نفس الفعاليات النسبية الموجودة داخل هذه الأقبية الدنيا ليستخدمها في الوقت نفسه لتدمير المنظومات القديمة وهكذا تتحدد الامور الاختلافية في الخطاب الفلسفي وفي المنظومة الشعرية عند المتنبي ، وهي سلسلة طويلة من التجريبية والقدرة على الدخول الى عوالم يسوقها الوعي الاختلافي وتنكر طبيعتها على الاصعدة السسيولوجية . لكن الاثر الازلي في الرؤية الجدلية يمتن النظرة الى الإمكان الداخلي المؤثر من الناحية العلمية حتى يبدو وكان المتنبي معاديا لكل القيم والاعتبارات القومية والسياسية ولكنه العربي الشاعر الذي صاحب اعتراضه على النزوح عن حالة التدني الى هكذا مستوى والارتفاع بالوعي الفكري والسيكولوجي وحتى الشعري الى مستويات متسامية . فالمتنبي بهذه العزلة والنقاوة كانت له عينان ثاقبتان تميزان الالوان الجميلة ، فكان الخلاص من الحضيض ، هو جوهر هذه الاشكالية . لقد تدفق السيل الواعي الى الأعلى الى النبع الاول الى صفات التموضع الى التحرر من التدني ، انه النبع الطري في السعادة الابدية . كان المتنبي يدعو الى خطاب المنطق المتعلق بتكنيكية نوعية تشدها اشياء كبيرة هدفها الغايات الكبرى في الانثروبولوجية في تشكيل العلامة واطار المعنى . فالعلاقة جدلية (مثل الدال – والمدلول) في حالته الجدلية لنصل الى حقيقة : هو ان المعرفة ليست حقيقة مختفية تحت ركامات من التفاصيل المبهمة . فالحقيقة هي شمول الكمال والوعي والسيادة أي ان الحقيقة : تعني المدلول المتعالي في صومعة من الحنين الى الحضور الاختلافي والنقاء بالسعادة وهي نتيجة معرفية وحضورا فرديا في المناهج (الصوتية والكتابية) باعتبارها نماذج تؤكد على الحل الابستمولوجي . فالتأسيس الانساني يقوم على الضرورات التفصيلية ذات العمق بحدود البنية القانونية العامة . فالوقائع يجب دراستها لا تكديسها ، ويتم اختيارها بطريقة علمية ، لان هذا الموضوع يوصلنا الى المعرفة العلمية والاحكام الشرطية في التمثيل القانوني ، والبحث عن المنطق البنائي وفق ابستمة انثروبولوجية . يجب التحقق من هذه المناهج ، ذلك لأن المعرفة العلمية هي ليست الدراسة السطحية المبسطة والنتائج التي تفرزها القيمة العلمية وهي تفضي الى دراسة المنظومات المتعلقة بالكشف عن الميكانزمية للواقع وتركيب نموذج اصيل يتعلق بهذه الجدلية الانثروبولوجية والنتيجة التي نتوصل اليها هي : المنهجية البنائية التي تتوافق بشكل علمي بقيمة الاستنتاج والاستنباط للمنظومات البنائية الانسانية افضل من الاعتماد على المنهجية الاستقرائية ، لأن الاستنتاج والاستنباط طريقتان معرفيتان للحضور الذاتي لانهما يقعان في التشكيل الطردي لحركية (المناهج الصوتية والكتابية) باعتبارهما منهجان علميان في الانساق الانثروبولوجية . وهكذا شاع مفهوم هندسة الصورة الشعرية عند ابي الطيب بالاستناد الى اشاعة الرغبة في النمذجة المعرفية وتطلعاتها الاسطورية في المنظومة الشعرية للمتنبي . وهنا يعنينا تركيبة هندسة النص الشعري واسطرته كانت دائما عن المتنبي وتقع في المعيار الأعلى وحضوره يكوّن الحقيقة ، لان النص المحدد نص مطوق ، ولذلك جاءت هندسة النص الشعري عند المتنبي هندسة حوار + هندسة خطاب تحدد فكرة العلة العليا وحدودها الاختلافية وحركتها الامكانية وهي اشارة الى مكامن الوعي في البنية الشعرية وقبلها البنية الانسانية وهي تطوي العبارة والجملة الشعرية والاثر الملحمي الذي تجاوزه النص الشعري المتعالي في الايضاح والبساطة والتمييز بالحلول والمناظرة في المواقف والاحتفاظ بالحالة الاختلافية (بالمعنى – والمنهج) والمتنبي ينمي المناهج الشعرية القديمة وهو لا يخرج عنها وهي مرحلة ستراتيجية جادة بالنسبة له لانها تختص باعادة تشكيل اللغة الشعرية القديمة الى حد ما تتلبس الميتافيزيقا الشعرية القديمة وهي لحظة حرجة تعيد المتنبي الى بداية تفكيك منطقه الشعري التاريخي بوصفه نقطة ارتكاز في زمنية موغلة بالتركيب اللغوي وهو عمل يخلقه ابي الطيب ليناقش به زمنية تعريفية ومعرفية داخل منطقية من التماثل من اجل احداث تسوية وموازنة وابراز الدائرة الجديدة من الوحدات وغلق وتسوية النمطية الشائعة التي يتجاوزها النص البنائي داخل هذه الرغبة الملحة في تشكيل داخلي يحاول فك وفتح هذا المغلق النصي بوصفه حضورا تعريفيا لفك اشكال المفردة الشعرية القديمة والاخذ الامكاني بها باعتبارها مجالا بنائيا يتعلق بتفاصيل الدقة في التشبيه – والاستعارة – والمجاز – والكنايات – وتركيبة هذه الموازنات وتعيين وجودها لأنه حضور في المفردة الشعرية ومعنىً يتوضح بالاسس والقيم المتمركزة بالحضور الدائم لانه التجلي بخواص المنطق الشعري .
يقول ابي الطيب :
وما مطرتينهِ من البيضِ والقنا
فتىً يهبُ الإقليم بالمالِ والقُرى
ويجْعلُ ما خوّلتُهُ مِنْ نوالهِ
فلا زالت الشمْسُ التي في سمائهِ
ولا زالَ تجْتازُ البُدورُ بوجههِ
وروم العبَّدي هاطلاتُ غمائمهِ
ومَنْ فيه فُرْسانه وكرامه
جزاءً لِما خُو
(مطارحات البنائية)
تناول المتنبي العلاقة السياقية ، والايمائية في فلسفته النظرية للغة فكانت التركيبة الفلسفية للغة تتعلق بالعلاقات التجاورية والتشابه في الاسلوب الرسمي القديم . والمتنبي لم يغادر هذا الاسلوب الاّ بملّمح سيكولوجي يؤكد وظيفة اللغة به وهذا يأتي بعد معترك ذاتي حيث تم التغلّب بالمنطق العام على الخاص حين تتحدد تقاطعات طبيعية تستدعي الشكل الجزئي الخاص او منطق الحكمة الذي يتعلق بالحياة ، والوجود حيث يستخدم ثنائية تتحرك وفق ارتباط الاسلوب الباطني ، وياتي الاسلوب الايمائي في التقابلية ، والاستبدال وهذان الموضوعان يتعلقان بالمنهج السيكولوجي . والعلاقات السياقية عند المتنبي هو كل ما يتعلق بالجملة الشعرية او النص الشعري ، هذا الموضوع يتم تصنيفه حتى يصل الى الوحدات الدالة . والمتنبي : تأثر بالفلسفة الاسماعيلية وكان اكثر تعبيرا عن المنهج القرمطي والفلسفة الباطنية ، وكان المتنبي قبل ان يتصل بالحمدانيين يمدح نفسه والاعتداد بها ويرى في ذلك شأنا كبيرا في الذات العارفة والشجاعة ، ثم انتقاله الى معترك الحياة وما تشكله من اختلاف في وجهات النظر ، وما يختمر في سيكولوجية المتنبي من عوامل (الوقت والثورة) وعندما إتصل بسيف الدولة اصبح اكثر رصانة وتفكيرا (بالوقت والثورة) وكانت شخصيته ممدوحة اكثر بروزا وتقديما ، والمرحلة القادمة هو مغادرته البلاط الحمداني حيث اشتداد الالم الذاتي بعد ان شاهد بأم عينيه من وراء هذه الخيبة وكان رد فعله يغلب عليه الاشمئزاز لكنه من الجانب الآخر مضيء ورائع سيكولوجيا . لقد استخدم المتنبي خصخصة التجربة في اللغة ، وكانت حلقة البدائل تترتب عليه عملية التغيير في المدلول السياقي اذا ضغط عليه الظرف اللّغوي بتبديل وحدته الدالة . فقد قسم المتنبي سياق النص الى وحدة دالة تقوم بتحديد القوانين وتسلسلها المتعلق بتتابع مركزية النص الشعري والانطلاق به وفق قوانين من الحرية ، ولكن خواص هذه الحرية ما يتعلق بمنطق نظرية المتنبي الباطنية والتي تخضع لشروط موضوعية تتميز بخاصية العلاقات المختلفة في سياقاتها وفي علاقة التضامن حيث يقتضي وجود الوحدة الطردية في هذا التضمين السردي والعلاقة التوافقية التي تؤدي الى الصيرورة . والمتنبي حرر الوسائل الامكانية في العلاقات السياقية في مجال الدراسة التجديدية للغة بوضع صيرورات وقوانين تضع الجمل الشعرية في منظومة لغوية ايمائية حيث يكون عمل الذاكرة الاحتياطي في اعتماده على العمل التقابلي الاختلافي مما يجعل هذه المنظومة اللغوية الايمائية تقوم بوظيفة المنطق الدلالي .
يقول المتنبي في مدح سيف الدولة :
هو البحرُ غضْ فيه اذا كان ساكناً
هنيئاً لكَ العيد الذي انت عيدهُ
ولا زالتِ الأعيادُ لبسك بعدهُ
فذا اليومُ في الأيَّامِ مثلكَ في الورى
على الدُّرِّ واحذرهُ إذا كان مُزْبدا
وعيدٌ لمنْ سمَّى وصحَّى وعيَّدا
تسلِّمُ مخروقاً وتُعْطي مجدَّدا
كما كنت فيهم أوحداً كان أوحدا
وتأتي المقابلات الثنائية باشتراك العنصر الإيمائي وبالتقابلات المتعددة الاتجاهات وبنسبيتها المعتادة مع الفارق في المقابلات داخل المنظومة نفسها .
مثال ذلك :
اذا انت أكرمت الكريم ملكته
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى
أزِلْ حسد الحسادِ عني بكبتهم
وإنْ انت أكرمت اللئيم تمردَّا
مضَّر ، كَوْضع السيف في موضع الندى
فانتَ الذي صيرتهم لـــي حُسدا( )
وتتأكد هذه المقابلات عبر كنه هذه المطارحات التي أكدها المتنبي بقوانينه الموسومة بالاستخدامات حيث تكون هذه المقابلات ذات اهمية منطقية في الجملة الشعرية لتنال أهمية خاصة في المحايث الذي تنطلق منه التعادلية اللغوية والمنطقية في لغة المتنبي الشعرية لتعتمد الثنائية في المنظومة اللغوية ويترتب عليها شيء من هذه الصيرورة المقطعية في اللغة ، وهذا لا يترتب عليه أيّ خلاف أو تغيير في المعاني ليتعالق في تفاصيل المخالفات التوافقية وسوف نعود الى هذا الموضوع في الصفحات القادمه حول اشكالية البيت الثاني (ووضع الندى) .
مثال ذلك :
وربَّ مُريد ضَدَّه ضَدَّ نفسه
ومستكبرٍ لم يعرف الله ساعةً
وهادٍ اليه الجيش أهدى وما هدى
رأى سيفه في كفه فتشهدا( )
والعملية الاختلافية في شبكة التوقيت عند المتنبي يستوقفها المنهج التطوري في التشكيلات اللغوية ، فانها توجد بوضع تتمركز فيه حول مركزية اللغة من الناحية الفكرية وجدلية التاريخ الذي يسوق تاريخ اللغة ونظامها بمطارحات اختلافية (المتنبي) والتغيرات المختلفة التي تحصل بهذه الاختلافية ، وكان لابد لنا ان نحصر هذه المتغيرات وفق المنهجية الجدلية التاريخية ونظامها وحدوثها الذي يشوبه الخلط والابهام ، ونحن نبحث عن المستويات الفكرية العليا في المطارحات التي جاء بها المتنبي ومستوى تطورها من ناحية تكنيك الصورة الشعرية ، لان اللغة عند المتنبي هي مستوى تطوري خلاّق يستند الى ثنائية اختلافية تتمركز فيها المستويات العلائقية من تكنيك – وصورة – وتوقيتات سيكولوجية .
والامثلة على ذلك :
ويمشي به العُكَّاز في الدير تائباً
وما تابَ حتى غادر الكَرُّ وجهه
فلو كان ينجي منَ عليّ ترهبُ
وكلُّ امرئٍ في الشرق والغرب بعدهُ
وما كان يرضى مشى أشقر أجردا
جريحاً وخلَّى جفنهُ النفعُ أرمدا
ترهَّبت الأملاكُ مثنى وموحدا
يُعدُّ لهُ ثوباً من الشعرٍ أسودا( )
والتوقيت اختلافي غير ثابت في اللغة ، فهو يتعلق بالدرجات الاسلوبية والمنظومة اللغوية تخضع لزمكان رمزي مضيفا اليه دلالة توقيتية تنطلق منها المتغيرات اللغوية ، والمتنبي شاكل التطور التاريخ في اللغة ولذلك جاءت ابياته الشعرية مرتبطة بالحس التوقيتي التاريخي ثم تاتي المنظومة الدلالية باعتبارها الطرف الآخر الذي يدخل في تكوين المنهج اللغوي باعتباره التحديث المستمر في اللغة بعدها تاتي الاصوات التي تظهر في النصوص الشعرية عند المتنبي والتي تسبق الدلالة وقبله النحو . والمنظومة اللغوية عند ابي الطيب هي : منظومة لا شعورية ، فالعلاقة القائمة في خواص التحليل التركيبي عند المتنبي هي الخلاصة الرئيسية في التوقيت الاختلافي واستنتاجا للمعلوم في النصوص الشعرية .
مثال على ذلك :
وما الدهرُ إلاّ من رواة قصائدي
أجزني إذا أنشدتَ شعراً فإنما
إذا قُلتُ شعراً أصبح الدهر منشدا
بشعري أتاك المادحون مُردَّدا
(مطارحات الرؤية)
شكل المتنبي ، منذ اندماجه المنهجي بعمق الصورة الشعرية واستمرار الرؤية التي اندمجت في اندماج عالمه الاختلافي حتى تلابست معه فجوته القلقة بين شعوره العميق في المفارقة ، وهي تستوطن الغور العميق الذي شقه بعناء وصبر يعتبره عالم متسامي فوق عالم البشر وفق الاشياء المحسوسة وهذا ما وازنه والتزم به بين معاناته وكبريائه ومشكلات هذا العالم الذي يتعامل معه والذي يعيش فيه . وما يتعلق بانواع هذه المشاهد ونحن نتأمل الفخامة في انتاج (النص والمعنى والدلالة) الى حد الحلم الذي ينتقل الى عالم نهائي عالم يتحرك من خلال رؤية الذاكرة والتأمل واستعادة هذا المعراج في التأمل والفخامة التي تعيد وحدة الوعي وقدرة التفحّص للصورة الشعرية دون حدود . ومنذ تلك اللحظة وفي حدودها الكبيرة ، كان لعطاء المتنبي بعدا فاعلا ، والمسافة حملته حتى وهو في منفاه في الفيافي ، وكان المتنبي يحدد رؤياه الحربية ويبدع في التقاط تفاصيلها وتشكيلها في الصورة الشعرية لان صورة المتنبي الشعرية صورة ملحمية يقوم بعرض الوقائع للحرب عرضا ايجازيا مع تفصيل مكاني دقيق مطعّم بسرديات حكائية أي انك تقرأ ملحمة شعرية متكنكة بتقنيات السرد .
يقول المتنبي :
رمى الدَّرْبَ بالمجردِ الجيادِ الى العدى
فلما تجلَّى من دلوكٍ وضجةٍ
فما شعروا حتىَّ رأوْها مغيرةً
وما علموا أنَّ السِّهامَ خيولُ
علتْ كُلَّ طودٍ رايةٌ ورعيلُ
قباحاً وأمَّا خُلقُها فجميلُ
لان حرب الثغور في رؤيا المتنبي هي حالة من الاظهار للبداعة والقوة . والمتنبي كان يرى في سيف الدولة شاخصا بسيفه في رؤياه واتصاله به ، عملية سيكولوجية ومرحلة تاريخية يفوق بها المتوقع من الاشياء . ورؤياه لما بعد هذه الرؤيا الذاتية هو : الاتصال الذهني بفجوات غير مرئية في عالم من الحكمة والاحكام في ادراك ما وراء التجديد العقلي ، وهنا ياتي فعل الرؤية في الشخصية الممدوحة فيعطيها معنىً آخر من خلال القراءة الدقيقة للنص الشعري بالفعل الظاهر – والفعل الباطن وفق تركيبات في المعاني تضمر نصا خفيا يفصح عن حكمة فلسفية منتشرة في فضاء النص . والمعنى الذي يظهر القراءة واضحة في النص اضافة الى التحريض السياسي الذي يضمره المتنبي ضد الدولة العباسية . يقول المتنبي :
يدق على الافكار ما أنْتَ فاعلٌ
إذا شدَّ زنْدي حُسنُ رأيك فيهم
وما أنا إلاّ سمهريٌّ حملتهُ
فتركُ ما يخفي ويؤخذُ ما بدا
ضربتُ بسيفٍ يقطعُ الهامَ مغمدا
فزَّينَ معروضاً وراع مُسدَّدا
عبر هذا النسيج السيكولوجي يظهر ان المتنبي يمتلك رؤية فلسفية ومنطقية قياسية عقلانية تربط منعطفات ايديولوجية وفق صياغات عقلية في الترتيب الدلالي واستعمال الالفاظ الفلسفية فهو يتفهم في تفاصيل هذه القصيدة بمدارك خاصة به وتعبيرات مكتشفة من قبله ، فاراد في هذه القصيدة ان يضع ثقله الفكري والفلسفي والسيكولوجي والسياسي في رواق الخليفة فالجملة كانت قد بدأت بقياس منطقي وفكرة العقيدة فكرة فلسفية مبدئيا ترتكز على تفاصيل علمية عمل بها أبي الطيب بمصدرية افعاله الغريبة في (الظاهر والباطن) والحسد والحساد وما افضت عليَّ من نعمتك يقول له فاصرف شرهم وحسدهم عني اذا قويت ساعدي بحسن رأيك وانا لك سمهري أي كالرمح ان حملته مسددا راع اعداءك والمتنبي في رؤياه هذه كان متماسكا في خوض غمار المعترك الشعري بحجة فكرية ولغوية اضافة الى الايجاز والدقة والعمق في التشكيل المعرفي بالاعتماد على المنظومة الفلسفية واللغوية والبيان والمعنى واللفظ وموسيقى الشعر وموقعها في الجملة الشعرية والحكمة الموحية والمهارة في القوة والبناء والبيت ادناه وهو من الابيات المهمة في القصيدة :
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى
مُضر كوضع السيف في موضع الندى
والندى في البيت يعني الجود ، فالمتنبي يحتاج الى سيف الدولة لأنه الندى ويقول بالعلى : يقصد مضر فالبيت يتركب من انسجة في الحكمة السسيولوجية والسياسية ، أبي الطيب في بناء تفاصيله الشعرية يستند الى الكثير من الدلالات الطردية في اللغة ويلازمها تصاعد في الانساق الشعرية ويتحرك النص الشعري في الكثير من الاحيان باستعارات وطباقات وطرديات ، وان كل هذه الخواص تأتي على رأس المنظومات (الشعرية – واللغوية) لكي تتحقق وتتجسم الصورة الشعرية بشكل دقيق وعميق ، وحتى تنتشر في فضاء الصورة المتسامي في رحاب النص . فالصياغة الدقيقة للنص من الناحيتين (الشعرية – واللغوية) افضت بالرؤية لان تتحرك وفق معنى سياقي ينتج موضوعة لغوية لتؤكد منحى شعريا يضم معنى دلاليا متجددا عبر خواص النص من الناحية التراثية وتفاصيل الوعي من خلال انفتاحه على النص . والخطاب الشعري وهو الآخر معني بالرؤية والتأويل لهذه الرؤية والمعنيين (الظاهر – والباطن) والتحاقهما بالجملة الشعرية عبر رؤية وكذلك الجملة في تركيبها في بعض المعاني فهي حلقة تتعلق بمنطق الرؤية المتنبية . والمتنبي على العموم يقوم بحصر النص وفق فضاءات مسكونة بالوعي الشعري وصورته وبالاعتماد على اصول وفلسفة النص وفق عدة دلالات تتعاقب باطر فلسفية وباطنية وصوفية وسياسية – وسيكولوجية . فأبو تمام يقول :
لو كان يفنى الشعر افنته ما قرت
لكنه فيض العقول إذا انجلت
حياضك منه في العصور الذواهب
سحائب منه اعقبت بسحائب
ثم تاتي شرارة المتنبي في تفصيل الرؤية على مستوى الذات ، والمعترك ، لان المتنبي بانفتاحه على هذه الرؤية يعطينا اختلافية منطقية في تفاصيل النص ويبلغ بنا حد الاختلافية (الباطنية الفكرية) وجدل الذات المتميزة بالصوت الحي والمصورة للاشياء بان خارج حلقات اللاوعي في ظروف جدلية ناطقة ، منذ سقراط الذي لم يترك شيئا وراءه ابدا . والمتنبي في هذه الرؤية استحضر المداخل الدقيقة لهذه النصوص الشعرية ليعطينا وضوح اكثر في هذه الاشكالية الاختلافية في منطق الوعي الشعري ومعنى الصياغة وربط هذه الالفاظ في مجسات شاعرية فهو لم يترك الاعمى والاصم الا وحلّق في رؤياه وترك الاشياء تحلّق متسامية في إدراكه ووعيه لتختصم في هذه الرؤية : وقد تم شرح بيت المتنبي (أنا الذي) في الصفحات السابقة من ناحية تركيب البنية الدلالية وتوحده في تشكيلات النصوص الاخرى وان المتنبي ليس كباقي الناس يقنع بما يقنعون الآخرين او من الذين تأخذهم ملذات الحياة وان عمره لو طال لاستطاع ان يبالغ به حد الذهول ولكن العمر له حدود فهو كهبة اللئام ، فالخوف كل الخوف في ادارك ما اصبو اليه وفي هذا المجال يقول الواحدي : وكأن هذا من قول أبي تمام :
وكأنَّ الاناملَ اعتصرتها
بعد كَدّ من ماءِ وجه البخيل
يقول المتنبي :
أنا الذي نظر الأعمى الى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم
ويقول في مدحه المغيث بن العجلي :
فؤادٌ ما تُسلِّيه المدامُ
ودهرٌ ناسهُ ناسٌ صغارٌ
وعمرٌ مثلُ ما تهب اللِّئام
وإنْ كانتْ لهُمْ جثثٌ ضخامُ
وفي هذه الرؤية يصبح الزمن تحركه بيادق هي صغار الاقدار والهمم وان امتلكوا في المكان أبدان ضخمة .
وقول حسّان بن ثابت في هذا الاشكال :
لا عيبَ بالقومِ منْ طولٍ ومنْ قصرٍ
جسمُ البغالِ وأحلامُ العصافير( )
وما يتعلق بالتأويل للرؤية عند المتنبي : هو أن مصطلح التأويل يتحرك وفق حقيقة العلاقة التي تربط (بين المنطوق والمفهوم) فالنص الشعري هو توافق الحالات المنطوقة مع مفهوم النطق الذي لا يحتمل التأويل والذي يتوافق مع دلالتين في منطوقه والذي يتأكد بالظاهر من حلقات النص وياتي المؤول ، وهو الذي يجمع دلالتين في منطوقه ويتأكد بالباطن او الخفي من الاشياء في النص ، والمشترك الذي يجمع حقيقتين ليصبح حمل المنطوق متساويا في تركيبة النص( ) ثم يأتي الايجاز في الرؤية عند المتنبي ، فهو يقوم بتركيبة المفهوم على سياق المنطوق في اطار الدرس البلاغي حيث يتساوى فعل المنطوق بخواص المفهوم وكل هذا الموضوع يتعلق بالنقطة الاولى . وما يتعلق ثانية بالمنطوق والمفهوم يحتفظ (السكاكي) في هذه القضية وتعبيرها نسبي حيث ارتبطت كل محتويات (الزمكان الذاتي) فالذي يتحقق من موقعه في هذا الأمر هو المتلقي ومن وجهة نظر اخرى يتعلق بالأمر نفسه أي علاقة (المنطوق – والمفهوم) وعلاقة هذان العنصران بحقيقة الرؤية وانفتاحها على خواص الدوائر المفتوحة والمغلقة حسب المعادلة التي تتعلق بالانفتاح وتتمثل هذه بعلاقة التشبيه . ثم يأتي المعنى داخل خلايا النص ، كالجوهر وهناك رأي (للسكاكي) في انفتاح هذا النص لا يمكن ان يدخل منطقة البلاغة الاّ اذا احتوى على انتاجية التجديد في الدلالة او الانفتاح على عدة مداخل – ومخارج في الرؤية مثال على ذلك ما يقوله ابي الطيب المتنبي( ) :
هل الحدثُ الحمراءُ تعرفُ لوْنها
سقتها الغمامُ الغُرُّ قبل نزوله
بناها فاعلى والقنا تقرع القنا
وتعلمُ أيُّ السَّاقيين الغمائمُ
فلمَّا دنا منها سقتها الجماجمُ
وموجُ المناياحوْلهـــا متلاٍطمُ( )
من خلال ما تقدم شكلت الرؤية المنفتحة نتائج وخواص في التعدد للإحتمالات من خلال المتابعة بالرجوع الى طبيعة انفتاح الرؤية واخراج النص المحكم ثم يأتي البناء الثاني الذي يحكم ماسبقة بحركة ترددية والغوص في ثنايا النص للوصول الى الاستخراج والابتداع . وفي هذا المنطوق وصل عبد القاهر الجرجاني الى اصطلاح (معنى المعنى) من خلال رؤية النص وفق مستويين دلاليان في (معنى المعنى) أي المعنى الاول + المعنى الثاني والمعنى في ظاهر اللفظ والذي تصل اليه بسهولة من خلال السياق العام : ومعنى المعنى ان تتوغل في منطوق اللفظ الى ان تصل الى المعنى ثم يفضي بك هذا المعنى الى جدلية معنى آخر باطني في خصخصة النصوص المنفتحة احتماليا وبنتائج تاتي وفق خواص احتمالية والبنية النصية لا تحتمل الا الوجه الواحد والذي عليه تتشكل المعلومات وان مركزية الصواب في ذلك هو لامركزية في الفصل اذا كان يحتمل منعطف في الظاهر هو غير المنعطف الخفي في النصوص وان هذه الاحتمالية النصية تقع في منطقة الخروج عن المألوف في التكامل مع خصخصة التركيبات التعبيرية ، قد تكون عالية الهواجس الجمالية مثل التشبيه – والاستعارة .
والمتنبي في خلاصات الصور والمعاني ، لا تتغير عندما تنتقل من لفظ الى لفظ آخر ليكون هناك اتساع في المجاز او الاستعاره او التشبيه وحتى لا تأتي الزيادة في لفظ ما وضع في تفاصيل اللغة اشاره الى معانيها معنىً آخر( ) وبهذا الاستدراك اعطى الجرجاني الاحتمال الدلالي وتأثيره على حالة المتلقي ، وبهذا الانفتاح في الرؤية : وازن الجرجاني بين انتاجية المعنى وفق الضوابط الفنية واعطائه خصوصية من الجوهر وبين انتاجية خالية من الشعرية وخالية من ايّ قيمة جمالية . فيأتي البناء مبتذل لا يغني مستوى المعاني . وان ما حسن لفظه فتشهد له بالركيزة التعبيرية وتكسبه خصوصية ويزدك المعنى طلبا وطربا ثم يأتي العمق ليشكل منعطفا قائما في البناء .
يقول المتنبي :
أتوكَ يجروُّنَ الحديدَ كأنَّهمْ
إذا برقوا لمْ تعرفِ البيضُ منهمُ
خميسٌ بشرقِ الارضِ والغربِ زحفهُ
تجمَّع فيهِ كلُّ لِسْنٍ وأمَّةٍ
فللّه وقتٌ ذوَّبَ الغشَّ نارهُ
نقَّطعَ ما لا يقطعُ الدِّرْعَ والقنا
وقفْت وما في الموتِ شكٌّ لواقفٍ
سَرَوْا بجيادٍ ما لُهُنَّ قوائمُ
ثيابُهمُ منْ مثلها والعمائمُ
وفي أذُنِ الجوْزاءِ مِنهُ زمازِمُ
فما تُفهمُ الحدَّثَ إلاَّ التراجمُ
فلمْ يبق إلاّ صارمٌ أوْ ضبارمُ
وفرَّ مِنَ الأبْطالِ مَنْ لا يُصادمُ
كأنَّك في جفْنِ الرّدى وهوَ نائمُ( )
من جهة أخرى ، فان الرؤية المدركة للّغة فهي فاتحة الفعل الادراكي أي انها تعني افتراض سابق في الرؤية لوجود منطق اللغة وهي شبيهة بنظرية (تشومسكي) عن القدرة اللغوية الكامنة في الذهن ثم تأتي الكتابة باعتبارها طاقة فطرية تسبق كل الخبرات الحسية وهي مختفية لا تتضح أو تظهر الاّ عند الاستخدام للّغة . وفرويد أكد هذا الموضوع وحدده (بالاثر القديم) وهي اشارة الى أثر القلم على الشمع بوصفه الأثر اللاواعي . وكان (جاك دريدا) قد طور هذا المنحى ليجربه على الكتابة ، بان هناك علاقة بين فعلية الكتابة وخلجات الكاتب المتأكدة بخواص الكتابة فيخرج دريدا : بان الكتابة كفعل : هو مجرد تحقيق لأثر قديم سيكولوجيا وهذا الاثر ، يعد تعبيرا وجوديا كاملا وهكذا كانت النظرية التقليدية للغة من حيث هي تكوين وتواصل لتأكيد عملية التواصل في المنهج الفكري ، وتحقيقا للمبحث العلمي باعتباره يقع داخل مؤسسة اجتماعية وهو المجتمع . وجاك دريدا انتقد هذه النظرة التقليدية لخواص الكتابة بحالتها المألوفة في النشأة الغربية( ) ابتداء من افلاطون من الناحية التاريخية وحتى القرن العشرين لأنها تقع خارج الذات وتابعة الى الصوت . وهذا الموضوع يشوبه الابهام والآلية التقليدية مقابل وجود البدائل التقليدية في الصوت وهو حضور تصوري فيزيقي وحدته الفكرة التقليدية . فاللغة : هي خطاب فلسفي خفي موجود فسلجيا في الرؤية ، وهي التي ارتكزت عليها بدايات النطق الاولى . فالكتابة ومتغيراتها الفلسفية هي القوة الكامنة في الصوت وقوة وقوعه وشروط دلالته في المنطق الناطق بالصوت . ورؤية الكتابة عند المتنبي وهو ما يعنينا في هذه المقدمة هو المألوف – والمحسوس – والمعادل الحقيقي للاداء الفردي تقوم بتحقيقه اداة وظيفية للتواصل عبر الكتابة وصياغة المنطوق في المنظومة الشعرية . نقول ان حضور المتنبي كان في صوته الذي يقوم بالتحكم بخواص المعنى والدلالة بعيدا عن الغثيان والتشويه لأنه مرتبط جدليا بوعي وآلية وعي اللغة فسلجيا – وتاريخيا ، ويمكن فهم الخطاب عند المتنبي شعريا باعتباره حدًا يتعلق بالمنطق الشفاهي لان ماهية المتنبي الوظيفية من الناحية الشعرية لا تنمو عملية تفكيره من طبيعة صرفة ، بل نمت من قوى ومجسات متحركة رؤيويا بعد ان تم اعادة العملية التكنولوجية في وظيفة الكتابة بشكل مباشر او غير مباشر . لقد غير المنطق الكتابي في الرؤية والصوت واللغة شكل ومنهج الوعي الشعري عند المتنبي ، واصبح الخطاب الشعري وما يحدثه في الآخرين هو خطاب يكاد يكون منفصل عن الشاعر لأنه استقل بالصيغة السيكولوجية الطقسية وبالنبوءات لان اساسيات الخطاب عند المتنبي يعود الى انه تكون من صوت النبي المرسل في مصدرية باعتباره نصا عصيّا بطبيعته اللغوية والفكرية .
يقول المتنبي :
ما مقامي بارض نخلة إلاّ
أنا تربُ الندَّى ، وَرَبُّ القوافي
كمقام المسيح بين اليهودِ
وَسهامُ العِدى وغيظ الحسودِ
الخيل والليل والبيداء تعرفني
إني اصادق حلمي وهو بي كرم
ولا أقيم على مال أذلُّ به
أنا في أمةٍ تداركها اللُه
والسَّيْفُ والرُّمحُ والقرطاسُ والقلمُ
ولا أصاحب حلمي وهو بي جبنُ
ولا ألذُّ بما عرض به درنُ
غريبٌ (كصالح في ثمود)
ان المتنبي رؤية واحساس متميز بالعصر الذي عاش فيه بوضوح في الرؤية المتزايدة والحدس في انتاجه الشعري ، كان متصلا اتصالا وثيقا بحلقات ما قبله من الابستمية الشعرية ، ولذلك كانت صفته في التميز هو المبرر في تكامل الرؤية وحدودها في اطار الكيان الكلي والعام داخل حدود الابستمية . وان التعامل في هذا يجري وفق قياسات تستند في تفاصيلها على التفسير العلمي للحياة من خلال حلقة الانبثاق الشعرية . والمتنبي لديه التفسير ولديه الكنه الابستمولوجي الذي من خلاله يناظر هذا القياس وفق منطق محمول اخرجه الى هذه الحلبة من المنازلة . فالمتنبي يعتقد وبدراية ان ما احس به وما خزّنه من اصغاء الى ذاته والى حركة الاشياء والعناصر وطبيعة ما يحتاج اليه الشاعر . فبدا بدراسة اعمق نقطة في طبيعة الحياة الاجتماعية ، والسيكولوجية والسياسية ، وخرج بنتيجة ، ان اهم قيم التمرد في الشعر هي : الاصالة التي تربط الشاعر بالمجتمع والحياة ومن خلال هذه الاصالة يستطيع ان يحقق الشاعر مهمته الصعبة ، وهي الاشد بدائية حين يتقدم الى الفحص والدقة وادراكه للحس المتوالي والذي يظهر له من لمحة او في حركة تأمل لهذه الحياة المعقدة أو الهروب من الاخطار او الالتحام بالمنفعة الشخصية أو المجد الذي رسمه المتنبي لنفسه أو القول المجافي للحقيقة وعبر مهارة دقيقة في العثور على الخواص التي تتطابق مع هذه الحركة الشعورية او اللاشعورية او الارتباط بحلقات الشر او التلبس بالروح الشريرة والاستمالة الى الشفافية والروح السمحة الطيبة ، وكل هذا وذاك بقي المعنى الابدي في النصوص الشعرية وبقيت مهمة الاكتمال وهي تكتسب عدة اتجاهات من الابهام ، ولا زال الاثر الشعري عند ابي الطيب شاخصا وقائما حين يصور الطبيعة الانسانية الصادقة وحين يصور العذاب – والموت – والقبح – والفزع البشري- وسر قوة هذا الفزع الذي حال بينه وبين مرتسمه الذي نقله باحساس حتى وهو يهجو فهو احساس يغتلى بالطاقة الشعرية وايقاعه يكاد يلامس أقصى المجهودات حين يجعل المتبني الطباع الشخصية هي طباع عامة تسود في نصوصه الشعرية .
وتتجه البنية الشعرية في مطارحات المتنبي الى اشكالين : الاشكال الاول وهو الاشكال الصوتي الذي يتعلق بالمنظومة البنائية وهذا ينقلنا الى علاقة الصوت بالنظومة الدلالية لانها تشكل مستوى الاختلاف في الصياغة الشعرية في حالة الترجمة من لغة الى لغة اخرى صحيح ان المعنى يبقى في حالة تراوحية ولكن يتحول النص الشعري الى نثر ثم بعد ذلك يضيع شكله والاشكال الثاني يتعلق بالشاعر وانتقاله الى حالات تعبيرية متعددة . فالذي يقوله بنصوصه فهو لا يشبه احد او يشبه الآخرين ، فالطريقة في التعبير الكيفي تنتقل الى الحلقة الكمية بحساب المنظومة الشعرية . فالمتنبي محدد في تفاصيل اللغة الشعرية ومكوناتها العملية والتمثل يأتي بصدق الشاعر والشعر لانه يمثل ويتمثل حقيقة التاريخ على ضوء المنهجية البنائية في تركيبة الرؤية الشعرية ، والمتنبي : حدد رموز هذا التمثيل باللغة في اختيار المفردة العملية في طريقة نظمها وصورتها ، وايقاعها وكيفية التعبير عن الرموز والاشياء لتمثل التمثيل الفكري والسسيولوجي والعاطفي والمفردة والجملة الشعرية هي الكفيلة بجعل الحياة ذات ابعاد تتناسب مع ما مطروح من اشكاليات داخل حركية الوعي الابداعي ، وان العلاقة بين المنظومة الشعرية عند المتنبي والحياة هي كالعلاقة بين المقدمة – والنتيجة ، وهذا يتعلق بمنطق المعنى في النص الشعري والتركيبة اللغوية للنص من ناحية الرؤية الجدلية التاريخية فالوصول الى المنهج الشعري وماضيه في حلقات الوعي لأنه حضورًا بيناً ارتبط بآليات الحضور المؤوّلة والتي وسعت المنطق الدلالي فتعددت مهامه واعطته انتاجية في الصياغات الصورية اضافة الى القيام بتنوع سياقاته لان حلقة التاويل في نصوص المتنبي الشعرية قد توثّقت بآلية كانت قد تجاوزت السطوح من هذه الظواهر لتنطلق الى اعماق النص وبواطنه .
يقول المتنبي :
رمانيّ خِساسُ الّناسِ مِنْ صائبِ أسِتهِ
وآخرُ قطنُ مِنْ يدْيهِ الجنادلُ
ومِنْ جاهلٍ بي وَهوَ يجهلُ جهلهُ
ويجهلُ علمي أنَّه بي جاهلُ
ويجهل أنيّ مالك الأرض معسرٌ
وأنيّ على ظَهرِ السماكين راجلُ( )
(المنحى الحسي عند المتنبي)
ما يتعلق بغطاء ووعاء الجذب الذهني في اخذ صياغة المضمون وفق اسلوب يدركه الشكل وهذا مستوى متطور في حلقة الكتابة والقيم الجمالية ، وهي امور تتعلق بالمسؤولية الفنية في تقديم هكذا نص يعي منهجية الاستخدام الذهني في تشكيلة العمل الفردي . ولكن صياغة المضامين تبقى حجر الزاوية في التشكيل المشترك للاشياء . فالمتنبي قدم منعطفا حسيا في القصيدة التجربيبة بصورتها الشعرية وخواصها الذاتية في الشكل ، والشكل في المعادلة الموضوعية هي القصيدة المتفردة بهذا الاطار، فغياب الشكل يعني غياب القصيدة ، ويشكل الادراك تجريبية حسية صادقة تعبر عن تجسيد لمعنى الخواص في الفعل الحسي وما مرهون بالشكل والمضمون يعتبر عطاء في تجربة تعطي اختلافية في صدى ذهني يتعلق بالموضوع ، وينسجم مع استنباط حسي يحدد المعنى وحركية القصيدة وتفاصيل المزاوجة بين (الحلم والواقع) باعتبارهما متعلقان باقيان في الحس منهما بتاكيد النقيض من التفسير التقليدي للعمل الادبي .
والقصيدة تحقق الاثر المباشر من خلال المحاكاة عبر الحس في الشكلية . في هذه الحالة علينا الانتباه الى المداخلة التي تحصل للادراك حيث يكون العمل فوق مستوى الحس بتوافق الحدس ، وهذا يعطينا برنامجا يتكون من خطوط وقواعد – ومساحات – وفضاءات – وعناصر – ومعاني – وموضوعات ، كلها تشكل مستوى تنظيمي عالي ، يبرهن على قوة الفعل العقلي وما أخرجه من مؤثرات في دعم المرتسم الموضوعي ودعم خواص شبكة القصيدة عند المتنبي وهذه القصيدة قالها عند خروجه من مصر :
عيدٌ بأية حالٍ عدت يا عيدُ
أما الأحّبةُ فالبيداء دونهمُ
لولا العلى لم تجب بي ما أجوبُ
وكان أطيب من سيفي معانقةً
يا ساقييّ أخمرٌ في كُؤوسكما
أصخرة أنا ما لي لا تحرّكني
بما مضى أمْ لأمرٍ فيك تجديدُ
فليتَ دونك بيدًا ُدونها بيدُ
وجناءُ حرفٌ ولا جرداءُ قيدودُ
اشباهُ رونقه الغيد الاماليدُ
أم في كؤوسِكُما همٌّ وتسهيدُ
هذي المدامُ ولا هذي الأغاريدُ( )
في هذا المسار الحسي الحكائي يتصاعد الاستخصار في التعرف على شبكة الخطاب ، وفق سياق الملازمة للنصوص الشعرية ونبدأ عملية الحصر للمخيال الذي ساهم في الكشف عن البناء في نواظم القصيدة وفق مقاييس (الزمن – والرؤية + الحس) وهنا يتمركز ميدان الاسلوبية التي تعمل على ادغام كل اختلاف بين منطق الحكاية والخطاب الذي يستحضره الشاعر .
اذا أردتُ كميتَ اللّون صافيةً
ماذا لقيتُ من الدُنيا وأعجبه
وجدتها وحبيبُ النفس مفقودُ
أنيّ بما أنا شاكٍ منهُ محسودُ( )
فالموجود في الكأس لونه كمتي وصافي كصفاء عين الديك ولكن الوجود بكامله مفقود فالبيت الشعري يتأسس على تعريف يتعلق باشكالية تفهم الحدث ، ثم يقدم تعريفا للخمرة بلونها الاحمر الذي يطغي عليه السواد ثم في هذا التعريف يبرمج هذه الاشكالية في اتمام المقاربة بين وجود الخمرة وغياب الحبيبة . والسؤال سابق الادراك عند المتنبي وهو مثير للادراك نفسه . فالوجود عند المتنبي سابق دائما على التفكير ويأتي السؤال بوصفه اجابة عن سؤال سابق له ، فالمشروعية في هذا تلزم حلقة تعريفية عن رغبة حقيقية في كنه التعريف .
جود الرجال من الايدي وجُودُهمُ
ساقبضُ الموتُ نفساً من نفوسهمُ
من اللسان فلا كانوا ولا الجودُ
إلاَّ وفي يده من نِتْنها عودُ
فليس هناك سياقات متكاملة وجاهزة عن منطق الشيئية او الوجود وعدمه وعن خلاصات جوهرية لهذه الأشياء . فالمتنبي يستنتج من هذه الأشياء جوهر فعلي يتجلى بالحس + الحدس والوجود يمنح هذه الحالة في الامكانية السيكولوجية من حق الانسان ان يقول ما يشاء سيما وان هناك وجود سابق لهذا الادراك ، والسؤال يصبح عمل فعلي للشاعر ، ان يسأل والجواب يتشكل بحقيقة مؤكده مؤداها ان الوجود الانساني (مكان وزمان) متحرك في هذه الاشكالية ، وينطوي على عمق وفير وبقصدية في هذا الوجود بوصفه مجرد الوجود ، بل بوصفه مبدأ مفترض يتحرك في فضاءات حرجة ليس من اجل منحى فردي بل هو خلاصة سيكولوجية لمفهوم متحقق وجوديا . واللغة الشعرية في مقام ما ربما تكون لغة افتراضية تتعلق بالميتافيزيقا سواء على مستوى مفصلها (الموتي او الحياتي) او (بموت الاله كما يقول نيتشه) بوصفه حلقة فيزيقية . فالوجود من رؤية حدسية اخرى ينظر لها المتنبي وفق منظومة التغير الافتراضي سيكولوجيا ، يفعل هذا المتنبي ليكشف هذه اللغة الافتراضية التي وصف بها كافور عن وجوده ومركزه وهي حالة من الكشف تستلزم تحولا جوهريا في لغة الهجاء واتجاها آخر نحو خواص التحول . لكن المتنبي يكشف المفردة الوجودية المقروءة . من هنا تبدأ الدقة في الوصف لكافور الأخشيدي .
صار الخصيُّ إمامَ الآبقين بها
نامت نواطيرُ مصرٍ عن ثعالبها
العبدُ ليس لحُرّ صالحٍ باخٍ
ما كنتُ أحسبني احيا الى زمنٍ
وأنَّ ذا الاسود المثقوب مشفرهُ
فالحرُّ مستعبدٌ والعبد معبودُ
وقد بشمن وما تفني العناقيدُ
إن العبيد لأنجاسٌ مناكيدُ
يسيءُ فيه عبدٌ وهو محمودُ
تطيقهُ العضــاريط الرعاديدُ( )
والمتنبي يتم تحويل خطابه الى مفردة تتعلق بالوجود ، ويبقى النص الشعري يستخدم منحى الدقة بوجود الصيرورة التي انتهى اليها المتنبي بالرجال الجوف فاستخدم المفردة لأن اللغة تحولت الى العمق الوجودي .
ان ادراك وعي تخلل المفردة من مجرد علاقة الى جوهر يعمل على نزع حالة التذكر في مرحلتها الاولى باتجاه ذاكرة تعيد جوهر المعنى تحت سيطرة اكثر متانة في التعبير لان الذاكرة اصبحت ذاكرة وجود عند المتنبي هذه الذاكرة تجنبت الغزو من ناحية وسيطرة الوصاية على الذاكرة من ناحية اخرى ولذلك فقد تعامل المتنبي مع محمولات للغة قديمة ومفردة فاضحة ومباشرة ليخاطر باشكالية التأمل في خواص الجوهر الوجودي ، فهو يخضع لمتطلبات قديمة تتعلق بفحوى الموضوع فهو تحرير المفردة من أسر اللغة لتقديم الخلاص في البيت الشعري .
يقول المتنبي :
ولا توهَّمتُ أن الناس قد فقدوا
من علم الاسود المخصي مكرمةً
أم أذنهُ في يد النخاس داميةً
وأنَّ مثل أبي البيضاء موجودُ
أقومهُ البيضُ أم آباؤهُ الصيد ُمردودُ
أم قدره وهو بالفلسين مردودُ( )
فالمفردة التي انجزها المتنبي هي الأثر الذي يحمل طقوسا تتعلق بالأثر الوجودي لتحرير كل المفاهيم من زيف اصلي وراسخ وفي غاية الثبات ، في عقول تؤكد مرتبتها الادنى ولكن المدلول المتعالي عند دريدا :
Transcenden Tal signified ( )
فالذي يبقيه هو مفهوم يتعلق بالفكرة العليا التي تتعلق بالوجود الحاضر ليقودنا هذا الحاضر الوجودي الى سؤال عن فعل هذا المعنى في اطاره النهائي لأنه اصبح مدلولا نهائيا ومرجعا ترجع اليه الدوال . لكن المتنبي في تهمشه لكل من لا يتضمن خواص في الدلالة لانه في نظر المتنبي ، هو سابق ومتميز في هذه الخاصية لانه يتحكم في تفاصيل المدلول . والمتنبي يكشف عن هذا المستور بمفردة هجومية توضح خواص البيت الشعري وحدوده في استباق المفاهيم الفيزيقية في النصوص الشعرية :
وما تنفعُ الخيل الكرامُ ولا القنا
إلى كم تردُّ الرُّسلَ عمَّا أقوْلهُ
وإنْ كُنتَ لا تعطي الذِّمامَ طواعةً
وإنَّ نفوساً أممّتك منيعةٌ
إذا لم يكنْ فوق الكرام كرامُ
كأنَّهمُ فيما وهبتَ ملامُ
فعوذُ الأعادي بالكريم ذمامُ
وإنَّ دماءً أمَّلتك حرامُ
وما يتعلق بالحضور الشعري ومفهوم العلامة عند المتنبي يأتي عبر توليدية تلقائية وفق مدلول زمكاني في كل الاحوال يقلب موازين في الوعي الشعري من خلال المعترك السيكولوجي ووحدة التولد الذي يأتي بحركة تلقائية وعلامة حضورية تكتنز المدلول من زاوية دينميكية . وتؤكد المفردة بعيدا عن التواصلية والخواص الجزئية للعلامة وبسبب المنطق الاختلافي في بناء النصوص الشعرية ، وبناء على السعي لهذه الرغبة في تشكيل الوعي الاختلافي داخل المقطع الصوتي او العلامة الصوتية المتعلقة بالمنهج الكتابي باعتباره حضورا أزليا ذاتيا في المنهجية الفكرية للذات الصامتة ولكن الذي يحدث ان هناك ابتعاد بين تماثل الصوت وولادة الفكر أي بين الصوت والمنهجية الفكرية الذاتية ، لان عملية الكشف تكون قد ابتعدت قليلا ، لان الدال الصوتي غير الدال الكتابي ، ونحن نناقش فكرة المدلول المتعالي عند المتنبي .
العلامة الصوتية والكتابية
التفكيك المتعالي
يجب ان نحدد خواص الصيرورة التي تجمع البنية الاختلافية الذاتية ، ليس في مجال كنه الوجود ، بل وحتى في الحلقة الاختلافية الملغية في كنه الآخر وفق خصائص المعنى في اطار علامتها وهو غريب الانغراس ويقع في منطقة اختلافية منعرجة ، بحيث ان نصفها لا يقع في هذا الاختلاف وكذلك نصفها المتوالي هو ليس النصف المحدد في هذه الاختلافية بمعنى أن البنية الاختلافية في منهجية المتنبي بالنسبة للعلامة تقع بحدود وجود هذا الآخر والذي يقع في الغياب دائما والآخر غائب الاختلافية وغير موجود ، والمعجم يشير : ان في كشف العلامة الاختلافية تتوالد بعلامة سارية اخرى ، هذا التسامي في العلو ، هو تعبير يقع باطار دلالات كثيرة من التفكير المتعالي الذي يغير في عملية التسامي والعزلة والنقاء والتوحد (الغربة – الوحشة) وكان تفكير المتنبي يتجاوز عصره أي انه قد تفوّق على عصره وتجاوزه في خطابه والمتنبي قد تنفس الهواء الاعلى وهو الهواء القاسي والشديد على الانسان وهو يسبر الجليد والوحدة القاتلة والتفرد الاعلى يأتي بالهواء النقي ، ويستتبعه الشعور بالوحدة والبرد الشديد لكن في النهاية تأتي الحرية حتى تتكشف الانوار . من اصعب ما عاناه المتنبي وكل المبدعين في هذه الحياة وهي الهوة الكبيرة بينه وبين معاصريه ، والاختلاف الشديد في هذا الشعور الذي يترجم الى حالتين في هذه الاختلافية (1) حالة التسامي والتفرد (2) وحالة التفرد والوحشة ، وحيث تسامى ابي الطيب المتنبي ونيتشه في تفاصيل عدم النسبة والتناسب ، بين جسامة هذه الاختلافية الدقيقة .
فالتسامي الاعلى في نظر المتنبي ، هو تعبير عن حالة التفرد الابداعي التي يحياها كل المبدعين في كل مرحلة تاريخية وكل عصر . هذه الايقونة التي حددها المتنبي هي الجسر الذي يربط المبدعين في مختلف العصور ، انه الهواء الذي تعيشه النخبة ، هذه النخبة التي تحدث عنها (ابن المقفع) في كتابه (الادب الكبير) هو ذلك التعالي الانساني الذي ترجمه المتنبي في نصوصه الشعرية التي رثا بها كل من لم يستطع ان يصل الى هذا الارتقاء . كذلك نيتشه الذي كان راثيا معاصريه الذين فقدوا القدرة على السمو وبقوا قابعين في ذلك المستنقع الآسن والذين مثلوا الاختلاف في منظور المتنبي . فكان المتنبي يحس الغربة في غربته الذاتية وحتى الموضوعية ، ولذلك نظر الى كل الاشياء نظرة استهزاء واحتقار حيث يقول :
ضاق ذرعاً بأن أضيقَ به ذرْ
واقفاً تحت أخمص قدر نفسي
عاً زماني واستكرمتني الكرامُ
واقفاً تحت أخمصيَّ الأنامُ
فهو الذي استطاع ان يتسامى باكثر قدرة وان رزح الانام تحته ، وهي اشارة الى العلو والسمو وهذه الحلقة من السمو قد تكون لها رابطة موضوعية تربط هذا الشاعر او هذا الفيلسوف باقرباء له من الاجداد الاموات افضل من الاحياء الذين تربطهم به علاقة زيف وانحطاط وفي هذا يقول ابي تمام في هذه العلاقة المتسامية بين الادباء مخاطبا صديقه علي بن الجهم :
ان يختلف ماء الوصال فماؤنا
او يختلف نسبٌ يؤلِّف بيننا
عذبٌ تحدّر من غمام واحد
أدبٌ أقمناه مقام الوالد
وقول دريدا ويستشهد بـ(لامبرت وبيرس) ويقابلهما بهوسرل وهيدجر ينبغي على الفلسفة ان تختزل نظرية الاشياء الى خواص العلامات . ففكرة التجلي والتسامي الاعلى هي : فكرة العلامة هذا المسمى برداءة
The sign is that ill named thng what is .. ?( )
واصل المتعالي يجعل صيرورته محورا مهما في اثره الاصلي هي الصيرورة ، ان الأثر يتحرك على ضوء محور الأصل من الناحية التبادلية بين الداخل والخارج . فالسلطة التي يطلقها المتنبي في مرجعيته في الاصل هو الاثر الذي يتعلق بالخطاب الفلسفي داخل المنظومة الشعرية بتعبير يحمل نقيضه . فالخطاب الشعري عند المتنبي هو خطاب فلسفي يحمل نقيضه الجدلي التاريخي بضرورة من الميراث الحضاري الذي يحمل اختلافية ، وهذا يأتي في انتقالية متعددة الجوانب في اللحظة الفعلية التي يستخدم فيها المتنبي لغته الجدلية التأريخية بهذا المفهوم فهو يتفق مع (ليفي شتراوس) في المقصد المزدوج في حفظ الاداة الفعلية في تمثيلها الانتقادي اضافة الى حدودها المحورية . فيتعامل معها وكانها مادة يمكن استخدامها ولكن في نظره وقدرته العلمية انها مفاهيم وقيم قديمة لانه حدد حدودها دون أية قيمة علمية . والمتنبي استعمل نفس الفعاليات النسبية الموجودة داخل هذه الأقبية الدنيا ليستخدمها في الوقت نفسه لتدمير المنظومات القديمة وهكذا تتحدد الامور الاختلافية في الخطاب الفلسفي وفي المنظومة الشعرية عند المتنبي ، وهي سلسلة طويلة من التجريبية والقدرة على الدخول الى عوالم يسوقها الوعي الاختلافي وتنكر طبيعتها على الاصعدة السسيولوجية . لكن الاثر الازلي في الرؤية الجدلية يمتن النظرة الى الإمكان الداخلي المؤثر من الناحية العلمية حتى يبدو وكان المتنبي معاديا لكل القيم والاعتبارات القومية والسياسية ولكنه العربي الشاعر الذي صاحب اعتراضه على النزوح عن حالة التدني الى هكذا مستوى والارتفاع بالوعي الفكري والسيكولوجي وحتى الشعري الى مستويات متسامية . فالمتنبي بهذه العزلة والنقاوة كانت له عينان ثاقبتان تميزان الالوان الجميلة ، فكان الخلاص من الحضيض ، هو جوهر هذه الاشكالية . لقد تدفق السيل الواعي الى الأعلى الى النبع الاول الى صفات التموضع الى التحرر من التدني ، انه النبع الطري في السعادة الابدية . كان المتنبي يدعو الى خطاب المنطق المتعلق بتكنيكية نوعية تشدها اشياء كبيرة هدفها الغايات الكبرى في الانثروبولوجية في تشكيل العلامة واطار المعنى . فالعلاقة جدلية (مثل الدال – والمدلول) في حالته الجدلية لنصل الى حقيقة : هو ان المعرفة ليست حقيقة مختفية تحت ركامات من التفاصيل المبهمة . فالحقيقة هي شمول الكمال والوعي والسيادة أي ان الحقيقة : تعني المدلول المتعالي في صومعة من الحنين الى الحضور الاختلافي والنقاء بالسعادة وهي نتيجة معرفية وحضورا فرديا في المناهج (الصوتية والكتابية) باعتبارها نماذج تؤكد على الحل الابستمولوجي . فالتأسيس الانساني يقوم على الضرورات التفصيلية ذات العمق بحدود البنية القانونية العامة . فالوقائع يجب دراستها لا تكديسها ، ويتم اختيارها بطريقة علمية ، لان هذا الموضوع يوصلنا الى المعرفة العلمية والاحكام الشرطية في التمثيل القانوني ، والبحث عن المنطق البنائي وفق ابستمة انثروبولوجية . يجب التحقق من هذه المناهج ، ذلك لأن المعرفة العلمية هي ليست الدراسة السطحية المبسطة والنتائج التي تفرزها القيمة العلمية وهي تفضي الى دراسة المنظومات المتعلقة بالكشف عن الميكانزمية للواقع وتركيب نموذج اصيل يتعلق بهذه الجدلية الانثروبولوجية والنتيجة التي نتوصل اليها هي : المنهجية البنائية التي تتوافق بشكل علمي بقيمة الاستنتاج والاستنباط للمنظومات البنائية الانسانية افضل من الاعتماد على المنهجية الاستقرائية ، لأن الاستنتاج والاستنباط طريقتان معرفيتان للحضور الذاتي لانهما يقعان في التشكيل الطردي لحركية (المناهج الصوتية والكتابية) باعتبارهما منهجان علميان في الانساق الانثروبولوجية . وهكذا شاع مفهوم هندسة الصورة الشعرية عند ابي الطيب بالاستناد الى اشاعة الرغبة في النمذجة المعرفية وتطلعاتها الاسطورية في المنظومة الشعرية للمتنبي . وهنا يعنينا تركيبة هندسة النص الشعري واسطرته كانت دائما عن المتنبي وتقع في المعيار الأعلى وحضوره يكوّن الحقيقة ، لان النص المحدد نص مطوق ، ولذلك جاءت هندسة النص الشعري عند المتنبي هندسة حوار + هندسة خطاب تحدد فكرة العلة العليا وحدودها الاختلافية وحركتها الامكانية وهي اشارة الى مكامن الوعي في البنية الشعرية وقبلها البنية الانسانية وهي تطوي العبارة والجملة الشعرية والاثر الملحمي الذي تجاوزه النص الشعري المتعالي في الايضاح والبساطة والتمييز بالحلول والمناظرة في المواقف والاحتفاظ بالحالة الاختلافية (بالمعنى – والمنهج) والمتنبي ينمي المناهج الشعرية القديمة وهو لا يخرج عنها وهي مرحلة ستراتيجية جادة بالنسبة له لانها تختص باعادة تشكيل اللغة الشعرية القديمة الى حد ما تتلبس الميتافيزيقا الشعرية القديمة وهي لحظة حرجة تعيد المتنبي الى بداية تفكيك منطقه الشعري التاريخي بوصفه نقطة ارتكاز في زمنية موغلة بالتركيب اللغوي وهو عمل يخلقه ابي الطيب ليناقش به زمنية تعريفية ومعرفية داخل منطقية من التماثل من اجل احداث تسوية وموازنة وابراز الدائرة الجديدة من الوحدات وغلق وتسوية النمطية الشائعة التي يتجاوزها النص البنائي داخل هذه الرغبة الملحة في تشكيل داخلي يحاول فك وفتح هذا المغلق النصي بوصفه حضورا تعريفيا لفك اشكال المفردة الشعرية القديمة والاخذ الامكاني بها باعتبارها مجالا بنائيا يتعلق بتفاصيل الدقة في التشبيه – والاستعارة – والمجاز – والكنايات – وتركيبة هذه الموازنات وتعيين وجودها لأنه حضور في المفردة الشعرية ومعنىً يتوضح بالاسس والقيم المتمركزة بالحضور الدائم لانه التجلي بخواص المنطق الشعري .
يقول ابي الطيب :
وما مطرتينهِ من البيضِ والقنا
فتىً يهبُ الإقليم بالمالِ والقُرى
ويجْعلُ ما خوّلتُهُ مِنْ نوالهِ
فلا زالت الشمْسُ التي في سمائهِ
ولا زالَ تجْتازُ البُدورُ بوجههِ
وروم العبَّدي هاطلاتُ غمائمهِ
ومَنْ فيه فُرْسانه وكرامه
جزاءً لِما خُو