اشتغال التناص في الخطاب النقدي والبلاغي دراسة في المصطلح
اشتغال التناص في الخطاب النقدي والبلاغي
دراسة في المصطلح
د. بقشى عبد القادر*
مـقـدمـة :
يسعى هذا المقال إلى تقديم تصور نظري وعملي حول اشتغال التناص في الخطاب النقدي والبلاغي، وذلك من خلال التعريف ببعض المفاهيم النقدية المتصلة بنظرية التناص عموما، ونحت مفاهيم جديدة وبديلة تنسجم وخصوصية الدرس النقدي والبلاغي العربي. فهو فوق ذلك إنما يحاول أن يساهم في بناء نمذجة عامة لأهم أنواع التناص في الدرس الأدبي وهي : التناص الفني والتناص النقدي والتناص البلاغي والتلاص النقدي.
وقبل ذلك، نشير إلى أن حديثنا عن اشتغال التناص وأنواعه في الخطاب النقدي والبلاغي يستند إلى مبدإ عام يقوم عليه علم المصطلح Terminologie اليوم هو أن التعريف بأي مصطلح كيفما كان نوعه ومجاله المعرفي، وكشف دلالاته لابد أن يتم من داخل السياق النظري والفلسفي الذي ينتمي إليه. ومن خلال النسق العام النهائي أو المتحول للمشروع العلمي المتوخى إنجازه(1) ، لأنه قد يحدث أن تتغير دلالة المصطلح الواحد بتغير البناء النظري لنظرية ما وتحولها. علاوة على أن تغييب الخلفيات النظرية والمعرفية لمصطلح ما ومقاصد استعماله من شأنه أن يعيق عملية التواصل به وتوظيفه التوظيف الأمثل(2).
من هنا يبدو مفيدا قبل الشروع في الحديث عن المفاهيم السابقة وصلها بسياقها النظري العام المرتبط بنظرية التناص التي ترتكز في اشتغالها على خلفيات أدبية وفلسفية معينة. ونكتفي هنا إجمالا بالقول – مراعاة لسلطة المقام- أن التناص يشكل إحدى آليات التواصل الأدبي والثقافي معا؛ فهو من المفاهيم النقدية الحديثة التي تنتمي إلى مرحلة ما بعد البنيوية، وتتنازعه نزعتان : أولهما أدبية : وتتجلى في آثار باختين ومن تأثر بها ككرستيفا وبارت في بداية أمره. فهؤلاء ينظرون، مع بعض الخلاف، إلى أن النص الأدبي هو إعادة إنتاج وليس إبداعا محضا، وأن كل نص هو معضد أو قالب لنص آخر سابق عليه أو معاصر له. وإن غلبوا الوظيفة القلبية على ما سواها لأن نظرية التناص نمت وترعرعت في خضم نزعة احتجاجية واعتراضية في السياسة والثقافة. ثانيهما : فلسفية : وتتجلى في التفكيكية التي يمثلها دايريدا وبارت في آخر أيامه وبول ديمن وهارتمن. فقد وظفت نظرية التناص هنا لنسف بعض مقولات المركزية الأوروبية مثل مقولة الحضور ومقولة الانسجام ومقولة الحقيقة المطلقة. وكان سندها النظري الثقافة القبالية اليهودية والفلسفات السوفسطائية وبعض الممارسات الشعبوية(3).
وقد ظهر مصطلح التناص في بدايته مرتبطا بالجنس الروائي المحايث لنشأته، لكن سرعان ما انتشر في مجال الدراسة الأدبية بمختلف أجناسها وأنواعها، وصار بذلك مفهوما مشهورا كل يحاول تجريبه في مجال اختصاصه واشتغاله؛ فاهتم به المبدع والناقد والبلاغي والمؤرخ والسوسيولوجي وما إلى ذلك، بل إنه استطاع أن يثير انتباه المهتم بحوار الحضارات والثقافات أو صراعهما على نحو أصبح معه سؤالا فنيا وبلاغيا ونقديا وثقافيا. وهكذا انشغل الباحثون بضبط دلالات هذا المصطلح، وتصنيف أنواعه وأشكاله، فتحدثوا عن التناص الفني والنقدي والبلاغي والثقافي وغير ذلك.
1- من التناص الفني إلى التناص النقدي :
إذا كان التناص الفني كما بينا قد أضحى مشهورا لدى كل المهتمين بالشأن الأدبي عموما، فإن التناص في الخطاب النقدي والبلاغي لم يلق تلك الشهرة التي بلغها هذا المصطلح في المجال الإبداعي. وربما يحتاج الحديث عنه شرعية أدبية وأطروحة نظرية وعملية؛ الأمر الذي خصت له الباحثة ليلى بيرون موازي مقالا لها في مجلة Poétique يحمل عنوان : التناص النقدي L’intertextualité critique. حاولت من خلاله الإجابة عن سؤال واحد هو(4): ماهي حدود الاختلاف بين الحوارية النقدية والحوارية الفنية ؟ وقد صاغت هذا السؤال بطريقة أخرى مفادها: ماهي طبيعة الاختلافات بين التناص النقدي والتناص الفني؟ أو هل يمكن أن يوجد هناك تناص حقيقي بين النصوص في هذا الخطاب الذي هو النقد ؟
للإجابة عن السؤال المطروح انطلقت الباحثة من مبدأ عام لا نملك معها إلا أن نسلم به هو أن النقد كان دائما تناصيا إذا منحنا لمصطلح التناص معنى موسعا، فهو يتعلق بوصف نص لنص آخر، نص يتحاور مع آخر؛ وحتى في الحالة البسيطة هناك في الخطاب النقدي تداخل أو تقاطع بين نصين : النص المحلِّل والنص المحلَّل(5).
ورغم هذا، فقد احتاجت الباحثة للدفاع عن أطروحتها المتمثلة في نحت مصطلح التناص النقدي والبحث عن موقع له في النظام المصطلحي لنظرية التناص إلى مناقشة أربع قضايا أساسية هي عبارة عن مقولات نظرية في النقد البنيوي وما بعد البنيوية. نستمع إلى مناقشتها ونتتبعها أولا، وبعد ذلك نبدي حولها مجموعة من الملاحظات والتحفظات. والقضايا الأربع هي :
الأولى : حدود النص Les frontières du texte
في إطار البحث عن إجابات على السؤال المطروح بدأت الباحثة بإبداء ملاحظات تجريبية منها أن التناص النقدي مصرح به وخاضع لقانون ما في حين أن التناص الفني يمكن أن يكون ضمنيا، وفي أغلب الأحيان يكون كذلك. النقد يصرح أنه يصف نصا أو عدة نصوص(6). ومن ثمة فهو خاضع في تصورها لقانون الملكية بمعنى ملكية خطاب الآخر، الشيء الذي يفترض من الناقد معرفة حدود الملكية وقوانينها. أما الإبداع أو بالأحرى المبدع فهو يتجول في مملكة الأدب بحرية ليست موجودة عند الناقد، إنه لا يصرح بشيء، ويمكن أن يتحاور مع مبدعين آخرين دون ذكر أسمائهم، فهو يستعمل أجود ما عند غيره وكأنه له(7). ومن الملاحظات أيضا التي قدمتها الباحثة في الموضوع أنه في الحوارية الفنية تكون مختلف النصوص في المستوى نفسه، بينما في الحوارية النقدية يوجد النصان المتحاوران في مستوى مختلف(، الأمر الذي يطرح مشكلة الحدود بينهما وطبيعة العلاقة التناصية التي تربط النقد بالإبداع. وإذا كان موقف المتلفظ الكاتب محميا من قبل مؤسسات الأجناس الأدبية، فإنه ابتداء من نهاية القرن 17 أصبحت هذه الحدود مموهة. وهكذا ظهرت عدة أصوات في القرن العشرين تعترض ضد سلطة الجنس الأدبي على نحو ما تبين مقاربات بارت وبيتور وموريس بلانشو الذين أكدوا جميعا على كتابة أدبية لا تعترف بالحدود الأجناسية. وقد شكل هذا سندا مرجعيا مكن ليلى موازي من القول : إنه لكي يكون هناك تناص حقيقي ينبغي العمل من أجل إلغاء الحدود بين ماهو نقدي وإبداعي في الخطاب النقدي عموما(9).
الثانية : اللغة الواصفة والتناص Métalangage et intertextualité
تعميقا لمناقشتها السابقة وامتدادا لها ترى ليلى بيرون موازي أن سؤال التناص النقدي يطرح بشكل مختلف عن التناص الفني بناء على الطريقة التي نعرف بها النقد. فإذا اعتبرناه ميتالغة Métalangage فالحدود الأجناسية بين النصين المتحاورين تظل قائمة. ويصعب في تصورها الحديث هنا عن تناص نقدي (10)، لأن العلاقات التناصية تصبح كلها مزدوجة؛ لغتان وتاريخان وذواتان. الأمر الذي لا يحصل في التناص الفني؛ إذ نواجه ذاتا واحدة ولغة واحدة وتاريخا واحدا. أما إذا اعتبرنا النقد كتابة بالمفهوم البارتي لها، فإن هذه الحدود تلغى وتنمحي (11)، لأنه لا يوجد تناص في الخطاب النقدي بالمعنى القوي للكلمة إلا عندما تلغى هذه الحدود بواسطة قوة الكتابة. إضافة إلى أن النقد باعتباره كتابة وحده- في تصور ليلى بيرون موازي- يمكن من ظهور تناص حقيقي في الخطاب النقدي يمنح للنص الجديد خصائص التكثيف والتعدد الجمالي الذي يميز النص الفني(12).
الثالثة : العمل غير التام L’ouvre inachevée
لكي يتحقق هناك تناص في الخطاب النقدي، وحتى لا يصبح النقد مجرد إعادة إنتاج بسيطة، اشترطت ليلى بيرون موازي أن يتم النظر إلى الأعمال الفنية باعتبارها أعمالا غير تامة؛ ذلك أن العمل التام تاريخيا هو الذي لم يعد يقول شيئا بالنسبة للإنسان المعاصر؛ أما العمل الفني غير التام فهو العمل الاستشرافي الذي يتقدم عبر الحاضر ويتطلع نحو المستقبل(13). وقد استندت الباحثة في الأخذ بهذا المبدأ إلى آراء بيتور وموريس بلانشو ورولان بارت الذي عبر من جهته عن انفتاحية العمل الفني بإشارته إلى " تعذر العيش خارج النصوص اللانهائية سواء كان هذا النص بروست أو الجريدة اليومية أو شاشة التلفزيون، الكتاب يخلق المعنى، والمعنى يخلق الحياة"(14).
الرابعة : المتناصات النقدية Intertextes critiques
وجدت ليلى بيرون موازي في الكتابات النقدية لكل من بلانشو وبيتور وبارت مجالا لتطبيق تصوراتها النظرية حول مفهوم التناص النقدي، وهكذا بينت الكيفية التي تشتغل بها المتناصات النقدية عند هؤلاء النقاد الذين يمثلون في تصورها أمثلة للتناص الذي يتجاوز معايير الحوار التقليدي بين الخطابين النقدي والشعري(15). وقد خلصت من خلال ذلك إلى أن الاستشهادات التي يستشهد بها بلانشو تشكل متناصات بالمعنى الذي يفيد أنه رغم كونها تأتي بين معقوفتين، فإن كتابته تمتصها وتمحوها؛ فكتابه الفضاء الأدبي L’espace littéraire نقدي لأن ملاحظات الناقد النظرية مبررة في النصوص التي يستشهد بها، بل إنه في تصور الباحثة يتجاوز ذلك إلى كونه عملا فنيا وكتابيا مكثفا وفريدا(16).
أما المتناص النقدي عند بيتور فيختلف عن الحوار النقدي التقليدي؛ إذ إنه يلعب مع استشهاداته ومراجعه مولدا شبكة من العلاقات. فهو لا يستشهد ببودلير كما يستشهد به المؤلفون الآخرون، بل إن قطعه الفنية تدخل في ملكية الناقد، يعيد وضعها بطريقته الخاصة، ويطورها في نصه الخاص، ويحولها بحسب الاختيار الذي يدخله فيها والطريقة التي تعرض بها في تعليقاته(17). وهذا ما صرح به بيتور نفسه حين أكد على أنه يوجد دائما في نقده عنصر معارضة مع إبقاء مسافة على مستوى الفعل وليس على مستوى الأسلوب(18). وقد تمكن بهذا أن يعيد كتابة نص بودلير من خلال عمل ترابطي وإعادة تركيب للنصوص المستشهد بها؛ فالمادة بودليرية والترتيب الجديد والترابطات بيتورية(19). إن النص النقدي لبيتور ليس نصا تحليليا وثانيا فقط، بل هو كالكتاب يدخل في لعب المبدعين (20) متوسلا في ذلك بلغتهم الفنية المزدوجة الدلالات. ولعل هذا الذوبان للمؤلفين المستشهد بهم، وهذه المعارضة على مستوى الفعل، كل هذا له إسم واحد - في نظر ليلى بيرون موازي- هو التناص النقدي(21).
أما رولان بارت، فإن كتابه S/Z هو تركيب لمتناصات بالزاك(22) وأخرى تتصل بالشخصيات والثقافة وتاريخ الأدب والبلاغة والأمثال، هذه النصوص المنقولة والمستشهد بها في الخطاب النقدي ليست لها أية قيمة سلطوية ومرجعية؛ فالنقد هو لغة واصفة، والتطبيق لهذه اللغة ليس علاقة من نوع منطقي وكلي، ولكن لغة واصفة لا تفجر اللغة الموضوع ولا توقف سيرورتها. وهذا ليس ممكنا في نظر ليلى بيرون موازي إلا إذا لم يكن هناك تمييز بين الخطابات عندما يصبح النقد مرة أخرى لغة فنية توازي لغة الإبداع(23) .
إن ما يجمع بين كل من بلانشو وبيتور ورولان بارت - في تصور ليلى بيرون موازي- أنهم جميعا بينوا، كل بطريقته، كيف أن النقد يمكن أن يتجاوز الاستشهاد ويقترب من المتناص عن طريق التوزيع والتفريق والربط والتشويش والكتابة. شرط المتناص هو اجتيازه حدود الملفوظ، ثمنه يمكن أن يكون خسران الخصوصية الخطابية والأجناسية التي من شأنها أن تعطي لنوع من الخطاب إسم النقد(24).
وخلاصة ما انتهت إليه ليلى بيرون موازي في دراستها التطبيقية : أن المتناصات التي يستحضرها الناقد ويستشهد بها في كتاباته النقدية ليست لها أية سلطة مرجعية عليه؛ بل إنه يتعامل معها كما لو أنها ملكيته الخاصة، يعيد كتابتها ويمحوها غير معترف بخصوصيتها الأجناسية. ومن ثمة يعطيها نحوا خاصا بها في نصه الجديد معتمدا في ذلك على لغة فنية توازي لغة الإبداع على نحو يجعل كتابته النقدية كتابة فنية بامتياز.
وإذ نتفق مع ليلى بيرون موازي في المبدأ العام الذي انطلقت منه وهو أن النقد تناصي في طبيعته العامة، إلا أننا نختلف معها في مستنداتها العملية والنظرية؛ ذلك أن اعتبار النقد كتابة إبداعية لا تعترف بالحدود الأجناسية للنصوص المتناصية هي إحدى المقولات النظرية التي ارتكز عليها الخطاب النقدي الحديث في مرحلته البنيوية والتفكيكية مع بارت وجاك دايريدا وغيرهما من النقاد الذي شكلوا في كتابتهم جانبا من الخلفيات الأدبية والفلسفية لنظرية التناص عموما. كما أنها تتصل في جوهرها بالنقاش النظري الدائر حول علاقة ماهو نقدي وإبداعي في الخطاب النقدي قديمه وحديثه. وقد ذهب بارت في هذا السياق إلى اعتبار النقد إبداعا مؤكدا أن إمكانات النقد الراهنة تتمثل في أن الناقد قد أصبح كاتبا بمعنى الكلمة(25)، وأن النقد غدا من الضروري أن يقرأ ككتابة؛ بل إنه تجاوز ذلك إلى تقديم تصور سيميولوجي للنقد؛ فالناقد في تصوره يضاعف المعاني ويجعل لغة ثانية تطفو فوق اللغة الأولى للأثر، أي أنه ينتج تلاحما للعلامات(26). ونجد المقولة نفسها في النقد التفكيكي عند دايريدا وأتباعه الذين أفرطوا في القول بإبداعية النقد في إطار دعوى عدمية ألغت سلطة النص الإبداعي وأبقت على سلطة النص النقدي وأعلت من شأنه(27). ولا شك أن التسليم بهذه المقولة والأخذ بها قد يترتب عليه بشكل منطقي حسب عبد العزيز حمودة " تبني منهج كتابة نقدية تتعمد لفت انتباه القارئ إلى النص النقدي الجديد في ذاته ولذاته أي تحقيق استغراق القارئ في النص النقدي بعيدا عن القصيدة أو القصة التي كانت نقطة انطلاق القراءة النقدية في المقام الأول، بل أي تعليق ثان أو ثالث على النص النقدي يصبح هو الآخر إبداعا"(28). إضافة إلى أن التمسك بهذا الشعار النقدي يخل بأهم وظائف النقد الأساسية وهي وصف مكونات بناء النص الإبداعي بشكل يمكن من تقديم تفسيرات مختلفة، ويساهم في التبشير بعصر إبداعي جديد، كما يرى ذلك ماتيو أرلوند في مقاله النقدي المعروف "وظيفة النقد في الوقت الحاضر" الذي نشر ضمن كتاب " مقالات في النقد"(29).
وهكذا نجد عبد العزيز حمودة يعتبر القول بإبداعية النقد إحدى علامات التيه في الخطاب النقدي الحديث والمعاصر، بل هي في تصوره أكبر المزالق النظرية وأخطرها على الإبداع الأدبي، لأنه في ظل هذا المفهوم الجديد لم يعد النقد خادما للنص الأدبي ولم تعد النظرية خادمة لخادمه(30).
وإذا شئنا أن نركب وجهة نظرنا حول مفهوم التناص النقدي كما اقترحته ليلى بيرون موازي نشير إلى أن الحرص على إلغاء الحدود الأجناسية بين النصوص المتناصة في الخطاب النقدي، والقول بإبداعية اللغة النقدية يضعنا في صلب تصور حداثي يلغي أغلب أصناف القراءات النقدية في تفسير النصوص الإبداعية ويجعلها خارج الدائرة الحوارية للتناص النقدي، فضلا عن أن ذلك قد يقصي من دائرة الأدب جميع النصوص غير الرمزية وغير القابلة لتأويلات لا نهائية بالمفهوم الحداثي لها. وبالجملة قد يضرب بالمبدأ الأساس المنطلق منه في وصف هذه الظاهرة الحوارية المتعلقة بالتناص النقدي. ولعل الحرص على مراعاة هذه الاعتبارات هو الذي سيقوي المبدأ الحواري في الخطاب النقدي، كما هو الشأن بالنسبة للمبدأ الحواري في النص الأدبي، كما صاغه ميخائيل باختين. وربما مكن ذلك من تشييد وصياغة نقد حواري بين النصوص، كما وصفه تودروف؛ إذ يصبح النقد – في تصوره- حوارا أو " لقاء صوتين : صوت الكاتب وصوت الناقد وليس لأي منهما امتياز على الآخر"(31).
فالحوار الذي لا يقصي أحد الطرفين المتحاورين ويقوي من الوظيفة الفنية والمعرفية للنقد هو وحده الذي يمكن من الحديث عن التناص في أي خطاب نقدي، وإن شئت قل يسهم في صياغة نقد حواري لا يلغي النص الإبداعي ولكن يخدمه وفق آليات الحوار المختلفة؛ ولا يضر في شيء أن يتقاطع هنا التناص النقدي مع التناص الفني في طريقة اشتغال المتناصات التي تنسجم مع أهم الوظائف التي يؤديها التناص في عموم أشكاله وأصنافه وهي الوظيفة التحويلية. ولهذا، فإن النقد لا يمكن أن يكون إبداعا بالمفهوم القوي للكلمة، ولكنه بالمقابل لغة تساهم في تقديم معرفة واصفة وشاملة للنص على نحو يبشر بكتابة إبداعية جديدة. وقد يسمح لنا هذا كله باقتراح نوع جديد من التناص سليل التناص النقدي وصنوه، يستفيد من أطروحة ليلى بيرون موازي السابقة ويتجنب مزالقها النظرية المتصلة بالنقد البنيوي والتفكيكي، ويراعي خصوصية المخيال الفني والنقدي والبلاغي في المجال التداولي العربي الإسلامي. نصطلح على تسميته ب " التناص البلاغي".
2- من التناص الفني إلى التناص البلاغي
نسجل منذ البداية أن اقتراحنا لهذا المفهوم ليس من منطلق التقليد لكل ما يستجد في النظريات الغربية، بل هو عمل يستند إلى مبدأ الحوار المنتج الذي لا يصادر حق أحد طرفي العملية التواصلية في التفاعل مع ما يمتلكه الآخر شريطة أن ينسجم مع الخصوصيات الثقافية والفنية والحضارية لكل طرف. ونحن بهذا إذ نستفيد من التصور النظري لليلى بيرون موازي حول التناص النقدي، فإننا نأخذ بعين الاعتبار ما قد يثيره ذلك من اعتراضات شديدة منها أن التناص عموما ومعه التناص النقدي قد نشأ في خضم نزعة احتجاجية في السياسة والثقافة، واستند إلى خلفيات فلسفية تفكيكية وقبالية يهودية. وبمقتضى ذلك رد حوار النصوص إلى نوع واحد هو الحوار الساخر. وهذا إذ يصح في كثير من الثقافة الغربية المعاصرة التي تركز على النصوص الفنية المفتوحة ذات المعاني اللانهائية الأكثر رمزية، فإنه لا يستساغ في التراث العربي القديم الذي أغلبه مبجل ومحترم في تصور محمد مفتاح(32). ومن شأن هذا التصور الحداثي أن يلغي كثيرا من النصوص الفنية التراثية التي تنتمي إلى الأدب الكلاسيكي، وتواضع مستعملوها على تسميتها أدبا بناء على مقاييسهم الفنية وتقاليدهم الأدبية(33). ولا ينبغي أن يفهم من هذا الكلام أن الإبداع الفني العربي منغلق على ذاته، بل على العكس من ذلك يتضمن نصوصا اختلافية تتسم بالانفتاح وقادرة على اختراق الزمن بكل أبعاده بما تتضمنه من قراءات مختلفة وليست لا نهائية(34). ولهذا، فإن الحديث عن مفهوم التناص البلاغي هو وصف لظاهرة تناصية موجودة بالقوة والفعل في تراثنا النقدي والبلاغي، تنسجم مع خصوصيات الإبداع العربي، والوظيفة التي أنيطت بالبلاغة في تاريخها وهي الوظيفة النقدية. فالبلاغة العربية ماهي إلا خطاب واصف لخطاب موصوف أو خطابات موصوفة؛ فهي بهذا التصور كتابة إذ تحترم الحدود الأجناسية للنصوص المستشهد بها، فهي بالمقابل تعيد تنظيمها وتنسيقها والتعليق عليها على نحو يمنحها نحوا خاصا ينسجم والمقاصد التي من أجلها استحضرت في التصانيف البلاغية. فالبلاغة بهذا المعنى تناص مفتوح بين خطابات مختلفة.
ولئن كان هذا النوع من التناص لم يرق في اشتغاله- كما سنرى- إلى مستوى أن يكون لغة فنية، ولا يمكن أن يكون كذلك، فإنه يتوسل بلغة واصفة في التعامل مع متناصاته المختلفة، تستلهم آلياتها من بلاغة ذات طابع حواري يبدو فيها الاستشهاد- إضافة إلى كونه طرفا من طرفي العملية التواصلية شكلا ووظيفة في آن(35)، ذلك أن أغلب الاستشهادات إنما تستحضر في النص البلاغي ضمن وضعيتين : أولاهما يكون فيها النموذج- وهو الشاهد وظيفيا- في السياق البلاغي؛ أي أنه يضطلع بوظيفة افتتاحية مباشرة في حمل الظاهرة البلاغية وإجلائها. ثانيهما يكون فيها الاستشهاد لمجرد الدعم والإثبات أو لغاية الإثراء في التطبيق قصد ترسيخ الظاهرة البلاغية(36)، أو الموقف البلاغي والنقدي الذي يروم البلاغي الدفاع عنه وتوضيحه. فقد تظهر هذه الاستشهادات للناظر مادة متواترة تتكرر أعيانها من أثر إلى آخر، ولكن المتمعن سرعان ما يكشف مدى استجابتها لما يجد من أوضاع التأليف وأغراضه(37)، بل وأنساقه. كل هذا وفق الاستراتيجية العامة والمقاصد المثلى لكل بلاغي على حدة.
ولعل إبراز الكيفية التي تشتغل بها المتناصات في الخطاب البلاغي هو وحده الكفيل بإبراز طبيعة التناص البلاغي وأهمية الحديث عنه في البلاغة العربية. وسنقف عند المعالجة التناصية الفريدة التي جسدها عبد القاهر الجرجاني في مشروعه البلاغي المضمن في كتابيه "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز".
وقبل ذلك، لابد أن نبدي ملاحظة عامة تتقاطع مع ما أشار إليه عبد الفتاح كيليطو حين لاحظ أن عبد القاهر الجرجاني " يستشهد بقدر لا يستهان به من الأبيات الشعرية للقواعد البلاغية التي يرسيها. هذه الأبيات مقتبسة من قصائد عدة شعراء ينتمون إلى عصور مختلفة؛ كل بيت يحشر في سياق جديد مع أبيات غريبة عنه، فيتلون معناه بمعنى جيرانه ويبدو في حلة تباين حلته المعهودة بمجرد اللقاء مع أبيات أخرى تضاف إليه دلالة وقيمة جديدتين"(38). ونضيف أن عبد القاهر الجرجاني لا يتناص مع هذه الاستشهادات كما تناص معها واستشهد بها البلاغيون من قبله، بل إنه يتحاور معها بما ينسجم ومكونات مشروعه البلاغي وأسئلة عصره. هذا المشروع الذي يستند إلى تصور نظري ورؤية بلاغية وتركيبية ترى أن فضيلة الكلام وشعريته لا تكمن في ألفاظه فحسب، وإنما في نظمه وحسن ترتيبه وتركيبه. فالمعنى الذي من أجله يصير الكلام شعريا هو تركيبه على طريقة معلومة، وحصوله على صورة من التأليف مخصوصة(39)، وهو أمر يقع - في تصور الجرجاني- في الألفاظ مرتب على المعاني المرتبة في النفس المنتظمة في قضية العقل(40). وهذا تصور بلاغي جديد يقوم على اعتبار الشكل خاصية مميزة للكلام الشعري(41)، وتكون فيه المزية من حيز المعاني دون الألفاظ(42).
وقد مكن هذا التصور عبد القاهر الجرجاني من تحقيق هدفين مهمين بالنسبة لموضوعنا المتعلق بالتناص البلاغي وهما :
* الأول : أنه تمكن من حسم الصراع القائم بين أنصار اللفظ وأنصار المعنى في وصف أدبية النصوص فقال بالوحدة المتمثلة في صورة المعنى والنظم الذي يقوم على معاني النحو وغيرها من المكونات الفنية المعروفة مثل التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية.
* الثاني : أنه حقق قطيعة منهجية مع التصورات البلاغية السابقة في التعامل مع الشواهد؛ إذ سلك منهجا تحليليا وتجريبيا في الأسرار، وتجريبيا استدلاليا في الدلائل، فقد استدعى نماذجه في كتابه الثاني بما مكنه من الاستدلال على حقيقة الإعجاز، فانضاف بذلك إلى نسق التحليل الذي في الأسرار نسق آخر يتعلق بالمجادلة والمساجلة والمناظرة في نسيج الدلائل، ونقف عند جانب من هذا التوجه التجريبي من خلال بيان الطريقة التي تناص بها مع هذه الأبيات الشواهد"(43).
ولما قضينا من منى كـل حاجـة ومسَّح بالأركان من هو ماسـح
وشُدت على حُدْبِ المهاري رحالنا ولا ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحـاديث بيننـا وسالت بأعناق المَطِيِّ الأباطـح
فقد استحضرها أولا في كتابه الأسرار، وذلك في سياق الحديث عن قضية اللفظ والمعنى. وسلك في هذا مسلكا حجاجيا للدفاع عن موقفه من هذه الثنائية، وتوضيح رؤيته البلاغية التي تربط المزية في الكلام بالمعاني التصويرية. وهكذا نجده يقول معلقا ومستأنفا قراءة ابن قتيبة للأبيات الشواهد : "فانظر إلى الأشعار التي أثنوا عليها من جهة الألفاظ ووصفوها بالسلامة، ونسبوها إلى الدماثة (...) كقوله : ولما قضينا من منى كل حاجة إلى آخر الأبيات.
ثم راجع فكرتك واشحد بصيرتك، وأحسن التأمل، ودع عنك التجوز في الرأي، ثم انظر هل تجد لاستحسانهم وحمدهم وثنائهم ومدحهم منصرفا إلا إلى استعارة وقعت موقعها، وأصابت غرضها، أو حسن ترتيب تكامل معه البيان حتى وصل معه المعنى إلى القلب مع وصول اللفظ إلى السمع،واستقر في الفهم مع وقوع العبارة في الأذن، وإلا إلى سلامة الكلام من الحشو غير المفيد"(44).
فشعرية هذه الأبيات وأدبيتها لا تعود في تصور عبد القاهر الجرجاني إلى جهة ألفاظها باعتبارها أصواتا مسموعة، بل إلى مقومات فنية أوجزها في :
أولا : حسن الترتيب والتأليف.
ثانيا : العموم والإيجاز : " ذلك أن أول ما يتلقاك من محاسن هذا الشعر أن صاحبه قال: " ولما قضينا من منى كل حاجة " فعبر عن قضاء المناسك بأجمعها والخروج من فروضها وسننها من طريق أمكنه أن يقصر معه اللفظ هو طريق العموم "(45).
ثالثا : التلويح والرمز والإشارة والإيماء : وهي مقومات فنية بها يتقوم الشعر، ويصير الكلام شعريا، ولا يقوى عليها إلا الفحول من الشعراء. وقد استطاع الشاعر أن يدل بلفظة " أطراف" " في قوله : " أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا " على الصفة التي يختص بها الرفاق في السفر من التصرف في فنون القول وشجون الحديث، أو ما هو عادة المتظرفين في الإشارة والتلويح والرمز والإيماء، وأنبأ بذلك عن طيب النفوس، وقوة النشاط، وفضل الاغتباط كما توجبه ألفة الأصحاب وأنسة الأحباب، وكما يليق بحال من وفق لقضاء العبادة الشريفة ورجا حسن الإياب وتنسم روائح الأحبة والأوطان، واستماع التهاني والتحايا من الخلان والإخوان"(46). ويلاحظ أن في هذه الطريقة التحليلية التي كشف بها عبد القاهر الجرجاني عن وجوه الإشارة والتلويح والإيماء في هذه الأبيات الشواهد صدى لكلام ابن جني وتعليقه حولها، بل إنه تأكيد له وتعميق لتصوره الدلالي في رؤية الشعر وتقويمه(47). وهو أمر يؤكد امتداد التلقي السابق في اللاحق وتفاعلهما في التفكير البلاغي العربي.
رابعا : الاستعارة الغريبة والنادرة : فبعد أن أحسن الشاعر ترتيب معاني شعره وتأليفها، ووصل بينها أحسن وصل، زان ذلك كله باستعارة لطيفة طبق فيها مفصل التشبيه، وأفاد كثيرا من الفوائد بلطف الوحي والتشبيه، فصرح أولا بما أومأ إليه في الأخذ بأطراف الأحاديث، لأنهم تنازعوا أحاديثهم على ظهور الرواحل، وفي حال التوجه إلى المنازل، وأخبر بعد بسرعة السير، ووطأة الظهر، إذ جعل سلاسة سيرها بهم كالماء تسيل به الأباطح. وكان في ذلك ما يؤكد قبله"(48).
وحرصا منه على تحقيق قراءة تحليلية وتفصيلية قائمة على الاختيار وبناء التصورات الجديدة (49)، زاد عبد القاهر الجرجاني مقاربته للاستعارة التي تضمنتها الأبيات الشواهد عمقا في كتابه الدلائل مغيرا بذلك من موقع القراءة وجهة النظر(50). ويبدو أن هذا التحول في نظر إيزر هو الذي يؤمن أو يضمن خصوصية الموضوع الجمالي في النص المخيل(51). وهكذا نجد عبد القاهر الجرجاني يعتبر قول الشاعر " وسالت بأعناق المطي الأباطح" من الاستعارة الخاصية النادرة التي لا تجدها إلا في كلام الفحول، ولا يقوى عليها إلا أفراد الرجال(52). وليست الغرابة في منظوره "على هذه الجملة، وذلك أنه لم يغرب لأن جعل المطي في سرعة سيرها وسهولته كالماء يجري في الأبطح، فإن هذا شبه معروف ظاهر، ولكن الدقة والنطق، بأن جعل "سال" فعلا للأباطح"، ثم عداه بالباء بأن أدخل الأعناق في البين، فقال : " بأعناق المطي" ولم يقل "بالمطي". ولو قال "سالت المطي في الأباطح" لم يكن شيئا، وكذلك الغرابة في البيت الآخر ليس في مطلق معنى "سال " ولكن في تعديته بعلى والباء، وبأن جعله فعلا لقوله شعاب الحي، ولولا هذه الأمور كلها لم يكن هذا الحسن. وهذا موضع يدق الكلام فيه"(53).
فقوله : "ولولا هذه الأمور كلها" فيه إشارة إلى أمرين أساسين يقوم عليهما تصور عبد القاهر الجرجاني هما : أولا : الانسجام. ثانيا : تفاعل المكونات الفنية لتحقيق شعرية النصوص. وأحسب أن هذا التصور يقف ضد تلك الرؤية التجزيئية في تحليل النصوص التي هيمنت وللأسف الشديد في درسنا الأدبي الحديث. ولعل هذا الانتقال في التحليل البلاغي من الجملة إلى التفصيل، ومن الجزء إلى الكل، أو التحول في النظر من الأسرار إلى الدلائل هو ما أكسب دلالة الشواهد انفتاحا أكبر على آفاق جديدة، كما مكن ذلك عبد القاهر الجرجاني من ربط المعنى بمقتضيات الغرابة الشعرية القائمة على الانزياح حين تحدث عن الاستعارة والرمز والاستعارة. ثم وصله بمقتضيات النظم المؤسس على معاني النحو حين أوضح حسن ترتيب الأبيات وطريقة وصلها. وهكذا تمكن من الجمع بين التحليل البلاغي والنظم النحوي في ربقة متميزة، وشيد بذلك نموذجا نظريا جديدا في التحليل وتأويل الشعر والتناص مع متناصاته المختلفة مستفيدا من تجربة بعض القراء الذين سبقوه، ومستأنفا لأحكام بعضهم الآخر التي لا تساير الأسئلة البلاغية المستجدة في المشهد النقدي إبان القرن الهجري الخامس والمنسجمة مع نضج الكتابة الشعرية وتكاملها. وقد اعتمد في كل هذا على مفاهيم نقدية وآليات مختلفة نحو : التمييز بين الألفاظ باعتبارها أصواتا مسموعة والمعاني باعتبارها صورا، وبين المعاني باعتبارها مادة واللفظ باعتباره صورة، وبين المعنى ومعنى المعنى، والغرض ووجه الدلالة على الغرض، والمعنى العقلي والمعنى التخييلي، والمعنى وصورة المعنى وغير ذلك.
وإذ تقتضي المعالجة التناصية وكذا التصور التاريخي للتلقي التمييز دائما بين الفهم السابق والفهم اللاحق (54) فإن عبد القاهر الجرجاني قد تمكن من خلال هذه المفاهيم وغيرها من صياغة مشروع بلاغي تجاوز به ذلك التصور التقليدي في التناص مع الشعر وتأويله الذي اعتاد أصحابه "إطلاق اللفظ من غير معرفة بالمعنى" (55)، والبحث عن المعنى الجاهز في النص دون المساهمة في إعادة بنائه. والذي أوقعهم في هذا حسب الجرجاني أنهم رأوا العلماء "يفردون اللفظ عن المعنى، ويجعلون له حسنا على حدة، ورأوهم قد قسموا الشعر فقالوا : إن منه ما حسن لفظه ومعناه، ومنه ما حسن لفظه دون معناه، ومنه ما حسن معناه دون لفظه، ورأوهم يصفون اللفظ بأوصاف لا يصفون بها المعنى"(56).
يتناص عبد القاهر الجرجاني في هذا الكلام مع تقسيمات ابن قتيبة لأضرب الشعر، ويبين فساد مذهبه في النظر إلى الشعر وما يتقوم به، ذلك أن المهم ليس ماذا يريد أن يقوله الشاعر، أو البحث عن المعنى الوحيد الذي يود التعبير عنه، بل الكيفية التي أنتج بها المعنى. وهو أمر تتفاعل فيه مكونات النص مع كفاءات القارئ(57).
وقد استطاع عبد القاهر الجرجاني في تناصه مع الأبيات الشواهد السابقة أن يترجم هذا التصور ويعبر عنه، كما تمكن من استئناف القول والأحكام التي نسجت حولها(58). وما أحوجنا إلى مثل هذا المنهج التحليلي والنصي في التناص وتقويم التجارب الشعرية الحديثة والراهنة.
الواقع أن ما قدمه عبد القاهر الجرجاني من تحليل للأبيات الشواهد يبرز حدود تفاعله مع البنيات النصية المقروءة على نحو لم يبق حبيس سلطتها المرجعية؛ إذ عمل على إعادة تركيب وبناء دلالة هذه الأبيات وتنسيقها وفق ما ينسجم ومشروعه البلاغي دون أن يقع في المحظور. وقد تأكد بهذا أن التناص البلاغي عنده تناص بليغ لم يتعامل مع البلاغة باعتبارها آليات وصفية فحسب، بل تجاوز ذلك إلى تحقيق وظيفتها النقدية المتمثلة في وصف المكونات البنائية للنصوص المستشهد بها، ورصد شعريتها وجودتها وفق تصور نظري واضح؛ وذلك عبر منحها دلالات جديدة تخرجها عن نطاق التواثر الكمي وسلطة القداسة إلى تحقيق التواثر النوعي والانفتاح على دلالات جديدة وأسئلة بلاغية متجددة بحسب تجدد شروط القراءة وأسئلتها.
ولعل أهمية التناص البلاغي كما جسده عبد القاهر الجرجاني تنبع من القيمة التاريخية لمشروعه البلاغي برمته حيث تحكم في مسار البلاغة العربية فيما بعد، وأضحى بإنجازاته محاورا قويا لأهم منجزات الدرس البلاغي الحديث.
3- من التناص الفني الى التلاص النقدي
إذا كان التناص في مفهومه النقدي العام هو ذلك الحوار الفني الذي يحسن من خلاله النص اللاحق توظيف مكونات النص السابق المتناص معه بشكل يجعلها محولة وداخلة في سياقه الفني الذاتي (59)، فإن التلاص هو سرقة محضة تكشف عن عجز الذات المحاورة عن استيعاب نصوصها المحاورة وتحويلها لخدمة مقاصدها الخاصة. من هذا المنطلق يمكن أن نميز بين مستويين في عملية الحوار :
الأول :التناص بمستوياته الفنية المعروفة في النظرية النقدية الحديثة (60)، ومعه التناص النقدي.
الثاني : التلاص المرادف للسرقة(61).
فالتناص هو مدار التفاعل في الكون ومناط الحوار على جميع مناحي الحياة: فنا وتأليفا وعادات وتقاليد وحضارة بشكل عام. ولهذا، فإن الناس يختلفون في ممارسة هذا الحوار كما أن المبدعين والمؤلفين والنقاد وغيرهم يتباينون في ذلك ، فمنهم من يحسن توظيف التناص باعتباره تحويلا وتفاعلا ومنهم من يقصد قصدا الانتقال من ذلك إلى التلاص فيكشف عن عجزه وعدم قدرته على مسايرة تطور المعرفة والأفكار والعلم . ونجد نموذجا لهذا في كتابين هما:
الأول : وهو السابق. عنوانه: "تاريخ المعارضات في الشعر العربي لمحمود محمد قاسم نوفل ط 1 مؤسسة الرسالة دار الفرقان للنشر والتوزيع 1983.
الثاني : وهو اللاحق. عنوانه " المعارضات في الشعر والموشحات الأندلسية لعبد الصبور محمد ضيف ط1 مطبعة الأمانة مصر 1987 .
3-1- الكتابان أية علاقة ؟
فمن خلال القراءة الأولية لمكونات الكتابين يتبين أن عبد الصبور محمد ضيف في كتابه " المعارضات في الشعر والموشحات الأندلسية " قام بعملية حوارية مع نموذجه التأليفي" تاريخ المعارضات في الشعر العربي " لقاسم نوفل. وهذا ليس بعيب لأن الاستشهاد بنصوص الغير والاستفادة من معطياتها أساس الإبداع والحوار عموما . ويبقى الأهم في هذا الإطار كما لاحظ ذلك أنطوان كومبانيون في كتابه اليد الثانية أو اشتغال الاستشهاد la seconde main ou le travail de la citation هو أن الاستشهاد حدث لغوي وشكل ووظيفة في آن (62) .وهو أمر يستدعي طرح سؤالين هما كيف يمكن للذات المؤلفة أو المبدعة أن تتخلص مما قيل سابقا ؟ وما هو المبدأ المتحكم في عملية الحوار بين الكتابين أهو التناص الفني بمختلف مستوياته ومعه التناص النقدي أم التلاص المرادف للمضمون السياسي والأخلاقي للسرقة ؟ .
يمكننا الإجابة عن هذين السؤالين بالنظر إلى طبيعة العلاقة بين الكتابين المتحاورين وذلك من خلال مستويين :
الأول : العنوان. وهو من العتبات المشكلة للمتعاليات النصية عند جيرار جينيت (63) . ويمكن تلخيص العملية التناصية في هذا المستوى من الحوار بين الكتابين في الانتقال من التعميم إلى التخصيص والتحديد ، فبعد ما كانت المعارضات الشعرية مرتبطة عند قاسم نوفل في النص الأصل أو السابق بالشعر العربي عامة أصبحت عند عبد الصبور محمد ضيف في النص اللاحق متصلة بالشعر والموشحات الأندلسية. ومعنى هذا أن المحاور قام بعملية حوارية استطاع أن يبعد بمقتضاها ويقصي ما لا ينسجم ومحددات موضوعه .
الثاني : البناء العام. حتى نستبين حدود الحوار بين الكتابين نعرض لبنائهما على الشكل التالي :
الكتاب الأصل/السابق (تاريخ المعارضات في الشعر العربي لقاسم نوفل ) الكتاب الفرع/ اللاحق (تاريخ المعارضات في الشعر والموشحات الأندلسية لعبد الصبور محمد ضيف )
*مقدمة :
الفصل الأول : أ- معاني ومدلولات المعارضة
أولا : المعنى اللغوي .
ثانيا : المعنى الاصطلاحي .
ثالثا : الفرق بين المعارضات
والنقائض.
ب-العمق التاريخي للمعارضات
ج- المعارضات ما لها وما عليها
الفصل الثاني : المعارضات في العصر العباسي
حتى نهاية العصر الأيوبي.
الفصل الثالث : المعارضات في بلاد المغرب الإسلامي
أولا : المعارضات الأندلسية الداخلية
ثانيا : معارضات الأندلسيين لشعراء
المشرق الإسلامي.
ثالثا : المعارضات في الموشحات .
الفصل الرابع : كثرة المعارضات لبعض القصائد
المشهورة
الفصل الخامس : المعارضات في العصر الحديث .
خاتمة : *مقدمة :
الفصل الأول : معاني ومدلولات المعارضة .
- المعنى اللغوي .
- المعنى الاصطلاحي .
- الفرق بين المعارضات والنقائض.
- العمق التاريخي للمعارضات .
الفصل الثاني : المعارضات في بلاد المغرب الإسلامي
- المعارضات الأندلسية الداخلية .
- معارضات الأندلسيين لشعراء
المشرق الإسلامي .
الفصل الثالث : المعارضات في الموشحات .
الفصل الرابع : المعارضات ما لها وما عليها .
الفصل الخامس : تراجم لبعض الشعراء والوشاحين .
خاتمة :
قد يلاحظ أن الكتابين معا يتألفان من خمسة فصول، إلا أنه بتأملنا لبنائهما يتضح أن عبد الصبور محمد ضيف قام بسرقة فصلين كاملين من الكتاب الأصل. وهكذا فإذا استثنينا الفصول التي خصها قاسم نوفل للحديث عن العمق التاريخي لفن المعارضات في الشعر العربي، ومعارضات القصائد المشهورة ، والمعارضات في العصر الحديث وتراجم الشعراء والوشاحين، لا نكاد نجد فرقا بين الكتابين على جميع المستويات :
أولا : المتناصات أو النصوص المستشهد بها : فمن أصل سبع وخمسين نموذجا شعريا تعارضيا التي استشهد بها قاسم نوفل في الفصل الثالث من كتابه نجد عبد الصبور محمد ضيف قد وظف منها واحدا وأربعين نموذجا مع الاحتفاظ بنفس أسماء الشعراء المتعارضين .
ثانيا : التعليقات والاستنتاجات : لم يكتف المحاور باستدعاء النماذج الشعرية المتعارضة لنموذجه التأليفي ، بل إنه كان يضيف إليها التعليقات الأصلية المردفة بها . كما يتضح من خلال قوله عن معارضة ابن حيان الغرناطي لبعض موشحات حمدون الحاج : " فهذا نموذج لتفنن الأندلسيين في تنميق الموشحات وتأليفها، والمتتبع لتاريخ الموشحات يرى نماذج لا تخطر له على بال، وقد لا يستمزج نظامها وقراءتها، ولكنه لما يسمع لحنها، فإنه يميل إليها، فالمهم في حسن قراءتها وترديدها بما يناسب نغمتها ومقاطعها وأقفالها ."(64) وهو القول الأصلي لقاسم نوفل بلفظه ومعناه (65) .
ومن الاستنتاجات التي خلص إليها قاسم نوفل في كتابه أن المعارضات الشعرية في الأدب الأندلسي تتراوح " بين الجدية التامة والإبداع وبين مجرد النظم والمجاراة على سبيل التنذر أو إظهار المقدرة وبلورة الأفكار الوقادة عند بعض العلماء من الشعراء كشيء من تسلية النفس ، أو لدعم المسائل العلمية والفقهية ، أو بدافع التحدي لشاعر أو شعراء من بلد من بلدان العالم الإسلامي "(66). وهو الاستنتاج نفسه بلفظه ومعناه الذي نجده عند عبد الصبور محمد ضيف.
3-1-1- آليات السرقة :
إذا كان هذا النوع من الحوار أو التناص لا يخفى عن الجاهل المغفل ، فإن صاحبه- مع ذلك- كان يلجأ إلى حيل علها تسعفه في الإنفلات من رقابة النقاد والدارسين الذين يقفون دائما بالمرصاد لمثل هذا السلوك غير العلمي. وهو أمر يمكن التمثيل له بآليتين هما :
3-1-1-1- تغيير المواقع : إذ إنه كان يغير من موقع بعض مكونات الكتاب الأصل وفصوله حتى يوهم القارئ بأنه تصرف فيها .ونجد لهذا مثلا في جعله النقطة الثالثة من الفصل الثالث (الكتاب الأصل) وهي المعارضات ما لها وما عليها فصلا مستقلا(الفصل الرابع)، وتصييره للنقطة الثالثة من الفصل الثالث (الكتاب الأصل ) وهي المعارضات في الموشحات فصلا مستقلا كذلك –الفصل الثالث).
3-1-1-2- الحذف : كان المحاور يلجأ إلى حذف بعض مكونات الكتاب الأصلي كما فعل في الصفحة رقم مائة وأربعة وثمانين. فقد أشار قاسم نوفل إلى أنه من أراد التوسع في البحث عن المعارضات الشعرية في الموشحات بالذات، فليرجع إلى أمهات الكتب القديمة والحديثة والتي تبحث في الأدب الأندلسي، ففيها ري لكل ظمآن، وشبع لكل خمصان. ثم شرع في تفصيل قوله، فأورد عددا من الكتب والمؤلفات على سبيل المثال والحصر. وعددها ينيف الخمسة عشر. وهذا ما عمل على حذفه عبد الصبور محمد ضيف وكأن الإشارة في تصوره تغني عن العبارة والتفصيل .
وبالجملة، فإنه إذا استثنينا الفصل الخامس الذي أضافه عبد الصبور ضيف إلى مكونات الكتاب الأصل، فإن مؤلفه لا يعدو أن يكون سرقة محضة وتلاصا بينا. إنه عمل يصدق عليه وصف القدماء من النقاد لهذا النوع من السرقة بالنسخ من نسخة الكتاب. بمعنى أن السارق عمل على نسخ فصلين كاملين من الكتاب الأصل. وهو عمل شنيع وغير أخلاقي، وهو بعيد كل البعد عن طبيعة التناص النقدي وما يقوم عليه من تحويل وتنسيق جديدين كما رأينا سابقا .
وإذا كانت عملية الإبداع عموما لا تتم من فراغ ، بل من خلال التفاعل والاستفادة من تجارب الآخرين ، فإن ذلك لن يتم إلا إذا استطاعت الذات المحاورة تجاوز حدود التلاص وسرقة مجهود الآخرين إلى التناص النقدي وما يقوم عليه من تحويل وحسن استثمار وتوظيف للنصوص المستشهد بها لصالح الفكرة العلمية أو الموقف المعرفي الذي تدافع عنه . فالاستشهاد بنصوص الغير واستدعاؤها شيء لا مناص منه في كل عملية إنتاج أو إعادة إنتاج بحيث يستطيع القارئ النبيه للكتابات أن يميز فيها بين الأصيل والدخيل . كما أن مستويات الاستشهاد في جميع مجالات المعرفة تخضع لسلم تصاعدي قد يبدأ بشكل أكثر بروزا وظاهرا حينما يعمد مؤلف ما إلى إقحام كلام غيره أو جزء من كلامه في نصه التأليفي الأصلي، وينتهي بآخر أكثر خفاء تكون فيه أصوات الآخرين موجودة في النص المنتج ولكن بصورة مستترة(67).والعمل العلمي الناجح هو الذي يراوح بين الشكلين ويحسن التفاعل والتحاور مع تجارب الآخرين ، وتوظيف النصوص المستشهد بها وكأنها من إبداعه الخاص وملكيته الفكرية الأصلية .والحال أن هذه الظاهرة التي وقفنا عليها بين الكتابين لا يمكن أن تفسر إلا من خلال جانبين : الأول : عجز الذات المؤلفة عن الإبداع واختيار مسلك سرقة مجهود الآخرين. والثاني : غياب رقابة فكرية في المجتمع لا سيما مؤسسات النشر التي قد نجدها مساهمة بشكل قوي في تكريس هذه الظاهرة غير العلمية والأخلاقية لتحقيق أرباح مادية محضة؛ ذلك أن الحرص على البعد التسويقي والتجاري قد يغيب الوجه الحقيقي للعملية العلمية المتمثلة في الخلق والإبداع والابتكار . كما أن العجز عن فهم تجارب الآخرين وحسن اقتباسها واستعارتها مما يسهم في تعميق الأزمة الثقافية والحضارية في مجتمعنا المعاصر الذي هو أحوج من أي وقت مضى إلى تحقيق مظهر حواري أكيد بين الأنا والآخر، وخلق تواصل متين وتفاعل مكين بين السابق واللاحق ، والقديم والحديث ، والتراث والمعاصرة وهلم جرا .
وما أحوجنا إلى مؤسسات فكرية ومعرفية تكشف اللبس، وتقصي غير الأخلاقي، وتسهم في خلق تقاليد علمية من شأنها بناء الثقافة العربية والإسلامية على أساس سليم، يجعلها فاعلة وواحدة من واجهات الصراع أو إن شئت قل الحوار الثقافي الدائر اليوم في الحضارة الإنسانية.
وبالله التوفيق
الهوامش
1- ينظر هنا مقال محمد العمري،" مصطلح الدرس الأدبي والنسق المعرفي"، ص 94؛ وينظر كتابه: البلاغة العربية أصولها وامتداداتها، ص 99.
2- ينظر هنا سعيد يقطين " من النص إلى النص المترابط"، ص 73-74.
3- محمد مفتاح، " دور المعرفة الخلفية في الإبداع"، ص 86.
4- Leyla perrone moisés, « L’intertextualité critique », p 372-384.
5- Ibid, p 373.
6- Ibid, p 372.
7- Ibid, p 372.
8- Ibid, p 373.
9- Ibid, p 375.
10- Ibid, p 376.
11- Ibid, p 375.
12- Ibid, p 376.
13- Ibid, p 377.
14- Le plaisir du texte, p 59.
15- « L’intertextualité critique », p 372.
16- Ibid, p 380.
17- Ibid, p 380.
18- Ibid, p 381.
19- Ibid, p 380.
20- Ibid, p 382.
21- Ibid, p 380.
22- Ibid, p : 382.
23- Ibid, p 384.
24- Ibid, p 384.
25- النقد والحقيقة، ص 7؛ وينظر فاضل ثامر، اللغة الثانية، ص 112.
26- نفسه، ص 69.
27- عبد العزيز حمودة، الخروج من التيه، دراسة في سلطة النص، ص 43.
28- نفسه، ص 43.
29- نفسه، ص 18.
30- نفسه، ص 42-43.
31- نقد النقد، ص 147، وينظر فاضل ثامر، اللغة الثانية، ص 112.
32- دينامية النص، ص 102.
33- ينظر محمد العمري، " القارئ وإنتاج المعنى في الشعر القديم، حدود التأويل البلاغي"، ص 47-48.
34- عبد القادر بقشى، التناص في الخطاب النقدي والبلاغي، ص 26.
35- Antoine compagnon, la seconde main ou le travail de la citation, 12
36- ابن مراد، مدونة الشواهد، ص 422.
37- نفسه، ص 369.
38- الحكاية والتأويل، ص 8.
39- عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، ص 5.
40- نفسه، ص 5.
41- ينظر عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص 19؛ وينظر محمد العمري، الموازنات الصوتية، ص 112.
42- أسرار البلاغة، ص 51.
43- اختلف الدارسون والمحققون حول نسبة هذه الأبيات، فأشار مفيد قميحة محقق كتاب الشعر والشعراء إلى أنها تنسب للشريف الرضي، ينظر ص : 22 هامش 2؛ بينما أشار محمود محمد شاكر محقق كتاب أسرار البلاغة إلى أنها تروى لكثير وليزيد بن الطثرية، ولعقبة بن كعب بن زهير بن سلمى، ينظر ص : 21، هامش 3. وقد نجد تفسيرا لهذا الأمر فيما ذهب إليه على القاسمي أنه " في أحايين كثيرة يكون الغرض من سرد الشاهد تقديم الدليل على قاعدة نحوية مستخلصة أو ظاهرة بلاغية مستنبطة. وفي كل هذه الحالات يكمن الدليل في الشاهد نفسه وليس في قائله أو مكانته. وهكذا فلا يرى الكاتب ضرورة البحث عن القائل أو ذكره تماشيا مع مقولة الإمام علي بن أبي طالب : لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال " ينظر معجم الاستشهادات، ص 34.
44- عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، ص 22.
45- نفسه، ص 22.
46- نفسه، ص 23.
47- ينظر الخصائص 1/220.
48- عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، ص 23.
49- ينظر حديث عبد القاهر الجرجاني عن القراءة بالجملة والتفصيل، أسرار البلاغة، ص 120؛ وينظر أيضا تعليق محمد العمري حول هذا التصور في مقاله : " القارئ وإنتاج المعنى في الشعر القديم"، ص 55-56.
50- أشار محمد العمري إلى أن تحول موقع القارئ هو من المفاهيم النقدية التي ينبغي استثمارها في قراءة الشعر العربي القديم. ينظر مقاله "القارئ وإنتاج المعنى"، ص 56.؛ وعن هذا المفهوم ينظر Iser في كتابه
« Acte de lecture »، ص 199.
51- ينظر محمد العمري "القارئ وإنتاج المعنى"، ص 56؛ وينظر Iser ف
اشتغال التناص في الخطاب النقدي والبلاغي
دراسة في المصطلح
د. بقشى عبد القادر*
مـقـدمـة :
يسعى هذا المقال إلى تقديم تصور نظري وعملي حول اشتغال التناص في الخطاب النقدي والبلاغي، وذلك من خلال التعريف ببعض المفاهيم النقدية المتصلة بنظرية التناص عموما، ونحت مفاهيم جديدة وبديلة تنسجم وخصوصية الدرس النقدي والبلاغي العربي. فهو فوق ذلك إنما يحاول أن يساهم في بناء نمذجة عامة لأهم أنواع التناص في الدرس الأدبي وهي : التناص الفني والتناص النقدي والتناص البلاغي والتلاص النقدي.
وقبل ذلك، نشير إلى أن حديثنا عن اشتغال التناص وأنواعه في الخطاب النقدي والبلاغي يستند إلى مبدإ عام يقوم عليه علم المصطلح Terminologie اليوم هو أن التعريف بأي مصطلح كيفما كان نوعه ومجاله المعرفي، وكشف دلالاته لابد أن يتم من داخل السياق النظري والفلسفي الذي ينتمي إليه. ومن خلال النسق العام النهائي أو المتحول للمشروع العلمي المتوخى إنجازه(1) ، لأنه قد يحدث أن تتغير دلالة المصطلح الواحد بتغير البناء النظري لنظرية ما وتحولها. علاوة على أن تغييب الخلفيات النظرية والمعرفية لمصطلح ما ومقاصد استعماله من شأنه أن يعيق عملية التواصل به وتوظيفه التوظيف الأمثل(2).
من هنا يبدو مفيدا قبل الشروع في الحديث عن المفاهيم السابقة وصلها بسياقها النظري العام المرتبط بنظرية التناص التي ترتكز في اشتغالها على خلفيات أدبية وفلسفية معينة. ونكتفي هنا إجمالا بالقول – مراعاة لسلطة المقام- أن التناص يشكل إحدى آليات التواصل الأدبي والثقافي معا؛ فهو من المفاهيم النقدية الحديثة التي تنتمي إلى مرحلة ما بعد البنيوية، وتتنازعه نزعتان : أولهما أدبية : وتتجلى في آثار باختين ومن تأثر بها ككرستيفا وبارت في بداية أمره. فهؤلاء ينظرون، مع بعض الخلاف، إلى أن النص الأدبي هو إعادة إنتاج وليس إبداعا محضا، وأن كل نص هو معضد أو قالب لنص آخر سابق عليه أو معاصر له. وإن غلبوا الوظيفة القلبية على ما سواها لأن نظرية التناص نمت وترعرعت في خضم نزعة احتجاجية واعتراضية في السياسة والثقافة. ثانيهما : فلسفية : وتتجلى في التفكيكية التي يمثلها دايريدا وبارت في آخر أيامه وبول ديمن وهارتمن. فقد وظفت نظرية التناص هنا لنسف بعض مقولات المركزية الأوروبية مثل مقولة الحضور ومقولة الانسجام ومقولة الحقيقة المطلقة. وكان سندها النظري الثقافة القبالية اليهودية والفلسفات السوفسطائية وبعض الممارسات الشعبوية(3).
وقد ظهر مصطلح التناص في بدايته مرتبطا بالجنس الروائي المحايث لنشأته، لكن سرعان ما انتشر في مجال الدراسة الأدبية بمختلف أجناسها وأنواعها، وصار بذلك مفهوما مشهورا كل يحاول تجريبه في مجال اختصاصه واشتغاله؛ فاهتم به المبدع والناقد والبلاغي والمؤرخ والسوسيولوجي وما إلى ذلك، بل إنه استطاع أن يثير انتباه المهتم بحوار الحضارات والثقافات أو صراعهما على نحو أصبح معه سؤالا فنيا وبلاغيا ونقديا وثقافيا. وهكذا انشغل الباحثون بضبط دلالات هذا المصطلح، وتصنيف أنواعه وأشكاله، فتحدثوا عن التناص الفني والنقدي والبلاغي والثقافي وغير ذلك.
1- من التناص الفني إلى التناص النقدي :
إذا كان التناص الفني كما بينا قد أضحى مشهورا لدى كل المهتمين بالشأن الأدبي عموما، فإن التناص في الخطاب النقدي والبلاغي لم يلق تلك الشهرة التي بلغها هذا المصطلح في المجال الإبداعي. وربما يحتاج الحديث عنه شرعية أدبية وأطروحة نظرية وعملية؛ الأمر الذي خصت له الباحثة ليلى بيرون موازي مقالا لها في مجلة Poétique يحمل عنوان : التناص النقدي L’intertextualité critique. حاولت من خلاله الإجابة عن سؤال واحد هو(4): ماهي حدود الاختلاف بين الحوارية النقدية والحوارية الفنية ؟ وقد صاغت هذا السؤال بطريقة أخرى مفادها: ماهي طبيعة الاختلافات بين التناص النقدي والتناص الفني؟ أو هل يمكن أن يوجد هناك تناص حقيقي بين النصوص في هذا الخطاب الذي هو النقد ؟
للإجابة عن السؤال المطروح انطلقت الباحثة من مبدأ عام لا نملك معها إلا أن نسلم به هو أن النقد كان دائما تناصيا إذا منحنا لمصطلح التناص معنى موسعا، فهو يتعلق بوصف نص لنص آخر، نص يتحاور مع آخر؛ وحتى في الحالة البسيطة هناك في الخطاب النقدي تداخل أو تقاطع بين نصين : النص المحلِّل والنص المحلَّل(5).
ورغم هذا، فقد احتاجت الباحثة للدفاع عن أطروحتها المتمثلة في نحت مصطلح التناص النقدي والبحث عن موقع له في النظام المصطلحي لنظرية التناص إلى مناقشة أربع قضايا أساسية هي عبارة عن مقولات نظرية في النقد البنيوي وما بعد البنيوية. نستمع إلى مناقشتها ونتتبعها أولا، وبعد ذلك نبدي حولها مجموعة من الملاحظات والتحفظات. والقضايا الأربع هي :
الأولى : حدود النص Les frontières du texte
في إطار البحث عن إجابات على السؤال المطروح بدأت الباحثة بإبداء ملاحظات تجريبية منها أن التناص النقدي مصرح به وخاضع لقانون ما في حين أن التناص الفني يمكن أن يكون ضمنيا، وفي أغلب الأحيان يكون كذلك. النقد يصرح أنه يصف نصا أو عدة نصوص(6). ومن ثمة فهو خاضع في تصورها لقانون الملكية بمعنى ملكية خطاب الآخر، الشيء الذي يفترض من الناقد معرفة حدود الملكية وقوانينها. أما الإبداع أو بالأحرى المبدع فهو يتجول في مملكة الأدب بحرية ليست موجودة عند الناقد، إنه لا يصرح بشيء، ويمكن أن يتحاور مع مبدعين آخرين دون ذكر أسمائهم، فهو يستعمل أجود ما عند غيره وكأنه له(7). ومن الملاحظات أيضا التي قدمتها الباحثة في الموضوع أنه في الحوارية الفنية تكون مختلف النصوص في المستوى نفسه، بينما في الحوارية النقدية يوجد النصان المتحاوران في مستوى مختلف(، الأمر الذي يطرح مشكلة الحدود بينهما وطبيعة العلاقة التناصية التي تربط النقد بالإبداع. وإذا كان موقف المتلفظ الكاتب محميا من قبل مؤسسات الأجناس الأدبية، فإنه ابتداء من نهاية القرن 17 أصبحت هذه الحدود مموهة. وهكذا ظهرت عدة أصوات في القرن العشرين تعترض ضد سلطة الجنس الأدبي على نحو ما تبين مقاربات بارت وبيتور وموريس بلانشو الذين أكدوا جميعا على كتابة أدبية لا تعترف بالحدود الأجناسية. وقد شكل هذا سندا مرجعيا مكن ليلى موازي من القول : إنه لكي يكون هناك تناص حقيقي ينبغي العمل من أجل إلغاء الحدود بين ماهو نقدي وإبداعي في الخطاب النقدي عموما(9).
الثانية : اللغة الواصفة والتناص Métalangage et intertextualité
تعميقا لمناقشتها السابقة وامتدادا لها ترى ليلى بيرون موازي أن سؤال التناص النقدي يطرح بشكل مختلف عن التناص الفني بناء على الطريقة التي نعرف بها النقد. فإذا اعتبرناه ميتالغة Métalangage فالحدود الأجناسية بين النصين المتحاورين تظل قائمة. ويصعب في تصورها الحديث هنا عن تناص نقدي (10)، لأن العلاقات التناصية تصبح كلها مزدوجة؛ لغتان وتاريخان وذواتان. الأمر الذي لا يحصل في التناص الفني؛ إذ نواجه ذاتا واحدة ولغة واحدة وتاريخا واحدا. أما إذا اعتبرنا النقد كتابة بالمفهوم البارتي لها، فإن هذه الحدود تلغى وتنمحي (11)، لأنه لا يوجد تناص في الخطاب النقدي بالمعنى القوي للكلمة إلا عندما تلغى هذه الحدود بواسطة قوة الكتابة. إضافة إلى أن النقد باعتباره كتابة وحده- في تصور ليلى بيرون موازي- يمكن من ظهور تناص حقيقي في الخطاب النقدي يمنح للنص الجديد خصائص التكثيف والتعدد الجمالي الذي يميز النص الفني(12).
الثالثة : العمل غير التام L’ouvre inachevée
لكي يتحقق هناك تناص في الخطاب النقدي، وحتى لا يصبح النقد مجرد إعادة إنتاج بسيطة، اشترطت ليلى بيرون موازي أن يتم النظر إلى الأعمال الفنية باعتبارها أعمالا غير تامة؛ ذلك أن العمل التام تاريخيا هو الذي لم يعد يقول شيئا بالنسبة للإنسان المعاصر؛ أما العمل الفني غير التام فهو العمل الاستشرافي الذي يتقدم عبر الحاضر ويتطلع نحو المستقبل(13). وقد استندت الباحثة في الأخذ بهذا المبدأ إلى آراء بيتور وموريس بلانشو ورولان بارت الذي عبر من جهته عن انفتاحية العمل الفني بإشارته إلى " تعذر العيش خارج النصوص اللانهائية سواء كان هذا النص بروست أو الجريدة اليومية أو شاشة التلفزيون، الكتاب يخلق المعنى، والمعنى يخلق الحياة"(14).
الرابعة : المتناصات النقدية Intertextes critiques
وجدت ليلى بيرون موازي في الكتابات النقدية لكل من بلانشو وبيتور وبارت مجالا لتطبيق تصوراتها النظرية حول مفهوم التناص النقدي، وهكذا بينت الكيفية التي تشتغل بها المتناصات النقدية عند هؤلاء النقاد الذين يمثلون في تصورها أمثلة للتناص الذي يتجاوز معايير الحوار التقليدي بين الخطابين النقدي والشعري(15). وقد خلصت من خلال ذلك إلى أن الاستشهادات التي يستشهد بها بلانشو تشكل متناصات بالمعنى الذي يفيد أنه رغم كونها تأتي بين معقوفتين، فإن كتابته تمتصها وتمحوها؛ فكتابه الفضاء الأدبي L’espace littéraire نقدي لأن ملاحظات الناقد النظرية مبررة في النصوص التي يستشهد بها، بل إنه في تصور الباحثة يتجاوز ذلك إلى كونه عملا فنيا وكتابيا مكثفا وفريدا(16).
أما المتناص النقدي عند بيتور فيختلف عن الحوار النقدي التقليدي؛ إذ إنه يلعب مع استشهاداته ومراجعه مولدا شبكة من العلاقات. فهو لا يستشهد ببودلير كما يستشهد به المؤلفون الآخرون، بل إن قطعه الفنية تدخل في ملكية الناقد، يعيد وضعها بطريقته الخاصة، ويطورها في نصه الخاص، ويحولها بحسب الاختيار الذي يدخله فيها والطريقة التي تعرض بها في تعليقاته(17). وهذا ما صرح به بيتور نفسه حين أكد على أنه يوجد دائما في نقده عنصر معارضة مع إبقاء مسافة على مستوى الفعل وليس على مستوى الأسلوب(18). وقد تمكن بهذا أن يعيد كتابة نص بودلير من خلال عمل ترابطي وإعادة تركيب للنصوص المستشهد بها؛ فالمادة بودليرية والترتيب الجديد والترابطات بيتورية(19). إن النص النقدي لبيتور ليس نصا تحليليا وثانيا فقط، بل هو كالكتاب يدخل في لعب المبدعين (20) متوسلا في ذلك بلغتهم الفنية المزدوجة الدلالات. ولعل هذا الذوبان للمؤلفين المستشهد بهم، وهذه المعارضة على مستوى الفعل، كل هذا له إسم واحد - في نظر ليلى بيرون موازي- هو التناص النقدي(21).
أما رولان بارت، فإن كتابه S/Z هو تركيب لمتناصات بالزاك(22) وأخرى تتصل بالشخصيات والثقافة وتاريخ الأدب والبلاغة والأمثال، هذه النصوص المنقولة والمستشهد بها في الخطاب النقدي ليست لها أية قيمة سلطوية ومرجعية؛ فالنقد هو لغة واصفة، والتطبيق لهذه اللغة ليس علاقة من نوع منطقي وكلي، ولكن لغة واصفة لا تفجر اللغة الموضوع ولا توقف سيرورتها. وهذا ليس ممكنا في نظر ليلى بيرون موازي إلا إذا لم يكن هناك تمييز بين الخطابات عندما يصبح النقد مرة أخرى لغة فنية توازي لغة الإبداع(23) .
إن ما يجمع بين كل من بلانشو وبيتور ورولان بارت - في تصور ليلى بيرون موازي- أنهم جميعا بينوا، كل بطريقته، كيف أن النقد يمكن أن يتجاوز الاستشهاد ويقترب من المتناص عن طريق التوزيع والتفريق والربط والتشويش والكتابة. شرط المتناص هو اجتيازه حدود الملفوظ، ثمنه يمكن أن يكون خسران الخصوصية الخطابية والأجناسية التي من شأنها أن تعطي لنوع من الخطاب إسم النقد(24).
وخلاصة ما انتهت إليه ليلى بيرون موازي في دراستها التطبيقية : أن المتناصات التي يستحضرها الناقد ويستشهد بها في كتاباته النقدية ليست لها أية سلطة مرجعية عليه؛ بل إنه يتعامل معها كما لو أنها ملكيته الخاصة، يعيد كتابتها ويمحوها غير معترف بخصوصيتها الأجناسية. ومن ثمة يعطيها نحوا خاصا بها في نصه الجديد معتمدا في ذلك على لغة فنية توازي لغة الإبداع على نحو يجعل كتابته النقدية كتابة فنية بامتياز.
وإذ نتفق مع ليلى بيرون موازي في المبدأ العام الذي انطلقت منه وهو أن النقد تناصي في طبيعته العامة، إلا أننا نختلف معها في مستنداتها العملية والنظرية؛ ذلك أن اعتبار النقد كتابة إبداعية لا تعترف بالحدود الأجناسية للنصوص المتناصية هي إحدى المقولات النظرية التي ارتكز عليها الخطاب النقدي الحديث في مرحلته البنيوية والتفكيكية مع بارت وجاك دايريدا وغيرهما من النقاد الذي شكلوا في كتابتهم جانبا من الخلفيات الأدبية والفلسفية لنظرية التناص عموما. كما أنها تتصل في جوهرها بالنقاش النظري الدائر حول علاقة ماهو نقدي وإبداعي في الخطاب النقدي قديمه وحديثه. وقد ذهب بارت في هذا السياق إلى اعتبار النقد إبداعا مؤكدا أن إمكانات النقد الراهنة تتمثل في أن الناقد قد أصبح كاتبا بمعنى الكلمة(25)، وأن النقد غدا من الضروري أن يقرأ ككتابة؛ بل إنه تجاوز ذلك إلى تقديم تصور سيميولوجي للنقد؛ فالناقد في تصوره يضاعف المعاني ويجعل لغة ثانية تطفو فوق اللغة الأولى للأثر، أي أنه ينتج تلاحما للعلامات(26). ونجد المقولة نفسها في النقد التفكيكي عند دايريدا وأتباعه الذين أفرطوا في القول بإبداعية النقد في إطار دعوى عدمية ألغت سلطة النص الإبداعي وأبقت على سلطة النص النقدي وأعلت من شأنه(27). ولا شك أن التسليم بهذه المقولة والأخذ بها قد يترتب عليه بشكل منطقي حسب عبد العزيز حمودة " تبني منهج كتابة نقدية تتعمد لفت انتباه القارئ إلى النص النقدي الجديد في ذاته ولذاته أي تحقيق استغراق القارئ في النص النقدي بعيدا عن القصيدة أو القصة التي كانت نقطة انطلاق القراءة النقدية في المقام الأول، بل أي تعليق ثان أو ثالث على النص النقدي يصبح هو الآخر إبداعا"(28). إضافة إلى أن التمسك بهذا الشعار النقدي يخل بأهم وظائف النقد الأساسية وهي وصف مكونات بناء النص الإبداعي بشكل يمكن من تقديم تفسيرات مختلفة، ويساهم في التبشير بعصر إبداعي جديد، كما يرى ذلك ماتيو أرلوند في مقاله النقدي المعروف "وظيفة النقد في الوقت الحاضر" الذي نشر ضمن كتاب " مقالات في النقد"(29).
وهكذا نجد عبد العزيز حمودة يعتبر القول بإبداعية النقد إحدى علامات التيه في الخطاب النقدي الحديث والمعاصر، بل هي في تصوره أكبر المزالق النظرية وأخطرها على الإبداع الأدبي، لأنه في ظل هذا المفهوم الجديد لم يعد النقد خادما للنص الأدبي ولم تعد النظرية خادمة لخادمه(30).
وإذا شئنا أن نركب وجهة نظرنا حول مفهوم التناص النقدي كما اقترحته ليلى بيرون موازي نشير إلى أن الحرص على إلغاء الحدود الأجناسية بين النصوص المتناصة في الخطاب النقدي، والقول بإبداعية اللغة النقدية يضعنا في صلب تصور حداثي يلغي أغلب أصناف القراءات النقدية في تفسير النصوص الإبداعية ويجعلها خارج الدائرة الحوارية للتناص النقدي، فضلا عن أن ذلك قد يقصي من دائرة الأدب جميع النصوص غير الرمزية وغير القابلة لتأويلات لا نهائية بالمفهوم الحداثي لها. وبالجملة قد يضرب بالمبدأ الأساس المنطلق منه في وصف هذه الظاهرة الحوارية المتعلقة بالتناص النقدي. ولعل الحرص على مراعاة هذه الاعتبارات هو الذي سيقوي المبدأ الحواري في الخطاب النقدي، كما هو الشأن بالنسبة للمبدأ الحواري في النص الأدبي، كما صاغه ميخائيل باختين. وربما مكن ذلك من تشييد وصياغة نقد حواري بين النصوص، كما وصفه تودروف؛ إذ يصبح النقد – في تصوره- حوارا أو " لقاء صوتين : صوت الكاتب وصوت الناقد وليس لأي منهما امتياز على الآخر"(31).
فالحوار الذي لا يقصي أحد الطرفين المتحاورين ويقوي من الوظيفة الفنية والمعرفية للنقد هو وحده الذي يمكن من الحديث عن التناص في أي خطاب نقدي، وإن شئت قل يسهم في صياغة نقد حواري لا يلغي النص الإبداعي ولكن يخدمه وفق آليات الحوار المختلفة؛ ولا يضر في شيء أن يتقاطع هنا التناص النقدي مع التناص الفني في طريقة اشتغال المتناصات التي تنسجم مع أهم الوظائف التي يؤديها التناص في عموم أشكاله وأصنافه وهي الوظيفة التحويلية. ولهذا، فإن النقد لا يمكن أن يكون إبداعا بالمفهوم القوي للكلمة، ولكنه بالمقابل لغة تساهم في تقديم معرفة واصفة وشاملة للنص على نحو يبشر بكتابة إبداعية جديدة. وقد يسمح لنا هذا كله باقتراح نوع جديد من التناص سليل التناص النقدي وصنوه، يستفيد من أطروحة ليلى بيرون موازي السابقة ويتجنب مزالقها النظرية المتصلة بالنقد البنيوي والتفكيكي، ويراعي خصوصية المخيال الفني والنقدي والبلاغي في المجال التداولي العربي الإسلامي. نصطلح على تسميته ب " التناص البلاغي".
2- من التناص الفني إلى التناص البلاغي
نسجل منذ البداية أن اقتراحنا لهذا المفهوم ليس من منطلق التقليد لكل ما يستجد في النظريات الغربية، بل هو عمل يستند إلى مبدأ الحوار المنتج الذي لا يصادر حق أحد طرفي العملية التواصلية في التفاعل مع ما يمتلكه الآخر شريطة أن ينسجم مع الخصوصيات الثقافية والفنية والحضارية لكل طرف. ونحن بهذا إذ نستفيد من التصور النظري لليلى بيرون موازي حول التناص النقدي، فإننا نأخذ بعين الاعتبار ما قد يثيره ذلك من اعتراضات شديدة منها أن التناص عموما ومعه التناص النقدي قد نشأ في خضم نزعة احتجاجية في السياسة والثقافة، واستند إلى خلفيات فلسفية تفكيكية وقبالية يهودية. وبمقتضى ذلك رد حوار النصوص إلى نوع واحد هو الحوار الساخر. وهذا إذ يصح في كثير من الثقافة الغربية المعاصرة التي تركز على النصوص الفنية المفتوحة ذات المعاني اللانهائية الأكثر رمزية، فإنه لا يستساغ في التراث العربي القديم الذي أغلبه مبجل ومحترم في تصور محمد مفتاح(32). ومن شأن هذا التصور الحداثي أن يلغي كثيرا من النصوص الفنية التراثية التي تنتمي إلى الأدب الكلاسيكي، وتواضع مستعملوها على تسميتها أدبا بناء على مقاييسهم الفنية وتقاليدهم الأدبية(33). ولا ينبغي أن يفهم من هذا الكلام أن الإبداع الفني العربي منغلق على ذاته، بل على العكس من ذلك يتضمن نصوصا اختلافية تتسم بالانفتاح وقادرة على اختراق الزمن بكل أبعاده بما تتضمنه من قراءات مختلفة وليست لا نهائية(34). ولهذا، فإن الحديث عن مفهوم التناص البلاغي هو وصف لظاهرة تناصية موجودة بالقوة والفعل في تراثنا النقدي والبلاغي، تنسجم مع خصوصيات الإبداع العربي، والوظيفة التي أنيطت بالبلاغة في تاريخها وهي الوظيفة النقدية. فالبلاغة العربية ماهي إلا خطاب واصف لخطاب موصوف أو خطابات موصوفة؛ فهي بهذا التصور كتابة إذ تحترم الحدود الأجناسية للنصوص المستشهد بها، فهي بالمقابل تعيد تنظيمها وتنسيقها والتعليق عليها على نحو يمنحها نحوا خاصا ينسجم والمقاصد التي من أجلها استحضرت في التصانيف البلاغية. فالبلاغة بهذا المعنى تناص مفتوح بين خطابات مختلفة.
ولئن كان هذا النوع من التناص لم يرق في اشتغاله- كما سنرى- إلى مستوى أن يكون لغة فنية، ولا يمكن أن يكون كذلك، فإنه يتوسل بلغة واصفة في التعامل مع متناصاته المختلفة، تستلهم آلياتها من بلاغة ذات طابع حواري يبدو فيها الاستشهاد- إضافة إلى كونه طرفا من طرفي العملية التواصلية شكلا ووظيفة في آن(35)، ذلك أن أغلب الاستشهادات إنما تستحضر في النص البلاغي ضمن وضعيتين : أولاهما يكون فيها النموذج- وهو الشاهد وظيفيا- في السياق البلاغي؛ أي أنه يضطلع بوظيفة افتتاحية مباشرة في حمل الظاهرة البلاغية وإجلائها. ثانيهما يكون فيها الاستشهاد لمجرد الدعم والإثبات أو لغاية الإثراء في التطبيق قصد ترسيخ الظاهرة البلاغية(36)، أو الموقف البلاغي والنقدي الذي يروم البلاغي الدفاع عنه وتوضيحه. فقد تظهر هذه الاستشهادات للناظر مادة متواترة تتكرر أعيانها من أثر إلى آخر، ولكن المتمعن سرعان ما يكشف مدى استجابتها لما يجد من أوضاع التأليف وأغراضه(37)، بل وأنساقه. كل هذا وفق الاستراتيجية العامة والمقاصد المثلى لكل بلاغي على حدة.
ولعل إبراز الكيفية التي تشتغل بها المتناصات في الخطاب البلاغي هو وحده الكفيل بإبراز طبيعة التناص البلاغي وأهمية الحديث عنه في البلاغة العربية. وسنقف عند المعالجة التناصية الفريدة التي جسدها عبد القاهر الجرجاني في مشروعه البلاغي المضمن في كتابيه "أسرار البلاغة" و"دلائل الإعجاز".
وقبل ذلك، لابد أن نبدي ملاحظة عامة تتقاطع مع ما أشار إليه عبد الفتاح كيليطو حين لاحظ أن عبد القاهر الجرجاني " يستشهد بقدر لا يستهان به من الأبيات الشعرية للقواعد البلاغية التي يرسيها. هذه الأبيات مقتبسة من قصائد عدة شعراء ينتمون إلى عصور مختلفة؛ كل بيت يحشر في سياق جديد مع أبيات غريبة عنه، فيتلون معناه بمعنى جيرانه ويبدو في حلة تباين حلته المعهودة بمجرد اللقاء مع أبيات أخرى تضاف إليه دلالة وقيمة جديدتين"(38). ونضيف أن عبد القاهر الجرجاني لا يتناص مع هذه الاستشهادات كما تناص معها واستشهد بها البلاغيون من قبله، بل إنه يتحاور معها بما ينسجم ومكونات مشروعه البلاغي وأسئلة عصره. هذا المشروع الذي يستند إلى تصور نظري ورؤية بلاغية وتركيبية ترى أن فضيلة الكلام وشعريته لا تكمن في ألفاظه فحسب، وإنما في نظمه وحسن ترتيبه وتركيبه. فالمعنى الذي من أجله يصير الكلام شعريا هو تركيبه على طريقة معلومة، وحصوله على صورة من التأليف مخصوصة(39)، وهو أمر يقع - في تصور الجرجاني- في الألفاظ مرتب على المعاني المرتبة في النفس المنتظمة في قضية العقل(40). وهذا تصور بلاغي جديد يقوم على اعتبار الشكل خاصية مميزة للكلام الشعري(41)، وتكون فيه المزية من حيز المعاني دون الألفاظ(42).
وقد مكن هذا التصور عبد القاهر الجرجاني من تحقيق هدفين مهمين بالنسبة لموضوعنا المتعلق بالتناص البلاغي وهما :
* الأول : أنه تمكن من حسم الصراع القائم بين أنصار اللفظ وأنصار المعنى في وصف أدبية النصوص فقال بالوحدة المتمثلة في صورة المعنى والنظم الذي يقوم على معاني النحو وغيرها من المكونات الفنية المعروفة مثل التشبيه والاستعارة والمجاز والكناية.
* الثاني : أنه حقق قطيعة منهجية مع التصورات البلاغية السابقة في التعامل مع الشواهد؛ إذ سلك منهجا تحليليا وتجريبيا في الأسرار، وتجريبيا استدلاليا في الدلائل، فقد استدعى نماذجه في كتابه الثاني بما مكنه من الاستدلال على حقيقة الإعجاز، فانضاف بذلك إلى نسق التحليل الذي في الأسرار نسق آخر يتعلق بالمجادلة والمساجلة والمناظرة في نسيج الدلائل، ونقف عند جانب من هذا التوجه التجريبي من خلال بيان الطريقة التي تناص بها مع هذه الأبيات الشواهد"(43).
ولما قضينا من منى كـل حاجـة ومسَّح بالأركان من هو ماسـح
وشُدت على حُدْبِ المهاري رحالنا ولا ينظر الغادي الذي هو رائح
أخذنا بأطراف الأحـاديث بيننـا وسالت بأعناق المَطِيِّ الأباطـح
فقد استحضرها أولا في كتابه الأسرار، وذلك في سياق الحديث عن قضية اللفظ والمعنى. وسلك في هذا مسلكا حجاجيا للدفاع عن موقفه من هذه الثنائية، وتوضيح رؤيته البلاغية التي تربط المزية في الكلام بالمعاني التصويرية. وهكذا نجده يقول معلقا ومستأنفا قراءة ابن قتيبة للأبيات الشواهد : "فانظر إلى الأشعار التي أثنوا عليها من جهة الألفاظ ووصفوها بالسلامة، ونسبوها إلى الدماثة (...) كقوله : ولما قضينا من منى كل حاجة إلى آخر الأبيات.
ثم راجع فكرتك واشحد بصيرتك، وأحسن التأمل، ودع عنك التجوز في الرأي، ثم انظر هل تجد لاستحسانهم وحمدهم وثنائهم ومدحهم منصرفا إلا إلى استعارة وقعت موقعها، وأصابت غرضها، أو حسن ترتيب تكامل معه البيان حتى وصل معه المعنى إلى القلب مع وصول اللفظ إلى السمع،واستقر في الفهم مع وقوع العبارة في الأذن، وإلا إلى سلامة الكلام من الحشو غير المفيد"(44).
فشعرية هذه الأبيات وأدبيتها لا تعود في تصور عبد القاهر الجرجاني إلى جهة ألفاظها باعتبارها أصواتا مسموعة، بل إلى مقومات فنية أوجزها في :
أولا : حسن الترتيب والتأليف.
ثانيا : العموم والإيجاز : " ذلك أن أول ما يتلقاك من محاسن هذا الشعر أن صاحبه قال: " ولما قضينا من منى كل حاجة " فعبر عن قضاء المناسك بأجمعها والخروج من فروضها وسننها من طريق أمكنه أن يقصر معه اللفظ هو طريق العموم "(45).
ثالثا : التلويح والرمز والإشارة والإيماء : وهي مقومات فنية بها يتقوم الشعر، ويصير الكلام شعريا، ولا يقوى عليها إلا الفحول من الشعراء. وقد استطاع الشاعر أن يدل بلفظة " أطراف" " في قوله : " أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا " على الصفة التي يختص بها الرفاق في السفر من التصرف في فنون القول وشجون الحديث، أو ما هو عادة المتظرفين في الإشارة والتلويح والرمز والإيماء، وأنبأ بذلك عن طيب النفوس، وقوة النشاط، وفضل الاغتباط كما توجبه ألفة الأصحاب وأنسة الأحباب، وكما يليق بحال من وفق لقضاء العبادة الشريفة ورجا حسن الإياب وتنسم روائح الأحبة والأوطان، واستماع التهاني والتحايا من الخلان والإخوان"(46). ويلاحظ أن في هذه الطريقة التحليلية التي كشف بها عبد القاهر الجرجاني عن وجوه الإشارة والتلويح والإيماء في هذه الأبيات الشواهد صدى لكلام ابن جني وتعليقه حولها، بل إنه تأكيد له وتعميق لتصوره الدلالي في رؤية الشعر وتقويمه(47). وهو أمر يؤكد امتداد التلقي السابق في اللاحق وتفاعلهما في التفكير البلاغي العربي.
رابعا : الاستعارة الغريبة والنادرة : فبعد أن أحسن الشاعر ترتيب معاني شعره وتأليفها، ووصل بينها أحسن وصل، زان ذلك كله باستعارة لطيفة طبق فيها مفصل التشبيه، وأفاد كثيرا من الفوائد بلطف الوحي والتشبيه، فصرح أولا بما أومأ إليه في الأخذ بأطراف الأحاديث، لأنهم تنازعوا أحاديثهم على ظهور الرواحل، وفي حال التوجه إلى المنازل، وأخبر بعد بسرعة السير، ووطأة الظهر، إذ جعل سلاسة سيرها بهم كالماء تسيل به الأباطح. وكان في ذلك ما يؤكد قبله"(48).
وحرصا منه على تحقيق قراءة تحليلية وتفصيلية قائمة على الاختيار وبناء التصورات الجديدة (49)، زاد عبد القاهر الجرجاني مقاربته للاستعارة التي تضمنتها الأبيات الشواهد عمقا في كتابه الدلائل مغيرا بذلك من موقع القراءة وجهة النظر(50). ويبدو أن هذا التحول في نظر إيزر هو الذي يؤمن أو يضمن خصوصية الموضوع الجمالي في النص المخيل(51). وهكذا نجد عبد القاهر الجرجاني يعتبر قول الشاعر " وسالت بأعناق المطي الأباطح" من الاستعارة الخاصية النادرة التي لا تجدها إلا في كلام الفحول، ولا يقوى عليها إلا أفراد الرجال(52). وليست الغرابة في منظوره "على هذه الجملة، وذلك أنه لم يغرب لأن جعل المطي في سرعة سيرها وسهولته كالماء يجري في الأبطح، فإن هذا شبه معروف ظاهر، ولكن الدقة والنطق، بأن جعل "سال" فعلا للأباطح"، ثم عداه بالباء بأن أدخل الأعناق في البين، فقال : " بأعناق المطي" ولم يقل "بالمطي". ولو قال "سالت المطي في الأباطح" لم يكن شيئا، وكذلك الغرابة في البيت الآخر ليس في مطلق معنى "سال " ولكن في تعديته بعلى والباء، وبأن جعله فعلا لقوله شعاب الحي، ولولا هذه الأمور كلها لم يكن هذا الحسن. وهذا موضع يدق الكلام فيه"(53).
فقوله : "ولولا هذه الأمور كلها" فيه إشارة إلى أمرين أساسين يقوم عليهما تصور عبد القاهر الجرجاني هما : أولا : الانسجام. ثانيا : تفاعل المكونات الفنية لتحقيق شعرية النصوص. وأحسب أن هذا التصور يقف ضد تلك الرؤية التجزيئية في تحليل النصوص التي هيمنت وللأسف الشديد في درسنا الأدبي الحديث. ولعل هذا الانتقال في التحليل البلاغي من الجملة إلى التفصيل، ومن الجزء إلى الكل، أو التحول في النظر من الأسرار إلى الدلائل هو ما أكسب دلالة الشواهد انفتاحا أكبر على آفاق جديدة، كما مكن ذلك عبد القاهر الجرجاني من ربط المعنى بمقتضيات الغرابة الشعرية القائمة على الانزياح حين تحدث عن الاستعارة والرمز والاستعارة. ثم وصله بمقتضيات النظم المؤسس على معاني النحو حين أوضح حسن ترتيب الأبيات وطريقة وصلها. وهكذا تمكن من الجمع بين التحليل البلاغي والنظم النحوي في ربقة متميزة، وشيد بذلك نموذجا نظريا جديدا في التحليل وتأويل الشعر والتناص مع متناصاته المختلفة مستفيدا من تجربة بعض القراء الذين سبقوه، ومستأنفا لأحكام بعضهم الآخر التي لا تساير الأسئلة البلاغية المستجدة في المشهد النقدي إبان القرن الهجري الخامس والمنسجمة مع نضج الكتابة الشعرية وتكاملها. وقد اعتمد في كل هذا على مفاهيم نقدية وآليات مختلفة نحو : التمييز بين الألفاظ باعتبارها أصواتا مسموعة والمعاني باعتبارها صورا، وبين المعاني باعتبارها مادة واللفظ باعتباره صورة، وبين المعنى ومعنى المعنى، والغرض ووجه الدلالة على الغرض، والمعنى العقلي والمعنى التخييلي، والمعنى وصورة المعنى وغير ذلك.
وإذ تقتضي المعالجة التناصية وكذا التصور التاريخي للتلقي التمييز دائما بين الفهم السابق والفهم اللاحق (54) فإن عبد القاهر الجرجاني قد تمكن من خلال هذه المفاهيم وغيرها من صياغة مشروع بلاغي تجاوز به ذلك التصور التقليدي في التناص مع الشعر وتأويله الذي اعتاد أصحابه "إطلاق اللفظ من غير معرفة بالمعنى" (55)، والبحث عن المعنى الجاهز في النص دون المساهمة في إعادة بنائه. والذي أوقعهم في هذا حسب الجرجاني أنهم رأوا العلماء "يفردون اللفظ عن المعنى، ويجعلون له حسنا على حدة، ورأوهم قد قسموا الشعر فقالوا : إن منه ما حسن لفظه ومعناه، ومنه ما حسن لفظه دون معناه، ومنه ما حسن معناه دون لفظه، ورأوهم يصفون اللفظ بأوصاف لا يصفون بها المعنى"(56).
يتناص عبد القاهر الجرجاني في هذا الكلام مع تقسيمات ابن قتيبة لأضرب الشعر، ويبين فساد مذهبه في النظر إلى الشعر وما يتقوم به، ذلك أن المهم ليس ماذا يريد أن يقوله الشاعر، أو البحث عن المعنى الوحيد الذي يود التعبير عنه، بل الكيفية التي أنتج بها المعنى. وهو أمر تتفاعل فيه مكونات النص مع كفاءات القارئ(57).
وقد استطاع عبد القاهر الجرجاني في تناصه مع الأبيات الشواهد السابقة أن يترجم هذا التصور ويعبر عنه، كما تمكن من استئناف القول والأحكام التي نسجت حولها(58). وما أحوجنا إلى مثل هذا المنهج التحليلي والنصي في التناص وتقويم التجارب الشعرية الحديثة والراهنة.
الواقع أن ما قدمه عبد القاهر الجرجاني من تحليل للأبيات الشواهد يبرز حدود تفاعله مع البنيات النصية المقروءة على نحو لم يبق حبيس سلطتها المرجعية؛ إذ عمل على إعادة تركيب وبناء دلالة هذه الأبيات وتنسيقها وفق ما ينسجم ومشروعه البلاغي دون أن يقع في المحظور. وقد تأكد بهذا أن التناص البلاغي عنده تناص بليغ لم يتعامل مع البلاغة باعتبارها آليات وصفية فحسب، بل تجاوز ذلك إلى تحقيق وظيفتها النقدية المتمثلة في وصف المكونات البنائية للنصوص المستشهد بها، ورصد شعريتها وجودتها وفق تصور نظري واضح؛ وذلك عبر منحها دلالات جديدة تخرجها عن نطاق التواثر الكمي وسلطة القداسة إلى تحقيق التواثر النوعي والانفتاح على دلالات جديدة وأسئلة بلاغية متجددة بحسب تجدد شروط القراءة وأسئلتها.
ولعل أهمية التناص البلاغي كما جسده عبد القاهر الجرجاني تنبع من القيمة التاريخية لمشروعه البلاغي برمته حيث تحكم في مسار البلاغة العربية فيما بعد، وأضحى بإنجازاته محاورا قويا لأهم منجزات الدرس البلاغي الحديث.
3- من التناص الفني الى التلاص النقدي
إذا كان التناص في مفهومه النقدي العام هو ذلك الحوار الفني الذي يحسن من خلاله النص اللاحق توظيف مكونات النص السابق المتناص معه بشكل يجعلها محولة وداخلة في سياقه الفني الذاتي (59)، فإن التلاص هو سرقة محضة تكشف عن عجز الذات المحاورة عن استيعاب نصوصها المحاورة وتحويلها لخدمة مقاصدها الخاصة. من هذا المنطلق يمكن أن نميز بين مستويين في عملية الحوار :
الأول :التناص بمستوياته الفنية المعروفة في النظرية النقدية الحديثة (60)، ومعه التناص النقدي.
الثاني : التلاص المرادف للسرقة(61).
فالتناص هو مدار التفاعل في الكون ومناط الحوار على جميع مناحي الحياة: فنا وتأليفا وعادات وتقاليد وحضارة بشكل عام. ولهذا، فإن الناس يختلفون في ممارسة هذا الحوار كما أن المبدعين والمؤلفين والنقاد وغيرهم يتباينون في ذلك ، فمنهم من يحسن توظيف التناص باعتباره تحويلا وتفاعلا ومنهم من يقصد قصدا الانتقال من ذلك إلى التلاص فيكشف عن عجزه وعدم قدرته على مسايرة تطور المعرفة والأفكار والعلم . ونجد نموذجا لهذا في كتابين هما:
الأول : وهو السابق. عنوانه: "تاريخ المعارضات في الشعر العربي لمحمود محمد قاسم نوفل ط 1 مؤسسة الرسالة دار الفرقان للنشر والتوزيع 1983.
الثاني : وهو اللاحق. عنوانه " المعارضات في الشعر والموشحات الأندلسية لعبد الصبور محمد ضيف ط1 مطبعة الأمانة مصر 1987 .
3-1- الكتابان أية علاقة ؟
فمن خلال القراءة الأولية لمكونات الكتابين يتبين أن عبد الصبور محمد ضيف في كتابه " المعارضات في الشعر والموشحات الأندلسية " قام بعملية حوارية مع نموذجه التأليفي" تاريخ المعارضات في الشعر العربي " لقاسم نوفل. وهذا ليس بعيب لأن الاستشهاد بنصوص الغير والاستفادة من معطياتها أساس الإبداع والحوار عموما . ويبقى الأهم في هذا الإطار كما لاحظ ذلك أنطوان كومبانيون في كتابه اليد الثانية أو اشتغال الاستشهاد la seconde main ou le travail de la citation هو أن الاستشهاد حدث لغوي وشكل ووظيفة في آن (62) .وهو أمر يستدعي طرح سؤالين هما كيف يمكن للذات المؤلفة أو المبدعة أن تتخلص مما قيل سابقا ؟ وما هو المبدأ المتحكم في عملية الحوار بين الكتابين أهو التناص الفني بمختلف مستوياته ومعه التناص النقدي أم التلاص المرادف للمضمون السياسي والأخلاقي للسرقة ؟ .
يمكننا الإجابة عن هذين السؤالين بالنظر إلى طبيعة العلاقة بين الكتابين المتحاورين وذلك من خلال مستويين :
الأول : العنوان. وهو من العتبات المشكلة للمتعاليات النصية عند جيرار جينيت (63) . ويمكن تلخيص العملية التناصية في هذا المستوى من الحوار بين الكتابين في الانتقال من التعميم إلى التخصيص والتحديد ، فبعد ما كانت المعارضات الشعرية مرتبطة عند قاسم نوفل في النص الأصل أو السابق بالشعر العربي عامة أصبحت عند عبد الصبور محمد ضيف في النص اللاحق متصلة بالشعر والموشحات الأندلسية. ومعنى هذا أن المحاور قام بعملية حوارية استطاع أن يبعد بمقتضاها ويقصي ما لا ينسجم ومحددات موضوعه .
الثاني : البناء العام. حتى نستبين حدود الحوار بين الكتابين نعرض لبنائهما على الشكل التالي :
الكتاب الأصل/السابق (تاريخ المعارضات في الشعر العربي لقاسم نوفل ) الكتاب الفرع/ اللاحق (تاريخ المعارضات في الشعر والموشحات الأندلسية لعبد الصبور محمد ضيف )
*مقدمة :
الفصل الأول : أ- معاني ومدلولات المعارضة
أولا : المعنى اللغوي .
ثانيا : المعنى الاصطلاحي .
ثالثا : الفرق بين المعارضات
والنقائض.
ب-العمق التاريخي للمعارضات
ج- المعارضات ما لها وما عليها
الفصل الثاني : المعارضات في العصر العباسي
حتى نهاية العصر الأيوبي.
الفصل الثالث : المعارضات في بلاد المغرب الإسلامي
أولا : المعارضات الأندلسية الداخلية
ثانيا : معارضات الأندلسيين لشعراء
المشرق الإسلامي.
ثالثا : المعارضات في الموشحات .
الفصل الرابع : كثرة المعارضات لبعض القصائد
المشهورة
الفصل الخامس : المعارضات في العصر الحديث .
خاتمة : *مقدمة :
الفصل الأول : معاني ومدلولات المعارضة .
- المعنى اللغوي .
- المعنى الاصطلاحي .
- الفرق بين المعارضات والنقائض.
- العمق التاريخي للمعارضات .
الفصل الثاني : المعارضات في بلاد المغرب الإسلامي
- المعارضات الأندلسية الداخلية .
- معارضات الأندلسيين لشعراء
المشرق الإسلامي .
الفصل الثالث : المعارضات في الموشحات .
الفصل الرابع : المعارضات ما لها وما عليها .
الفصل الخامس : تراجم لبعض الشعراء والوشاحين .
خاتمة :
قد يلاحظ أن الكتابين معا يتألفان من خمسة فصول، إلا أنه بتأملنا لبنائهما يتضح أن عبد الصبور محمد ضيف قام بسرقة فصلين كاملين من الكتاب الأصل. وهكذا فإذا استثنينا الفصول التي خصها قاسم نوفل للحديث عن العمق التاريخي لفن المعارضات في الشعر العربي، ومعارضات القصائد المشهورة ، والمعارضات في العصر الحديث وتراجم الشعراء والوشاحين، لا نكاد نجد فرقا بين الكتابين على جميع المستويات :
أولا : المتناصات أو النصوص المستشهد بها : فمن أصل سبع وخمسين نموذجا شعريا تعارضيا التي استشهد بها قاسم نوفل في الفصل الثالث من كتابه نجد عبد الصبور محمد ضيف قد وظف منها واحدا وأربعين نموذجا مع الاحتفاظ بنفس أسماء الشعراء المتعارضين .
ثانيا : التعليقات والاستنتاجات : لم يكتف المحاور باستدعاء النماذج الشعرية المتعارضة لنموذجه التأليفي ، بل إنه كان يضيف إليها التعليقات الأصلية المردفة بها . كما يتضح من خلال قوله عن معارضة ابن حيان الغرناطي لبعض موشحات حمدون الحاج : " فهذا نموذج لتفنن الأندلسيين في تنميق الموشحات وتأليفها، والمتتبع لتاريخ الموشحات يرى نماذج لا تخطر له على بال، وقد لا يستمزج نظامها وقراءتها، ولكنه لما يسمع لحنها، فإنه يميل إليها، فالمهم في حسن قراءتها وترديدها بما يناسب نغمتها ومقاطعها وأقفالها ."(64) وهو القول الأصلي لقاسم نوفل بلفظه ومعناه (65) .
ومن الاستنتاجات التي خلص إليها قاسم نوفل في كتابه أن المعارضات الشعرية في الأدب الأندلسي تتراوح " بين الجدية التامة والإبداع وبين مجرد النظم والمجاراة على سبيل التنذر أو إظهار المقدرة وبلورة الأفكار الوقادة عند بعض العلماء من الشعراء كشيء من تسلية النفس ، أو لدعم المسائل العلمية والفقهية ، أو بدافع التحدي لشاعر أو شعراء من بلد من بلدان العالم الإسلامي "(66). وهو الاستنتاج نفسه بلفظه ومعناه الذي نجده عند عبد الصبور محمد ضيف.
3-1-1- آليات السرقة :
إذا كان هذا النوع من الحوار أو التناص لا يخفى عن الجاهل المغفل ، فإن صاحبه- مع ذلك- كان يلجأ إلى حيل علها تسعفه في الإنفلات من رقابة النقاد والدارسين الذين يقفون دائما بالمرصاد لمثل هذا السلوك غير العلمي. وهو أمر يمكن التمثيل له بآليتين هما :
3-1-1-1- تغيير المواقع : إذ إنه كان يغير من موقع بعض مكونات الكتاب الأصل وفصوله حتى يوهم القارئ بأنه تصرف فيها .ونجد لهذا مثلا في جعله النقطة الثالثة من الفصل الثالث (الكتاب الأصل) وهي المعارضات ما لها وما عليها فصلا مستقلا(الفصل الرابع)، وتصييره للنقطة الثالثة من الفصل الثالث (الكتاب الأصل ) وهي المعارضات في الموشحات فصلا مستقلا كذلك –الفصل الثالث).
3-1-1-2- الحذف : كان المحاور يلجأ إلى حذف بعض مكونات الكتاب الأصلي كما فعل في الصفحة رقم مائة وأربعة وثمانين. فقد أشار قاسم نوفل إلى أنه من أراد التوسع في البحث عن المعارضات الشعرية في الموشحات بالذات، فليرجع إلى أمهات الكتب القديمة والحديثة والتي تبحث في الأدب الأندلسي، ففيها ري لكل ظمآن، وشبع لكل خمصان. ثم شرع في تفصيل قوله، فأورد عددا من الكتب والمؤلفات على سبيل المثال والحصر. وعددها ينيف الخمسة عشر. وهذا ما عمل على حذفه عبد الصبور محمد ضيف وكأن الإشارة في تصوره تغني عن العبارة والتفصيل .
وبالجملة، فإنه إذا استثنينا الفصل الخامس الذي أضافه عبد الصبور ضيف إلى مكونات الكتاب الأصل، فإن مؤلفه لا يعدو أن يكون سرقة محضة وتلاصا بينا. إنه عمل يصدق عليه وصف القدماء من النقاد لهذا النوع من السرقة بالنسخ من نسخة الكتاب. بمعنى أن السارق عمل على نسخ فصلين كاملين من الكتاب الأصل. وهو عمل شنيع وغير أخلاقي، وهو بعيد كل البعد عن طبيعة التناص النقدي وما يقوم عليه من تحويل وتنسيق جديدين كما رأينا سابقا .
وإذا كانت عملية الإبداع عموما لا تتم من فراغ ، بل من خلال التفاعل والاستفادة من تجارب الآخرين ، فإن ذلك لن يتم إلا إذا استطاعت الذات المحاورة تجاوز حدود التلاص وسرقة مجهود الآخرين إلى التناص النقدي وما يقوم عليه من تحويل وحسن استثمار وتوظيف للنصوص المستشهد بها لصالح الفكرة العلمية أو الموقف المعرفي الذي تدافع عنه . فالاستشهاد بنصوص الغير واستدعاؤها شيء لا مناص منه في كل عملية إنتاج أو إعادة إنتاج بحيث يستطيع القارئ النبيه للكتابات أن يميز فيها بين الأصيل والدخيل . كما أن مستويات الاستشهاد في جميع مجالات المعرفة تخضع لسلم تصاعدي قد يبدأ بشكل أكثر بروزا وظاهرا حينما يعمد مؤلف ما إلى إقحام كلام غيره أو جزء من كلامه في نصه التأليفي الأصلي، وينتهي بآخر أكثر خفاء تكون فيه أصوات الآخرين موجودة في النص المنتج ولكن بصورة مستترة(67).والعمل العلمي الناجح هو الذي يراوح بين الشكلين ويحسن التفاعل والتحاور مع تجارب الآخرين ، وتوظيف النصوص المستشهد بها وكأنها من إبداعه الخاص وملكيته الفكرية الأصلية .والحال أن هذه الظاهرة التي وقفنا عليها بين الكتابين لا يمكن أن تفسر إلا من خلال جانبين : الأول : عجز الذات المؤلفة عن الإبداع واختيار مسلك سرقة مجهود الآخرين. والثاني : غياب رقابة فكرية في المجتمع لا سيما مؤسسات النشر التي قد نجدها مساهمة بشكل قوي في تكريس هذه الظاهرة غير العلمية والأخلاقية لتحقيق أرباح مادية محضة؛ ذلك أن الحرص على البعد التسويقي والتجاري قد يغيب الوجه الحقيقي للعملية العلمية المتمثلة في الخلق والإبداع والابتكار . كما أن العجز عن فهم تجارب الآخرين وحسن اقتباسها واستعارتها مما يسهم في تعميق الأزمة الثقافية والحضارية في مجتمعنا المعاصر الذي هو أحوج من أي وقت مضى إلى تحقيق مظهر حواري أكيد بين الأنا والآخر، وخلق تواصل متين وتفاعل مكين بين السابق واللاحق ، والقديم والحديث ، والتراث والمعاصرة وهلم جرا .
وما أحوجنا إلى مؤسسات فكرية ومعرفية تكشف اللبس، وتقصي غير الأخلاقي، وتسهم في خلق تقاليد علمية من شأنها بناء الثقافة العربية والإسلامية على أساس سليم، يجعلها فاعلة وواحدة من واجهات الصراع أو إن شئت قل الحوار الثقافي الدائر اليوم في الحضارة الإنسانية.
وبالله التوفيق
الهوامش
1- ينظر هنا مقال محمد العمري،" مصطلح الدرس الأدبي والنسق المعرفي"، ص 94؛ وينظر كتابه: البلاغة العربية أصولها وامتداداتها، ص 99.
2- ينظر هنا سعيد يقطين " من النص إلى النص المترابط"، ص 73-74.
3- محمد مفتاح، " دور المعرفة الخلفية في الإبداع"، ص 86.
4- Leyla perrone moisés, « L’intertextualité critique », p 372-384.
5- Ibid, p 373.
6- Ibid, p 372.
7- Ibid, p 372.
8- Ibid, p 373.
9- Ibid, p 375.
10- Ibid, p 376.
11- Ibid, p 375.
12- Ibid, p 376.
13- Ibid, p 377.
14- Le plaisir du texte, p 59.
15- « L’intertextualité critique », p 372.
16- Ibid, p 380.
17- Ibid, p 380.
18- Ibid, p 381.
19- Ibid, p 380.
20- Ibid, p 382.
21- Ibid, p 380.
22- Ibid, p : 382.
23- Ibid, p 384.
24- Ibid, p 384.
25- النقد والحقيقة، ص 7؛ وينظر فاضل ثامر، اللغة الثانية، ص 112.
26- نفسه، ص 69.
27- عبد العزيز حمودة، الخروج من التيه، دراسة في سلطة النص، ص 43.
28- نفسه، ص 43.
29- نفسه، ص 18.
30- نفسه، ص 42-43.
31- نقد النقد، ص 147، وينظر فاضل ثامر، اللغة الثانية، ص 112.
32- دينامية النص، ص 102.
33- ينظر محمد العمري، " القارئ وإنتاج المعنى في الشعر القديم، حدود التأويل البلاغي"، ص 47-48.
34- عبد القادر بقشى، التناص في الخطاب النقدي والبلاغي، ص 26.
35- Antoine compagnon, la seconde main ou le travail de la citation, 12
36- ابن مراد، مدونة الشواهد، ص 422.
37- نفسه، ص 369.
38- الحكاية والتأويل، ص 8.
39- عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، ص 5.
40- نفسه، ص 5.
41- ينظر عبد القاهر الجرجاني، دلائل الإعجاز، ص 19؛ وينظر محمد العمري، الموازنات الصوتية، ص 112.
42- أسرار البلاغة، ص 51.
43- اختلف الدارسون والمحققون حول نسبة هذه الأبيات، فأشار مفيد قميحة محقق كتاب الشعر والشعراء إلى أنها تنسب للشريف الرضي، ينظر ص : 22 هامش 2؛ بينما أشار محمود محمد شاكر محقق كتاب أسرار البلاغة إلى أنها تروى لكثير وليزيد بن الطثرية، ولعقبة بن كعب بن زهير بن سلمى، ينظر ص : 21، هامش 3. وقد نجد تفسيرا لهذا الأمر فيما ذهب إليه على القاسمي أنه " في أحايين كثيرة يكون الغرض من سرد الشاهد تقديم الدليل على قاعدة نحوية مستخلصة أو ظاهرة بلاغية مستنبطة. وفي كل هذه الحالات يكمن الدليل في الشاهد نفسه وليس في قائله أو مكانته. وهكذا فلا يرى الكاتب ضرورة البحث عن القائل أو ذكره تماشيا مع مقولة الإمام علي بن أبي طالب : لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال " ينظر معجم الاستشهادات، ص 34.
44- عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، ص 22.
45- نفسه، ص 22.
46- نفسه، ص 23.
47- ينظر الخصائص 1/220.
48- عبد القاهر الجرجاني، أسرار البلاغة، ص 23.
49- ينظر حديث عبد القاهر الجرجاني عن القراءة بالجملة والتفصيل، أسرار البلاغة، ص 120؛ وينظر أيضا تعليق محمد العمري حول هذا التصور في مقاله : " القارئ وإنتاج المعنى في الشعر القديم"، ص 55-56.
50- أشار محمد العمري إلى أن تحول موقع القارئ هو من المفاهيم النقدية التي ينبغي استثمارها في قراءة الشعر العربي القديم. ينظر مقاله "القارئ وإنتاج المعنى"، ص 56.؛ وعن هذا المفهوم ينظر Iser في كتابه
« Acte de lecture »، ص 199.
51- ينظر محمد العمري "القارئ وإنتاج المعنى"، ص 56؛ وينظر Iser ف