د.الحسن بواجلابن: نسق الانزياح وآلية التناص في شعر إسماعيل زويريق طباعة ارسال لصديق
الكاتب: د.الحسن بواجلابن
20/05/2007
إسماعيل زويريققدّم الشاعر إسماعيل زويريق للمشهد الشعري المغربي الحديث رافدا شعريا يحمل الجديد سواء في الشكل العمودي الخليلي، أم في شعر التفعيلة، أم في قصيدة النثر. وهو ما يتضح من خلال ما جادت به قريحته من دواوينه المتعدّدة، ذات المواضيع المتباينة. ومما زاد شعرَه بهاء، مشاركتُه في عدة منتديات وملتقيات ثقافية؛ وجمعُه شعره. فعرّف بإبداعه الشعري، وكفى القراء والدارسين عناء البحث عن أشعاره.
نسق الانزياح وآلية التناص في شعر إسماعيل زويريق (البيت المشرّف1 نموذجا)
* عـناصـر الدراسة :
- توطئة
1 -دلائلية عنوان الديوان
2 -دلائلية عنوان المقطوعة الشعرية
3 -نسق الانزياح في قصيدة (البيت المشرف)
3 - 1 . الانزياح الصوتي
3 -2 . الانزياح التركيبي
3 -3 . الانزياح الدلالي
4 -آلية التناص
4 - 1 . التناص مع القرآن الكريم
4 - 2 . التناص مع الحديث النبوي
4 - 3 . التناص مع السيرة النبوية
4 - 4 . التناص مع الشعر.
استنتاجات وتقييم عام .
ـــــــــــــــــــــــ
تـوطئة :
قدّم الشاعر إسماعيل زويريق للمشهد الشعري المغربي الحديث رافدا شعريا يحمل الجديد سواء في الشكل العمودي الخليلي، أم في شعر التفعيلة، أم في قصيدة النثر. وهو ما يتضح من خلال ما جادت به قريحته من دواوينه المتعدّدة، ذات المواضيع المتباينة. ومما زاد شعرَه بهاء، مشاركتُه في عدة منتديات وملتقيات ثقافية؛ وجمعُه شعره. فعرّف بإبداعه الشعري، وكفى القراء والدارسين عناء البحث عن أشعاره.
وتمتح تجربته الشعرية الطويلة من التراث، ومن الآداب الغربية. واخْتَطَّ لنفسه نهجا شعريا خاصا. وهي تجربة ألقت على عاتقها الاهتمام بمختلف القضايا مغربية كانت، أم عربية، أم غربية. الشيء الذي أكسب شعره التزاما من جهة، ومسحة توثيقية من جهة ثانية. وتحملك دواوينه التي تربو على العشرين إلى عوالمه التي شيّدها بعناية.
كل ذلك، وغيره، أثار في نفسي رغبة قراءة شعر هذا الشاعر المتواضع. فقرّرتُ دراسة مقطوعته (البيت المشرّف) ، لِما تتيحه لي من رؤية، عن كثب، لشاكلة تعامل الشاعر مع التراث، ولكيفية صياغته قصيدة الشعر الديني؛ علاوة على معرفة الجديد الذي أضافه عبر معالجة أسس الشاعرية لديه .
1 -دلائلية عنوان الديوان :
اكتفى الشاعر إسماعيل زويريق في عنونة مجموعته الشعرية الأخيرة بتركيبة الجار والمجرور ( على النّهج )، أي شبه الجملة. فالعنوان خبر مقدّم، وأين المبتدأ المؤخر؟
تخبر بذلك تركيبة شبه الجملة في النحو العربي، خصوصا في مسألة تعلّق شبه الجملة. فحروف الجر تتعلق بالفعل أو ما يشبهه من المشتقات أو المصدر. وعلى القارئ أن يُقدر المبتدأ المؤخر الذي تعمّد الشاعر حذفه. بناء عليه سيكون العنوان، هو: على النهج أسير.
فعن أيّ نهج يتحدث الشاعر زويريق ؟ نلفي الجواب منذ العتبة النّصيّة: الغلاف، وتحديدا في الصورة المرافقة للعنوان، حيث يظهر بيت الله الحرام، والحرم المكي، ومدخل فسيح ُتعبّر أشكال تنميقه عن الحضارة الإسلامية. فمن خلال قرينة حال الإيقونة، ظهر النهج الذي ارتضاه الشاعر زويريق لنفسه ولشاعريته.
وبالانتقال إلى عنوان المقطوعة التي وقع عليها اختياري،" البيت المشرف "، يزداد نهج
الشاعر وضوحا نظرا لانتقالنا بين العتبات النصية من العام إلى الخاص.
2 -دلائلية عنوان المقطوعة :
يشي العنوان "البيت المشرف" بأن الكلام الشعري قد خصّصه الشاعر للمكان المقدس لا محالة. فما عساها تكون مزاياه ؟
إن البيت العتيق هو المكان الذي أتاح الله له أن يكتنز عدة مهام جسام، بوّأته المحل الأرفع. فهو مكان حجّ إليه العرب، وطافوا حوله منذ الحقبة الجاهلية، وأدّوا الصلاة مُكاء وتصدية. الكعبة المشرفة مكان حج المسلمين. ومن وشايات العنوان أيضا، أنه بيت شرّفه الله تعالى منذ الأزل، حيث أمر ربّ العزة جلّت قدرته إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ببناء البيت ورفع القواعد. ومادام المكان قد أوحى للشاعر زويريق شعرا، فلاشك أنه استحضر المعلقات الجاهلية، وكتابتها، وتعليقها على أستار الكعبة؛ وهذه وشاية أخرى للعنوان.
سنجد هذه الموضوعات وغيرها داخل القصيدة خلال دراسة أشكال الانزياح والتناص.
3 -نسق الانزياح في قصيدة (البيت المشرف) :
لوصف لغة الشعر في اشتغالها الخاص، لابد من توظيف مفهوم الانزياح . ويفترض الحديث عنه وجود أصل يُنزاح عنه هو المعيار.ونلفي ثلاثة أقسام من الانزياح، هي: الصوتي، والتركيبي، والدلالي.
3 - 1 . الانزياح الصوتي :
تتراوح أشكال الانزياح الصوتي في قصيدة (البيت المشرف) بين التكرار، والترصيع، والاشتقاق، والجناس.
3 -1 - 1 . التـكـرار :
تراوح التكرار بين تكرير الكلمة، وتكرار الجملة.
- تكرار الكلمة:
من ذلك قول الشاعر إسماعيل زويريق :
" حجر ما اسودّت حناياه إلا من خطاياك أيـها الخطّاء
حجر لو نجا لطبَّقَ ما بي ن الوجودين نوره الوضّاء "
كرّر الشاعر لفظ "حجر" لِما له من قدسية عريقة منذ القدم، سواء في الجاهلية أو الإسلام. وعزا سواد حجر البيت المحرم إلى كثرة خطايا الناس. وأشاد بذلك الحجر الذي لا تُدانيه أحجار الدنيا، فقد "جاء جبريل البيت بالحجر الأسود من السماء" .
وتتداعى من الحجر قصة اختلاف العرب بشأن القبيلة التي تحمل الحجر الأسود إلى البيت المحرم ، واتفاقهم على الاحتكام إلى أول وافد عليهم ؛ وكان هو شخص الرسول صلى الله
عليه وسلم .
من تكرار الكلمة، "البيت". فقد ورد في العنوان موصوفا بصفة الشرف، وخصّه الشاعر بالمميّزات الآتية:
- فهو مدعاة للطمأنينة، إذ بعث منظره ارتياحا في نفسه، واستشعر حلاوة الشفاء في جسمه السقيم؛ حيث قال:
" ما تجلّى لعيني البيت حتى دبّ في جسمي العليل شفاء " .
- البيت سبب دهشة الشاعر، فله قدسيته وهالته:
" فإذا بي من هيبة البيت مَشدو هُُ ومن فَغْمَة الأريج ِوعاء " .
- تفرّد البيت بالسموّ ورفعة الشأن، بحيث لا تقوى على مجاراته البنايات البشرية كالأهرام وغيرها:
" هو ذا البيت لا تساميه أهرا م ولا يرتقي عليه بناء "
ومن تكرار الكلمة أيضا، قوله :
" به نالت ما لم تنله بلاد أبد الدهر هذه الأنحاء
من فخار وسؤدد ليس يعلو فوقه سؤدد ولا علياء "
يتجلى التكرار في "نالت" و"سؤدد"، وورد التكراران في معرض مدح الشاعر زويريق شخص الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كثر عطاءه، وتعدّدت فضائله. به نالت الجزيرة العربية من المكارم والمعالي ما لم تعرفه أي أرض.
أشاع التكرار تجانسا صوتيا حقق انزياحا على المستوى الصوتي، انضاف إلى نسق آخر مغاير، إنه التضمين إذ افتقر البيت الأول إلى الثاني ليتمّ معناه؛ فتحقق الانزياح بين الصوت والمعنى.
لقد أشاعت كلمات: حجر، والبيت، ونالت، وسؤدد تجانسا صوتيا حرص الشاعر على إيراده في حيز واحد،مما أضفى على كلامه الشعري انزياحا صوتيا من جهة، وموسيقى داخلية من جهة ثانية.
- تكرار الجملة :
وذلك مثل قول الشاعر:
" هو بيت الله الذي وضعتـه ها هنا في هذا الوجود السماء
هو بيت الله الذي رفعت في ال أرض منه القـواعد الشـماء "
أفاد تكرار جملة "هو بيت الله " دلالة توكيد أن البيت الحرام هو أول بيت بني بمكة بأمر من الله تعالى، علاوة على تأكيد دلالة أنه البيت الذي رفع أساسه إبراهيم الخليل بالبناء.
وأدى التكرار إلى تجانس صوتي افتتاحي.
ونلاحظ أن هذا النسق من الانزياح بالتجانس الصوتي قد ورد في قوله أيضا:
" حفظ الله بيته بالـذي أغـ نى قريشا عما تـرى وتشاء
قد حمى الله بيته، أي بيت فوق هذا الثرى حمته السماء " .
يتبيّن مما سبق أن محسّن التكرار يصدر عن الدلالة العامة للقصيدة، فمهمته هي توضيح المعنى، أو تأكيده، أو إثراءه.
ويحضر التكرار بشكل مكثّف، الشيء الذي يقوّي الانزياح. كما يحضر بشاكلة منظمة،
فغالبا ما يرد التكرار افتتاحيا سواء في تكرار الكلمة أم في تكرار الجملة.
3 - 1 - 2 . التـرصيـع :
عرّف ابن رشيق القيرواني الترصيع بقوله : " إذا كان تقطيع الأجزاء مسجوعا أو شبيها
بالمسجوع، فذلك هو الترصيع عند قدامة " . اكتفى هذا التعريف بقسمي الترصيع: الصرفي المسجوع، والصرفي. و عرض للترصيع المقطعي أيضا، إذ حصره في تساوي المقاطع عروضيا، وإن اختلفت نوعا . وبناء عليه، فالترصيع هو تجانس الصوائت وتوازنها نوعا، أو سجعا، أو مقطعا. ونجد في قصيدة البيت المشرف الترصيعات : الصرفي المسجوع، والصرفي؛ والمقطعي. - الترصيع الصرفي المسجوع:
نحو قول الشاعر:
" فإذا بي من هيبة البيت مشدو هُُ ومن فغمة الأريج وعاء " .
بين "هيبة" و"فغمة" ترصيع صرفي مسجوع ، فللكلمتين الوزن الصرفي ذاته، وكلتاهما مختومة بالتاء. واجتمع التكرار "من" والترصيع المسجوع. وخدما معا وزن الخفيف، علاوة على ما أتاحه النّسقان من انزياح بالتجانس الصوتي وموسيقى داخلية.
- الترصيع الصرفي:
كقول الشاعر :
" أرسل الطرف والمكان سنيّ أطرق السمع والجموع نداء " .
وهذه خطاطة توضيحية لشاكلة ورود الترصيع في رقعة البيت الشعري :
" أرسل الطرف والمكان سنيّ أطرق السمع والجموع نداء "
ـــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــ
نلفي ترصيعين صرفيين بين "أرسل" و"أطرق" وبين"الطرف" و"السمع"، وهما واردان من قبل التوازي النحوي، كما نجد ترصيعين مقطعيين بين "المكان" و"الجموع" ثم بين "سني" و"نداء" .
نلاحظ سيطرة الترصيع التي توازي في المرجع سيطرة السناء على المكان، وهيمنة النداء الموحّد على جموع الحجاج الغفيرة. وأدّى إكثار الشاعر من الترصيع إلى تحقيق موازنة صوتية جيدة، مما كثف الانزياح الصوتي.
- الترصيع المقطعي :
وذلك كقول الشاعر :
" ما أنا إلا ذرة في رحـاب ال بيت تسعى دوّارة أو هَبــاء
أو كأنّي تحت السماء نجـيم دائر والبـيت العتيق ذُكــاء " .
حصل الترصيع المقطعي بين "السماء" و" العتيق" وبين "نجيم" و"ذكاء"، وهو ما وفّر تجانسا صوتيا، خدم الموسيقى الداخلية للبيت الشعري من جهة؛ وحقّق انزياحا صوتيا من جهة ثانية.
نستنتج مما تقدم اقتران نسق الترصيع بنسق التكرار من جهة، وحضور الترصيعين: الصرفي والمقطعي في رقعة البيت الشعري الواحد من جهة ثانية. ويرد الترصيع في هيئة نسق التوازي التركيبي.
و قد حقق الترصيع المسجوع نسق المؤالفة، حيث تبدو كلماته مستوية الأوزان، ومتفقة الأعجاز بصوت واحد. وأتاح الترصيع المقطعي نسق المخالفة، حيث تتباين مقاطعه نوعا وإن تساوت عروضيا.
3 - 1 - 3 . الاشـتـاق :
من الاشتقاق قول الشاعر:
" دمعت عيـني إنمـا الدمع للسـ ر الذي يخفيه اللسان انجلاء
هاهنا تسكب الدموع وتهمى الـ عبرات الحرى ويحلو الدعاء " .
يتجلّى الاشتقاق بين كلمات: "دمعت" و"الدمع" و"الدموع". وأتاحت تجانسا صوتيا أفضى إلى انزياح صوتي. وحرص الشاعر على نثر تلك المتجانسات في حيز واحد. لكن ما دلالة الإكثار من الكلمات المنحدرة من سلالة الدمع، خاصة وأنه أنهى سلسلة المتجانسات بمرادف معنوي هو العبرات ؟
في أثناء طواف الشاعر بالبيت العتيق، انتابته أحاسيس عديدة؛ سرعان ما حوّلها إلى مواقف من قبيل: بريق الحق والحقيقة، طموح النفس إلى ذلك الوميض، الإقبال على موقف التوبة، التنكّر لإغراءات الدنيا، موقف الندم على الهدر وتضييع العمر في اتباع أهواء النفس. في خضمّ هذه الأجواء الروحانية، وفي أتون هذه التقلّبات النفسية التطهيرية، طفقت الدموع تنهمر. الشيء الذي جعل من الموازنة الصوتية بالاشتقاق دالا يخفي تلك المدلولات المتعدّدة؛ وذات الحمولة النفسية.
3 - 1 - 4 . الـجنـاس :
من الجناس قول الشاعر:
" أعطني مالي يا مليكُ أبيتَ اللّـ عْنَ. مالي في غير مالي ابتغاء ؟ " .
يشير الشاعر إلى قصة أخذ أبرهة إبل عبد المطلب سيد قريش ، فجاءه يُطالبه بها. وموطن الشاهد هو"مالي في غير مالي ابتغاء"، ف"مالي" الأولى تتضمّن معنى النفي، أي ليس لي؛ في حين أن "مالي" الثانية تعني الإبل وقيمتها المالية المرتفعة. فاتحدت الكلمتان صوتا واختلفتا معنى، مما حقق انزياحا بين الصوت والمعنى، إذ "يوجد تجانس صوتي حيث لا يوجد تجانس معنوي. وتقابل مدلولات يُفترض أنها مختلفة لِدوالّ تبدو متجانسة"
3 - 2 . الانزياح التركيبي :
يتراوح الانزياح التركيبي في قصيدة البيت المشرف بين التقديم والتأخير، والاعتراض.
- التقديم والتأخير :
من التقديم والتأخير قول الشاعر إسماعيل زويريق :
"غلب القلبَ في حماه انشراحُُ وأسى النفسَ من شَذاه حباءُ " .
قدم الشاعر المفعول وأخّر الفاعل مرتين. فقدّم "القلب" لأهميته لأنه مغلوب على أمره، نال منه الانشراح من فرط هيبة المقام المقدس. وقدم "النفس" لأنها هي من تعرّضت للشذى الذي يحفّ بالبيت. وحقق التقديم والتأخير الانزياح عن معيار مراعاة الترتيب.
ومن التقديم قوله أيضا :
" يثلج الصدرَ من سناه سناء لا يباريه في الوجود سناء " .
- الاعتراض :
من ذلك قوله :
" يزدهي مهجتي إلى الحجر الأسـ ود لي كل مرة إيماء " أخّر الشاعر الفاعل وقدم المفعول به، وفصل بينهما بقوله: "إلى الحجر الأسود لي كل مرة" ، ولهذا الإجراء نتيجة إيجابية تتمثل في تجنيب الشعر نثرية الجملة؛ وهو ما يتّضح من المقارنة بين الجملة في الأصل، والجملة ذاتها في الحال :
* جملة الأصل: يزدهي الإيماءُ مهجتي إلى الحجر الأسود لي كل مرة ،
* جملة الحال : يزدهي مهجتي .. البيت .
فلجملة البيت شعرية، لأن لها وقع عذب وجميل في النفس لا يبقى مع جملة الأصل.
وتَأتّى الانزياح التركيبي بفصل الشاعر بين متلازمين، وإنزاله أحد مكونات الجملة، وهو الفاعل، خارج إطاره العادي.
نستنتج مما سبق أن الكلام الشعري قد خرق قانون رصف الكلمات، فقلب النظام العادي
المتّبع في الترتيب تارة، وأخّر التَّماسّ بين العناصر الأساس تارة أخرى .
3 - 3 . الانزياح الدلالي :
تَمثّل الانزياح الدلالي في قصيدة الشاعر زويريق في الاستعارة، من ذلك قوله :
" وتمادت في نومها زمنا ما اسـ ـتيقظت إلا واحتساها الداء " .
تتجسّد الاستعارة في عبارة " احتساها الداء "، حيث استعار الشاعر للداء الاحتساء، وهو خاص بالإنسان، وحذف المستعار منه وأبقى على ما يدل عليه، وهو القرينة "احتساها" ؛ وبذلك كانت الاستعارة مكنية، خوّلت أنسنة الداء وتشخيصه. وأتاحت الاستعارة للبيت الشعري انزياحا دلاليا لمرور الواقعة الشعرية معها عبر زمنين متعاقبين، هما:
- زمن المنافرة الدلالية: الداء إنسان، أي تشبيه .
- زمن الملاءمة الدلالية: احتسى الداء الأمة، وفي هذه اللحظة يتحقق الانزياح.
وتضمّنت قصيدة البيت المشرف استعارة طريفة، اكتسبت طرافتها من قبل تعبيرها الفني على حالة الخشوع. قال الشاعر:
" هاهنا تُسكب الدموع وتَهْمي الـ عبرات الحرى ويحلو الدعاء " .
فعبارة "يحلو الدعاء" عبارة عن استعارة تراسل الحواس، حيث استعار الشاعر الحلاوة من ملف حاسة الذوق، للوقع العذب المرافق للدعاء قرب البيت الحرام. وما الدعاء إلا جمل تنبع من القلب وتخضع لحاسة السمع. فتداخلت العوالم لتعبر عن حالة قصوى يمكن أن يصلها بكاء الندم، ودمع التوبة، وعبرات الخشوع الخالص.
يظهر من الانزياح الدلالي أن الشاعر يعتقد في جدوى الاستعارة، وتلك قناعة نقدية مهمة؛ إذ لا شعر بدون استعارات، خصوصا وأنه قد أودعها شعرا دينيا. وهو الصنف الشعري الذي يتجنب الاستعارة والتخييل، ويتشبث في الغالب بالإطلاق الحقيقي للألفاظ. وهذا ملمح من ملامح تجديد الشاعر الشعر الديني .
4 - آلـية التـناص :
اعتمد الشاعر إسماعيل زويريق التناص ركحا لتجربته الشعرية. وتنوعت النصوص الغائبة التي استحضرها في حنايا قصيدة البيت المشرف، حيث نهل من القرآن الكريم، ومن الحديث النبوي، ومن السيرة النبوية، ومن الشعر العربي القديم.
4 - 1 . التناص مع القرآن الكريم :
4 - 1 - 1 . الاقتياس :
قال الشاعر:
" قد تناطوا من كل فج عميق أن تقصّى الأسماع منهم نداء " .
يتجلى الاقتباس في قوله: "من كل فج عميق"، ويتعالق مع قول الله تعالى: ( وأذِّن في الناس بالحجّ ياتوك رجالا وعلى كل ضامر ياتين من كل فجّ عميق ) .
ويبدو أن هنالك تطابقا بين النص الغائب والنص الحاضر، إذ حافظ الشاعر على معنى المقتبَس منه.
4 - 1 - 2 . التضمين :
من ذلك قول الشاعر :
" هو بيت الله الذي رُفعت في الـ أرض منه القواعد الشمّاء " .
يتمثل التضمين في قوله: "بيت الله الذي رفعت منه القواعد"، ويدخل في تضمين مع قول الله عز وجل: ( وإذ يرفع إبراهيمُ القواعد من البيت وإسماعيلُ ربّنا تقبّل منا إنك أنت السميع العليم ) .
4 - 2 . التناص مع الحديث النبوي :
قال الشاعر :
" حرمُ الله لا يُنَفَّرُ فيه طائر أو تقطَّعُ الميلاء " .
وهو تضمين لقول الرسول صلى الله عليه وسلّم في لُقَطَةِ الحَرَمِ ( عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: لا يُعْضَدُ عِضاها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لُقَطَتُها إ لا لِمُنْشِدِ ) .
4 - 3 . التناص مع السيرة النبوية :
قال الشاعر :
" إن للبـيت أيـها الـفيل ربـّا جُـنْدُهُ لا تـروعه هـيجـاء
أعطني مالي يا مليك أَبَيْتَ الل عْنَ. مالي في غير مالي ابتغاء " .
سرد الشاعر قصة أبرهة ملك اليمن ومحاولته هدم البيت المشرف بالفيل، وقصته مع عبد المطّلب " عن عائشة رضي الله عنها أن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير، فخرج عليه فيها. وقيل: هذا سيد قريش وصاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال، فلما ذكر حاجته قال: سقطت من عيني، جئت لأهدّم البيت الذي هو دينك ودين آبائك، فألهاك عنه ذود أخذ لك؛ فقال أنا رب الإبل، وللبيت ربّ سيمنعه " .
وقال الشاعر :
" وأتى مـحمودا من الله أمـر واضـح لا يـشوبه إِجـباء
وإذا بالـطير الأبابيل تلقـي أحجرا فيها الموت فيها الداء
ومضى أبرها وقد أبصر المو ت فلم يحم جسمه الخـلطاء
حفظ الله بـيته بالـذي أغْـ ـنى قريشا عمّا ترى وتشاء " .
وقد " ُرِويَ أن أبرهة بنى كنيسة بصنعاء، وأراد أن يصرف إليها الحاج، فأجّجت رفقة من العرب نارا فحملتها الريح فأحرقتها، فحلف ليهدمن الكعبة فخرج بالحبشة ومعه فيل
له اسمه محمود(…). فكانوا كلما وجّهوه إلى الحرم برك ولم يبرح، وإذا وجهوه إلى اليمن هرول؛ فأرسل الله طيرا سودا. مع كل طائر حجر في منقاره، وحجران في رجله (…) وعلى كل حجر اسم من يقع عليه، ففروا فهلكوا " .
ينمّ توظيف الشاعر معطيات السيرة والتعبير عنها شعرا عن جانب التجديد في شعره .
4 - 4 . التناص مع الشعر :
قال الشاعر إسماعيل زويريق :
" إنما المسلم الحقيقي من يكـ ـره أن تستمليه الأهواء" .
وهو تضمين لقول الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه :
" ولا خير في ودِّ امرئ متلوّنٍ إذا الريح مالت مال حيث تميلُ" .
لجأ شاعرنا إلى شعر جُبل صاحبه، وهو الإمام علي، على الورع والتقوى.
ومن التناص الشعري كذلك، قول الشاعر زويريق :
" وجدير بنا إذا لم نكن سـا دة قوم أن يختوِينا الفناء" .
وهو تضمين لقول أبي فراس الحمداني :
" ونحن أناس، لا توسّطَ عندنا لنا الصدر دون العالمين أو القبر" .
يدعو الشاعر زويريق الأمة الإسلامية إلى النهضة وإحياء الأمجاد والسيادة السابقة. وقرر أن يتعالق مع شعر شاعر عُرف بأنفته وشموخه.
يعكس التناص ثقافة الشاعر إسماعيل زويريق الدينية، فقد متح من القرآن الكريم، ومن الحديث النبوي الشريف، ومن السيرة النّبويّة. حتى اختياراته الشعرية كانت دينية حنيفة تحمل ورعا وشهامة. وقد أثّر المتناص معه في لغة الشاعر، حيث جعلها رصينة جزلة.
- استنتاجات وتقييم عام :
حققت قصيدة البيت المشرف للشاعر إسماعيل زويريق انزياحات عديدة على المستويات: الصوتي، والتركيبي، والدلالي. فأكثر من المتجانسات الصوتية تكرارا، وترصيعا، واشتقاقا، وجناسا. وحرص على جمع الموازنات الصوتية في حيز واحد، الشيء الذي كثّف الانزياح الصوتي. وبنى تركيبة جمله الشعرية على التقديم والتأخير تارة، وعلى الاعتراض تارة أخرى. فعمل الانزياح التركيبي على إضفاء صفة الاختلاف على كلامه الشعري بخلط الوحدات المكوّنة لجمله الشعرية. وهي الوظيفة ذاتها التي قدمتها الاستعارة
التي أناطها الشاعر بمهمة بناء الدلالة المجازية للقصيدة. فظهر انزياحها الدلالي، وإيغالها في مجازية التعبير عن مكنونات النفس أمام هيبة البيت المحرم وقدسيته. وعكست النصوص الغائبة بجلاء النهج الديني القويم الذي ارتضاه الشاعر إسماعيل زويريق.
وتحققت جدلية الغياب والحضور في قصيدة البيت المشرف، وجدّد شعره بأن أودعه نزعة قصصية نقلت ألينا أخبار الأجداد وأحوالهم في حلّة جمالية بهيّة قوامها شعري سردي .
وخلاصة القول، إن شعر الشاعر إسماعيل زويريق يعكس صدق عاطفته، بحيث لا يقول إلا ما ارتضته نفسه. وبنى قصائده على الخرق لاقتناعه بجدوى شاعرية الانزياح. كما أسّسها على التناص، إيمانا منه بفعالية التناص. فيجد القارئ نفسه في خضمّ عوالم عديدة، وأمام عدة نصوص غائبة؛ تتواصل مع راهنية القصيدة، وتتواشج فيما بينها داخل رقعة القصيدة في انسجام ووِئام .
ـــــــــــــــــــــــ
فهرس
- على النّهج ، الجزء الثاني ، صص : من 28 إلى 40 .
- ينتمي مفهوم الانزياح إلى البلاغة وإلى الشعرية، واهتمّت البلاغة العربية بدراسة مختلف أوجه المفهوم. واعتنى به منظرو البلاغة الغربية، فقد عرّفه "جان كوهن" بقوله: " الانزياح في الشعر خطأ متعمد يُستهدف من ورائه الوقوف على تصحيحه الخاص " بنية اللغة الشعرية، ص: 194. ترجمة محمد الولي ومحمد العمري.
- على النهج، جزء 2 / 31 و 32 .
- الإمام الزمخشري : الكشّاف، ج 1 / 187 .
- " وكان صلى الله عليه وسلم الواضع للحجر الأسود في محله بيده الشريفة، أي عند بناء قريش الكعبة " الفقير يوسف النبهاني ، جواهر البحار في فضائل النبي المختار: جزء 3 / 1156 .
- على النهج، جزء 2 / 28 .
- الديوان نفسه.
- نفسه .
- على النهج ، ج 2 / 34.
- على النهج ، ج 2 / 30.
- على النهج ، ج 2 / 33.
- العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، ج 2 / 26 . وينظر كتاب الباحث محمد العمري : تحليل الخطاب الشعري- البنية الصوتية في الشعر من ص: 11 إلى 138 . وكتاب الباحث حسن الغرفي : حركية الإيقاع في الشعر العربي المعاصر من ص: 44 إلى 46 .
- يُنظر ابن رشيق في العمدة ، ج 2 / 25 و26 .
- على النهج ، ج 2 / 28 .
- على النهج ، ج 2 / 35 .
- على النهج ، ج 2 / 36 .
- عرّف أبو القاسم السجلماسي الاشتقاق بقوله : " هو لفظ يُشتق من لفظ " المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع ، ص : 499 .
- على النهج ، ج 2 / 31 .
- عرّف أبو هلال العسكري الجناس قائلا : " التجنيس أن يورد المتكلم كلمتين تجانس كل واحدة منهما صاحبتها في تأليف حروفها. فمنه ما تكون الكلمة تجانس الأخرى لفظا واشتقاق معنى، ومنه ما يجانسه في تأليف الحروف دون المعنى " كتاب الصناعتين : 321 .
- على النهج ، ج 2 / 32 .
- سأفصّل القول بشأن تلك القصة عند معالجة التناص في هذه الدراسة .
- بنية اللغة الشعرية : 164 .
- عرّف عبد القاهر الجرجاني التقديم والتأخير بقوله : " هو تقديم المتكلم ما حقه التأخير ، وتأخيره ما حقه التقديم؛ بحيث يُحوّل اللفظ من مكان إلى مكان " دلائل الإعجاز : 83 .
- على النهج ، ج 2 / 28 .
- على النهج ، ج 2 / 35 .
- نفسـه .
- على النهج ، ج 2 / 37 .
- على النهج ، ج 2 / 31 .
- التناص بالنسبة لحازم القرطاجني هو : " أن يكون المعنى مرتّبا على معنى آخر لا يمكنه فهمه إلا به ، فقد يكون المعنى المبني عليه داخل الكلام وخارجه " منهاج البلغاء وسراج الأدباء : 38 .
- على النهج ، ج 2 / 36 .
- الحجّ : 25 .
- على النهج ، ج 2 / 30 .
- البقرة : 126 .
- على النهج ، ج 2 / 34 .
- صحيح البخاري : كتاب الّلقطة ، باب كيف تعرف لقطة أهل مكة ، رقم الحديث : 2301 .
- على النهج ، ج 2 / 32 .
- الإمام الزمخشري : الكشاف عن حقائق غوامض التّنزيل، ج 4 / 798 .
- على النهج ، ج 2 / 33 .
- الكشاف عن حقائق التنزيل : ج 4 / 797 .
- على النهج ، ج 2 / 39 .
- ديوان الإمام علي : 157 .
- على النهج ، ج 2 / 40 .
- شرح ديوان أبي فراس : 12 .
المصادر والمراجع :
• القرآن الكريم برواية ورش .
• بنية اللغة الشعرية. جان كوهن. ترجمة محمد الولي ومحمد العمري. دار توبقال. الدار البيضاء. ط 1 . 1986 .
• تحليل الخطاب الشعري. البنية الصوتية في الشعر. محمد العمري. الدار العالمية للكتاب. الدار البيضاء. ط 1 . 1990 .
• جواهر البحار في فضائل النبي المختار. الفقير يوسف النبهاني. بيروت.
• حركية الإيقاع في الشعر العربي المعاصر. حسن الغرفي. إفريقيا الشرق. الدار البيضاء. ط 1. 2001 .
• دلائل الإعجاز. عبد القاهر الجرجاني. تحقيق محمد رشيد رضا. دار المعرفة. بيروت. ط 2 .
• ديوان الإمام علي. جمع وشرح نعيم زرزور. دار الكتب العلمية. بيروت.ط1. 1985.
• شرح ديوان أبي فراس الحمداني. دار الحياة. بيروت. ط 1.
• صحيح البخاري. شرح وتحقيق الشيخ قاسم الشماعي الرفاعي. دار القلم بيروت.
ط 1. 1987.
• على النّهج. الجزء الثاني. إسماعيل زويريق. دار وليلي. مراكش. ط 1. 2006 .
• العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده. ابن رشيق القيرواني. تحقيق محيي الدين عبد الحميد. ط 1. 1972.
• كتاب الصناعتين. أبو هلال العسكري. تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم. بيروت. 1986.
• الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل. الزمخشري. القاهرة. ط 1. 1946.
• المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع. أبو القاسم السجلماسي. تحقيق علال الغازي. الرباط. ط 1. 1980.
• منهاج البلغاء وسراج الأدباء. حازم القرطاجني. تحقيق محمد الحبيب بن الخوجة. ط 2 . 1981 .
--------------------------
الكاتب: د.الحسن بواجلابن
20/05/2007
إسماعيل زويريققدّم الشاعر إسماعيل زويريق للمشهد الشعري المغربي الحديث رافدا شعريا يحمل الجديد سواء في الشكل العمودي الخليلي، أم في شعر التفعيلة، أم في قصيدة النثر. وهو ما يتضح من خلال ما جادت به قريحته من دواوينه المتعدّدة، ذات المواضيع المتباينة. ومما زاد شعرَه بهاء، مشاركتُه في عدة منتديات وملتقيات ثقافية؛ وجمعُه شعره. فعرّف بإبداعه الشعري، وكفى القراء والدارسين عناء البحث عن أشعاره.
نسق الانزياح وآلية التناص في شعر إسماعيل زويريق (البيت المشرّف1 نموذجا)
* عـناصـر الدراسة :
- توطئة
1 -دلائلية عنوان الديوان
2 -دلائلية عنوان المقطوعة الشعرية
3 -نسق الانزياح في قصيدة (البيت المشرف)
3 - 1 . الانزياح الصوتي
3 -2 . الانزياح التركيبي
3 -3 . الانزياح الدلالي
4 -آلية التناص
4 - 1 . التناص مع القرآن الكريم
4 - 2 . التناص مع الحديث النبوي
4 - 3 . التناص مع السيرة النبوية
4 - 4 . التناص مع الشعر.
استنتاجات وتقييم عام .
ـــــــــــــــــــــــ
تـوطئة :
قدّم الشاعر إسماعيل زويريق للمشهد الشعري المغربي الحديث رافدا شعريا يحمل الجديد سواء في الشكل العمودي الخليلي، أم في شعر التفعيلة، أم في قصيدة النثر. وهو ما يتضح من خلال ما جادت به قريحته من دواوينه المتعدّدة، ذات المواضيع المتباينة. ومما زاد شعرَه بهاء، مشاركتُه في عدة منتديات وملتقيات ثقافية؛ وجمعُه شعره. فعرّف بإبداعه الشعري، وكفى القراء والدارسين عناء البحث عن أشعاره.
وتمتح تجربته الشعرية الطويلة من التراث، ومن الآداب الغربية. واخْتَطَّ لنفسه نهجا شعريا خاصا. وهي تجربة ألقت على عاتقها الاهتمام بمختلف القضايا مغربية كانت، أم عربية، أم غربية. الشيء الذي أكسب شعره التزاما من جهة، ومسحة توثيقية من جهة ثانية. وتحملك دواوينه التي تربو على العشرين إلى عوالمه التي شيّدها بعناية.
كل ذلك، وغيره، أثار في نفسي رغبة قراءة شعر هذا الشاعر المتواضع. فقرّرتُ دراسة مقطوعته (البيت المشرّف) ، لِما تتيحه لي من رؤية، عن كثب، لشاكلة تعامل الشاعر مع التراث، ولكيفية صياغته قصيدة الشعر الديني؛ علاوة على معرفة الجديد الذي أضافه عبر معالجة أسس الشاعرية لديه .
1 -دلائلية عنوان الديوان :
اكتفى الشاعر إسماعيل زويريق في عنونة مجموعته الشعرية الأخيرة بتركيبة الجار والمجرور ( على النّهج )، أي شبه الجملة. فالعنوان خبر مقدّم، وأين المبتدأ المؤخر؟
تخبر بذلك تركيبة شبه الجملة في النحو العربي، خصوصا في مسألة تعلّق شبه الجملة. فحروف الجر تتعلق بالفعل أو ما يشبهه من المشتقات أو المصدر. وعلى القارئ أن يُقدر المبتدأ المؤخر الذي تعمّد الشاعر حذفه. بناء عليه سيكون العنوان، هو: على النهج أسير.
فعن أيّ نهج يتحدث الشاعر زويريق ؟ نلفي الجواب منذ العتبة النّصيّة: الغلاف، وتحديدا في الصورة المرافقة للعنوان، حيث يظهر بيت الله الحرام، والحرم المكي، ومدخل فسيح ُتعبّر أشكال تنميقه عن الحضارة الإسلامية. فمن خلال قرينة حال الإيقونة، ظهر النهج الذي ارتضاه الشاعر زويريق لنفسه ولشاعريته.
وبالانتقال إلى عنوان المقطوعة التي وقع عليها اختياري،" البيت المشرف "، يزداد نهج
الشاعر وضوحا نظرا لانتقالنا بين العتبات النصية من العام إلى الخاص.
2 -دلائلية عنوان المقطوعة :
يشي العنوان "البيت المشرف" بأن الكلام الشعري قد خصّصه الشاعر للمكان المقدس لا محالة. فما عساها تكون مزاياه ؟
إن البيت العتيق هو المكان الذي أتاح الله له أن يكتنز عدة مهام جسام، بوّأته المحل الأرفع. فهو مكان حجّ إليه العرب، وطافوا حوله منذ الحقبة الجاهلية، وأدّوا الصلاة مُكاء وتصدية. الكعبة المشرفة مكان حج المسلمين. ومن وشايات العنوان أيضا، أنه بيت شرّفه الله تعالى منذ الأزل، حيث أمر ربّ العزة جلّت قدرته إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ببناء البيت ورفع القواعد. ومادام المكان قد أوحى للشاعر زويريق شعرا، فلاشك أنه استحضر المعلقات الجاهلية، وكتابتها، وتعليقها على أستار الكعبة؛ وهذه وشاية أخرى للعنوان.
سنجد هذه الموضوعات وغيرها داخل القصيدة خلال دراسة أشكال الانزياح والتناص.
3 -نسق الانزياح في قصيدة (البيت المشرف) :
لوصف لغة الشعر في اشتغالها الخاص، لابد من توظيف مفهوم الانزياح . ويفترض الحديث عنه وجود أصل يُنزاح عنه هو المعيار.ونلفي ثلاثة أقسام من الانزياح، هي: الصوتي، والتركيبي، والدلالي.
3 - 1 . الانزياح الصوتي :
تتراوح أشكال الانزياح الصوتي في قصيدة (البيت المشرف) بين التكرار، والترصيع، والاشتقاق، والجناس.
3 -1 - 1 . التـكـرار :
تراوح التكرار بين تكرير الكلمة، وتكرار الجملة.
- تكرار الكلمة:
من ذلك قول الشاعر إسماعيل زويريق :
" حجر ما اسودّت حناياه إلا من خطاياك أيـها الخطّاء
حجر لو نجا لطبَّقَ ما بي ن الوجودين نوره الوضّاء "
كرّر الشاعر لفظ "حجر" لِما له من قدسية عريقة منذ القدم، سواء في الجاهلية أو الإسلام. وعزا سواد حجر البيت المحرم إلى كثرة خطايا الناس. وأشاد بذلك الحجر الذي لا تُدانيه أحجار الدنيا، فقد "جاء جبريل البيت بالحجر الأسود من السماء" .
وتتداعى من الحجر قصة اختلاف العرب بشأن القبيلة التي تحمل الحجر الأسود إلى البيت المحرم ، واتفاقهم على الاحتكام إلى أول وافد عليهم ؛ وكان هو شخص الرسول صلى الله
عليه وسلم .
من تكرار الكلمة، "البيت". فقد ورد في العنوان موصوفا بصفة الشرف، وخصّه الشاعر بالمميّزات الآتية:
- فهو مدعاة للطمأنينة، إذ بعث منظره ارتياحا في نفسه، واستشعر حلاوة الشفاء في جسمه السقيم؛ حيث قال:
" ما تجلّى لعيني البيت حتى دبّ في جسمي العليل شفاء " .
- البيت سبب دهشة الشاعر، فله قدسيته وهالته:
" فإذا بي من هيبة البيت مَشدو هُُ ومن فَغْمَة الأريج ِوعاء " .
- تفرّد البيت بالسموّ ورفعة الشأن، بحيث لا تقوى على مجاراته البنايات البشرية كالأهرام وغيرها:
" هو ذا البيت لا تساميه أهرا م ولا يرتقي عليه بناء "
ومن تكرار الكلمة أيضا، قوله :
" به نالت ما لم تنله بلاد أبد الدهر هذه الأنحاء
من فخار وسؤدد ليس يعلو فوقه سؤدد ولا علياء "
يتجلى التكرار في "نالت" و"سؤدد"، وورد التكراران في معرض مدح الشاعر زويريق شخص الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كثر عطاءه، وتعدّدت فضائله. به نالت الجزيرة العربية من المكارم والمعالي ما لم تعرفه أي أرض.
أشاع التكرار تجانسا صوتيا حقق انزياحا على المستوى الصوتي، انضاف إلى نسق آخر مغاير، إنه التضمين إذ افتقر البيت الأول إلى الثاني ليتمّ معناه؛ فتحقق الانزياح بين الصوت والمعنى.
لقد أشاعت كلمات: حجر، والبيت، ونالت، وسؤدد تجانسا صوتيا حرص الشاعر على إيراده في حيز واحد،مما أضفى على كلامه الشعري انزياحا صوتيا من جهة، وموسيقى داخلية من جهة ثانية.
- تكرار الجملة :
وذلك مثل قول الشاعر:
" هو بيت الله الذي وضعتـه ها هنا في هذا الوجود السماء
هو بيت الله الذي رفعت في ال أرض منه القـواعد الشـماء "
أفاد تكرار جملة "هو بيت الله " دلالة توكيد أن البيت الحرام هو أول بيت بني بمكة بأمر من الله تعالى، علاوة على تأكيد دلالة أنه البيت الذي رفع أساسه إبراهيم الخليل بالبناء.
وأدى التكرار إلى تجانس صوتي افتتاحي.
ونلاحظ أن هذا النسق من الانزياح بالتجانس الصوتي قد ورد في قوله أيضا:
" حفظ الله بيته بالـذي أغـ نى قريشا عما تـرى وتشاء
قد حمى الله بيته، أي بيت فوق هذا الثرى حمته السماء " .
يتبيّن مما سبق أن محسّن التكرار يصدر عن الدلالة العامة للقصيدة، فمهمته هي توضيح المعنى، أو تأكيده، أو إثراءه.
ويحضر التكرار بشكل مكثّف، الشيء الذي يقوّي الانزياح. كما يحضر بشاكلة منظمة،
فغالبا ما يرد التكرار افتتاحيا سواء في تكرار الكلمة أم في تكرار الجملة.
3 - 1 - 2 . التـرصيـع :
عرّف ابن رشيق القيرواني الترصيع بقوله : " إذا كان تقطيع الأجزاء مسجوعا أو شبيها
بالمسجوع، فذلك هو الترصيع عند قدامة " . اكتفى هذا التعريف بقسمي الترصيع: الصرفي المسجوع، والصرفي. و عرض للترصيع المقطعي أيضا، إذ حصره في تساوي المقاطع عروضيا، وإن اختلفت نوعا . وبناء عليه، فالترصيع هو تجانس الصوائت وتوازنها نوعا، أو سجعا، أو مقطعا. ونجد في قصيدة البيت المشرف الترصيعات : الصرفي المسجوع، والصرفي؛ والمقطعي. - الترصيع الصرفي المسجوع:
نحو قول الشاعر:
" فإذا بي من هيبة البيت مشدو هُُ ومن فغمة الأريج وعاء " .
بين "هيبة" و"فغمة" ترصيع صرفي مسجوع ، فللكلمتين الوزن الصرفي ذاته، وكلتاهما مختومة بالتاء. واجتمع التكرار "من" والترصيع المسجوع. وخدما معا وزن الخفيف، علاوة على ما أتاحه النّسقان من انزياح بالتجانس الصوتي وموسيقى داخلية.
- الترصيع الصرفي:
كقول الشاعر :
" أرسل الطرف والمكان سنيّ أطرق السمع والجموع نداء " .
وهذه خطاطة توضيحية لشاكلة ورود الترصيع في رقعة البيت الشعري :
" أرسل الطرف والمكان سنيّ أطرق السمع والجموع نداء "
ـــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــ
نلفي ترصيعين صرفيين بين "أرسل" و"أطرق" وبين"الطرف" و"السمع"، وهما واردان من قبل التوازي النحوي، كما نجد ترصيعين مقطعيين بين "المكان" و"الجموع" ثم بين "سني" و"نداء" .
نلاحظ سيطرة الترصيع التي توازي في المرجع سيطرة السناء على المكان، وهيمنة النداء الموحّد على جموع الحجاج الغفيرة. وأدّى إكثار الشاعر من الترصيع إلى تحقيق موازنة صوتية جيدة، مما كثف الانزياح الصوتي.
- الترصيع المقطعي :
وذلك كقول الشاعر :
" ما أنا إلا ذرة في رحـاب ال بيت تسعى دوّارة أو هَبــاء
أو كأنّي تحت السماء نجـيم دائر والبـيت العتيق ذُكــاء " .
حصل الترصيع المقطعي بين "السماء" و" العتيق" وبين "نجيم" و"ذكاء"، وهو ما وفّر تجانسا صوتيا، خدم الموسيقى الداخلية للبيت الشعري من جهة؛ وحقّق انزياحا صوتيا من جهة ثانية.
نستنتج مما تقدم اقتران نسق الترصيع بنسق التكرار من جهة، وحضور الترصيعين: الصرفي والمقطعي في رقعة البيت الشعري الواحد من جهة ثانية. ويرد الترصيع في هيئة نسق التوازي التركيبي.
و قد حقق الترصيع المسجوع نسق المؤالفة، حيث تبدو كلماته مستوية الأوزان، ومتفقة الأعجاز بصوت واحد. وأتاح الترصيع المقطعي نسق المخالفة، حيث تتباين مقاطعه نوعا وإن تساوت عروضيا.
3 - 1 - 3 . الاشـتـاق :
من الاشتقاق قول الشاعر:
" دمعت عيـني إنمـا الدمع للسـ ر الذي يخفيه اللسان انجلاء
هاهنا تسكب الدموع وتهمى الـ عبرات الحرى ويحلو الدعاء " .
يتجلّى الاشتقاق بين كلمات: "دمعت" و"الدمع" و"الدموع". وأتاحت تجانسا صوتيا أفضى إلى انزياح صوتي. وحرص الشاعر على نثر تلك المتجانسات في حيز واحد. لكن ما دلالة الإكثار من الكلمات المنحدرة من سلالة الدمع، خاصة وأنه أنهى سلسلة المتجانسات بمرادف معنوي هو العبرات ؟
في أثناء طواف الشاعر بالبيت العتيق، انتابته أحاسيس عديدة؛ سرعان ما حوّلها إلى مواقف من قبيل: بريق الحق والحقيقة، طموح النفس إلى ذلك الوميض، الإقبال على موقف التوبة، التنكّر لإغراءات الدنيا، موقف الندم على الهدر وتضييع العمر في اتباع أهواء النفس. في خضمّ هذه الأجواء الروحانية، وفي أتون هذه التقلّبات النفسية التطهيرية، طفقت الدموع تنهمر. الشيء الذي جعل من الموازنة الصوتية بالاشتقاق دالا يخفي تلك المدلولات المتعدّدة؛ وذات الحمولة النفسية.
3 - 1 - 4 . الـجنـاس :
من الجناس قول الشاعر:
" أعطني مالي يا مليكُ أبيتَ اللّـ عْنَ. مالي في غير مالي ابتغاء ؟ " .
يشير الشاعر إلى قصة أخذ أبرهة إبل عبد المطلب سيد قريش ، فجاءه يُطالبه بها. وموطن الشاهد هو"مالي في غير مالي ابتغاء"، ف"مالي" الأولى تتضمّن معنى النفي، أي ليس لي؛ في حين أن "مالي" الثانية تعني الإبل وقيمتها المالية المرتفعة. فاتحدت الكلمتان صوتا واختلفتا معنى، مما حقق انزياحا بين الصوت والمعنى، إذ "يوجد تجانس صوتي حيث لا يوجد تجانس معنوي. وتقابل مدلولات يُفترض أنها مختلفة لِدوالّ تبدو متجانسة"
3 - 2 . الانزياح التركيبي :
يتراوح الانزياح التركيبي في قصيدة البيت المشرف بين التقديم والتأخير، والاعتراض.
- التقديم والتأخير :
من التقديم والتأخير قول الشاعر إسماعيل زويريق :
"غلب القلبَ في حماه انشراحُُ وأسى النفسَ من شَذاه حباءُ " .
قدم الشاعر المفعول وأخّر الفاعل مرتين. فقدّم "القلب" لأهميته لأنه مغلوب على أمره، نال منه الانشراح من فرط هيبة المقام المقدس. وقدم "النفس" لأنها هي من تعرّضت للشذى الذي يحفّ بالبيت. وحقق التقديم والتأخير الانزياح عن معيار مراعاة الترتيب.
ومن التقديم قوله أيضا :
" يثلج الصدرَ من سناه سناء لا يباريه في الوجود سناء " .
- الاعتراض :
من ذلك قوله :
" يزدهي مهجتي إلى الحجر الأسـ ود لي كل مرة إيماء " أخّر الشاعر الفاعل وقدم المفعول به، وفصل بينهما بقوله: "إلى الحجر الأسود لي كل مرة" ، ولهذا الإجراء نتيجة إيجابية تتمثل في تجنيب الشعر نثرية الجملة؛ وهو ما يتّضح من المقارنة بين الجملة في الأصل، والجملة ذاتها في الحال :
* جملة الأصل: يزدهي الإيماءُ مهجتي إلى الحجر الأسود لي كل مرة ،
* جملة الحال : يزدهي مهجتي .. البيت .
فلجملة البيت شعرية، لأن لها وقع عذب وجميل في النفس لا يبقى مع جملة الأصل.
وتَأتّى الانزياح التركيبي بفصل الشاعر بين متلازمين، وإنزاله أحد مكونات الجملة، وهو الفاعل، خارج إطاره العادي.
نستنتج مما سبق أن الكلام الشعري قد خرق قانون رصف الكلمات، فقلب النظام العادي
المتّبع في الترتيب تارة، وأخّر التَّماسّ بين العناصر الأساس تارة أخرى .
3 - 3 . الانزياح الدلالي :
تَمثّل الانزياح الدلالي في قصيدة الشاعر زويريق في الاستعارة، من ذلك قوله :
" وتمادت في نومها زمنا ما اسـ ـتيقظت إلا واحتساها الداء " .
تتجسّد الاستعارة في عبارة " احتساها الداء "، حيث استعار الشاعر للداء الاحتساء، وهو خاص بالإنسان، وحذف المستعار منه وأبقى على ما يدل عليه، وهو القرينة "احتساها" ؛ وبذلك كانت الاستعارة مكنية، خوّلت أنسنة الداء وتشخيصه. وأتاحت الاستعارة للبيت الشعري انزياحا دلاليا لمرور الواقعة الشعرية معها عبر زمنين متعاقبين، هما:
- زمن المنافرة الدلالية: الداء إنسان، أي تشبيه .
- زمن الملاءمة الدلالية: احتسى الداء الأمة، وفي هذه اللحظة يتحقق الانزياح.
وتضمّنت قصيدة البيت المشرف استعارة طريفة، اكتسبت طرافتها من قبل تعبيرها الفني على حالة الخشوع. قال الشاعر:
" هاهنا تُسكب الدموع وتَهْمي الـ عبرات الحرى ويحلو الدعاء " .
فعبارة "يحلو الدعاء" عبارة عن استعارة تراسل الحواس، حيث استعار الشاعر الحلاوة من ملف حاسة الذوق، للوقع العذب المرافق للدعاء قرب البيت الحرام. وما الدعاء إلا جمل تنبع من القلب وتخضع لحاسة السمع. فتداخلت العوالم لتعبر عن حالة قصوى يمكن أن يصلها بكاء الندم، ودمع التوبة، وعبرات الخشوع الخالص.
يظهر من الانزياح الدلالي أن الشاعر يعتقد في جدوى الاستعارة، وتلك قناعة نقدية مهمة؛ إذ لا شعر بدون استعارات، خصوصا وأنه قد أودعها شعرا دينيا. وهو الصنف الشعري الذي يتجنب الاستعارة والتخييل، ويتشبث في الغالب بالإطلاق الحقيقي للألفاظ. وهذا ملمح من ملامح تجديد الشاعر الشعر الديني .
4 - آلـية التـناص :
اعتمد الشاعر إسماعيل زويريق التناص ركحا لتجربته الشعرية. وتنوعت النصوص الغائبة التي استحضرها في حنايا قصيدة البيت المشرف، حيث نهل من القرآن الكريم، ومن الحديث النبوي، ومن السيرة النبوية، ومن الشعر العربي القديم.
4 - 1 . التناص مع القرآن الكريم :
4 - 1 - 1 . الاقتياس :
قال الشاعر:
" قد تناطوا من كل فج عميق أن تقصّى الأسماع منهم نداء " .
يتجلى الاقتباس في قوله: "من كل فج عميق"، ويتعالق مع قول الله تعالى: ( وأذِّن في الناس بالحجّ ياتوك رجالا وعلى كل ضامر ياتين من كل فجّ عميق ) .
ويبدو أن هنالك تطابقا بين النص الغائب والنص الحاضر، إذ حافظ الشاعر على معنى المقتبَس منه.
4 - 1 - 2 . التضمين :
من ذلك قول الشاعر :
" هو بيت الله الذي رُفعت في الـ أرض منه القواعد الشمّاء " .
يتمثل التضمين في قوله: "بيت الله الذي رفعت منه القواعد"، ويدخل في تضمين مع قول الله عز وجل: ( وإذ يرفع إبراهيمُ القواعد من البيت وإسماعيلُ ربّنا تقبّل منا إنك أنت السميع العليم ) .
4 - 2 . التناص مع الحديث النبوي :
قال الشاعر :
" حرمُ الله لا يُنَفَّرُ فيه طائر أو تقطَّعُ الميلاء " .
وهو تضمين لقول الرسول صلى الله عليه وسلّم في لُقَطَةِ الحَرَمِ ( عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: لا يُعْضَدُ عِضاها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لُقَطَتُها إ لا لِمُنْشِدِ ) .
4 - 3 . التناص مع السيرة النبوية :
قال الشاعر :
" إن للبـيت أيـها الـفيل ربـّا جُـنْدُهُ لا تـروعه هـيجـاء
أعطني مالي يا مليك أَبَيْتَ الل عْنَ. مالي في غير مالي ابتغاء " .
سرد الشاعر قصة أبرهة ملك اليمن ومحاولته هدم البيت المشرف بالفيل، وقصته مع عبد المطّلب " عن عائشة رضي الله عنها أن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير، فخرج عليه فيها. وقيل: هذا سيد قريش وصاحب عير مكة الذي يطعم الناس في السهل والوحوش في رؤوس الجبال، فلما ذكر حاجته قال: سقطت من عيني، جئت لأهدّم البيت الذي هو دينك ودين آبائك، فألهاك عنه ذود أخذ لك؛ فقال أنا رب الإبل، وللبيت ربّ سيمنعه " .
وقال الشاعر :
" وأتى مـحمودا من الله أمـر واضـح لا يـشوبه إِجـباء
وإذا بالـطير الأبابيل تلقـي أحجرا فيها الموت فيها الداء
ومضى أبرها وقد أبصر المو ت فلم يحم جسمه الخـلطاء
حفظ الله بـيته بالـذي أغْـ ـنى قريشا عمّا ترى وتشاء " .
وقد " ُرِويَ أن أبرهة بنى كنيسة بصنعاء، وأراد أن يصرف إليها الحاج، فأجّجت رفقة من العرب نارا فحملتها الريح فأحرقتها، فحلف ليهدمن الكعبة فخرج بالحبشة ومعه فيل
له اسمه محمود(…). فكانوا كلما وجّهوه إلى الحرم برك ولم يبرح، وإذا وجهوه إلى اليمن هرول؛ فأرسل الله طيرا سودا. مع كل طائر حجر في منقاره، وحجران في رجله (…) وعلى كل حجر اسم من يقع عليه، ففروا فهلكوا " .
ينمّ توظيف الشاعر معطيات السيرة والتعبير عنها شعرا عن جانب التجديد في شعره .
4 - 4 . التناص مع الشعر :
قال الشاعر إسماعيل زويريق :
" إنما المسلم الحقيقي من يكـ ـره أن تستمليه الأهواء" .
وهو تضمين لقول الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه :
" ولا خير في ودِّ امرئ متلوّنٍ إذا الريح مالت مال حيث تميلُ" .
لجأ شاعرنا إلى شعر جُبل صاحبه، وهو الإمام علي، على الورع والتقوى.
ومن التناص الشعري كذلك، قول الشاعر زويريق :
" وجدير بنا إذا لم نكن سـا دة قوم أن يختوِينا الفناء" .
وهو تضمين لقول أبي فراس الحمداني :
" ونحن أناس، لا توسّطَ عندنا لنا الصدر دون العالمين أو القبر" .
يدعو الشاعر زويريق الأمة الإسلامية إلى النهضة وإحياء الأمجاد والسيادة السابقة. وقرر أن يتعالق مع شعر شاعر عُرف بأنفته وشموخه.
يعكس التناص ثقافة الشاعر إسماعيل زويريق الدينية، فقد متح من القرآن الكريم، ومن الحديث النبوي الشريف، ومن السيرة النّبويّة. حتى اختياراته الشعرية كانت دينية حنيفة تحمل ورعا وشهامة. وقد أثّر المتناص معه في لغة الشاعر، حيث جعلها رصينة جزلة.
- استنتاجات وتقييم عام :
حققت قصيدة البيت المشرف للشاعر إسماعيل زويريق انزياحات عديدة على المستويات: الصوتي، والتركيبي، والدلالي. فأكثر من المتجانسات الصوتية تكرارا، وترصيعا، واشتقاقا، وجناسا. وحرص على جمع الموازنات الصوتية في حيز واحد، الشيء الذي كثّف الانزياح الصوتي. وبنى تركيبة جمله الشعرية على التقديم والتأخير تارة، وعلى الاعتراض تارة أخرى. فعمل الانزياح التركيبي على إضفاء صفة الاختلاف على كلامه الشعري بخلط الوحدات المكوّنة لجمله الشعرية. وهي الوظيفة ذاتها التي قدمتها الاستعارة
التي أناطها الشاعر بمهمة بناء الدلالة المجازية للقصيدة. فظهر انزياحها الدلالي، وإيغالها في مجازية التعبير عن مكنونات النفس أمام هيبة البيت المحرم وقدسيته. وعكست النصوص الغائبة بجلاء النهج الديني القويم الذي ارتضاه الشاعر إسماعيل زويريق.
وتحققت جدلية الغياب والحضور في قصيدة البيت المشرف، وجدّد شعره بأن أودعه نزعة قصصية نقلت ألينا أخبار الأجداد وأحوالهم في حلّة جمالية بهيّة قوامها شعري سردي .
وخلاصة القول، إن شعر الشاعر إسماعيل زويريق يعكس صدق عاطفته، بحيث لا يقول إلا ما ارتضته نفسه. وبنى قصائده على الخرق لاقتناعه بجدوى شاعرية الانزياح. كما أسّسها على التناص، إيمانا منه بفعالية التناص. فيجد القارئ نفسه في خضمّ عوالم عديدة، وأمام عدة نصوص غائبة؛ تتواصل مع راهنية القصيدة، وتتواشج فيما بينها داخل رقعة القصيدة في انسجام ووِئام .
ـــــــــــــــــــــــ
فهرس
- على النّهج ، الجزء الثاني ، صص : من 28 إلى 40 .
- ينتمي مفهوم الانزياح إلى البلاغة وإلى الشعرية، واهتمّت البلاغة العربية بدراسة مختلف أوجه المفهوم. واعتنى به منظرو البلاغة الغربية، فقد عرّفه "جان كوهن" بقوله: " الانزياح في الشعر خطأ متعمد يُستهدف من ورائه الوقوف على تصحيحه الخاص " بنية اللغة الشعرية، ص: 194. ترجمة محمد الولي ومحمد العمري.
- على النهج، جزء 2 / 31 و 32 .
- الإمام الزمخشري : الكشّاف، ج 1 / 187 .
- " وكان صلى الله عليه وسلم الواضع للحجر الأسود في محله بيده الشريفة، أي عند بناء قريش الكعبة " الفقير يوسف النبهاني ، جواهر البحار في فضائل النبي المختار: جزء 3 / 1156 .
- على النهج، جزء 2 / 28 .
- الديوان نفسه.
- نفسه .
- على النهج ، ج 2 / 34.
- على النهج ، ج 2 / 30.
- على النهج ، ج 2 / 33.
- العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، ج 2 / 26 . وينظر كتاب الباحث محمد العمري : تحليل الخطاب الشعري- البنية الصوتية في الشعر من ص: 11 إلى 138 . وكتاب الباحث حسن الغرفي : حركية الإيقاع في الشعر العربي المعاصر من ص: 44 إلى 46 .
- يُنظر ابن رشيق في العمدة ، ج 2 / 25 و26 .
- على النهج ، ج 2 / 28 .
- على النهج ، ج 2 / 35 .
- على النهج ، ج 2 / 36 .
- عرّف أبو القاسم السجلماسي الاشتقاق بقوله : " هو لفظ يُشتق من لفظ " المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع ، ص : 499 .
- على النهج ، ج 2 / 31 .
- عرّف أبو هلال العسكري الجناس قائلا : " التجنيس أن يورد المتكلم كلمتين تجانس كل واحدة منهما صاحبتها في تأليف حروفها. فمنه ما تكون الكلمة تجانس الأخرى لفظا واشتقاق معنى، ومنه ما يجانسه في تأليف الحروف دون المعنى " كتاب الصناعتين : 321 .
- على النهج ، ج 2 / 32 .
- سأفصّل القول بشأن تلك القصة عند معالجة التناص في هذه الدراسة .
- بنية اللغة الشعرية : 164 .
- عرّف عبد القاهر الجرجاني التقديم والتأخير بقوله : " هو تقديم المتكلم ما حقه التأخير ، وتأخيره ما حقه التقديم؛ بحيث يُحوّل اللفظ من مكان إلى مكان " دلائل الإعجاز : 83 .
- على النهج ، ج 2 / 28 .
- على النهج ، ج 2 / 35 .
- نفسـه .
- على النهج ، ج 2 / 37 .
- على النهج ، ج 2 / 31 .
- التناص بالنسبة لحازم القرطاجني هو : " أن يكون المعنى مرتّبا على معنى آخر لا يمكنه فهمه إلا به ، فقد يكون المعنى المبني عليه داخل الكلام وخارجه " منهاج البلغاء وسراج الأدباء : 38 .
- على النهج ، ج 2 / 36 .
- الحجّ : 25 .
- على النهج ، ج 2 / 30 .
- البقرة : 126 .
- على النهج ، ج 2 / 34 .
- صحيح البخاري : كتاب الّلقطة ، باب كيف تعرف لقطة أهل مكة ، رقم الحديث : 2301 .
- على النهج ، ج 2 / 32 .
- الإمام الزمخشري : الكشاف عن حقائق غوامض التّنزيل، ج 4 / 798 .
- على النهج ، ج 2 / 33 .
- الكشاف عن حقائق التنزيل : ج 4 / 797 .
- على النهج ، ج 2 / 39 .
- ديوان الإمام علي : 157 .
- على النهج ، ج 2 / 40 .
- شرح ديوان أبي فراس : 12 .
المصادر والمراجع :
• القرآن الكريم برواية ورش .
• بنية اللغة الشعرية. جان كوهن. ترجمة محمد الولي ومحمد العمري. دار توبقال. الدار البيضاء. ط 1 . 1986 .
• تحليل الخطاب الشعري. البنية الصوتية في الشعر. محمد العمري. الدار العالمية للكتاب. الدار البيضاء. ط 1 . 1990 .
• جواهر البحار في فضائل النبي المختار. الفقير يوسف النبهاني. بيروت.
• حركية الإيقاع في الشعر العربي المعاصر. حسن الغرفي. إفريقيا الشرق. الدار البيضاء. ط 1. 2001 .
• دلائل الإعجاز. عبد القاهر الجرجاني. تحقيق محمد رشيد رضا. دار المعرفة. بيروت. ط 2 .
• ديوان الإمام علي. جمع وشرح نعيم زرزور. دار الكتب العلمية. بيروت.ط1. 1985.
• شرح ديوان أبي فراس الحمداني. دار الحياة. بيروت. ط 1.
• صحيح البخاري. شرح وتحقيق الشيخ قاسم الشماعي الرفاعي. دار القلم بيروت.
ط 1. 1987.
• على النّهج. الجزء الثاني. إسماعيل زويريق. دار وليلي. مراكش. ط 1. 2006 .
• العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده. ابن رشيق القيرواني. تحقيق محيي الدين عبد الحميد. ط 1. 1972.
• كتاب الصناعتين. أبو هلال العسكري. تحقيق علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم. بيروت. 1986.
• الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل. الزمخشري. القاهرة. ط 1. 1946.
• المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع. أبو القاسم السجلماسي. تحقيق علال الغازي. الرباط. ط 1. 1980.
• منهاج البلغاء وسراج الأدباء. حازم القرطاجني. تحقيق محمد الحبيب بن الخوجة. ط 2 . 1981 .
--------------------------