ثقافية: الكاتبة الجزائرية الشهيرة أحلام مستغانمي.. وعابر سرير
عزت عمر /
1- عتبة العنوان والغلاف
المتأمّل لغلاف كتاب رواية أحلام مستغانمي "عابر سرير" سيلحظ بالإضافة إلى العنوان المثير، صورة لامرأة شرقية الملامح مضطجعة على كنبة بخفيف الثياب؛ امرأة وحيدة في ركن حريمي منعزل، بينما الألوان الحارة والحميمية ستتمادى في توصيف اللحظة من خلال الستارة العازلة بألوانها وظلالها الحمراء والسجادة ذات الأرضية الخضراء والفاكهة الموضوعة على طاولة زخرفاتها شرقية تنسجم مع زخارف الأقواس الخشبية المنفتحة بإطلالة رومانسية على بحر أزرق ومدينة بيضاء فضاؤها مفتوح. تنظر إلى الصورة باحثاً عما يربط بينها وبين العنوان الموحي "عابر سرير" فتتكوّن لديك صورة أولية تذهب باستقامة نحو عوالم الحريم في حكايات "ألف ليلة وليلة"، وربّما الصورة النمطية الاستشراقية لأسرار الحريم الشرقي التي عممتها المخيلة الفنية الأوربية في الروايات والأفلام واللوحات الفنية، فتقتني الكتاب .
بدافع الفضول أو بحثاً ملذات مفتقدة في الحياة اليومية العربية، لتدرك بعد قليل أنك تعرّضت لحيلة شهرزادية، وأن الصورة والعنوان ليسا إلاّ طعم إعلاني تمّ اصطيادك به، فلا يتبقى عليك سوى أن ترمي الكتاب جانباً إن كانت قارئاً يبحث عن حكاية ولا يتحلّى بالصبر. أما إن كنت جَلداً وصبوراً فعليك في هذه الحال أن تكون مستعداً لمزيد من الحيل والطعوم بحثاً عن حكاية ضائعة في متاهة سردية تهندست تقنياً على ذاكرة مضطربة ومشوّشة لشخصية روائية نمطية.
2 تقنيات الخطاب السردي.
2.1 اللغة الشعرية.
ما أن تطأ العتبة الأولى حتى يفاجئك الخطاب السردي وقد استعار لغة الشعر بدلاً من النثر، وربما هو في هذه الوجهة مقصود من قبل كاتبة تعتز بعربيتها وعروبتها كأوّل كاتبة جزائرية تكتب بالعربية كما هو مدوّن في سيرتها، ولكنه إلى ذلك احتفاء مبالغ به نظراً لأنه ينهض على بلاغة شعرية مستهلكة ولا تخرج من فضاء لغة الذكورة المهيمنة على الذاكرة الإنشائية العربية، حتى إنّك لتتساءل مراراً عن سبب رغبة الكاتبة في إسناد مهمّة السرد لسارد مذكّر، وعن سبب تواريها هي كأنثى خلف دلالاته ومجازاته حمالة الأوجه؟ فالاستهلال الشعري الذي تطاول إلى أكثر من عشرين صفحة كان يمكن سرده نثرياً أو قصصياً ببساطة على نحو آخر، وهو في هذا المستوى من التعبير مكانه ليس هنا وإنما في كتب الشعر تحديداً، وإذا كانت الكاتبة هجرت عالم الشعر بعد إخفاق تجربتها أو نجاحها (صدر لها مجموعتان قبل أن تصبح روائية)، فليس من الضروري أن تجلبه معها إلى عالم الرواية القائم على لغة الإخبار وتعدد الأصوات. فعالم الحكاية عالم جذّاب من حيث الأساس، والشعرية كامنة في تفاصيله وبتعدد أصواته وروائحه وألوانه، ولا تمثّله بالتأكيد مثل هذه العبارات الغامضة: "في مساء الولع العائد مخضّباً بالشجن، يصبح همّك كيف تفكك لغم الحبّ بعد عامين من الغياب، وتعطّل فتيله المؤقّت دون أن تتشظى بوحاً.." أو تلك التعابير التي تتعمد الإثارة لشحن مخيلة القارئ على شكل إشارات أو ومضات بلاغية حسيّة من مثل "ماذا فعلت بشفتيها.. كلّ ذلك المطر.. وأنت عند قدميها ترتل صلوات الاستسقاء..".
وربّما هذه الهيمنة الشعرية، أو اللغة الأحادية ما زالت ترى في أزمنة البلاغة والفصاحة معيار الأدب الجيّد، حيث إننا خلال عملنا النقدي لحظنا اهتماماً مبالغاً به من قبل روائيين شباب تأثروا بفتوحات أحلام الروائية فآثروا انتهاج سبيلها سواء في البلاغة أو في ما اصطلحوا عليه ب "لغة الجسد". ولم نعدم كذلك نقاداً نظّروا لهذا الجانب الملتبس كثيراً من دون الأخذ بعين الاعتبار أن ثمة مسافة كبيرة كائنة ما بين الخطاب الروائي والخطاب الشعري من حيث بنائيته وأسلوبيته، والخطاب الشعري البلاغي هو في الغالب صوت أحادي ليس بإمكانه عرض الحقيقة إلاّ من خلال زاوية رؤية محددة تنفرض تعسفياً على القارئ الذي عليه أن يقبل بما منحته من إمكانية للدهشة بهذا الكم من التشبيهات والاستعارات والمجازات والكنايات في نسق محدد سلفاً.
والقارئ الحصيف لـ"عابر سرير" سيدرك بعد حين أن كلّ هذا الإنشاء إنما هو عبء حقيقيّ عليه، وعلى حكاية تكاد تختنق بكلّ هذا الزخم اللغوي الطاغي الذي تطاول: استهلالاً واستطراداً وخطاباً وجدانياً وحكمياً وأيديولوجياً عبر تداعيات غير منطقية ولا موضوعية للشخصية الساردة المهيمنة على الخطاب وسائر تفاصيله الفنية. وهو أمر ما كنت أظنه لا يفوت على كاتبة روائية ناجحة ومشهورة كأحلام مستغانمي، وهي ربّما غلطة الشاطر كما يقال عادة لتبرير الأخطاء، ولكنها، مع الأسف، غلطة قد تجر إلى إخفاق التجربة بحدّ ذاتها، حيث إن صوت المصوّر أو خالد بن طوبال كان على مدار الرواية يمارس استبداده اللغوي والفكري دون حضور أي صوت معارض أو مخالف لما يعتقده، وخصوصاً الاعتراض على رؤيته السياسية للأحداث التي عصفت بالجزائر. ومن هنا فإننا سنلحظ مدى تهميشه لشخصيات الرواية الأساسية من مثل مراد وناصر، ولكن الأخطر من ذلك سعيه الدائب إلى إقصاء صوت الأنوثة المتمثل في "فرانسواز" الفرنسية، و"حياة" الجزائرية لتبقيا على مدار القصّ موضوعاً جنسياً وأنوثة مستلبة على نحو غير مقبول، فما يبقى في الميدان غير خالد وزيّان وهما واحد على كلّ حال.
* أسلبة الحكاية.
سارد الرواية تقنياً سيتماهى بمرويه كشخصية محورية، يروي حكايته التي تدور حول مصوّر صحافيّ اتخذ اسم خالد بن طوبال - الشخصية الروائية في "ذاكرة جسد" - درءاً للاغتيال المجاني الذي طاول كثير من أعلام الثقافة والصحافة في الجزائر، وسنتعرف إليه مسافراً إلى "باريس" بعد أن نال جائزة أحسن صورة صحافية في مسابقة دولية، وبذلك ستكون باريس بمثابة مرتكز مكاني فرعي للأحداث بينما العاصمة الجزائرية وقسنطينة ستتبادلان مركز السرد المرجعي بحسب تواجد الشخصية المحورية والشخصيات الأخرى. وخلال فترة وجود السارد المحدودة زمنياً في باريس ستنطلق الأحداث وتتوالى الشخصيات لاستكمال الحكاية، حيث يخبر قارئه بلغة الأشواق والمكابدة والحزن والألم، أنه يعشق امرأة غائبة ألهبت خياله، وقد عاهد نفسه على عدم نسيانها لأنها والحياة صنوان لا بديل لهما، ولذلك سيكون اسمها (حياة) بكل ما تتضمنه من رمزية إحيائية تتماهى على هذا النحو أو ذاك بالجزائر الوطن أو بقسنطينة كحاضنة مشتركة للشخصيتين الأساسيتين. ومن هنا فإن "حياة" بدل من أن تكون شخصية إنسانية من لحم ودم، ستأخذ بعداً ميتافيزيقياً بالنسبة للعاشق الولهان، فهي أمّ كلية وعشيقة وربّة من ربّات الإلهام اللاتي يصعقن "ذا اللب" بكلّ قسوة في إشارة واضحة إلى الجزائر التي فتكت بأبنائها البررة واقترنت بالعسكر الفاسدين والقتلة المحترفين. ول"حياة" بالمناسبة تاريخ نضالي معروف، فهي بنت مناضل وشهيد ولكنها سوف تقترن بضابط كرمز سلطوي مخيف، وبالرغم من ذلك سيبقى (خالد) محبّاً لها، إذ ليس على المحبّ إلا الصبر والتحمّل في مثل هذه الحال من الغياب القسري باحتمال العودة إلى التلاقي على طريقة مجنون ليلى الباكي، ليغدو الحزن بمثابة المطهر الذي يدفع بالنفس نحو شفافية البوح من جهة ودافع للانتقام من جهة ثانية، والانتقام هنا سيكون جنسياً على طريقة مصطفى سعيد في "موسم الهجرة إلى الشمال"، حيث إنه لن يتوانى عن ممارسة الجنس مع فرانسواز بالرغم من كراهيته لها، وذلك انتقاماً وعقاباً لفرنسا استعماراً وحضارة مغايرة، وكذلك الأمر بالنسبة لحياة التي بالرغم من حبّه لها سيمارس الجنس معها انتقاماً من السلطة القمعية باعتبار أن زوجها ممثل لهذه السلطة.
وكتقنية سردية متّبعة سينفتح السرد على حكاية أوّلية تتّخذ من قصّة الحبّ إطاراً مرجعياً، ثمّ ما يلبث هذا الإطار أن ينفتح على مزيد من الأطر، وكلّ إطار سيحمل معه حكايته أو حكاياته وفق المنهجية الشهرزادية في سرد الحكاية مع اختلاف بسيط تقصّدته أحلام بإصرار وهو التجريب باللغة والاتكاء على التناص والمتفاعلات النصّية كمحفّزات أساسية للسارد لكي يوصّل للقارئ مضامينه الفكرية التي يمكن تكثيفها فيما سيأتي:
* جدلية الذات والآخر: شرق وغرب
هذه العلاقة الشائكة التي ظلّت قائمة بين الدول الاستعمارية وسكّان مستعمراتها بعد الاستقلال، وعلى نحو خاص العلاقة الاستعمارية الفرنسية مع الجزائر التي لم تنته بالرغم من المليون شهيد الذين ضحوا بدمائهم لأجل الاستقلال، وبذلك ستكون هذه العلاقة بمثابة إطار فكري مرجعي للكاتبة، سيما وأنها تنتمي لأسرة قسنطينية ناضلت ضدّ الاستعمار وفقدت اثنين من أبنائها في المظاهرات المناهضة لوجوده، وكذلك كان والدها مطلوباً لدى السلطات لمشاركته في أعمال المقاومة، وبالتالي فإن الأرضية الوطنية لموقفها الفكري واضحة تماماً ولا غبار عليها، بينما الغبار سيتراكم في الوطن وما آل إليه بعد الاستقلال من أحداث جسام انتهت بانقسام اجتماعي منذر بخراب كبير أحال الجزائر إلى بيئة جهنمية طاردة للمثقفين والمبدعين على نحو خاص لتغدو المنافي بالرغم من جحيميتها فردوساً تشدّ الرحال إليه
ومن هنا فإن الخطاب الفكري سوف يتمركّز في تبيّن أسرار العنف الجزائري عبر مجموعة من الشخوص دخلوا حيّز الحكاية عن طريق تداعيات السارد التي ظلّت متأرجحة بين عالمين عدوين وصديقين في آن واحد، لتعكس لنا الحالة الخاصة للثقافة الجزائرية، التي ظلّت مرتبطة بالثقافة الفرنسية سواء عبر اللغة لدى الكتاب الذين كتبوا بها، أو عبر تمثّلها كما في حالة أحلام مستغانمي كأول جزائرية تكتب بالعربية. وإلى ذلك فإن هذه العلاقة ستبقى شائكة وملتبسة، إذ إن الشعارات الفاضلة للثورة الفرنسية لم تتأصل في نفوس الفرنسيين كما ينبغي، وظلّت الممارسات الفرنسية تجاه أبناء مستعمراتها فوقية الطابع ، بل ربّما في بعض الأحيان تأخذ شكلاً عنصرياً وخصوصاً لدى بعض الفئات المتطرّفة.
* النسق الرمزي.
وهو يتكاثف ما بين "حياة" أو الجزائر وعابري سريرها حبّاً أو موتاً، وقسنطينة وعابري وجسورها انطلاقاً نحو العالم أو عودة لأحضانها حبّاً وموتاً، وأثر كلّ ذلك على شخوص الرواية وجودياً إذ تفوز السلطة القمعية ب"حياة"، ويموت "زيّان" في مغتربه، ويعود خالد إلى "مدينته" منهزماً ومنكسراً.
2.3 التناص والمتفاعلات النصّية.
كما نوّهنا تعتمد الكاتبة على التناص والمتفاعلات النصّية بشكل حاسم، وهي تقنية أفادت النصّ الروائي من وطأة لغة السارد المهيمنة نحو شكل من أشكال الحوار مع نصوص أخرى جاءت على شكل حكايات أوشذرات كلامية لكتاب وفنانين وشعراء في الغالب.
والتناص في هذا المستوى، يمكن تصنيفه إلى متناصات ثقافية تعبّر من جهة على ثقافة السارد أو الكاتبة، فنتابع باستمرار حضور رموز الثقافة الغربية مع حكاياتهم الصغيرة والكبيرة، من مثل تناص الظهر العاري وحكاية الفنان السريالي سلفادور دالي عندما اختطف "جالا" من زوجها الشاعر بول إيلوار، ومن جهة ثانية متناصات سياسية وتاريخية تخدم توجّهات السارد الإيديولوجية، وهي توجّهات "يسارية " لا تخلو من طيش وطفولية، كونها ظلّت أحادية الرؤيا في قراءة الواقع وتفسير الظواهر والعالم، ومن هنا نلتمس قصورها بالرغم من حضورها الكثيف
عزت عمر /
1- عتبة العنوان والغلاف
المتأمّل لغلاف كتاب رواية أحلام مستغانمي "عابر سرير" سيلحظ بالإضافة إلى العنوان المثير، صورة لامرأة شرقية الملامح مضطجعة على كنبة بخفيف الثياب؛ امرأة وحيدة في ركن حريمي منعزل، بينما الألوان الحارة والحميمية ستتمادى في توصيف اللحظة من خلال الستارة العازلة بألوانها وظلالها الحمراء والسجادة ذات الأرضية الخضراء والفاكهة الموضوعة على طاولة زخرفاتها شرقية تنسجم مع زخارف الأقواس الخشبية المنفتحة بإطلالة رومانسية على بحر أزرق ومدينة بيضاء فضاؤها مفتوح. تنظر إلى الصورة باحثاً عما يربط بينها وبين العنوان الموحي "عابر سرير" فتتكوّن لديك صورة أولية تذهب باستقامة نحو عوالم الحريم في حكايات "ألف ليلة وليلة"، وربّما الصورة النمطية الاستشراقية لأسرار الحريم الشرقي التي عممتها المخيلة الفنية الأوربية في الروايات والأفلام واللوحات الفنية، فتقتني الكتاب .
بدافع الفضول أو بحثاً ملذات مفتقدة في الحياة اليومية العربية، لتدرك بعد قليل أنك تعرّضت لحيلة شهرزادية، وأن الصورة والعنوان ليسا إلاّ طعم إعلاني تمّ اصطيادك به، فلا يتبقى عليك سوى أن ترمي الكتاب جانباً إن كانت قارئاً يبحث عن حكاية ولا يتحلّى بالصبر. أما إن كنت جَلداً وصبوراً فعليك في هذه الحال أن تكون مستعداً لمزيد من الحيل والطعوم بحثاً عن حكاية ضائعة في متاهة سردية تهندست تقنياً على ذاكرة مضطربة ومشوّشة لشخصية روائية نمطية.
2 تقنيات الخطاب السردي.
2.1 اللغة الشعرية.
ما أن تطأ العتبة الأولى حتى يفاجئك الخطاب السردي وقد استعار لغة الشعر بدلاً من النثر، وربما هو في هذه الوجهة مقصود من قبل كاتبة تعتز بعربيتها وعروبتها كأوّل كاتبة جزائرية تكتب بالعربية كما هو مدوّن في سيرتها، ولكنه إلى ذلك احتفاء مبالغ به نظراً لأنه ينهض على بلاغة شعرية مستهلكة ولا تخرج من فضاء لغة الذكورة المهيمنة على الذاكرة الإنشائية العربية، حتى إنّك لتتساءل مراراً عن سبب رغبة الكاتبة في إسناد مهمّة السرد لسارد مذكّر، وعن سبب تواريها هي كأنثى خلف دلالاته ومجازاته حمالة الأوجه؟ فالاستهلال الشعري الذي تطاول إلى أكثر من عشرين صفحة كان يمكن سرده نثرياً أو قصصياً ببساطة على نحو آخر، وهو في هذا المستوى من التعبير مكانه ليس هنا وإنما في كتب الشعر تحديداً، وإذا كانت الكاتبة هجرت عالم الشعر بعد إخفاق تجربتها أو نجاحها (صدر لها مجموعتان قبل أن تصبح روائية)، فليس من الضروري أن تجلبه معها إلى عالم الرواية القائم على لغة الإخبار وتعدد الأصوات. فعالم الحكاية عالم جذّاب من حيث الأساس، والشعرية كامنة في تفاصيله وبتعدد أصواته وروائحه وألوانه، ولا تمثّله بالتأكيد مثل هذه العبارات الغامضة: "في مساء الولع العائد مخضّباً بالشجن، يصبح همّك كيف تفكك لغم الحبّ بعد عامين من الغياب، وتعطّل فتيله المؤقّت دون أن تتشظى بوحاً.." أو تلك التعابير التي تتعمد الإثارة لشحن مخيلة القارئ على شكل إشارات أو ومضات بلاغية حسيّة من مثل "ماذا فعلت بشفتيها.. كلّ ذلك المطر.. وأنت عند قدميها ترتل صلوات الاستسقاء..".
وربّما هذه الهيمنة الشعرية، أو اللغة الأحادية ما زالت ترى في أزمنة البلاغة والفصاحة معيار الأدب الجيّد، حيث إننا خلال عملنا النقدي لحظنا اهتماماً مبالغاً به من قبل روائيين شباب تأثروا بفتوحات أحلام الروائية فآثروا انتهاج سبيلها سواء في البلاغة أو في ما اصطلحوا عليه ب "لغة الجسد". ولم نعدم كذلك نقاداً نظّروا لهذا الجانب الملتبس كثيراً من دون الأخذ بعين الاعتبار أن ثمة مسافة كبيرة كائنة ما بين الخطاب الروائي والخطاب الشعري من حيث بنائيته وأسلوبيته، والخطاب الشعري البلاغي هو في الغالب صوت أحادي ليس بإمكانه عرض الحقيقة إلاّ من خلال زاوية رؤية محددة تنفرض تعسفياً على القارئ الذي عليه أن يقبل بما منحته من إمكانية للدهشة بهذا الكم من التشبيهات والاستعارات والمجازات والكنايات في نسق محدد سلفاً.
والقارئ الحصيف لـ"عابر سرير" سيدرك بعد حين أن كلّ هذا الإنشاء إنما هو عبء حقيقيّ عليه، وعلى حكاية تكاد تختنق بكلّ هذا الزخم اللغوي الطاغي الذي تطاول: استهلالاً واستطراداً وخطاباً وجدانياً وحكمياً وأيديولوجياً عبر تداعيات غير منطقية ولا موضوعية للشخصية الساردة المهيمنة على الخطاب وسائر تفاصيله الفنية. وهو أمر ما كنت أظنه لا يفوت على كاتبة روائية ناجحة ومشهورة كأحلام مستغانمي، وهي ربّما غلطة الشاطر كما يقال عادة لتبرير الأخطاء، ولكنها، مع الأسف، غلطة قد تجر إلى إخفاق التجربة بحدّ ذاتها، حيث إن صوت المصوّر أو خالد بن طوبال كان على مدار الرواية يمارس استبداده اللغوي والفكري دون حضور أي صوت معارض أو مخالف لما يعتقده، وخصوصاً الاعتراض على رؤيته السياسية للأحداث التي عصفت بالجزائر. ومن هنا فإننا سنلحظ مدى تهميشه لشخصيات الرواية الأساسية من مثل مراد وناصر، ولكن الأخطر من ذلك سعيه الدائب إلى إقصاء صوت الأنوثة المتمثل في "فرانسواز" الفرنسية، و"حياة" الجزائرية لتبقيا على مدار القصّ موضوعاً جنسياً وأنوثة مستلبة على نحو غير مقبول، فما يبقى في الميدان غير خالد وزيّان وهما واحد على كلّ حال.
* أسلبة الحكاية.
سارد الرواية تقنياً سيتماهى بمرويه كشخصية محورية، يروي حكايته التي تدور حول مصوّر صحافيّ اتخذ اسم خالد بن طوبال - الشخصية الروائية في "ذاكرة جسد" - درءاً للاغتيال المجاني الذي طاول كثير من أعلام الثقافة والصحافة في الجزائر، وسنتعرف إليه مسافراً إلى "باريس" بعد أن نال جائزة أحسن صورة صحافية في مسابقة دولية، وبذلك ستكون باريس بمثابة مرتكز مكاني فرعي للأحداث بينما العاصمة الجزائرية وقسنطينة ستتبادلان مركز السرد المرجعي بحسب تواجد الشخصية المحورية والشخصيات الأخرى. وخلال فترة وجود السارد المحدودة زمنياً في باريس ستنطلق الأحداث وتتوالى الشخصيات لاستكمال الحكاية، حيث يخبر قارئه بلغة الأشواق والمكابدة والحزن والألم، أنه يعشق امرأة غائبة ألهبت خياله، وقد عاهد نفسه على عدم نسيانها لأنها والحياة صنوان لا بديل لهما، ولذلك سيكون اسمها (حياة) بكل ما تتضمنه من رمزية إحيائية تتماهى على هذا النحو أو ذاك بالجزائر الوطن أو بقسنطينة كحاضنة مشتركة للشخصيتين الأساسيتين. ومن هنا فإن "حياة" بدل من أن تكون شخصية إنسانية من لحم ودم، ستأخذ بعداً ميتافيزيقياً بالنسبة للعاشق الولهان، فهي أمّ كلية وعشيقة وربّة من ربّات الإلهام اللاتي يصعقن "ذا اللب" بكلّ قسوة في إشارة واضحة إلى الجزائر التي فتكت بأبنائها البررة واقترنت بالعسكر الفاسدين والقتلة المحترفين. ول"حياة" بالمناسبة تاريخ نضالي معروف، فهي بنت مناضل وشهيد ولكنها سوف تقترن بضابط كرمز سلطوي مخيف، وبالرغم من ذلك سيبقى (خالد) محبّاً لها، إذ ليس على المحبّ إلا الصبر والتحمّل في مثل هذه الحال من الغياب القسري باحتمال العودة إلى التلاقي على طريقة مجنون ليلى الباكي، ليغدو الحزن بمثابة المطهر الذي يدفع بالنفس نحو شفافية البوح من جهة ودافع للانتقام من جهة ثانية، والانتقام هنا سيكون جنسياً على طريقة مصطفى سعيد في "موسم الهجرة إلى الشمال"، حيث إنه لن يتوانى عن ممارسة الجنس مع فرانسواز بالرغم من كراهيته لها، وذلك انتقاماً وعقاباً لفرنسا استعماراً وحضارة مغايرة، وكذلك الأمر بالنسبة لحياة التي بالرغم من حبّه لها سيمارس الجنس معها انتقاماً من السلطة القمعية باعتبار أن زوجها ممثل لهذه السلطة.
وكتقنية سردية متّبعة سينفتح السرد على حكاية أوّلية تتّخذ من قصّة الحبّ إطاراً مرجعياً، ثمّ ما يلبث هذا الإطار أن ينفتح على مزيد من الأطر، وكلّ إطار سيحمل معه حكايته أو حكاياته وفق المنهجية الشهرزادية في سرد الحكاية مع اختلاف بسيط تقصّدته أحلام بإصرار وهو التجريب باللغة والاتكاء على التناص والمتفاعلات النصّية كمحفّزات أساسية للسارد لكي يوصّل للقارئ مضامينه الفكرية التي يمكن تكثيفها فيما سيأتي:
* جدلية الذات والآخر: شرق وغرب
هذه العلاقة الشائكة التي ظلّت قائمة بين الدول الاستعمارية وسكّان مستعمراتها بعد الاستقلال، وعلى نحو خاص العلاقة الاستعمارية الفرنسية مع الجزائر التي لم تنته بالرغم من المليون شهيد الذين ضحوا بدمائهم لأجل الاستقلال، وبذلك ستكون هذه العلاقة بمثابة إطار فكري مرجعي للكاتبة، سيما وأنها تنتمي لأسرة قسنطينية ناضلت ضدّ الاستعمار وفقدت اثنين من أبنائها في المظاهرات المناهضة لوجوده، وكذلك كان والدها مطلوباً لدى السلطات لمشاركته في أعمال المقاومة، وبالتالي فإن الأرضية الوطنية لموقفها الفكري واضحة تماماً ولا غبار عليها، بينما الغبار سيتراكم في الوطن وما آل إليه بعد الاستقلال من أحداث جسام انتهت بانقسام اجتماعي منذر بخراب كبير أحال الجزائر إلى بيئة جهنمية طاردة للمثقفين والمبدعين على نحو خاص لتغدو المنافي بالرغم من جحيميتها فردوساً تشدّ الرحال إليه
ومن هنا فإن الخطاب الفكري سوف يتمركّز في تبيّن أسرار العنف الجزائري عبر مجموعة من الشخوص دخلوا حيّز الحكاية عن طريق تداعيات السارد التي ظلّت متأرجحة بين عالمين عدوين وصديقين في آن واحد، لتعكس لنا الحالة الخاصة للثقافة الجزائرية، التي ظلّت مرتبطة بالثقافة الفرنسية سواء عبر اللغة لدى الكتاب الذين كتبوا بها، أو عبر تمثّلها كما في حالة أحلام مستغانمي كأول جزائرية تكتب بالعربية. وإلى ذلك فإن هذه العلاقة ستبقى شائكة وملتبسة، إذ إن الشعارات الفاضلة للثورة الفرنسية لم تتأصل في نفوس الفرنسيين كما ينبغي، وظلّت الممارسات الفرنسية تجاه أبناء مستعمراتها فوقية الطابع ، بل ربّما في بعض الأحيان تأخذ شكلاً عنصرياً وخصوصاً لدى بعض الفئات المتطرّفة.
* النسق الرمزي.
وهو يتكاثف ما بين "حياة" أو الجزائر وعابري سريرها حبّاً أو موتاً، وقسنطينة وعابري وجسورها انطلاقاً نحو العالم أو عودة لأحضانها حبّاً وموتاً، وأثر كلّ ذلك على شخوص الرواية وجودياً إذ تفوز السلطة القمعية ب"حياة"، ويموت "زيّان" في مغتربه، ويعود خالد إلى "مدينته" منهزماً ومنكسراً.
2.3 التناص والمتفاعلات النصّية.
كما نوّهنا تعتمد الكاتبة على التناص والمتفاعلات النصّية بشكل حاسم، وهي تقنية أفادت النصّ الروائي من وطأة لغة السارد المهيمنة نحو شكل من أشكال الحوار مع نصوص أخرى جاءت على شكل حكايات أوشذرات كلامية لكتاب وفنانين وشعراء في الغالب.
والتناص في هذا المستوى، يمكن تصنيفه إلى متناصات ثقافية تعبّر من جهة على ثقافة السارد أو الكاتبة، فنتابع باستمرار حضور رموز الثقافة الغربية مع حكاياتهم الصغيرة والكبيرة، من مثل تناص الظهر العاري وحكاية الفنان السريالي سلفادور دالي عندما اختطف "جالا" من زوجها الشاعر بول إيلوار، ومن جهة ثانية متناصات سياسية وتاريخية تخدم توجّهات السارد الإيديولوجية، وهي توجّهات "يسارية " لا تخلو من طيش وطفولية، كونها ظلّت أحادية الرؤيا في قراءة الواقع وتفسير الظواهر والعالم، ومن هنا نلتمس قصورها بالرغم من حضورها الكثيف