جدلية الخفاء والتجلّي* بين النظرية والتطبيق ـــ د.يوسف حامد جابر
أ- المستوى النظري
يبدو ( كمال أبو ديب) من خلال دراساته أنه من أبرز النقاد العرب الذين يسعون لتأسيس منهج بنيوي متكامل يتم من خلاله دراسة الشعر العربي بما يطوّر النظرة إلى هذا الشعر، وبما يشكف عن إمكاناته الفنية . ولعلّ هذا الكتاب يشكل مقدمة في هذا الاتجاه يهدف من خلاله ( إلى اكتناه جدلية الخفاء والتجلّي وأسرار البنية العميقة وتحولاتها - طموحاً ... إلى تغيير الفكر العربي في معاينته للثقافة والإنسان والشعر، إلى نقله من فكر تطغى عليه الجزئية والسطحية والشخصانية إلى فكر يترعرع في مناخ الرؤيا المعقدة ، المتقصّية ، الموضوعية ، والشمولية والجذرية في آن واحد: أي إلى فكر بنيوي لا يقنع بإدراك الظواهر المعزولة ، بل يطمح إلى تحديد المكونات الأساسية للظواهر - في الثقافة والمجتمع والشعر- ثم اقتناص شبكة العلاقات ثم إلى البحث عن التحولات الجوهرية للبنية التي تنشأ عبرها تجسيدات جديدة لا يمكن أن تفهم إلاّ عن طريق ربطها بالبنية الأساسية وإعادتها إليها . من خلال وعي حاد لنمطي البنى : البنية السطحية والبنية العميقة "[1]" يلّخص هذا النص الطويل موقف ( أبو ديب) من النقد البنيوي . ويكاد يشكّل ، بالتالي ، الإطار النظري الذي يسعى لتجسيده في ممارسته النقدية . ولكن قبل أن نعود إليه ، نرغب في طرح سؤال: هل يشكّل هذا النص بنية متجانسة يُستشفُّ منها منهج بنيوي محدّد للناقد كما يذكر ؟ أم أنه عبارة عن سلسلة من الأفكار ، تراكمت في أجزاء منها وانفتحت في أجزاء أخرى ؟ حيث ظهر ما تراكم وكأنه يعيد ذاته، بينما أوغل ما انفتح في الغياب. نعود إلى النص لنرى ما يحتويه:
1- اكتناه جدلية الخفاء والتجلّي ، أي كشف العلاقة المتفاعلة القائمة بين داخل الظاهرة وخارجها ، مع النظر إلى أن الداخل الغائب لا ينفصل عن الخارج الحاضر . وهذا يعيدنا إلى لعبة المضمون والشكل في الأدب اللذين يشكلان أساس التحليل النصي، ولا يمكن لأحدهما أن يوجد دون الآخر على حد تعبير( هييلمسليف) (L. Hjelmslev) [2] . . وهذه النقطة يعيدها ( أبو ديب) في متن النص المقبوس.
2- البنية العميقة وتحولاتها . فالبنية العميقة (Structure profonde) هي البنية المجردة والضمنية الموجودة داخل الذهن الإنساني ، وتأتي تحولاتها لتشكّل البنية السطحية (Structure superficielle) التي تظهر عبر تتابع الكلام والتي يغتني بها الفكر الإنساني . ومن هنا تأتي أهمية
البحث في هذه البنى واكتناه خفاياها ، لأن في ذلك اكتناهاً لبنية العالم الإنساني بغناه واتساعه . وهذه النقطة أيضاً مكرّرة في النص ذاته .
3-الطموح إلى تغيير الفكر العربي من فكر مجزأ سطحي إلى فكر يترعرع في مناخ الرؤية المعقدة .. وهذه النقطة تكشف لنا موقف ( أبو ديب) من الفكر البنيوي وغير البنيوي . إذ الفكر البنيوي هو فكر رؤية ، والرؤية كشف ، استثناء في الخلق والتجاوز ، إنها (قفزة خارج المفهومات السائدة . هي إذن ، تغيير في نظام الاشياء وفي نظام النظر إليها )[3]. كما يقول أدونيس . ومن هنا تعدّ الفعل الخارق الشمولي الذي لا يوجد خارج فعاليته شيء. والفكر البنيوي على حدّ تعبيره ، هو الذي يمتلك هذه الرؤية وهذا الفعل ، بشموله واتساعه وقدرته على تحديد بنى اللغة وبنى العالم ، وعلى ربط هذه البنى في إطار علاقات شمولية تكشف عن فعالية حركة هذه البنى وعن دلالاتها . وهذا يشير إلى انفتاح المنهج البنيوي الذي يعرض له الناقد ، حيث يصبح تحديده وضبطه وملاحقة فعالياته أمراً متعذراً .
ولعلّ النص الذي أشرنا إليه يكاد يشكل المستوى النظري للكتاب الذي بين أيدينا . وما نراه من جوانب نظرية أخرى موزعة في مساحة الكتاب يمكن أن تعد بمثابة تنويع على أفكار النص المقبوس الذي عرضناه له. حيث نجده ، مثلاً ، يتناول بنية الصورة بوصفها بنية علاقات ( تنتج الأثر الكلّي الذي ينفتح على العمل الفني ويضيء أبعاده كما أنه يضاء بأبعاد هذا العمل)[4]والغرض من ذلك ، كما يذكر ، ( أن يظهر أن للصورة مستويين من الفاعلية هما المستوى النفسي والمستوى الدلالي ... وأن حيوية الصورة وقدرتها على الكشف والإثراء ترتبطان بالاتساق والانسجام اللذين يتحققان بين هذين المستويين للصورة ) [5] ثم يضيف أن الغرض من ذلك ( تأسيس منهج نظري لا تقديم دراسة في النقد العملي)[6]
إن بنية الصورة وفقاً للمستويين اللذين أشار إليهما متضمنة في بنية النص الذي تتشكل الصورة منه أو فيه ، ووفقاً لغنى النص واتساق مستوياته التعبيرية والدلالية وانسجامها .
كما يتناول الناقد الأنساق البنيوية في الفكر الإنساني والعمل الأدبي من خلال بعض الحكايات الخرافية وحكايات الأطفال والحكاية الشعبية وبعض الأعمال الأدبية . كما اكتشف الناقد الشكلاني الروسي ( فلاديمير بروب) (V. Propp) الوحدات الثابتة ( الوظائف) ( Losrfonctions) التي لديها ليس الحكايات الشعبية في روسيا وإنما في العالم ، على الرغم من اختلاف مضامينها ، مما يشير إلى ميل فطري إنساني لتشكيل مثل هذه الحكايات . وكما اكتشف ( كلود ليفي ستروس) (G.L.Strauss) تشابه الأساطير في أرجاء المعمورة من خلال العلاقات الثابتة فيها ، كذلك يحاول ( أبو ديب) أن يضع في دراسته للأنساق . إذ يشير إلى ( ميل الفكر البشري إلى تشكيل الأنساق في كل إبداع له ، وطغيان أنساق معينة دون أخرى على أنماط معينة) [7] والنسق الذي رآه ( أبو ديب) يطغى في كل نشاط فنّي هو النسق الثلاثي الذي وصفه بأنه ( بنية ثابتة يتناولها العقل الإنساني في ثقافات متغايره أو أعمال فنّية متغايرة )[8]. وهذا يذّكر أيضاً بالأشكال الثابتة والمضامين المتغيرة في بحوث ( ستروس) حول الاسطورة [9]، وبحوث ( بروب) حول الحكاية . وسوف نقف فيما يلي على طرائق التحليل البنيوي التي استخدمها ( ابو ديب) من خلال متابعته في تحليله نصّاً للشاعر العباسي ( أبي نواس) .
ب- المستوى التطبيقي
في تحليله قصيدة ( اللباب) للشاعر ( أبي نواس) والتي مطلعها :
( غنّنا بالطلول كيف بلينا
واسقنا نعطك الثناء الثمينا)[10]
يبحث ( أبو ديب) فيها عما أسماه ( هاجس النزوع من خلال الثنائية الضدية التي تتحرك في القصيدة على محور الماضي/ اللحظة الحاضرة . حيث تشكّل اللحظة الحاضرة على هذا المحور نقيضاً مطلقاً للماضي وتصبح كوناً بديلاً للكون المرفوض) [11] . إن الناقد يريد أن يكشف في هذا النص رؤية الشاعر التي توغل في عمق الحياة على حدّ قوله ، ترفض الماضي ، تتجاوزه فتؤسّس حاضراً استثنائياً . إن نظرة ( أبو ديب ) النقدية للنص تقوم بوصفه نصاً يؤسّس لمرحلة جديدة في القول الشعري من خلال بنيته ومن خلال علاقات هذه البنية التي تنفتح وتمتد لتطال، ليس الفضاء الشعري وإنما الفضاء الإنساني الذي يؤسّس لهذا الشعري ويتأسس به.
إنّ ثنائية القصيدة ، كما يذكر الناقد ، تتشكل من ( الطلول / الخمرة ) وهما الحركتان الرئيستان في النص ، وتقف كل واحدة منهما ضد الأخرى وفي مواجهتها . ولكن بينما تظهر حركة الطلول حركة باهتة هامشية منفيّة عن عالم الشاعر ، وتمتلك خصيصة الالتباس والخلخلة تبرز حركة الخمرة بوصفها الكون البديل الذي تسعى القصيدة إلى بلورته وتأسيسه[12]إنّنا نرى أن حركة الطلول في هذه القصيدة يمكن أن تغتني من خلال كشفها عن تناص (Intertextulite) خفي لم يشر إليه الناقد، هذا التناص توحي به هذه الحركة دون أن تتداخل معه. أي أنه لا يحضر إلى النص بوصفه جزءاً من مكوناته وإنما يحضر في إطار الرؤية التي يؤسّس لها مثل هذا النص إذ إن البيت الأول الذي أوردناه بالإضافة إلى البيت الأخير:
ودع الذكر للطلول إذا ما
دارت الكأس يسرة ويمينا [13]
يمكن أن يستحضرا تراثا كان هامّاً في مرحلة تاريخية وثقافية ذات غنى واتساع ، ولا يمكن أن ننسى في هذا الإطار ما كان للطلول من أهمية في حياة الإنسان العربي . فالطلول الدارسة هي ذكريات الماضي، ملاعب الطفولة ، مرابع الأهل ، ملتقى العشيرة ومأواها ، وقد ترك لنا شعراؤنا الأوائل قصائد شغلت فيها الطلول مساحات هامة ، تعد من أجمل قصائد الشعر العربي ، ونحن هنا نتناول الشعر ، ومن خلال الشعر نتناول الحياة ، فمن منّا لا يذكر قول ( ذي الرمّة ):
( وقفت على ربع لميّة ناقتي
فما زلت أبكي عنده وأخاطبه
وأسقيه حتى كاد مما أبثّه
تكّلمني أحجاره وملاعبه [14]
أو قول ( الشريف الرضي) :
ولقد مررت على ديارهم
وطلولها بيد البلى نهب
فوقفت حتى ضج من لغب
نضوي ولجّ بعزلي الركب
وتلفتَّت عيني فمذ خفيت
عني الطلول تلفتّ القلبُ[15]
وأمثلة كثيرة تشكّل بنى شعرية راسخة على المستويين الفنّي والدلالي. إنّ الناقد الذي أكّد أنّ هدفه ( اكتناه جدلية الخفاء والتجلّي ، وأسرار البنية العميقة وتحولاتها ) كان جديراً أن يلفت إلى أن بنية الطلول في نص (أبي نواس) هي بنية متحوّلة عن بنية عميقة كامنة في الذهنية الشعرية العربية ، وأنّ موقع هذه البنية هو الذي دفع الشاعر كي يحوّل اتجاه هذا الموقع إلى اتجاه آخر كما هو متجّسد في نصه .
أم أن هذه البنية لا تدخل في مجال ( الرؤيا المعقدة ، المتقصية ، الموضوعية والشمولية والجذرية ) التي يرغب ( أبو ديب) في تعميمها؟.
إننا نرى أن النصوص التي يستنبطها نصّ ( أبي نواس) والتي تتأكد فيها الطلول باعتبارها فعالية تغتني بها بنيتها ، هي نصوص تؤسّس لرؤية استثنائية فاعلة ، كما هو نصّ ( أبي نواس) ذاته ، بوصفه نص خمرة على حد تعبير الناقد، يتجاوز فيه وضعاً كان قائماً . صحيح أن الناقد يعاين الطلول* غير أن هذه المعاينة تأتي من موقع نصوص الشاعر الأخرى أكثر مما تأتي من موقع النص الذي يحلّله . صحيح أن الطلول شكّلت رمزاً للبلى والانقطاع ، ولكنه رمز يخلق استمرارية جديدة فاعلة على مستوى الواقع وعلى مستوى الشعر، إنّه على مستوى الشعر رمز لثرائه وألقه وفعاليته المتكثرة .
نتابع مع الناقد بعض القضايا النقدية التي أثارها في هذا التحليل ، حيث يتحدث عن التضاد من خلال حركتي الأطلال والخمرة . وعلى الرغم من أن حركة الأطلال لا تشغل في البنية التركيبية للقصيدة سوى جملتين فقط : الأولى منهما في البيت الأول( غنّنا بالطلول كيف بلينا ) والثانية في البيت الأخير : ( ودع الذكر للطلول) - وما عدا ذلك تسيطر الخمرة على عالم القصيدة - فإن الناقد لا يكف عن تأكيد الثنائية الضدية بينهما والدوران حولها ، إذ يقول عن الخمرة ، أنها تشكّل ( الحركة المضادة التي تلغي تجربة الأطلال ودلالالتها وتنفي أي دور جوهري لها في بنية التجربة والقصيدة ( وأن هناك) علاقة بنيوية عميقة بين الأطلال والخمرة تصاغ كما يلي :
كلما بزت الأطلال ، برزت نقيضة لها الخمرة مشكّلة حركة مضادّة تنفيها وتثبت عرضيتها ووجودها الهامشي الخارجي) [16] . إن حركة الطلول كما يذكر الناقد ، لا تظهر إلاّ في الشطر الأول من البيتين الأول والأخير ، بينما تطغى حركة الخمرة في بقية الأبيات . وهذا كفيل بإلغاء المقارنة التي يؤكّد عليها الناقد مراراً ، على أنه ( كلما برزت الأطلال ، برزت الخمرة نقيضة لها). ومن هنا تصبح العلاقة البنيوية التي يشير إليها الناقد بين الطلول والخمرة غير متوازنة فضلاً عن كونها علاقة قسرية بسبب طغيان حركة الخمرة على هذه العلاقة .
ثم يضيف الناقد حول العلاقة المشار إليها قائلاً : ( وتفسّر هذه العلاقة البنيوية كون الخمرة ، لا الأطلال ، الحركة التي تشغل الحيّز النهائي من البيت الأخير من القصيدة ) [17] والبيت الأخير هو :
ودع الذكر للطلول إذا ما
دارت الكأس يسرة ويمينا
إنّنا نجد أن ( الطلول) هي التي تشكّل الحركة النهائية للقصيدة وليست ( (الخمرة ) . ونحن إذا حاولنا البحث عن البنية العميقة لهذا البيت وفقاً لبنية النحو العربي ، وجدنا أن بنيته العميقة يمكن أن تتشكّل على النحو التالي:
إذا ما دارت الكأس يسرة ويمينا
دع الذكر للطلول
لأن ( إذا ) شرطية ، ظرفية ، جوابها هو جملة ( دع الذكر للطلول) ، وهو في بيت الشاعر متقدم عليها لغرض جمالي أو عروضي. وهذا يدّل على أن الشاعر ابتدأ بالطلول وانتهى بها . وليس كما يقول الناقد من أن ( الخمرة ) تمثّل الحركة النهائية . صحيح أن جملة ( دع الذكر للطلول ) تعني الحضّ على إقصاء الطلول من حضرة الشاعر ، بسبب كون ( الخمرة ) قد استغرقت فيه واستغرق فيها ، ولكن في حضرة ( الخمرة ) ليست ( الطلول) هي التي يمكن أن تغيب فحسب ، وإنما كلّ ما يخصّ وجود الكائن سوى بعض مشاعره وخيالاته التي تعمل الخمرة على إشعالها . فإذا كان الأمر كذلك فإنه يترتّب على بنية القصيدة ، وفقاً للفهم الذي رأيناه ، تغيير في طبيعة العلاقات التي اكتشفها الناقد انسجاماً مع الفهم الجديد لبنية الطلول ، وينبغي إعادة النظر في طبيعة بنية النص ذاتها على أساس أن النص ابتدأ بالطلول وانتهى بها ، وفي طبيعة نظام هذه البنية . فإذا كانت البنية (Structure) نظاماً من العلاقات relations) )، أو كما حددها ( هييلمسليف ) ( L. H jelmslev ) بأنها ( كيان مستقل ذو علائق داخلية ) [18]فإن النظام (Systéme) هو مجموعة العلاقات بين عناصر البنية ، بحيث إذا طرأ أي تغيير على أحدها انسحب على العناصر الأخرى دون أن يمّس هذا التغيير النظام بشيء ، لأن قواعد النظام هي قواعد البنية ذاتها . فالنظام يستجيب لمثل هذا التغيير ويستعيد توازنه انسجاماً معه . ومن هنا يكون التغيير قائماً في حركة العناصر وفي النتائج المترتّبة على هذه الحركة في إطار النظام المبني . وعلى هذا الأساس يمكن أن يعاد النظر في طبيعة العلاقة التي أثارها ( أبو ديب) استناداً إلى الفهم الذي أشرنا إليه بما يتوافق مع عناصر البنية التي أعيد النظر في طبيعة تشكيلها .
نعود مع الناقد لمتابعة ( التناقض) بين الخمرة والطلول الذي يشكل هاجساً عند ( أبو ديب) .ويبدو أنه مولع بتكرار نعوته لطلول إذ نجد سيلاً من هذه النعوت كقوله عنها ، إنها : عالم التراب والعفاء والبلى والخراب ، عالم الظلمة والخواء والانقطاع والعدم ، وهي تجّسد السكونية واللاتغير .. تجّسد عالم الخمود ومرور الزمن وتدميره وعجز الإنسان عن التأثير عليه ، وهي مادّة جامدة تمثّل عالم التراب والرمال والانهيار والجفاف ، وهي مصدر أسس.. إلخ[19] كما أنه مولَعٌ أيضاً بتكرار نعوته للخمرة ، فهي : ( التمنّي ، تجسيد لزمن الاختيار ، ينقيها الدهر، تجّسد الحيوية والنشوة وفاعلية الحياة الحقّة ، تتحول إلى لآلئ ثرية وضوء، تسرّ القلب ، كون سماوي يضيء (نجوم ، نور، بروج ، شموس) رمز الخصب ، نضرة ، نقية ، متجوهرة ، تملأ الوجود ، كون مليء بالنشوة والغبطة والحياة ، كون التواصل والعطاء والاستمرار والتنامي ، كون التحوّل المستمر والحركة ، كون الاستجابات الانفعالية ... إلخ ) [20]
أمّا كيف توصّل الناقد إلى مثل هذا الحشد الضخم من الدلالات ، فهذا لم نتمكن من تحديده خلال تحليل الناقد لعلاقات النص ؟ وربما كانت مثل هذه الدلالات تصورات للناقد أكثر مما هي نتيجة لعلاقات النص وفهم أبعاده.
ثم نرى الناقد يكرّر موقفه من الطلول / الخمرة ، ويلحّ من خلاله على النتائج التي يعرض لها كل مرّة ، من أن الطلول تمثّل عالم البلى والانقطاع ، والخمرة تمثّل عالم الحياة والتواصل . يقول :
( تتكون جملة الأطلال من شقين (ب1) و (ب2) وهي جملة : 1- موجزة .2- منقطعة لا استمرارية فيها ولا ديمومة . ولهاتين الخصيصتين دلالات عميقة على صعيد الرؤيا الكلّية وموقع طرفي الثنائية الأطلال / الخمرة منها) [21] . ثم يقوم برسم بنية جملتي الأطلال وتمثيل كلّ واحدة منهما بمشير ركني كما يلي:
ـ 1 ـ
وبعد أن يؤكد الناقد أن لبنية جملة الطلول في المشجّر الثاني تركيباً مختلفاً يزول منه الالتباس الحاصل في بنية الجملة الأولى ، ويصبح تجسيداً لموقف نهائي محدّد يقول : ( وكلتا الجملتين منقطعة انقطاعاً تاماً عن جسد القصيدة ، تتموضع في عزلة باهرة وتشكل عالماً مستقلاً بذاته لا أثر له في تكوين أي من عناصر البنية اللغوية للقصيدة . هذا الانقطاع عن توليد بنى لغوية تجسيد لانقطاع الأطلال نفسها عن عالم الشاعر ولانعدام قدرتها على توليد أيّ من خطوط الرؤيا الوجودية التي تملأه . وعلى العكس من ذلك تماماً تأتي جملة الخمرة التي يمثّل تركيبها خصائص توليدية تفعل عبر البنية اللغوية للقصيدة كلّها . تبدأ جملة الخمرة كجملة الأطلال ، بفعل أمر يوازن بين الجملتين لكن فعل الأمر هنا متصل لا منقطع ، ومديد في فاعليته عبر القصيدة لا وجيز على عكس فعل الأمر في جملة الأطلال ، يخلق استجابات عميقة في القصيدة )[22]. وسوف نقوم
بمناقشة الناقد فيما عرضناه له هنا . ونبدأ بالتمثيل التشجيري الذي اعتمده لتبيان خصائص بنية الجملة التركيبية . وقد كان ( شومسكي) ( N. Chomsky) أول من اقترح هذا المشجر الذي يتيح تمييز المكونات المباشرة (sconstitunts immédiats) ويظهر مختلف العلاقات القائمة بين عناصر التركيب ، وانتماء هذه المكونات إلى فئات معينة [23] . ونحن من خلال معرفة موقع هذه المكونات وتوزيعها ، ومن خلال معرفة سماتها التركيبية والدلالية داخل البنية التشجيرية ، نستطيع أن نتفهم طبيعة بنية الجملية داخل سياقها التركيبي . غير أن ( أبو ديب) أغفل بعض القضايا التي كان من المفروض أن يعتمدها في مثل هذا التشجير ، ولا سيما في الرسم الأول ، إذ كان ينبغي أن يمثّل الجار والمجرور ( بالطلول) تحت اسم مركّب حرفي، وهذا بدوره يتم توزيعه إلى حرف جر (الباء) ثم إلى ركن اسمي ( الطلول) يتم توزيع هذا أيضاَ إلى تعريف ( ال) واسم ( طلول ) ، لأنّ مثل هذا التمثيل يساعد ، كما أشرنا ، على الكشف عن مكونات البنية التركيبية للجملة وتحديد خصائصها الأساسية بالنظر إلى هذه المكونات وسماتها المختلفة .
* جدلية الخفاء والتجلي / دراسة في إطار اللسانيات البنيوية للناقد الدكتور كمال أبو ديب.
[1] جدلية الخفاء والتجلّي / دراسات بنيوية في الشعر : كمال أبو ديب ، دار العلم للملايين ، بيروت -لبنان ط2/ 1981 ، ص8.
[2] راجع : مقدمة إلى علم الدلالة الألسني : هربيرت بركلي ، ترجمة د. قاسم المقداد، منشورات وزارة الثقافة ، سوريا د. ط / 1990 ص 71.
[3] زمن الشعر: أدونيس ، دار العوودة ، بيروت ، لبنان ط2/ 1978ص9.
[4] جدلية الخفاء والتجلّي ص 21.
[5] نفسه ص 22.
[6] نفسه ص22.
[7] نفسه ص 108
[8] نفسه ص 124.
[9] راجع : الأسطورة والمعنى : كلودليفي شتراوس، ترجمة صبحي حديدي ، دار الحوار للنشر والتوزيع ، سوريا ، اللاذقية ط 1 / 1985 ، ص10.
[10] - انظر نص القصيدة في خاتمة الدراسة .
[11] جدلية الخفاء والتجلّي ص 192.
[12] راجع : المصدر نفسه من ص 193 إلى 198.
[13] نفسه ص 193.
[14] ديوان ذي الرمّة ( غيلان بن عقبة العدوي) حقّقه وقدم له وعلق عليه د. عبد القدوس أبو صالح ، مؤسسة الإيمان ، بيروت ، لبنان ط 2 / 1982 المجلد الثاني ص 821.
[15] ديوان الشريف الرضي مع دراسة بقلم الشيخ عبد الحسين الحلّي ، مكتبة دار البيان ، بغداد ، الجزء الأول د. ط. ت ، ص 145.
* - نشير إلى أن الناقد يستخدم الطلول مرة والأطلال مرة اخرى على الرغم مما بينهما من فرق ، فالأولى جمع كثرة والثانية جمع قلّة . وقد وردت الأولى في نص الشاعر.
[16] جدلية الخفاء والتجلي ص 203.
[17] نفسه ص 204.
[18] نظرية البنائية في النقد الأدبي: د. صلاح فضل ، منشورات دارالآفاق الجديدة ، بيروت ، لبنان ، ط 3 / 1985 ، ص 138.
[19] راجع : جدلية الخفاء والتجلي: الصفحات من 200 إلى 209.
[20] راجع : المصدر نفسه الصفحات من 200-209.
[21] نفسه ص 213.
[22] نفسه ص 215.
[23] راجع : الألسنة التوليدية والتحويلية وقواعد اللغة العربية د. ميشال زكريا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع -بيروت ، لبنان ، ط1 / 1980 ، ص 132- 133.