لإكمال تفاصيل اللوحة المنتسبة إلى الشمال, حيث الغلبة للشخصيات النسائية, مقابل غلبة الشخصية الذكورية للجنوب, ولا يعني ذلك أن النموذج الديونيسي يخلو من العقل, إنه ينطوي على العقل, ولكن العقل الذي يعض ويقطع كأسنان المحراث, والذي يندفع في برود, مخترقًا كل شيء كأنه مدية حادة, لا يستعصي عليه قطع شيء.
المرأة والمدينة
ولا ينفصل عن الدلالة الرمزية لغلبة الشخصيات النسائية على الشمال, اقتران المرأة بالمدينة, أو اقتران المدينة بالمرأة, في عيني الريفي القادم من قرى الجنوب إلى مدن الشمال. ولذلك بدت القاهرة في عيني مصطفى سعيد, الفتى اليافع امرأة أوربية, مثل مسز روبنسون تمامًا, تطوقه ذراعاها, ويملأ عطرها ورائحة جسدها أنفه, ويتكرر الأمر نفسه في لندن, المدينة التي تحوّلت إلى امرأة أخرى, تجلت في هيئة نساء عديدات, قدن إلى قلب ظلمات اللذة, هذا الاقتران بين المرأة والمدينة, لا يمكن فهمه إلا في سياق الجنس, الذي يجعل من اختراق المدينة وامتلاكها بالحواس فعلاً موازيًا لاختراق المرأة وامتلاكها بالحواس نفسها. وهو فعل يقتضي معنى الطراد والمطاردة والغزو والارتحال, الذي لا يهدأ إلى الذروة, التي سرعان ما تنقلب إلى ذروة أخرى تغري بامتلاكها. ولا غرابة - والأمر كذلك - أن يتحول مقتحم المدينة الآتي من الجنوب إلى غاز, مرتحل, أصابه داء فتّاك لا يدري من أين أتى, داء يجعله لا يهدأ, ويندفع محملاً بصحراء الرغبات الجامحة, والانفجار الديونيسي العنيف.
ولكن رمزية الغزو والصيد بالمعنى الجنسي الذي يقترن بالمرأة - المدينة لا تخلو من إيحاءات تتجلى إذا نظرنا من مستوى مواز, هو مستوى العلاقة بين المستعمَر (بفتح الميم) والمستعمِر (بكسر الميم), وهي علاقة عدم تكافؤ, لا تخلو من القمع, وتزرع القمع في داخل المقموع بما يجعله يعيد إنتاجه على نفسه, وعلى مَن حوله, هكذا, يمكن أن نفهم الأثر التدميري لمصطفى سعيد في دائرته الذاتية, وفي الدوائر التي اتصل بها, والتي ينقل إليها بذرة الدمار المنطوي عليه, وحين يتحول المقموع إلى قامع, يعيد إنتاج القمع الذي نال منه على غيره. ولا يعرف هذا القمع المعاد إنتاجه معنى الحب, أو العرفان, في حال مصطفى سعيد, إنما معنى الكره والحياد والرغبة, التي لا ترتوي إلا وتزداد عطشًا, كأن صاحبها ينهل من آبار ملح لا تشبع أبدًا, بل تزيد الظمأ لهيبًا, وتذكّرنا ببيت خليل مطران, الذي يقول فيه: وما في الظلم مثل تحكم الضعفاء. ولذلك لم تترك أمومة مسز روبنسون أثرًا في نفس مصطفى سعيد, تمامًا كأساتذته الإنجليز الذين ساعدوه في السودان, فتقبل مساعداتهم له بلا عرفان, كأنها واجب يقومون به نحوه, والجذر الأول لذلك العلاقة الغريبة بالأم الغريبة بدورها, فكانت (كأنها شخص غريب جمعتني به الظروف صدفة في الطريق). هذا الإحساس بالغربة, انقطاع الجذور, هو الذي جعل مصطفى سعيد متوحّدًا, لاشيء يرجعه كالوتد إلى بقعة معينة ومحيط معين, فظل بلا انتماء إلا إلى شهوة جسده, ورغبته اللاشعورية في إيقاع القمع على كل من دخل إلى دائرته من النساء, وظل كذلك إلى أن جاءت جين مورس, فبادلته قمعًا بقمع إلى أن حدثت ذروة العنف المدمّرة.
ثأر التابع
ولا تخلو كل هذه التوازيات والتقابلات بين الجنوب والشمال - في رمزيتها الجنسية - من معنى ثأر التابع من المتبوع, المستعمَر (بفتح الميم), المقموع من المستعمِر (بكسر الميم), القامع, حتى لو خرج الثأر عن السيطرة, وتحول إلى قوة غريزية حيوانية بلا عقل, قوة دفعت مصطفى سعيد إلى أن يقول (سأحرر إفريقيا بـ.. ), وطبيعي أن يحدث ذلك من مصطفى سعيد, الذي استوعب عقله حضارة الغرب. لكنها حطمت قلبه, لأنها حطمت قلب أهله وأصابته بمرض عضال منذ ألف عام, وقد ظل ذلك تعبيرًا عنيفًا عن التمييز الذي أحدثه الاستعمار, منذ أن جعل لغته الإنجليزية مفتاح المستقبل, لا تقوم لأحد قائمة دونها, ولذلك تخصص مصطفى سعيد - الإنجليزي الأسود - في اقتصاد الاستعمار, وكتب ضده كاشفًا عدم إنسانيته وقيامه على التمييز اللاإنساني. وكان متأثرًا في ذلك بمدرسة الاقتصاديين الفابيانيين الذين سعوا إلى تحقيق مبادئ العدالة والمساواة والاشتراكية في الاقتصاد. وهي المبادئ التي سعت إلى مقاومة مرض الاقتصاد الرأسمالي للاستعمار, الذي اقترن بنهب ثروات الشعوب المستعمَرة, ونزف دمائها. ولذلك كانت الكتب التي تركها مصطفى سعيد تحمل عناوين من مثل: (الصليب والبارود), و(اغتصاب إفريقيا), والعنوان الأخير دال في آلية رد الفعل الذي ينقل القمع الواقع على المقموع إلى القامع.
وبقدر ما كان مصطفى سعيد يكتب ضد الاستعمار, من هذا المنظور, الذي لا يخلو من معنى القتال, كان الجنس عنده وسيلة أخرى من وسائل هذا القتال, حتى لو وقع على غير المعنيين به, فالقمع معد كما قلت: وينتقل من فاعله إلى مفعوله, فيعيد المقموع إنتاجه على نفسه وغيره. وكانت مطاردة المرأة, في اقترانها بالكتابة في اقتصاد الاستعمار, رد فعل عكسيًا لقمع الرجل الأبيض (الذي حكمنا في حقبة من تاريخنا), (سيظل أمدًا طويلاً يحسّ نحونا بإحساس الاحتقار, الذي يحسّه القوي تجاه الضعيف). وليس من المصادفة - والأمر كذلك - أن تعرف النساء الواقعات في شباك مصطفى سعيد أنهن يرتكبن إثمًا في حق بياضهن بإقامة علاقة مع أسود, زنجي, وإذا جاءت ابنة واحد من البيض, تقول له: إنني سأتزوج من هذا الرجل الإفريقي, فسوف يحس بأن العالم ينهار تحت قدميه, أو يفعل ما توقعته شيلا جرينود عندما قالت لمصطفى: إن أمها ستجن, وأباها سيقتلها, إذا علما أنها تحب رجلاً أسود. والإشارة إلى انهيار العالم, كالقتل في الفعل الثأري, الذي كان يريده مصطفى سعيد, طالب الثأر المطارد لتجليات عدوّه القديم, الذي كان يطارده, والمنتقم منه بوصفه, أي هذا العدو, بدوره, مفردًا بصيغة الجمع أو جمعًا بصيغة مفرد, تجسّده امرأة هي, بدورها, مجلى للمدينة - المرأة - العدو.
جابر عصفور
المرأة والمدينة
ولا ينفصل عن الدلالة الرمزية لغلبة الشخصيات النسائية على الشمال, اقتران المرأة بالمدينة, أو اقتران المدينة بالمرأة, في عيني الريفي القادم من قرى الجنوب إلى مدن الشمال. ولذلك بدت القاهرة في عيني مصطفى سعيد, الفتى اليافع امرأة أوربية, مثل مسز روبنسون تمامًا, تطوقه ذراعاها, ويملأ عطرها ورائحة جسدها أنفه, ويتكرر الأمر نفسه في لندن, المدينة التي تحوّلت إلى امرأة أخرى, تجلت في هيئة نساء عديدات, قدن إلى قلب ظلمات اللذة, هذا الاقتران بين المرأة والمدينة, لا يمكن فهمه إلا في سياق الجنس, الذي يجعل من اختراق المدينة وامتلاكها بالحواس فعلاً موازيًا لاختراق المرأة وامتلاكها بالحواس نفسها. وهو فعل يقتضي معنى الطراد والمطاردة والغزو والارتحال, الذي لا يهدأ إلى الذروة, التي سرعان ما تنقلب إلى ذروة أخرى تغري بامتلاكها. ولا غرابة - والأمر كذلك - أن يتحول مقتحم المدينة الآتي من الجنوب إلى غاز, مرتحل, أصابه داء فتّاك لا يدري من أين أتى, داء يجعله لا يهدأ, ويندفع محملاً بصحراء الرغبات الجامحة, والانفجار الديونيسي العنيف.
ولكن رمزية الغزو والصيد بالمعنى الجنسي الذي يقترن بالمرأة - المدينة لا تخلو من إيحاءات تتجلى إذا نظرنا من مستوى مواز, هو مستوى العلاقة بين المستعمَر (بفتح الميم) والمستعمِر (بكسر الميم), وهي علاقة عدم تكافؤ, لا تخلو من القمع, وتزرع القمع في داخل المقموع بما يجعله يعيد إنتاجه على نفسه, وعلى مَن حوله, هكذا, يمكن أن نفهم الأثر التدميري لمصطفى سعيد في دائرته الذاتية, وفي الدوائر التي اتصل بها, والتي ينقل إليها بذرة الدمار المنطوي عليه, وحين يتحول المقموع إلى قامع, يعيد إنتاج القمع الذي نال منه على غيره. ولا يعرف هذا القمع المعاد إنتاجه معنى الحب, أو العرفان, في حال مصطفى سعيد, إنما معنى الكره والحياد والرغبة, التي لا ترتوي إلا وتزداد عطشًا, كأن صاحبها ينهل من آبار ملح لا تشبع أبدًا, بل تزيد الظمأ لهيبًا, وتذكّرنا ببيت خليل مطران, الذي يقول فيه: وما في الظلم مثل تحكم الضعفاء. ولذلك لم تترك أمومة مسز روبنسون أثرًا في نفس مصطفى سعيد, تمامًا كأساتذته الإنجليز الذين ساعدوه في السودان, فتقبل مساعداتهم له بلا عرفان, كأنها واجب يقومون به نحوه, والجذر الأول لذلك العلاقة الغريبة بالأم الغريبة بدورها, فكانت (كأنها شخص غريب جمعتني به الظروف صدفة في الطريق). هذا الإحساس بالغربة, انقطاع الجذور, هو الذي جعل مصطفى سعيد متوحّدًا, لاشيء يرجعه كالوتد إلى بقعة معينة ومحيط معين, فظل بلا انتماء إلا إلى شهوة جسده, ورغبته اللاشعورية في إيقاع القمع على كل من دخل إلى دائرته من النساء, وظل كذلك إلى أن جاءت جين مورس, فبادلته قمعًا بقمع إلى أن حدثت ذروة العنف المدمّرة.
ثأر التابع
ولا تخلو كل هذه التوازيات والتقابلات بين الجنوب والشمال - في رمزيتها الجنسية - من معنى ثأر التابع من المتبوع, المستعمَر (بفتح الميم), المقموع من المستعمِر (بكسر الميم), القامع, حتى لو خرج الثأر عن السيطرة, وتحول إلى قوة غريزية حيوانية بلا عقل, قوة دفعت مصطفى سعيد إلى أن يقول (سأحرر إفريقيا بـ.. ), وطبيعي أن يحدث ذلك من مصطفى سعيد, الذي استوعب عقله حضارة الغرب. لكنها حطمت قلبه, لأنها حطمت قلب أهله وأصابته بمرض عضال منذ ألف عام, وقد ظل ذلك تعبيرًا عنيفًا عن التمييز الذي أحدثه الاستعمار, منذ أن جعل لغته الإنجليزية مفتاح المستقبل, لا تقوم لأحد قائمة دونها, ولذلك تخصص مصطفى سعيد - الإنجليزي الأسود - في اقتصاد الاستعمار, وكتب ضده كاشفًا عدم إنسانيته وقيامه على التمييز اللاإنساني. وكان متأثرًا في ذلك بمدرسة الاقتصاديين الفابيانيين الذين سعوا إلى تحقيق مبادئ العدالة والمساواة والاشتراكية في الاقتصاد. وهي المبادئ التي سعت إلى مقاومة مرض الاقتصاد الرأسمالي للاستعمار, الذي اقترن بنهب ثروات الشعوب المستعمَرة, ونزف دمائها. ولذلك كانت الكتب التي تركها مصطفى سعيد تحمل عناوين من مثل: (الصليب والبارود), و(اغتصاب إفريقيا), والعنوان الأخير دال في آلية رد الفعل الذي ينقل القمع الواقع على المقموع إلى القامع.
وبقدر ما كان مصطفى سعيد يكتب ضد الاستعمار, من هذا المنظور, الذي لا يخلو من معنى القتال, كان الجنس عنده وسيلة أخرى من وسائل هذا القتال, حتى لو وقع على غير المعنيين به, فالقمع معد كما قلت: وينتقل من فاعله إلى مفعوله, فيعيد المقموع إنتاجه على نفسه وغيره. وكانت مطاردة المرأة, في اقترانها بالكتابة في اقتصاد الاستعمار, رد فعل عكسيًا لقمع الرجل الأبيض (الذي حكمنا في حقبة من تاريخنا), (سيظل أمدًا طويلاً يحسّ نحونا بإحساس الاحتقار, الذي يحسّه القوي تجاه الضعيف). وليس من المصادفة - والأمر كذلك - أن تعرف النساء الواقعات في شباك مصطفى سعيد أنهن يرتكبن إثمًا في حق بياضهن بإقامة علاقة مع أسود, زنجي, وإذا جاءت ابنة واحد من البيض, تقول له: إنني سأتزوج من هذا الرجل الإفريقي, فسوف يحس بأن العالم ينهار تحت قدميه, أو يفعل ما توقعته شيلا جرينود عندما قالت لمصطفى: إن أمها ستجن, وأباها سيقتلها, إذا علما أنها تحب رجلاً أسود. والإشارة إلى انهيار العالم, كالقتل في الفعل الثأري, الذي كان يريده مصطفى سعيد, طالب الثأر المطارد لتجليات عدوّه القديم, الذي كان يطارده, والمنتقم منه بوصفه, أي هذا العدو, بدوره, مفردًا بصيغة الجمع أو جمعًا بصيغة مفرد, تجسّده امرأة هي, بدورها, مجلى للمدينة - المرأة - العدو.
جابر عصفور