ظاهرة الحذف في الشعر السعودي المعاصر..قراءة أسلوبية..
- الحذف :
في اللغة : حذف الشيء ، قطعه من طرفه . والحذافة ما حذف من شيء؛ فطرح . وحذف الشيء : إسقاطه( ) .
والمراد بالحذف في علم البلاغة " صورة بناء تقضي بإضمار دال ، أو عدة دالات على المحور النظمي . ويلجأ المتلقي لتعويض النقص وفهم المرسلة اللغوية ، بطريقة عفوية أو إرادية ، إلى كفايته اللغوية ، وإلى سياق الكلام ، وإلى معطيات موقف التكلم وشروطه . وبذلك يمكن أن يكون الحذف صورة بناء لغوي تلقائي ، أو استعمالاً أسلوبياً بلاغياً ، أو الاثنين معاً . هذا ويشمل الحذف كل العناصر اللغوية في التكلم من الصوت إلى العبارة( ) " .
إذاً فالحذف يكون باسقاط جزء من الجملة ، كحذف كلمة أو جملة أو أكثر مع قرينة تعين المحذوف( ) .
وقد أدخل ( ابن جني ) الحذف ضمن باب سماه ( باب في شجاعة العربية ) إيحاءً بما في الحذف من جرأة وشجاعة ، واعتماد على ثقافة المتلقي في الفهم وقال فيه : " قد حذفت العرب الجملة والمفردة والحرف ، والحركة . وليس شيء من ذلك إلا عن دليل عليه ، وإلا كان فيه ضرب من تكليف علم الغيب في معرفته( )".
إذاً ، فالحذف المطلوب لايأتي مفرغاً الكلام من المعنى أو مسهماً في إبهامه، وإنما لابد من وجود الدليل عليه ؛ لئلا يتحول الكلام إلى غموض ممعن.
كما تحدث (الجرجاني) عن الحذف وعن قيمته الإيحائية في الكلام ، حيث يقول : " . . . فإنك ترى به ترك الذكر ، أفصح من الذكر ، والصمت عن الإفادة ، أزيد للإفادة ، وتجدك أنطق ماتكون إذا لم تنطق ، وأتم ماتكون بياناً إذا لم تبن( )".
فالحذف وسيلة إيحائية ، إذ يتطلب الإيحاء في بناء القصيدة الحديثة ألا يصرح الشاعر بكل شيء " بل إنه يلجأ أحياناً إلى إسقاط بعض عناصر البناء اللغوي ، مما يثري الإيحاء ويقويه من ناحية ، وينشط خيال المتلقي من ناحية أخرى ؛ لتأويل هذه الجوانب المضمرة( ) " .
فإن " المتذوق للأدب لايجد متاع نفسه في السياق الواضح جداً ، والمكشوف إلى حد التعرية ، والذي يسيء الظن بعقله وذكائه ، وإنما يجد متعة نفسه ، حيث يتحرك حسه وينشط ؛ ليستوضح ويتبين ويكشف الأسرار والمعاني وراء الإيحاءات والرموز( ) " .
ولنتأمل الحذف في هذا النموذج للشاعر ( سعد الحميدين ) :
في كل يوم يرتمي حبل السؤال ..
أأنا نسيتك ؟
. . . . . . . .
. . . . . . . .
أأنا نسيت ؟
قالوا وما عرفوا بأني لا .. ولن أنسى التي صارت
غذائي والهواء .
صارت .. وصارت ( شاخت الكلمات عن وصف يليق ) ..
لولاك مادونت بيتاً في مفكرتي ،
ولا سجلت ذكرى
لولاك .. ما أسرجت أشعاري فهبي ..
هبي صبا نجد شميم عرارك الفواح كم هنئت به
أوقات ذكرى( )
الشاعر يؤكد في هذا الخطاب العاطفي أن المعنية بالخطاب متجذرة في نفسه ، فمن المستحيل أن ينساها .
في قولـه : أأنا نسيت ؟ .. ( الجملة الثانية ) لم يذكر المفعول به ( كاف الخطاب ) . فالاستفهام هنا إنكاري ؛ فهو ينكر أن يصدر منه هذا الفعل تجاهها ، ويتضاخم هذا الإنكار في كل مقطع في القصيدة ، حيث يثبت حبه لها واستحالة نسيانها .
إذاً ؛ فمن شدة إنكاره ونفيه ؛ لم يستطع ذكر ضمير الخطاب العائد عليها ، وأن يوقع الفعل عليه ؛ لعدم تصوره ذلك أو تخيله ؛ فهو مستحيل في رأيه.
وأما ذكر المفعول به ( كاف الخطاب ) في الجملة الأولى ( أأنا نسيتك ) فلأنه يعطي مفتاح فهم النص وملابسات هذه الاعترافات المتوالية .
ثم نجد نموذجاً آخر للحذف ، في خبر ( صار ) : صارت .. وصارت (شاخت الكلمات عن وصف يليق) . وفيما وضعه بين القوسين تفسير لهذا الحذف، إذ تضعف الكلمات ، وتعجز عن التعبير عما تمثله له المخاطبة ، وما تحتله من مكانة في نفسه وفي حياته ؛ لذا فقد حذف ، وآذن التكرار ( صارت وصارت ) بكثرة الأوصاف التي عجزت عنها الكلمات ، فقد صارت المحبوبة متداخلة مع الإبداع ، ملهمة ؛ فكيف ينساها وهي جزء من إبداعه ، فضلاً عن حياته . وهذا التدافع والتزاحم في الأقوال ، يقابل الأقوال التي تشكك في حبه لها . وأرى أن التفسير الذي صرح به كان مضعفاً للأداء الفني ، إذ إن قيمة الحذف فيما يتيحه للمتلقي من التفكير في المحذوف ، وإثارة خياله لذلك .
وهذا نموذج للحذف أيضاً ؛ للشاعر ( عبد العزيز العجلان ) :
هنا الصحب كانوا هنا ذات ليل
وضحكاتهم بالوصيد ولما تزل
تثقل القلب حتى التلفت
والزمن السمح يعتنق الانتظار
ويحتضن الأمل الحلو
أيان شئت وشاء
مرابع طاف بهن الأمان
------
وأسلمها الحلم للعنفوان
وطال الوقوف بهن وطابا
هنا قبل أن يفقد الظل ظله
وتنأى المسافات مابين قلب وقلب
وما بين درب ودرب
وما بين جرح وفله
ترنح قلبك بين الطيوف
ومر المساء به مسرعاً
يحاذر أن تستبين مداه
وأن يفضح الوقفات المطلة
هنا كان . . . . .
يساقط الحلم مابين عينيك
يسلمك الليل لليل
يرتحل الأمس ، والذكريات
الصوادي ينوء بإيقاعهن الزمان
وينأى السكون وينأى المكان([1])
تحمل القصيدة دلالات كثيفة عامرة بالإحساس بالوحشة والوحدة والعزلة والإحباط والضيق ، وفي لجة هذه الانكسارات - كما يعبر عنوان القصيدة - تتداعى الذكريات / الحلم التي كانت تملأ الشاعر سعادة وأماناً . إلا أن الحلم
يساقط والذكريات تتوقف ، وهذا ما يوحي به الحذف : هنا كان .. ونلحظ أنه أتى بالفعل (كان) فقط بعد اسم الإشارة (هنا) . بينما جاء قبل اسم الإشارة في المواضع السابقة مصحوباً بالذكريات العذبة .
هنا الصحب ، هنا زهرة . . . وهذا دليل على الاستيقاظ المفاجئ على أن هذا كان ماضياً ولن يعود .
انقطع الحلم إذاً ، وانقطعت الذكريات ؛ لنرى - بعد ذلك -هذه التعبيرات المنسجمة مع تلك الإيحاءات .
يساقط الحلم . . . .
يسلمك الليل لليل
يرتحل الأمس والذكريات
الصوادي ينوء بإيقاعهن الزمان
وينأى السكون وينأى المكان
وقريب من هذا الحذف في حديث الموجة الكسيحة التي كانت تسترجع ماضيها القوي الزاهر([2]) ، ففي المرة الأخيرة التي تكررت فيها الجملة ( كنت فيما مضى .. ) جاء الحذف والبتر ؛ فلم تذكر الموجة شيئاً أو صفات مرتبطة بذلك الماضي :
كنت فيما مضى . . .
والمن تمشى
قدري بالذبول في ريعاني([3])
فكأن هذا الحذف استيقاظ من الاستغراق في حلم الماضي ، فالضعف والذبول بترا ذلك الماضي وقطعه ، وجعلاه ماضياً لاغير .
ومن الممكن أيضاً أن نلحظ في الحذف اتساع مدى تلك الصفات التي كانت للموجة قديماً ؛ فقد كانت بلا حدود ولا حصر ، لا يستطيع الحرف ذكرها .
وقد يحذف حرف العطف أحياناً([4]) . ولنتأمل مثالاً على تلك الظاهرة من قصيدة ( انثيال ) ، للشاعر ( عبد العزيز العجلان ) :
وحدنا. وحدنا. وها .. الأرض فينـا
همهمات القفار ، نبض البقايا
لهفة الفجر حين يدنو ويغفو
تتجلى ما اغتالها التطويق
الصبا السمح ، الحزامى الأنيق
ويريق المدى من حوله ما يريق([5])
في سديم الغربة عن الوطن ، يبدو الوطن متجلياً في كل شيء ، في الذهن؛ وفي النفس ، وفي كل أفق : همهمات القفار ، نبض البقايا . . . . . صور تبرز تجلي الوطن ، فهي عناصر أرض الشاعر التي يمتج بها ، فهذه الصور تظهر وتتجلى لتذكره دائماً بوطنه .
وقد حذف حرف العطف ؛ فهذه الصور كثيرة متعددة ، متسارعة ، متلاحقة، يتلو بعضها بعضاً بصورة سريعة مستمرة ؛ فلا وقت للعطف ، ولا مكان لأداة العطف أيضاً .
فلو أنه قال : (همهات القفار ونبض البقايا والصبا السمح والخزامى الأنيق)، لما أحسسنا باحتشاد الصور وتسارعها وتلاحقها في مظهر يبرز تجليها حقاً في كل شيء .
ولو أن الجملة الأخيرة : ( لهفة الفجر حين يدنو . . . ، لم تطل ؛ لرأينا معطوفات أخرى ثيرة ؛ إلا أن انشغاله بهذا التصوير الرقيق للفجر ، قد خفف من حدة انفعاله وتأثره بتجلي الأرض ، ومن ثم انتهت تلك المعطفوات .
وهو يعلل سر هذا التجلي لمظاهر الأرض ؛ وتعدد تلك الصور وكثرتها وتسارعها ، وتلاحقها بلا فتور ؛ إذ يدل هذا كله على تعلق وامتزاج بتلك العناصر والمظاهر ، حيث يقول بعد الأبيات السابقة مباشرة ؛ وكأنه يفسر ما مضى :
إنه الرمل في الدماء رفيف
كل " عيدانة " بحزنها أرضعتنا
ونداء خلف الدماء سحيق
كيف من حزنهن والحنين نفيق([6])
وعنوان القصيدة ( انثيال ) ، والانثيال يعني الانصباب ، وانثال عليه القول: تتابع ، وكثر ؛ فلم يدر بأيه يبدأ([7]) . إذاً فهذا التلاحق جزءً من ذلك الانثيال ، انثيال تلك المشاعر والصور بشكل سريع متلاحق ، لتذكره بالوطن الغائب .
وهذا نموذج آخر لحذف حرف العطف للشاعر نفسه :
الرؤى تتدفق . . .
. . . ( ليل الطفولة . . حضن رخي ..
. . يد خلف شال وتنهيدة تتوفى العثارا([8]) )
في حالة ارتداد إلى ذلك العالم الأثير لدى " الشاعر(عالم الطفولة ) ، تتدفق رؤى الطفولة في جو يحيطه الافتقار إلى الإحساس بالأمان ، ويلفه الضجيج، وتتشظى فيه الطمأنينة ، إذ تعكس القصيدة هذه الأحاسيس ، وتلقي معاني ، الغربة وعوادي السنين والملل والانتظار على النص ظلالاً كثيفاً لذا كان هذا الارتداد إلى عالم الطفولة ، وكان تدفق الرؤى التي تهبه شيئاً من الدفء والأمان: صور متدفقة - كما يعبر هو - ، متسارعة ؛ لذا حذف حرف العطف ؛ فلو أثبته وقـال : ليل الطفولة وحضن رخي . . . . لما أحسسنا بهذا التلاحق والدفق .
وقد لا نضع أيدينا على محذوف مقدر ، وإنما توظف علامات الحذف نفسها في الإيحاء بمعان لها علاقة بالرؤية ، كما في هذا النموذج للشاعر ( عبد الله الرشيد ) :
غير أنا قد خرجنا
وامتزجنا
بشموخ الأرض في مسرى الرسول
ذا أوان الشد ..
فاشتاقت إلى أصواتنا البيض
منارات " أريحا والجليل "
ذا أوان الشد ..
. . . . . . . . .
. . . . . . . . .
وارتد الصدى اللهفان مكلوماً وقد
ردد العار " أراجيز الفحول([9]) "
في هذه القصيدة مزيج من التحولات النفسية والمشاعر المتناقضة ، أمام مفارقات الواقع العربي ، ويتحدث الشاعر بصوت جماعي يمثله هذا الجيل الشاب الطامح بتحرير المقدسات في فلسطين ، إلا أن صوت الطموح يصطدم بالضعف والخوف والهزال والهزيمة .
إن ترديد ( ذا أوان الشد ) فيه إشارة بأن هذا وقت عصيب يستلزم بذل كل الجهود ، وهو تناص مع قول الراجز :
هذا أوان الشد فاشتدي زيم([10])
إنه يأمر الفرس بالاشتداد والعدو والركض تناسباً مع اشتداد الزمن . ولكن في واقعنا الحاضر من يجيب هذا الصوت ؟ إن هذا الحذف يعني ألا صدى لهذا الصوت ولا استجابة ولا عمل حقيقي إزاء تلك الشدائد ؛ ولذا قال الشاعر :
وارتد الصدى اللهفان مكلوماً وقد
ردد العار " أراجيز الفحول "
إذاً فمن ردود الأراجيز هو العار ، هذا هو الرد الفعلي في الواقع العربي . إذاً فعلامات الحذف هي علامات فراغ توحي بفراغ الأمة من البطولات والمجد
والشرف والعزة . وعلامات الحذف تشير إلى الصمت العربي المواصل ، والسكون المميت .
ولذا وصف الصدى بأنه لهفان ، إيماء إلى الحزن والتحسر والاستغاثة بلا جدوى ، ووصفه أيضاً بأنه مكلوم ، نتيجة خيبة الأمل .
([1]) أشياء من ذات الليل ، ( انكسارات لحظة مسائية ) ، ص73-74 .
([2]) انظر : ص 421-423 من البحث .
([3]) ظلي خليفتي عليكم ، جاسم الصحيح ، ( الموجة الكسيحة كانت تقول ) ، ص117 وغني عن القول خطأ الرؤية في الحديث عن القدر . وقد سبق الإشارة إلى نموذج مشابه ، وبيان فساد هذه الرؤية . انظر : ص 178 من البحث .
([4]) يقول ابن عصفور : " قد يجوز حذف حرف العطف وحده ، لفهم المعنى " . شرح جمل الزجاجي ، ابن عصفور ، 1/251 .
وقوله هذا يدل على جوازه بقلة ، بشرط فهم المعنى . وهذه النقطة مهمة جداً ، إذ إن الحديث عن هذه الظاهرة يجب أن يكون بحدود ؛ فالمبالغة فيها ربما تخرج عن النحو العربي الصحيح ، واللغة العربية السليمة ، وربما كان تشويهاً للبلاغة العربية . فهناك من النماذج التي تلغى فيها أدوات العطف ، وتشكل لغة ضعيفة ؛ تأثراً ببعض النماذج في بعض المذاهب الغربية التي تحررت من الروابط والصلات المنطقية التي تربط الجمل والألفاظ بعضها إلى بعض .
ومثال على ذلك السيراليون الذين تحرروا من " كل منطق لغوي مألوف ، وأسقطوا الروابط وأدوات الوصل اللغوية من معظم شعرهم " . عن بناء القصيدة العربية الحديثة . د. علي عشري زايد ، ص46.
إذاً ، فالمبحث هنا يركز على ما كان ظاهرة جديرة بالتحليل ، ولم يؤثر هذا الحذف على لغتها الشعرية ، وكان لها المسوغ في الحذف .
([5]) أشياء من ذات الليل ، ص12 .
([6]) المصدر السابق ، ص12 .
([7]) انظر : القاموس المحيط ، الفيروز آبادي ( ث . و . ل ) .
([8]) الجاهلي يشعل خرائطه ، ( نقوش على مداخل الشتاء ) ، ص8 .
([9]) حروف من لغة الشمس ، قصيدة ( أوان الشد ) ، ص20-21 .
([10]) زيم : اسم فرس أو ناقة ، وهو يخاطبها يأمرها بالعدو .وهو ينسب لرشيد بن رميض في بعض المصادر، وينسب للأغلب العجلي في مصادر أخرى ، وقد جاء : هذا أوان الحرب فاشتدى زيم . انظر : الأغاني – الأصبهاني – م 15 / 5582 ، الحماسة – ابن الشجري – ص 38 ، لسان العرب – ابن منظور –
( ز . ي . م ) .