الصورة الشعرية بين الثبات والحركة..نماذج من الشعر السعودي المعاصر..
للصورة الشعرية " عناصرها التي تتم بها من جميع نواحيها : عنصر المنظر كله ، وعنصر اللون ، وعنصر اللمس ، وعنصر الوقت الذي تراها فيه ، وعنصر الموقع الذي تقع فيه من المكان ،
وعنصر الحركة . والتصوير المطبوع الذي يعطي الصورة قوتها وخلودها وأهميتها في بناء القصيدة يتمثل في اللون والشكل والمعنى والحركة " ( ) .
قد تكون الصورة متحركة ، وقد تكون ثابتة . ولا يعني إيحاء الصورة بالثبات معنى سلبياً ، بل إن هذا الإيحاء بالثبات الذي تمنحه الصورة قد يرتبط بالجو النفسي الذي ينبث فيها ، كهذا المقطع من قصيدة ( انتظار ) ، للشاعر
( عبدالعزيز العجلان ) :
ها أنا شاخص في احتضار المساء
كبيت من الشعر يبحث عن قافية ،
بقايا اخضرار على جمرات اليباس
ترقب همهمة الغيم
بوح المسارب
.. أو مدية حانية ( )
أي خمود وجمود وثبات وهمود أكثر من ذلك النبت أو بقايا النبت الذي يشرف على الموت !! فلا ماء يسقيه ليبث الحياة بين عروقه ، ولا خصب في المراعي ليصنع لـه شيئاً من الحيوية التي نراها في حركة النبات النضر ، فالنبات في حالة انتظار لمصدر الحياة .
هذه الصورة صورة الجمود والانتظار ، تتسق مع الحالة التي يعبر عنها الشاعر ، إذ تجسد حالة الخمود والهمود والضعف والاستسلام ؛ فقد تجمد عند لحظة واحدة : لم يبق في العمر خارطة للغياب .
ولا موسم للإياب
وغزاه الخواء : لم يبق في القلب متسع للفتون
ولا للظنون
بل إن كائنات الطبيعة تتحكم فيه : وهزت بي الريح مستلباً في العراء 3
وحالة الانتظار ، انتظار الإغاثة ترددها تلك الجملة التي تتوزع في أنحاء القصيدة ( أشعليني فقط ) .
إلا أن الاستسلام يبدو الأقوى سيطرة ، حين يصور النبات منتظراً مدية حانية ؛ فالموت يبدو أكثر رحمة لهذا النبات شبه الميت ، ولنلحظ وصفه بأنه على جمرات اليباس إيحاءً بالواقع القاسي المحيط به .
إذا ؛ فهذا الثبات الذي يطبع الصورة بطابعه ، انبثق من الرؤية التي يقدمها النص .
وهذا نموذج آخر للصورة الثابتة من قصيدة ( مرثية آخر الأعياد ) ، للشاعر ( جاسم الصحيح ) ، إذ يقول في معاناة فكرية قاسية :
أزرى بنا زمن .. تعنبت الـرؤى فيـه لنقطفهـا كـؤوس رقـاد
جئنا الحـياة معلقين بـلغزهـا جثثـاً مـدلاة مــن الأعـواد 4)
إيحاء قوي بالجمود والهمود تبعثه صورة الجثث المدلاة ، إذ لا سكون أقوى وأوضح من الموت ، وهذه الصورة تعبر عن الموقف الفكري أمام الحياة ، إذ تبدو لغزاً عصياً على الحل ، حسب رأي الشاعر .
وهنا يحس بسكون التفكير ، وجمود مسالكه ، فالرؤى لا تشتعل ، ولا تلعب دورها في الحياة ، بل تظل على حالها ، حتى تنتج كسلاً فكرياً ورقاداً مميتاً . كل هذه المعاني تمثلها الصورة السابقة ، إذ تصور هؤلاء جثثاً مدلاة ، في سكون بلا حراك ؛ وجمود ممعن في الاستسلام .
وعنصر الحركة في الصورة يوحي أيضاً بخيوط التجربة الشعورية في القصيدة . وربما تكون الحركة أصعب ما في التصوير ؛ " لأن تمثيلها يتوقف على ملكة الناظر ، ولا يتوقف على ما يراه بعينه ، ويدركه بظاهر حسه " (5 .
قد نحس بحركة سريعة قوية في الصورة ؛ وهنا نتوقف لنربط هذه الحركة وسماتها بالرؤية في النص ، وقد تكون الحركة بطيئة ثقيلة ، وقد تجمع بين الحالتين ، وفي كل لابد أن نحاول تفسيرها ، وربطها برؤية الشاعر والمخزون الشعوري والنفسي الذي يصدر منه .
وفي هذا النموذج من قصيدة ( صفحة من أوراق بدوي ) ، للشاعر ( محمد الثبيتي ) ، نحس بلون من الحركة تنتشر في أرجاء الصورة :
أنا حصـان قـديـم فـوق غرتـه
توزع الشـمس أنـوار الصباحـات
أنـا حصـان عصي لا يطـوعـه
بـوح العناقيـد أو عطـر الهنيهات
أتـيت أركـض والصحـراء تتبعني
وأحـرف الرمل تجري بين خطواتي
أتـيت أنتعـل الآفـاق .. أمنحهـا
جرحي .. وأبحث فيها عن بداياتي 6)
في البيتين الأخيرين نحس بحركة قوية سريعة تسري في الصورة : أركض تتبعني ، تجري ، أبحث ، وهذه الحركة توحي بالحيوية والتوثب والانطلاق والطاقة المتدفقة والعزيمة القوية والحرية والانعتاق من أسر القيود ، في شخصية البدوي ، الذي تنهض القصيدة بالتعبير عنه ، وعن موقفه تجاه الحضارة أو المدينة .
والبيتان الأولان يهيئان لهذه الصورة ، إذ يبدو البدوي حصاناً ، ومن سمات الحصان الأصيل : النشاط والقوة والتوثب .
وفي تجسيده لحركة البدوي ؛ نلحظ الامتزاج بمفردات الطبيعة ، التي تمثل أبرز ما في بيئة البدوي : الشمس ، الصحراء ، ثم تعبيره بالآفاق الموحي بالفسحة والسعة في بيئته ، إذ إن بيئته الصحراوية مفتوحة ، ممتدة ، لا يحدها شيء ، وهذا له علاقة بإحساسه بالانعتاق من القيود .
ولنلحظ أن هروبه من المدينة أو الحضارة ، ثم امتزاجه بالصحراء وانتماءه لها ، لم يصيره أسيراً لها ، بل إن اتساع المكان ، وامتداد المسافات ، قد أطلق روحه ؛ فقد سما فوق التضاريس ، فالصحراء تتبعه ، والرمل يجري بين خطواته ، بل إنه ينتعل الآفاق ، في رحلته التأملية تلك .
وهذا نموذج ثان لإيحاء الحركة في الصورة ، من قصيدة ( أوان الشد ) ، للشاعر ( عبدالله الرشيد ) ، التي تنضح بالحماس والتوثب تبعاً للرؤية التي تقدمها :
إننا من رحم الشمس خرجنا
وامتزجنا
بالغد القادم في أحشائه وعد جميل
وشربنا ظمأ الصحراء أفنينا ضلوع المستحيل
وتشبثنا بأذيال المجرات . . .
أمانينا انبثاق النور . . .
نجوانا .. حكايات تطول
نحن أبناء القرون الخضر جئنا
نحضن المجد ونجري
ما جرى الفلك ، وما امتدت ترانيم الفصول
نوقف الليل إذا انسلت ذراعاً بطشه
نلقيه طعماً للأساطير
.. فيرتد نديماً للطول
والذي خدش وجه الطهر
نسقيه من الكأس الوبيل (7
حركة قوية ، عنيفة ، سريعة ، تنبض من ثنايا الصور: خرجنا، امتزجنا ، تشبثنا ، نجري . . . . . . . وهذه الحركة تتناسب مع هذا الخطاب الحماسي الذي يصدر من ( أبناء القرون الخضر ) ، حيث حيوية الشباب الذين يحملون بالمجد للأمة ، إذ يتسمون بالعنفوان المتألق ، وتفجر الحركة ، والتوثب ، والقوة .
وفي هذه الحركة تنقل مرحلي ، وفي كل مرحلة توظيف لمفردات البيئة ، مع بروز أثر البعد الزمني .
الخروج من رحم الشمس يعني الانبثاق من الضياء ، من الحق الساطع ، والرفعة والشموخ والقوة والتوهج . ويعقب هذا الخروج الامتزاج بالمستقبل الجميل ، الذي يرسمون عليه ملامح الأمل القادم . والشرب من ظمأ الصحراء ، تصوير فيه تناقض، لكنه يوحي بما طبعتهم به الصحراء من القدرة على التحمل والصمود ؛ لذلك كانت الصورة التالية : أفنينا ضلوع المستحيل . والتشبث بأذيال المجرات ، يصور الطموح العالي ، ودائماً تشرئب الطموحات العالية في التصوير نحو أعلى أفق. ولنلحظ الإصرار على تحقيق الطموح تجسده كلمة(تشبثنا). ويرمز النور في هذه الأمنية ( أمانينا انبثاق النور ) إلى الحق والعدل .
وفي المقطع الثاني تتغير صيغة الفعل من الماضي إلى المضارع ، في معظم الأفعال : نحضن المجد ، نجري ، نوقف الليل ، نلقيه طمعاً ، نسقيه ... والمضارع يجسد الحركة بشكل أعمق ، وبدرجة أكبر ، لأنه معني بالحاضر ، إذ يجسد المُشَاهد الآن .
كما نحس بسرعة الإيقاع في الحركة ، إذ تحتوي هذه الأفعال حرارة الحركة بشكل أسرع : نجري ، جري الفلك .
وتتعمق الحركة أكثر في مشهد الصراع مع الليل وهو رمز للاعتداء والظلم ، فهذه الصورة التي تبرز الانتصار على الليل ، تزيد في الإيحاء بالحركة ، وتكسبها عنفاً وقوةً أكبر . إذاً فطابع الحركة الذي ينثال في النص جاء تبعاً لطبيعة الرؤية التي تنبثق منه .
وهذا نموذج آخر في الإيحاء بالحركة في الصورة من قصيدة ( انكسارات لحظة مسائية ) ، للشاعر ( عبدالعزيز العجلان ) ، يناجي فيها ذاته :
حاصرك الليل ، والصمت
والسأم المتواصل ،
لن تستطيع وصولا
ولن تستطيع نكولا
ولن تستطيع ابتداء
تمر بك اللحظات خفافا
وتنأى ثقالاً ثقالا
تتوه بأفيائهن الظنون
وتعيا العيون الرواني اقترابا 8
صورة تجسد الحركة في الزمن، يمتزج فيها البطء والسرعة في الإيقاع ، تمر به اللحظات خفيفة سريعة ، ولكنه يعبئها من خيبته وحزنه وانكساره ، فتبتعد في حركة بطيئة تتناسب مع ما تحمله من ثقل .
نظرة غريبة للزمن ؛ فبدلاً من أن يقذفه الزمن بالهم والتعب ؛ نجد اللحظة تمتلئ بما فيه من أسى وإحساس بالحصار والضيق والاختناق .
ولنلحظ أنه عبر بجزء بسيط جداً من الزمن ، بل إنه أصغر أجزائه ، وهذا يدل على عمق معاناته وشدتها ، إذ تغلغلت إلى أدق الأشياء .
وهذا الإحساس العميق بالزمن يرتبط بالبعد الذي تنطلق منه القصيدة ، فالعنوان ( انكسارات لحظة مسائية) ، فالمساء والانكسار تعانقا ؛ فانطبعت اللحظات بهذا المزيج .
هوامش:
1- فصول من البلاغة والنقد الأدبي ، د. إسماعيل الصيفي وآخرون ، ص 349
2-الجاهلي يشعل خرائطه ، ص 72 ..
3- الجاهلي يشعل خرائطه ، ص 71،72 .
4-حمائم تكنس العتمة ، ص 71 .
5- فصول من البلاغة والنقد الأدبي ، د. إسماعيل الصيفي وآخرون ، ص 349 .
6- تهجيت حلماً .. تهجيت وهماً ، ص 102 .
7- حروف من لغة الشمس ، ص 18 .
8- أشياء من ذات الليل ، ص 72 .
للصورة الشعرية " عناصرها التي تتم بها من جميع نواحيها : عنصر المنظر كله ، وعنصر اللون ، وعنصر اللمس ، وعنصر الوقت الذي تراها فيه ، وعنصر الموقع الذي تقع فيه من المكان ،
وعنصر الحركة . والتصوير المطبوع الذي يعطي الصورة قوتها وخلودها وأهميتها في بناء القصيدة يتمثل في اللون والشكل والمعنى والحركة " ( ) .
قد تكون الصورة متحركة ، وقد تكون ثابتة . ولا يعني إيحاء الصورة بالثبات معنى سلبياً ، بل إن هذا الإيحاء بالثبات الذي تمنحه الصورة قد يرتبط بالجو النفسي الذي ينبث فيها ، كهذا المقطع من قصيدة ( انتظار ) ، للشاعر
( عبدالعزيز العجلان ) :
ها أنا شاخص في احتضار المساء
كبيت من الشعر يبحث عن قافية ،
بقايا اخضرار على جمرات اليباس
ترقب همهمة الغيم
بوح المسارب
.. أو مدية حانية ( )
أي خمود وجمود وثبات وهمود أكثر من ذلك النبت أو بقايا النبت الذي يشرف على الموت !! فلا ماء يسقيه ليبث الحياة بين عروقه ، ولا خصب في المراعي ليصنع لـه شيئاً من الحيوية التي نراها في حركة النبات النضر ، فالنبات في حالة انتظار لمصدر الحياة .
هذه الصورة صورة الجمود والانتظار ، تتسق مع الحالة التي يعبر عنها الشاعر ، إذ تجسد حالة الخمود والهمود والضعف والاستسلام ؛ فقد تجمد عند لحظة واحدة : لم يبق في العمر خارطة للغياب .
ولا موسم للإياب
وغزاه الخواء : لم يبق في القلب متسع للفتون
ولا للظنون
بل إن كائنات الطبيعة تتحكم فيه : وهزت بي الريح مستلباً في العراء 3
وحالة الانتظار ، انتظار الإغاثة ترددها تلك الجملة التي تتوزع في أنحاء القصيدة ( أشعليني فقط ) .
إلا أن الاستسلام يبدو الأقوى سيطرة ، حين يصور النبات منتظراً مدية حانية ؛ فالموت يبدو أكثر رحمة لهذا النبات شبه الميت ، ولنلحظ وصفه بأنه على جمرات اليباس إيحاءً بالواقع القاسي المحيط به .
إذا ؛ فهذا الثبات الذي يطبع الصورة بطابعه ، انبثق من الرؤية التي يقدمها النص .
وهذا نموذج آخر للصورة الثابتة من قصيدة ( مرثية آخر الأعياد ) ، للشاعر ( جاسم الصحيح ) ، إذ يقول في معاناة فكرية قاسية :
أزرى بنا زمن .. تعنبت الـرؤى فيـه لنقطفهـا كـؤوس رقـاد
جئنا الحـياة معلقين بـلغزهـا جثثـاً مـدلاة مــن الأعـواد 4)
إيحاء قوي بالجمود والهمود تبعثه صورة الجثث المدلاة ، إذ لا سكون أقوى وأوضح من الموت ، وهذه الصورة تعبر عن الموقف الفكري أمام الحياة ، إذ تبدو لغزاً عصياً على الحل ، حسب رأي الشاعر .
وهنا يحس بسكون التفكير ، وجمود مسالكه ، فالرؤى لا تشتعل ، ولا تلعب دورها في الحياة ، بل تظل على حالها ، حتى تنتج كسلاً فكرياً ورقاداً مميتاً . كل هذه المعاني تمثلها الصورة السابقة ، إذ تصور هؤلاء جثثاً مدلاة ، في سكون بلا حراك ؛ وجمود ممعن في الاستسلام .
وعنصر الحركة في الصورة يوحي أيضاً بخيوط التجربة الشعورية في القصيدة . وربما تكون الحركة أصعب ما في التصوير ؛ " لأن تمثيلها يتوقف على ملكة الناظر ، ولا يتوقف على ما يراه بعينه ، ويدركه بظاهر حسه " (5 .
قد نحس بحركة سريعة قوية في الصورة ؛ وهنا نتوقف لنربط هذه الحركة وسماتها بالرؤية في النص ، وقد تكون الحركة بطيئة ثقيلة ، وقد تجمع بين الحالتين ، وفي كل لابد أن نحاول تفسيرها ، وربطها برؤية الشاعر والمخزون الشعوري والنفسي الذي يصدر منه .
وفي هذا النموذج من قصيدة ( صفحة من أوراق بدوي ) ، للشاعر ( محمد الثبيتي ) ، نحس بلون من الحركة تنتشر في أرجاء الصورة :
أنا حصـان قـديـم فـوق غرتـه
توزع الشـمس أنـوار الصباحـات
أنـا حصـان عصي لا يطـوعـه
بـوح العناقيـد أو عطـر الهنيهات
أتـيت أركـض والصحـراء تتبعني
وأحـرف الرمل تجري بين خطواتي
أتـيت أنتعـل الآفـاق .. أمنحهـا
جرحي .. وأبحث فيها عن بداياتي 6)
في البيتين الأخيرين نحس بحركة قوية سريعة تسري في الصورة : أركض تتبعني ، تجري ، أبحث ، وهذه الحركة توحي بالحيوية والتوثب والانطلاق والطاقة المتدفقة والعزيمة القوية والحرية والانعتاق من أسر القيود ، في شخصية البدوي ، الذي تنهض القصيدة بالتعبير عنه ، وعن موقفه تجاه الحضارة أو المدينة .
والبيتان الأولان يهيئان لهذه الصورة ، إذ يبدو البدوي حصاناً ، ومن سمات الحصان الأصيل : النشاط والقوة والتوثب .
وفي تجسيده لحركة البدوي ؛ نلحظ الامتزاج بمفردات الطبيعة ، التي تمثل أبرز ما في بيئة البدوي : الشمس ، الصحراء ، ثم تعبيره بالآفاق الموحي بالفسحة والسعة في بيئته ، إذ إن بيئته الصحراوية مفتوحة ، ممتدة ، لا يحدها شيء ، وهذا له علاقة بإحساسه بالانعتاق من القيود .
ولنلحظ أن هروبه من المدينة أو الحضارة ، ثم امتزاجه بالصحراء وانتماءه لها ، لم يصيره أسيراً لها ، بل إن اتساع المكان ، وامتداد المسافات ، قد أطلق روحه ؛ فقد سما فوق التضاريس ، فالصحراء تتبعه ، والرمل يجري بين خطواته ، بل إنه ينتعل الآفاق ، في رحلته التأملية تلك .
وهذا نموذج ثان لإيحاء الحركة في الصورة ، من قصيدة ( أوان الشد ) ، للشاعر ( عبدالله الرشيد ) ، التي تنضح بالحماس والتوثب تبعاً للرؤية التي تقدمها :
إننا من رحم الشمس خرجنا
وامتزجنا
بالغد القادم في أحشائه وعد جميل
وشربنا ظمأ الصحراء أفنينا ضلوع المستحيل
وتشبثنا بأذيال المجرات . . .
أمانينا انبثاق النور . . .
نجوانا .. حكايات تطول
نحن أبناء القرون الخضر جئنا
نحضن المجد ونجري
ما جرى الفلك ، وما امتدت ترانيم الفصول
نوقف الليل إذا انسلت ذراعاً بطشه
نلقيه طعماً للأساطير
.. فيرتد نديماً للطول
والذي خدش وجه الطهر
نسقيه من الكأس الوبيل (7
حركة قوية ، عنيفة ، سريعة ، تنبض من ثنايا الصور: خرجنا، امتزجنا ، تشبثنا ، نجري . . . . . . . وهذه الحركة تتناسب مع هذا الخطاب الحماسي الذي يصدر من ( أبناء القرون الخضر ) ، حيث حيوية الشباب الذين يحملون بالمجد للأمة ، إذ يتسمون بالعنفوان المتألق ، وتفجر الحركة ، والتوثب ، والقوة .
وفي هذه الحركة تنقل مرحلي ، وفي كل مرحلة توظيف لمفردات البيئة ، مع بروز أثر البعد الزمني .
الخروج من رحم الشمس يعني الانبثاق من الضياء ، من الحق الساطع ، والرفعة والشموخ والقوة والتوهج . ويعقب هذا الخروج الامتزاج بالمستقبل الجميل ، الذي يرسمون عليه ملامح الأمل القادم . والشرب من ظمأ الصحراء ، تصوير فيه تناقض، لكنه يوحي بما طبعتهم به الصحراء من القدرة على التحمل والصمود ؛ لذلك كانت الصورة التالية : أفنينا ضلوع المستحيل . والتشبث بأذيال المجرات ، يصور الطموح العالي ، ودائماً تشرئب الطموحات العالية في التصوير نحو أعلى أفق. ولنلحظ الإصرار على تحقيق الطموح تجسده كلمة(تشبثنا). ويرمز النور في هذه الأمنية ( أمانينا انبثاق النور ) إلى الحق والعدل .
وفي المقطع الثاني تتغير صيغة الفعل من الماضي إلى المضارع ، في معظم الأفعال : نحضن المجد ، نجري ، نوقف الليل ، نلقيه طمعاً ، نسقيه ... والمضارع يجسد الحركة بشكل أعمق ، وبدرجة أكبر ، لأنه معني بالحاضر ، إذ يجسد المُشَاهد الآن .
كما نحس بسرعة الإيقاع في الحركة ، إذ تحتوي هذه الأفعال حرارة الحركة بشكل أسرع : نجري ، جري الفلك .
وتتعمق الحركة أكثر في مشهد الصراع مع الليل وهو رمز للاعتداء والظلم ، فهذه الصورة التي تبرز الانتصار على الليل ، تزيد في الإيحاء بالحركة ، وتكسبها عنفاً وقوةً أكبر . إذاً فطابع الحركة الذي ينثال في النص جاء تبعاً لطبيعة الرؤية التي تنبثق منه .
وهذا نموذج آخر في الإيحاء بالحركة في الصورة من قصيدة ( انكسارات لحظة مسائية ) ، للشاعر ( عبدالعزيز العجلان ) ، يناجي فيها ذاته :
حاصرك الليل ، والصمت
والسأم المتواصل ،
لن تستطيع وصولا
ولن تستطيع نكولا
ولن تستطيع ابتداء
تمر بك اللحظات خفافا
وتنأى ثقالاً ثقالا
تتوه بأفيائهن الظنون
وتعيا العيون الرواني اقترابا 8
صورة تجسد الحركة في الزمن، يمتزج فيها البطء والسرعة في الإيقاع ، تمر به اللحظات خفيفة سريعة ، ولكنه يعبئها من خيبته وحزنه وانكساره ، فتبتعد في حركة بطيئة تتناسب مع ما تحمله من ثقل .
نظرة غريبة للزمن ؛ فبدلاً من أن يقذفه الزمن بالهم والتعب ؛ نجد اللحظة تمتلئ بما فيه من أسى وإحساس بالحصار والضيق والاختناق .
ولنلحظ أنه عبر بجزء بسيط جداً من الزمن ، بل إنه أصغر أجزائه ، وهذا يدل على عمق معاناته وشدتها ، إذ تغلغلت إلى أدق الأشياء .
وهذا الإحساس العميق بالزمن يرتبط بالبعد الذي تنطلق منه القصيدة ، فالعنوان ( انكسارات لحظة مسائية) ، فالمساء والانكسار تعانقا ؛ فانطبعت اللحظات بهذا المزيج .
هوامش:
1- فصول من البلاغة والنقد الأدبي ، د. إسماعيل الصيفي وآخرون ، ص 349
2-الجاهلي يشعل خرائطه ، ص 72 ..
3- الجاهلي يشعل خرائطه ، ص 71،72 .
4-حمائم تكنس العتمة ، ص 71 .
5- فصول من البلاغة والنقد الأدبي ، د. إسماعيل الصيفي وآخرون ، ص 349 .
6- تهجيت حلماً .. تهجيت وهماً ، ص 102 .
7- حروف من لغة الشمس ، ص 18 .
8- أشياء من ذات الليل ، ص 72 .