قراءة تأملية في مصطلحات أسلوبية
دكتور
أسامة عبد العزيز جاب الله
كلية الآداب – جامعة كفر الشيخ
الأسلوب في الدراسات الأدبية والنقدية – قديماً وحديثاً – مصطلح فني يراد منه معنى محدد شاع بين طائفة من الباحثين ، يتسع هذا المصطلح ليشمل في طياته مدلولات لا نهائية لكونه مصطلح تراكمي الدلالة ، استغرق في المدى الزمني فترات طويلة ليصل إلى المدلول النهائي (غير المكتمل ) إلى وقتنا الحالي .
ويعرف د . شكري عياد علم الأسلوب بأنه " مجال من مجالات البحث المعاصرة يعرض بالدرس للنصوص الأدبية وغير الأدبية ، محاولاً الالتزام بمنهج موضوعي يحيل على أساسه الأساليب ليظهر جماع الرؤى التي تنطوي عليها أعمال الكتاب ، ويكشف عن القيم الجمالية لهذه الأعمال منطلقاً من تحليل الظواهر اللغوية والبلاغية للنص " ( ). وعلى هذا الأساس فالأسلوبية همها الأول رصد الطاقات التعبيرية الكامنة في اللغة لا في الفرد .
ويؤسس د. أحمد درويش على المفهوم السابق ليحدد دور الأسلوبية في إبراز جماليات اللغة وذلك لكون : " الأسلوبية هي الوصول إلى وصف وتقييم علمي محدد لجماليات التعبير في مجال الدراسات الأدبية واللغوية على نحو خاص " ( ).
والأسلوبية في مجملها العام تهتم على نحو خاص بمفهوم ( النص ) الأدبي وغيره ، وذلك بتحليله لغوياً بهد الكشف عن الأبعاد النفسية و القيم الجمالية ، والوصول إلى أعماق مبدعه من خلال تحليل نصه ( ). ويرتبط بالأسلوبية مجموعة من المفاهيم التي اتُّخِذَت ( أسساً ) تقوم عليها نظرية الأسلوبية أو علم الأسلوب وهي : ( الاختيار ، والانحراف ، والمتلقي ، والسياق ) . ونعرض لكل مفهوم منها ، ونبين دوره في أداء المنوط به في هيكلة علم الأسلوب كما يلي :
المفهوم الأول : الاختيار ( Choice ) = الانتقاء ( Selection ) ( )
ارتبط مفهوم ( الاختيار ) بالأسلوبية واعتبر حداً فاصلاً بين ( الجمالي = اللغة الفنية ) و ( غير الجمالي = اللغة العادية ) ، ذلك أن الكلام لا يمكن أن يكتسب صفة الأسلوبية إلا إذا تحققت فيه جملة من الظواهر التعبيرية التي ( يؤثرها = يختارها ) الشاعر أو الأديب دون غيرها ، لأنها في نظره هي ( وحدها ) التي يمكن أن تعبر عما يدور في خلده . ومن ثم كان الأسلوب في جوهره( اختياراً ) ، ومن شأنه أن ينقل اللغة من حيادها إلى خطاب يتميز بنفسه . أو أن الأسلوب ( انتقاء ) لسمات لغوية معينة بغرض التعبير عن موقف معين . إن ( الاختيار = الانتقاء ) الأسلوبي الذي يقوم به المبدع يكون شاملاً لمختلف النواحي المتعلقة باللغة ؛ ( الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية) ، لأن هذا الاختيار سيكون أصدق ما يمكن إذا حقق قَصْد (المبدع) من توظيفه .
ويرى د . سعد مصلوح أنه يمكننا التمييز بين نوعين مختلفين من الاختيار هما ( ):
الأول : اختيار محكوم بسياق المقام (Context of Situation ) ويراد به استعمال اللغة لتحقيق هدف عملي محدد ، ولذا يوصف هذا الاختيار بأنه ( نفعيPragmatic ) محكوم بسياق المقام ( ).
والثاني : اختيار نحوي ( Grammatical Selection ) ويراد به المفاضلة بين أساليب التراكيب المختلفة ، وانتخاب بعضها لأداء ما يريده المبدع . ولا يقتصر الأمر على ( النحو ) فقط ، بل يراد بكلمة ( النحو ) هنا كل مستويات اللغة المختلفة ( ).
فالاختيار بهذا المفهوم أمر يفترض أن يقوم به المنشئ على كافة مستويات التواصل بدرجات متفاوتة ، ومن ثم فهو ليس محض اختيار لغوي فحسب ، بل هو محكوم من جهة بإمكانات المُقَال ، ومن جهة أخرى بمقتضيات ( المقام ) . وعندئذ تصيح هذه الاختيارات بأنواعها ( متغيرات أسلوبية Stylistic Variables )( ) أي مجموعة من السمات اللغوية التي يعمل فيها ( المنشئ ) بالاختيار أو الاستبعاد أو الحذف ، وبالكيفية التي يراها . فإذا تحققت هذه ( المتغيرات ) في النص بالفعل انتقلت إلى مرحلة تصبح فيها ( خصيصة أسلوبية ) للمبدع يطلق عليها حينئذ ( الخصائص الأسلوبية Stylistic Features ) ( ) .
المفهوم الثاني : ( الانحراف Deviation ) ( )
يمكن القول بأن (الانحراف) يمثل مع مفهوم (الاختيار) العماد الرئيسي للسياق الكلي للنظرية الأسلوبية ، كما أنه يمثل السمة المميزة للغة الأدبية . و( الانحراف ) يُعدّ مؤشراً نصياً على أدبية النص ، ذلك أن الخروج على النسيج اللغوي العادي في أي مستوى من مستوياته ( الصوتية والتركيبية والأسلوبية والبلاغية ) يمثل في حد ذاته حدثاً أسلوبياً ( ) .
ويرتبط (الانحراف) بالنص الذي هو أيضاً انحراف عن قاعدة ما ، أو عن نموذج ( معياري ) . وعلى هذا فإنه يجدر بنا التنبه إلى كون اللغة في مستواها المعياري هي الأصل ، وما جاء ( انحرافاً ) عن هذا الأصل هو المستوى الفني ، أي ( النص المنحرف ) وهذا هو جوهر الإبداع عامة .
هذا وقد عُرِفَ الانحراف في تراثنا العربي تحت مسميات أُخَر منها ( العدول ) و( الصرف ) و ( الانصراف ) و ( مخالفة مقتضى الظاهر ) ، وتعددت تعريفات أهل التراث له بما يخدم المصطلح في تكويناته الحديثة الآن ( ).
المفهوم الثالث : المتلقي = القارئ Reader
يستند تحليل النصوص إلى فعل ( القراءة ) الذي يقوم به ( قارئ ) خاص . فالقراءة هي الخطوة الأولى في العملية النقدية التي تحيل النص إلى معنى . ولذلك فإن مهمة القارئ ( المتلقي ) لا تُحَدَّد فقط في التلقي الآلي للنص الأدبي ، بل في تمثله نقدياً ، وإخضاعه لمعايير التحليل المختلفة وصولاً إلى مكنوناته الثرية ( ). وقد تزايد الاهتمام بالمتلقي خاصة في ظل المدارس النقدية الحديثة مثل : ( السيميائية ، والتفكيكية ، و نظرية التلقي ، ونظرية استجابة القارئ ، والأسلوبية )( ).
أنواع القرَّاء :
هناك نوعان من القراء يختلفان حسب موقعهما من تقبل ( النص ) هما ( ) :
الأول : القارئ الحقيقي ؛ وهو ذلك القارئ الذي يكتفي بتلقي النص على ما هو عليه دون أن يستثير النص ، أو يثّوِّره .
والنوع الثاني : القارئ الخاص ؛ وهو ذلك القارئ الذي يخلق النص من جديد عبر إقامة الحوار المستمر معه ، ومعاودة النظر فيه مرة بعد أخرى ، وهو ما يمكن تسميته بالقارئ النصي . ويمكن للقارئ الحقيقي أن يتحول إلى قارئ نصي بتفعيل تقبله السلبي وتحويله إلى انفعال حقيقي بمستوى التلقي التفاعلي بين ( القارئ ) و ( النص ) ومن ثم ( المبدع ) ( ).
المفهوم الرابع : السياق Context ( )
السياق هو القاعدة الداخلية التي ينحرف عنها الأسلوب ، إذ تحدد أي ظاهرة أسلوبية بكونها خروجاً أو تحولاً عن النمط السائد في السياق . ويمكن تحديد هذه الظاهرة الأسلوبية في نص ما بموضوعية عن طرق رصد نقاط التحول في مسار السياق فيه ( ).
والسياق الأسلوبي نموذج لغوي يساعد على كشف ظواهر النص ، وذلك لأنه لا يمكن أن نعول على استجابة القارئ للنص وحدها في مسألة الكشف النصي .
وتأتي أهمية السياق من خلال الدور الذي يؤديه في فهم المعنى ، ذلك أن الكلمة تكتسب مدلولها من السياق ، وتتغير هذه الدلالة بتغيره ، وإذن كان هذا لا ينفي وجود دلالات للكلمة المفردة لو خلت منها لبطلت وظيفتها في السياق ، ومن ثم يأتي السياق ليحدد احد تلك الوظائف الدلالية للكلمة ( ).
الهوامش :
1. - د. شكري عياد ، اتجاهات البحث الأسلوبي ، دار العلوم للطباعة والنشر ، الرياض ، 1985 ، 5 .
2. - د . أحمد درويش ، دراسة الأسلوب بين المعاصرة والتراث ، مكتبة الزهراء ، القاهرة ، 1986 ، 156 .
3. - ينظر : د . فتح الله سليمان ، الأسلوبية مدخل نظري دراسة تطبيقية ، الدار الفنية للنشر والتوزيع ، القاهرة ، 1993 ، 34 .- د . محمد عبد المطلب ، البلاغة والأسلوبية ، لونجمان ، القاهرة ، 1994 ، 13 .
- د. شفيع السيد ، الاتجاه الأسلوبي في النقد الأدبي ، دار الفكر العربي ، القاهرة ، 1986، 132 .
- د . صلاح فضل ، علم الأسلوب ؛ مبادئه وإجراءاته ، دار الشروق ، القاهرة ، 1998 ، 14 .
- د . عبد السلام المسدي ، الأسلوبية والأسلوب ، دار سعاد الصباح ، الكويت ، ط2 ، 1993 ، 65 .
- د . عبد العظيم المطعني ، علم الأسلوب في الدراسات الأدبية والنقدية ، مكتبة وهبة ، 2001 ، 106 .
4. - ينظر : د . سعد مصلوح ، الأسلوب ،37–42 .- د. شفيع السيد ، الاتجاه الأسلوبي في النقد الأدبي ،143– 146 .
5. - د. سعد مصلوح ، الأسلوب ، 38 .
6. - د. شفيع السيد ، الاتجاه الأسلوبي في النقد الأدبي ، 135 .
7. - د . عبد السلام المسدي ، الأسلوبية والأسلوب ، 79 .
8. - د . سعد مصلوح ، في النص الأدبي ، 37 .
9. - المرجع السابق ، 67 .
10. - ينظر : د. محمود سليمان ياقوت ، علم الجمال اللغوي ، دار المعرفة الجامعية ، الإسكندرية،1995 ،2/338–346 .
- د . حسن طبل ، أسلوب الالتفات في البلاغة العربية ، دار الفكر العربي ، القاهرة ، 1998 ، 40 – 46 .
- د . منذر عياشي ، مقالات في الأسلوبية ، معهد الإنماء العربي ، حلب ، 1996 ، 79 – 83 .
11. -مديحة السايح ، المنهج الأسلوبي، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 2003 ، 147– 160 .- د. فتح الله سليمان ، الأسلوبية ، 20– 31 .
12. - د. منذر عياشي ، مقالات في الأسلوبية ، 79 .
13. - ينظر : ابن المعتز ، البديع ، تحقيق : إغناطيوس كراتشكوفسكي ، دار المسيرة ، بيروت ، ط3 ، 1982 ، 58 .
- قدامة بن جعفر ، نقد الشعر، تحقيق : كمال مصطفى ، مكتبة الخانجي ، القاهرة ، ط3 ، 1978 ، 146 – 147 .
- العسكري ، كتاب الصناعتين ، 438 – 439 .
- الحاتمي ، حلية المحاضرة في صناعة الشعر ، تحقيق : د . جعفر الكتاني ، دار الرشيد ، بغداد ، د. ت ، 1/ 157 .
- الثعالبي ، فقه اللغة وأسرار العربية ، تحقيق : مصطفى السقا ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، 1983 ، 260 .
- ابن رشيق ، العمدة في نقد الشعر ، تحقيق : محمد محيي الدين عبد الحميد ، دار الجيل ، بيروت ، 1981 ، 2 /46 .
- ابن الأثير ، المثل السائر ، 1 / 146 .- ابن أبي الإصبع ، تحرير التحبير ، تحقيق : د. حفني شرف ، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، القاهرة ،1996،124 .- السكاكي، مفتاح العلوم ، تحقيق : د . عبد الحميد هنداوي ، دار الكتب العلمية ن بيروت ، 2002 ، 266 .
- العلوي ، الطراز المتضمن لأسرار البلاغة ، تحقيق : محمد شاهين ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1995 ، 265 .
- القزويني ، الإيضاح في علوم البلاغة ، تحقيق : د. عبد الحميد هنداوي ، مؤسسة المختار ، القاهرة ، 1998 ، 391 .
14. - د. حاتم الصكر ، ترويض النص ، 51 .
15. - ينظر : ميشال ريفاتير ، معايير تحليل الأسلوب ، ترجمة : حميد لحمداني ، دار إفريقيا الشرق ، الدار البيضاء ، 1993 ، 8 .- رامان سلدن ، النظرية الأدبية المعاصرة ، ترجمة : د. جابر عصفور ، دار قباء ، القاهرة ، 1998 ، 165 – 186 .- روبرت سي هول ، نظرية الاستقبال ، ترجمة : د . رعد عبد الجليل ، دار الحوار ، دمشق ، 1992 ، 129 – 138 .
16. - د . حاتم الصكر ، ترويض النص ، 52 .
17. - ينظر : د. محمد مفتاح ، التلقي والتأويل ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، 1994 ، 86 – 90 .
- د . نبيلة إبراهيم ، القارئ في النص ، مجلة فصول ، القاهرة ، مج 5 ، ع 1 ، ديسمبر 1984 ، 101 – 119 .
18. - ينظر : د. سعد مصلوح ، في النص الأدبي ، 39 . - د . عبد السلام المسدي ، الأسلوبية والأسلوب ، 86 . – د . محمد عبد المطلب ، البلاغة والأسلوبية ، 305 – 320 . – د. حسن طبل ، أسلوب الالتفات ، 46 – 48 . - مديحة السايح ، المنهج الأسلوبي ، 175 – 189 .– د . أحمد مختار عمر ، علم الدلالة ، 61 .– د . عبده الراجحي ، اللغة وعلوم المجتمع ، منشأة المعارف ، الإسكندرية ، ط2 ، 1986 ، 23 – 27 . د . كريم حسام الدين ، أصول تراثية في علم اللغة ، 233 .
19. - د . حسن طبل ، أسلوب الالتفات في البلاغة العربية ، 52 .
20. - د. حسين بو حسون ، الأسلوبية والنص الأدبي ، مجلة الموقف الأدبي ، دمشق،ع 378 ،تشرين الأول2002 ، 127 .
منقول
دكتور
أسامة عبد العزيز جاب الله
كلية الآداب – جامعة كفر الشيخ
الأسلوب في الدراسات الأدبية والنقدية – قديماً وحديثاً – مصطلح فني يراد منه معنى محدد شاع بين طائفة من الباحثين ، يتسع هذا المصطلح ليشمل في طياته مدلولات لا نهائية لكونه مصطلح تراكمي الدلالة ، استغرق في المدى الزمني فترات طويلة ليصل إلى المدلول النهائي (غير المكتمل ) إلى وقتنا الحالي .
ويعرف د . شكري عياد علم الأسلوب بأنه " مجال من مجالات البحث المعاصرة يعرض بالدرس للنصوص الأدبية وغير الأدبية ، محاولاً الالتزام بمنهج موضوعي يحيل على أساسه الأساليب ليظهر جماع الرؤى التي تنطوي عليها أعمال الكتاب ، ويكشف عن القيم الجمالية لهذه الأعمال منطلقاً من تحليل الظواهر اللغوية والبلاغية للنص " ( ). وعلى هذا الأساس فالأسلوبية همها الأول رصد الطاقات التعبيرية الكامنة في اللغة لا في الفرد .
ويؤسس د. أحمد درويش على المفهوم السابق ليحدد دور الأسلوبية في إبراز جماليات اللغة وذلك لكون : " الأسلوبية هي الوصول إلى وصف وتقييم علمي محدد لجماليات التعبير في مجال الدراسات الأدبية واللغوية على نحو خاص " ( ).
والأسلوبية في مجملها العام تهتم على نحو خاص بمفهوم ( النص ) الأدبي وغيره ، وذلك بتحليله لغوياً بهد الكشف عن الأبعاد النفسية و القيم الجمالية ، والوصول إلى أعماق مبدعه من خلال تحليل نصه ( ). ويرتبط بالأسلوبية مجموعة من المفاهيم التي اتُّخِذَت ( أسساً ) تقوم عليها نظرية الأسلوبية أو علم الأسلوب وهي : ( الاختيار ، والانحراف ، والمتلقي ، والسياق ) . ونعرض لكل مفهوم منها ، ونبين دوره في أداء المنوط به في هيكلة علم الأسلوب كما يلي :
المفهوم الأول : الاختيار ( Choice ) = الانتقاء ( Selection ) ( )
ارتبط مفهوم ( الاختيار ) بالأسلوبية واعتبر حداً فاصلاً بين ( الجمالي = اللغة الفنية ) و ( غير الجمالي = اللغة العادية ) ، ذلك أن الكلام لا يمكن أن يكتسب صفة الأسلوبية إلا إذا تحققت فيه جملة من الظواهر التعبيرية التي ( يؤثرها = يختارها ) الشاعر أو الأديب دون غيرها ، لأنها في نظره هي ( وحدها ) التي يمكن أن تعبر عما يدور في خلده . ومن ثم كان الأسلوب في جوهره( اختياراً ) ، ومن شأنه أن ينقل اللغة من حيادها إلى خطاب يتميز بنفسه . أو أن الأسلوب ( انتقاء ) لسمات لغوية معينة بغرض التعبير عن موقف معين . إن ( الاختيار = الانتقاء ) الأسلوبي الذي يقوم به المبدع يكون شاملاً لمختلف النواحي المتعلقة باللغة ؛ ( الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية) ، لأن هذا الاختيار سيكون أصدق ما يمكن إذا حقق قَصْد (المبدع) من توظيفه .
ويرى د . سعد مصلوح أنه يمكننا التمييز بين نوعين مختلفين من الاختيار هما ( ):
الأول : اختيار محكوم بسياق المقام (Context of Situation ) ويراد به استعمال اللغة لتحقيق هدف عملي محدد ، ولذا يوصف هذا الاختيار بأنه ( نفعيPragmatic ) محكوم بسياق المقام ( ).
والثاني : اختيار نحوي ( Grammatical Selection ) ويراد به المفاضلة بين أساليب التراكيب المختلفة ، وانتخاب بعضها لأداء ما يريده المبدع . ولا يقتصر الأمر على ( النحو ) فقط ، بل يراد بكلمة ( النحو ) هنا كل مستويات اللغة المختلفة ( ).
فالاختيار بهذا المفهوم أمر يفترض أن يقوم به المنشئ على كافة مستويات التواصل بدرجات متفاوتة ، ومن ثم فهو ليس محض اختيار لغوي فحسب ، بل هو محكوم من جهة بإمكانات المُقَال ، ومن جهة أخرى بمقتضيات ( المقام ) . وعندئذ تصيح هذه الاختيارات بأنواعها ( متغيرات أسلوبية Stylistic Variables )( ) أي مجموعة من السمات اللغوية التي يعمل فيها ( المنشئ ) بالاختيار أو الاستبعاد أو الحذف ، وبالكيفية التي يراها . فإذا تحققت هذه ( المتغيرات ) في النص بالفعل انتقلت إلى مرحلة تصبح فيها ( خصيصة أسلوبية ) للمبدع يطلق عليها حينئذ ( الخصائص الأسلوبية Stylistic Features ) ( ) .
المفهوم الثاني : ( الانحراف Deviation ) ( )
يمكن القول بأن (الانحراف) يمثل مع مفهوم (الاختيار) العماد الرئيسي للسياق الكلي للنظرية الأسلوبية ، كما أنه يمثل السمة المميزة للغة الأدبية . و( الانحراف ) يُعدّ مؤشراً نصياً على أدبية النص ، ذلك أن الخروج على النسيج اللغوي العادي في أي مستوى من مستوياته ( الصوتية والتركيبية والأسلوبية والبلاغية ) يمثل في حد ذاته حدثاً أسلوبياً ( ) .
ويرتبط (الانحراف) بالنص الذي هو أيضاً انحراف عن قاعدة ما ، أو عن نموذج ( معياري ) . وعلى هذا فإنه يجدر بنا التنبه إلى كون اللغة في مستواها المعياري هي الأصل ، وما جاء ( انحرافاً ) عن هذا الأصل هو المستوى الفني ، أي ( النص المنحرف ) وهذا هو جوهر الإبداع عامة .
هذا وقد عُرِفَ الانحراف في تراثنا العربي تحت مسميات أُخَر منها ( العدول ) و( الصرف ) و ( الانصراف ) و ( مخالفة مقتضى الظاهر ) ، وتعددت تعريفات أهل التراث له بما يخدم المصطلح في تكويناته الحديثة الآن ( ).
المفهوم الثالث : المتلقي = القارئ Reader
يستند تحليل النصوص إلى فعل ( القراءة ) الذي يقوم به ( قارئ ) خاص . فالقراءة هي الخطوة الأولى في العملية النقدية التي تحيل النص إلى معنى . ولذلك فإن مهمة القارئ ( المتلقي ) لا تُحَدَّد فقط في التلقي الآلي للنص الأدبي ، بل في تمثله نقدياً ، وإخضاعه لمعايير التحليل المختلفة وصولاً إلى مكنوناته الثرية ( ). وقد تزايد الاهتمام بالمتلقي خاصة في ظل المدارس النقدية الحديثة مثل : ( السيميائية ، والتفكيكية ، و نظرية التلقي ، ونظرية استجابة القارئ ، والأسلوبية )( ).
أنواع القرَّاء :
هناك نوعان من القراء يختلفان حسب موقعهما من تقبل ( النص ) هما ( ) :
الأول : القارئ الحقيقي ؛ وهو ذلك القارئ الذي يكتفي بتلقي النص على ما هو عليه دون أن يستثير النص ، أو يثّوِّره .
والنوع الثاني : القارئ الخاص ؛ وهو ذلك القارئ الذي يخلق النص من جديد عبر إقامة الحوار المستمر معه ، ومعاودة النظر فيه مرة بعد أخرى ، وهو ما يمكن تسميته بالقارئ النصي . ويمكن للقارئ الحقيقي أن يتحول إلى قارئ نصي بتفعيل تقبله السلبي وتحويله إلى انفعال حقيقي بمستوى التلقي التفاعلي بين ( القارئ ) و ( النص ) ومن ثم ( المبدع ) ( ).
المفهوم الرابع : السياق Context ( )
السياق هو القاعدة الداخلية التي ينحرف عنها الأسلوب ، إذ تحدد أي ظاهرة أسلوبية بكونها خروجاً أو تحولاً عن النمط السائد في السياق . ويمكن تحديد هذه الظاهرة الأسلوبية في نص ما بموضوعية عن طرق رصد نقاط التحول في مسار السياق فيه ( ).
والسياق الأسلوبي نموذج لغوي يساعد على كشف ظواهر النص ، وذلك لأنه لا يمكن أن نعول على استجابة القارئ للنص وحدها في مسألة الكشف النصي .
وتأتي أهمية السياق من خلال الدور الذي يؤديه في فهم المعنى ، ذلك أن الكلمة تكتسب مدلولها من السياق ، وتتغير هذه الدلالة بتغيره ، وإذن كان هذا لا ينفي وجود دلالات للكلمة المفردة لو خلت منها لبطلت وظيفتها في السياق ، ومن ثم يأتي السياق ليحدد احد تلك الوظائف الدلالية للكلمة ( ).
الهوامش :
1. - د. شكري عياد ، اتجاهات البحث الأسلوبي ، دار العلوم للطباعة والنشر ، الرياض ، 1985 ، 5 .
2. - د . أحمد درويش ، دراسة الأسلوب بين المعاصرة والتراث ، مكتبة الزهراء ، القاهرة ، 1986 ، 156 .
3. - ينظر : د . فتح الله سليمان ، الأسلوبية مدخل نظري دراسة تطبيقية ، الدار الفنية للنشر والتوزيع ، القاهرة ، 1993 ، 34 .- د . محمد عبد المطلب ، البلاغة والأسلوبية ، لونجمان ، القاهرة ، 1994 ، 13 .
- د. شفيع السيد ، الاتجاه الأسلوبي في النقد الأدبي ، دار الفكر العربي ، القاهرة ، 1986، 132 .
- د . صلاح فضل ، علم الأسلوب ؛ مبادئه وإجراءاته ، دار الشروق ، القاهرة ، 1998 ، 14 .
- د . عبد السلام المسدي ، الأسلوبية والأسلوب ، دار سعاد الصباح ، الكويت ، ط2 ، 1993 ، 65 .
- د . عبد العظيم المطعني ، علم الأسلوب في الدراسات الأدبية والنقدية ، مكتبة وهبة ، 2001 ، 106 .
4. - ينظر : د . سعد مصلوح ، الأسلوب ،37–42 .- د. شفيع السيد ، الاتجاه الأسلوبي في النقد الأدبي ،143– 146 .
5. - د. سعد مصلوح ، الأسلوب ، 38 .
6. - د. شفيع السيد ، الاتجاه الأسلوبي في النقد الأدبي ، 135 .
7. - د . عبد السلام المسدي ، الأسلوبية والأسلوب ، 79 .
8. - د . سعد مصلوح ، في النص الأدبي ، 37 .
9. - المرجع السابق ، 67 .
10. - ينظر : د. محمود سليمان ياقوت ، علم الجمال اللغوي ، دار المعرفة الجامعية ، الإسكندرية،1995 ،2/338–346 .
- د . حسن طبل ، أسلوب الالتفات في البلاغة العربية ، دار الفكر العربي ، القاهرة ، 1998 ، 40 – 46 .
- د . منذر عياشي ، مقالات في الأسلوبية ، معهد الإنماء العربي ، حلب ، 1996 ، 79 – 83 .
11. -مديحة السايح ، المنهج الأسلوبي، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 2003 ، 147– 160 .- د. فتح الله سليمان ، الأسلوبية ، 20– 31 .
12. - د. منذر عياشي ، مقالات في الأسلوبية ، 79 .
13. - ينظر : ابن المعتز ، البديع ، تحقيق : إغناطيوس كراتشكوفسكي ، دار المسيرة ، بيروت ، ط3 ، 1982 ، 58 .
- قدامة بن جعفر ، نقد الشعر، تحقيق : كمال مصطفى ، مكتبة الخانجي ، القاهرة ، ط3 ، 1978 ، 146 – 147 .
- العسكري ، كتاب الصناعتين ، 438 – 439 .
- الحاتمي ، حلية المحاضرة في صناعة الشعر ، تحقيق : د . جعفر الكتاني ، دار الرشيد ، بغداد ، د. ت ، 1/ 157 .
- الثعالبي ، فقه اللغة وأسرار العربية ، تحقيق : مصطفى السقا ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، 1983 ، 260 .
- ابن رشيق ، العمدة في نقد الشعر ، تحقيق : محمد محيي الدين عبد الحميد ، دار الجيل ، بيروت ، 1981 ، 2 /46 .
- ابن الأثير ، المثل السائر ، 1 / 146 .- ابن أبي الإصبع ، تحرير التحبير ، تحقيق : د. حفني شرف ، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية ، القاهرة ،1996،124 .- السكاكي، مفتاح العلوم ، تحقيق : د . عبد الحميد هنداوي ، دار الكتب العلمية ن بيروت ، 2002 ، 266 .
- العلوي ، الطراز المتضمن لأسرار البلاغة ، تحقيق : محمد شاهين ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1995 ، 265 .
- القزويني ، الإيضاح في علوم البلاغة ، تحقيق : د. عبد الحميد هنداوي ، مؤسسة المختار ، القاهرة ، 1998 ، 391 .
14. - د. حاتم الصكر ، ترويض النص ، 51 .
15. - ينظر : ميشال ريفاتير ، معايير تحليل الأسلوب ، ترجمة : حميد لحمداني ، دار إفريقيا الشرق ، الدار البيضاء ، 1993 ، 8 .- رامان سلدن ، النظرية الأدبية المعاصرة ، ترجمة : د. جابر عصفور ، دار قباء ، القاهرة ، 1998 ، 165 – 186 .- روبرت سي هول ، نظرية الاستقبال ، ترجمة : د . رعد عبد الجليل ، دار الحوار ، دمشق ، 1992 ، 129 – 138 .
16. - د . حاتم الصكر ، ترويض النص ، 52 .
17. - ينظر : د. محمد مفتاح ، التلقي والتأويل ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء ، 1994 ، 86 – 90 .
- د . نبيلة إبراهيم ، القارئ في النص ، مجلة فصول ، القاهرة ، مج 5 ، ع 1 ، ديسمبر 1984 ، 101 – 119 .
18. - ينظر : د. سعد مصلوح ، في النص الأدبي ، 39 . - د . عبد السلام المسدي ، الأسلوبية والأسلوب ، 86 . – د . محمد عبد المطلب ، البلاغة والأسلوبية ، 305 – 320 . – د. حسن طبل ، أسلوب الالتفات ، 46 – 48 . - مديحة السايح ، المنهج الأسلوبي ، 175 – 189 .– د . أحمد مختار عمر ، علم الدلالة ، 61 .– د . عبده الراجحي ، اللغة وعلوم المجتمع ، منشأة المعارف ، الإسكندرية ، ط2 ، 1986 ، 23 – 27 . د . كريم حسام الدين ، أصول تراثية في علم اللغة ، 233 .
19. - د . حسن طبل ، أسلوب الالتفات في البلاغة العربية ، 52 .
20. - د. حسين بو حسون ، الأسلوبية والنص الأدبي ، مجلة الموقف الأدبي ، دمشق،ع 378 ،تشرين الأول2002 ، 127 .
منقول