السبت فبراير 13, 2010 11:38 amقصص حنا إبراهيم القصيرة / محمد علي سعيد
26/09/2008 21:39
من أبرز أسئلة الأدب الخالدة
السؤال الفلسفي التالي: "لمن السلطة المركزية في العمل الأدبي ؟"
هل هي للنص أم للمؤلف أم للقارئ أم هي حالة توفيقية بينها
والإجابة غير المتفق عليها عن هذا السؤال أدت ولما تزل وستبقى تؤدي إلى تناسل المذاهب الأدبية وبالتالي إلى تعددها.
يقول هيرش : الأدب نشاط لغوي محكوم بالواقع الحياتي الذي يعيشه الكاتب ضمن سياقات متعددة من تاريخية واجتماعية وسياسية وثقافية وغيرها.. وعليه يصعب الفصل بين النص والكاتب.. وقصدية الكاتب هي رسالته، وعلى القارئ أن يجهد نفسه ليصل إليها وبذلك يساعد الكاتب في إيصال رسالته، لا أن يجهد نفسه ليصل إلى قصد آخر لم يرده الكاتب نفسه ولم يخطر في باله..
ويقول رولان بارت: النص حبر على ورق وهذه حالة ميتة والقارئ هو الذي يعطيه الحياة.. والنص لم يعد ملكا للكاتب منذ أن حرره من درجه ونشره بين الناس.. فقد كان الكاتب مع كل الإحترام له وسيلة لإنتاج النص. لا تأثير على النص من خارجه.. فالكتابة هي بلوغ حالة تتحرك فيها اللغة وحدها وليس مع آخرين وبحرية وليس بقيود خارجية .. ومقولته بموت الكاتب المجازي معروفة.. وكذلك أهمية درجة الكتابة واللغة الإنزياحية لا الاعتيادية ( الكتابة في درجة الصفر) لتوفير بيئة داعمة للتأويل.
بين هيرش وبارت حرت في أمري.. وبإيحاء من طبيعة الإبداع الأدبي حسمته بالتوفيق بينهما. وإن كنت أميل إلى نظرية التلقي.
إن تعدد مواد الإبداع تؤدي إلى تعدد طرائق الاستيعاب والتفاعل والإدراك ودرجة الانطباع الأولي. فالإبداع الفني من لوحة وتمثال ومجسم يقدم نفسه للمتلقي (الناظر) دفعة واحدة (نظرية جشتالط) في الوقت نفسه أنت ترى الألوان ودرجاتها والمساحات والظلال والخطوط في اللوحة الفنية.. وفي الوقت نفسه أيضا أنت ترى التمثال: حجمه وتعابير وجهه أو أجزاءه ولونه ومادة بنائه وكذلك المجسم..
أردت أن أقول أن الانطباع الأول وهو محطة الاستيعاب الأولى تكون حول مجمل العمل الإبداعي.. والأمر ليس كذلك بالمرة فيما يتعلق بالعمل الأدبي الذي لا يقدم أو يكشف نفسة دفعة واحدة بل على مراحل وبحسب رغبة المتلقي.. ويكون الاستيعاب تدريجيا فيبدأ بالعنوان ثم متن النص من البداية ثم فقرة بعد فقرة حتى ينتهي النص.
النص الأدبي الإبداعي هو تعبير لغوي جمالي عن تجربة إنسانية بصورة موحية عرفها الكاتب بالتفاعل المباشر أم غير المباشر.. واللغة منظومة من الإشارات العلامات السيميائية، والكلمة إشارة أو دال يستحضر الصورة أو التصور الذهني للموجود العيني للكلمة وبهذا فهي تستثير وتستنفر المتلقي/ القارئ بل تستفزه وتتحداه ليبحث عن معنى النص ودلالاته. وما القراءة الأدبية إلا الحوار الواعي بين النص والقارئ وعمق هذا الحوار تقرره جودة النص وثقافة القارئ.
والنص الأدبي الجيد هو الذي لا يستسلم من المعاشرة الأولى.
وكي نعرف ماذا يقول النص أولا وبالتالي ماذا نفهم نحن منه.. لا بد من تناوله على مراحل وبالتتابع اللغوي وبداهة نبدأ بالعنوان.
العنوان هو عتبة النص ومفتاحه وأول لقاء مادي ومباشر مع النص وهو إشارة مختزلة ذات بعد سيميائي لتأويلات النص.. ولهذا حظي باهتمام الباحثين مؤخرا وخاصة الدراسات اللسانية والسيميائية والأسلوبية التي تناولته من حيث التحليل والتركيب والدلالة والتداول. فالعنوان يشكل لبنة تأسيس الوعي لدى القارئ، وقراءة النص يثبت ذلك أو ينفيه، لأن القراءة عامة والتأويلية خاصة هي عملية هدم وبناء للتوقعات التي تتراكم بالتتابع اللغوي.
ومن المفارقات بأن العنوان هو أول لقاء مع النص بالنسبة للقارئ وهو آخر لقاء مع النص بالنسبة للكاتب. وعليه فالكاتب هو الناقد الأول لنصه.. واختيار العنوان لا يكون اعتباطا أو مصادفة بل هو عملية فيها جهد ذهني بسبب المسؤولية وخاصة الإنطباع الأول.
وللدقة فإن العنوان بصورة أساسية يشير إلى الحقل الدلالي العام للنص.. وليس إلى تفاصيل أخرى تتعلق بمتن النص كما البداية.
من وظائف العنوان
وظيفة العنوان الأساسية هي الإرشاد إلى التأويل بالتلميح أو بالتصريح وأحيانا يكون محايدا ومحيرا حيث يحيل إلى فضاء مفتوحة. الأمثلة مختارة من عناوين القصص التي أتناولها.
1- الوظيفة التعيينية:/ المباشرة تهدف إلى التقليل بقدر الإمكان من احتمالات التأويل..
مثال ذلك: صورة من يوم الأرض.. الرجل حمى الأمن.. جمع الشمل
2- الوظيفة الإغرائية : وتهدف إلى إثارة حب الاستطلاع لدى القارئ وتحفيزه لقراءة متن النص، شخصيا أميل إلى تسميته بالعنوان الطعم.
مثال ذلك: لا لن يضيع.. لقاء غريب.. الوثيقة.. حديث ذو شجون.. العلم.. الثمن
3- الوظيفة اللغوية/ الوصفية: بها يقول العنوان شيئا عن المضمون لتأكيده. ويصبح وسما له.
مثال ذلك: متسللون.. درس في الرماية.. شهادة السجن.. جمع الشمل
العلاقة بين العنوان والنص
يتصل العنوان بأحد عناصر النص.. وهذا الاتصال يهدفه الكاتب لعدة أسباب لتأكيده مثلا
1- علاقة مع المضمون: حين لم تعد المرأة العربية ضلعا قاصرا.. البيت القديم..
2- علاقة مع الإطار المكاني: مكان مقدس.. محكمة.. البيت القديم..
3- علاقة مع الإطار الزماني: زيارة صيفية.. عيد ميلاد.. قصيدة لليوبيل الفضي.. أصداء
حزيرانية.. الحياة مستمرة
4- علاقة مع الشخصيات: المعلمة إكس.. أنا أبوك يا جميلة.. نتاشا.. الأرملة.. حسناء
5- علاقة مع الفكرة المركزية: تصفية حساب.. خطوة على طريق العودة
6- علاقة مع المغزى: كالجسد السليم إذا شكا منه عضو تداعت له سائر الأعضاء.. الحياة
مستمرة
العنوان والحقل الدلالي
1- الأرض : الأرض الطيبة.. نداء التراب.. ريحة الأرض.. لا، لن يضيع..
2- السياسة: متسللون.. الغربة.. الواشي.. جدران غير طيبة.. الغضيب.. خائن رغم أنفه.. أبناء العم
3- السجن: شهادة السجن.. حكايتان من السجن.. رسالة إلى السجن..
4- القضايا الاجتماعية: المرأة
حين لم تعد المرأة ضلعا قاصرا.. أنا أبوك يا جميلة.. حسناء.. الأرملة..
5- الفكر السياسي: قصيدة لليوبيل الفضي.. نتاشا.. عن الإنسان السعيد.. أحد الجنود المجهولين
6- الغربة: متسللون.. زيارة صيفية.. جدران غير طيبة.. أصداء حزيرانية
قراءة متأنية للعناوين تشير إلى الآتي:
1- يؤكد القاص على الفكرة أكثر من غيرها كالشخصية والحدث، ولا يتردد في إثباتها في نص
العنوان، مما يشي على نهجه التعليمي وفهمه لوظيفة الأدب النفعية أكثر من وظيفته الإمتاعية،
وذلك بسبب انتمائه الفكري الماركسي السياسي وبالتالي الأدبي الواقعي، ولهذا فهو يبذل ما في
وسعه لإيصال فكره إلى القارئ .
2- استعمل القاص في صياغة العنوان اللغة العامية مفردة أو تركيبا : ريحة الوطن.. لا، لن
يضيع (وأضمر: حق وراءه مطالب).. الغضيب.
3- أكثر العناوين زادت عن مفردة واحدة واثنتين أيضا
4- بساطة اللغة وعفويتها وأسلوبها الشعبي الحكائي وخلوها من التعقيد والرومانسية
5- المكان ليس إطارا محايدا أو سلبيا للحدث، بل شريكا ومؤثرا فيه، ويكاد يكون شخصية
6- تناص العناوين مع التراث الفصيح والشعبي
سيميائية بعض العناوين
حديثا، يشمل العنوان كل ما هو موجود على وجهي الغلاف من: لوحة فنية وزخرفة وصورة للكاتب ونصوص للتعريف به أو بالكتاب.. وكلها معطيات سيميائية تفيد المتلقي في تأويلاته.
ولكني ولأسباب ما لن أتطرق إليها. وأقتصر على البعد الخطي للعناوين
1- أزهار برية: عنوان المجموعة الأولى
أزهار: معطى مادي لكنه جميل المنظر وطيب الرائحة والكلمة نكرة وتدل على جمع القلة.
برية: معطى مادي يدل على مكان وجود الأزهار.
هذه الأزهار تعتمد على نفسها وتتكيف لظروفها الصعبة وتنمو بدون رعاية من أحد، وهي تنمو وتصمد رغم جميع العوائق من صخور ورياح عاتية تريد اقتلاعها من جذورها. وتنمو بكرامة ولا تفقد صفاتها الجميلة والمفيدة.
قد يرمز هذا العنوان إلى الأقلية الفلسطينية التي بقيت هنا متشبثة بالأرض بكرامة.. تناضل للبقاء لوحدها دون رعاية من أحد لا من السلطة ولا من الأقارب. وبعد أن كانت الأكثرية وصاحبة الأرض أصبحت أقلية ونكرة بعد أن كانت المعرفة.
أتوقع أن يكون موضوع الحقل الدلالي العام هو الأرض: من حب لها وإصرار على التمسك بها وصور الصراع مع السلطة لعدم مصادرتها بل واستعادتها وفلاحتها.
2- ريحة الوطن: عنوان المجموعة الثانية
ريحة: معطى معنوي يدل على إحدى الحواس والمفردة عامية وليست فصيحة
الوطن: معطى مادي ومعنوي يدل على المكان. والكلمة معرفة لتدل على مكانه الجغرافي
العيني على الخارطة العالمية، وتؤكد على الانتماء إليه فقط ولا بديل عنه.
جاء في الأمثال الشعبية" ريحة الأم بتلم وهذه هي الأم البيولوجية للفرد
الوطن هو الأم المعنوية للشعب.. وله رائحة كالأم وظيفتها أن تلم الشمل.
هذه الّلمة تعني عدم وجود أبناء الشعب الواحد معا.. بل هم متفرقون في الشتات والرائحة هي القاسم المشترك بينهم وهي رئة التنفس للبقاء فهي التي تؤجج الحنين لدرجة الإدمان والإصرار على الرجوع.. وحتى يتحقق الحلم نبقى نعيش الحنين قصصا صامدة ومتفائلة.
قال محمود درويش عن الوطن" أريد أن أرسم شكلك.. كي أجد شكلي فيك
3- الغربة في الوطن
الغربة: معطى معنوي وجاءت الكلمة معرفة.. ومعناها المعجمي يعني الغياب.
الوطن: معطى مادي ومعنوي والكلمة معرفة لتؤكد على مكانه
في: معطى ظرفي/ ربطي يدل على الداخل في الوطن.
الغربة ليست خارج الوطن وعندها يكون الأمر طبيعيا، أما أن تكون غريبا في وطنك فالأمر غير طبيعي، وأسبابه وجود طرف آخر يحرمك من وطنك، فيصادره مثلا ويمارس ضدك التمييز.. والغربة على أنواع: مادية كأن لا تسكن في بيتك بلدك ولا تملك أرضك بسبب المصادرة . ويسري عليك قانون الحاضر غائب.. والغربة الاجتماعية أو الثقافية أو الشعورية والنفسية فأنت الأقلية المضطهدة والمحكومة
والغربة تزيد من الحنين
قال المتنبي" غريب الوجه والقلب واللسان.
التحقق من تأويل العناوين
كل ما تقدم من تأويل كان نتيجة قراءتي السيميائية للعناوين الخطية فقط، وليس لمتن النص.
وفيما يلي سأستعرض وباختصار بعض مميزات قصص الكاتب حنا إبراهيم، وذلك بعد قراءتي لمتن نصوص القصص.
إن قراءتي للنصوص أكد على صحة نتائج قراءتي للعناوين:-
- الاهتمام بالفكرة أكثر من غيرها
- استخدام اللغة العامية من مفردات وتراكيب وعبارات لغوية وأمثال شعبية وعناء شعبي
- الدفاع عن الأرض في المحاكم وبالمظاهرات وبالإعتصامات وبإضراب يوم الأرض والالتصاق بها.. وفلاحتها والحنين إليها وتوريث محبتها للأبناء
- النضال ضد سياسة التمييز.. مصادرة الأراضي والحكم العسكري وظاهرة التصاريح.. وهدم البيوت والاعتقالات والطرد من العمل
- الغربة في الوطن وخارجه والحنين إليه.. المتسللون ولقاء الأقارب
- المجتمع بإيجابياته وسلبياته.. دور البطل الشيوعي مقابل الخونة من شعبنا
- ثورة 1936 يكاد يكون أبرز وأكثر من كتب عن هذه الفترة وعهد الانتداب
- شخصية الآخر: اليهودي وقد ميّز بينه كإنسان وبين وظيفته لقد كان واقعيا وموضوعيا. الشيوعي الروسي
- اللغة بسيطة وسهلة وشعبية وخالية من التعقيد والرومانسية والإغراب.
- القصص طويلة.. وأحيانا توجد قصة أو أكثر في قصة الإطار الأصلية.
- التناص أو النصوص الغائبة والمتعالقة مع نصوص القصص، مرجعيتها التراث الفصيح والشعبي
• الخلاصة
مراجعتي للنصوص كاملة أكدت وإلى حد ما صحة ما توقعته من تأويل للحقل الدلالي وبعض المميزات... مما يؤكد أهمية هذا التوجه الحديث إلى دراسة الأدب
