قراءة سيميائية في قصيدة يا جنة فارقتها النفس مكرهة لابن الفارض
لابن الفارض
من إعداد : سعد بولنوار
مقدمة :
في هذا العرض البسيط , ينبغي الإشارة أن القصيد الصٌّوفي قد ساقني طوعاً في
وجوهه التعبيرية بحثاً عمَّا يقصد الشَّكل من إيحاءاتٍ تبدو بعيدة في
مضامينها التّي يمكن اعتبارها بنية عميقة جدًّا تسائل عن طبيعة وجودها ,
وتستفزّ القارئ العابر بإشارته المغرية كما في قصيدة :"يا جنّةً فارقتها
النَّفس مكرهة" لابن الفارض التي جمعت بين الطلل والغموض و التعبير الحداثي
.
أعجبتني القصيدة , وما أعجبني أكثر أن تشكل موضوعاً لهذا المقال ,
بغرض تحليلها وفق ما تقتضيه من إجراءاتٍ , وهكذا سندخل إلى النص من عتبة
(العنوان), ثم نتناول البنى الفنية بعلاقاتها بمستويات التحليل المعروفة
وما تتيحه هذه المقاربة من معنى كان مضمراً بقصد الشاعر ولكنه أصبح قصداً
ظاهراً بفعل القراءة المسلحة بالفهم العميق للنَّص ثم بالإجراءات
المُستخدمة , وسنبدأ من العنوان .
القصيدة : (( ياجنّةً فارقتها النفس مكرهةً ))
1 - قف بالدّيار , وحّي الأربع الدُّرسَـا ونادها , فعساها أن تجيب , عســـــى
2- وإن أجنـّك ليلٌ , من توحشــها , فاشتعل من الشَّوق في ظلمائها , قَبَـــسا
3- يا هَلْ درى النّفْرُ الغادون عن كَلَفٍ يبيتُ جِنْحَ اللّيالي , يرقــب الغَــلـَسَا
4- فـإن بـكى في قفارٍ خـلتها لـجَجاً وإن َتـنـفــسَ عادت كلّـها يـَبَـسَـا
5- فـذو المحاسنِ لا تحصــى محاسنه وبارع الأنـس لا أعـدم بـه أُنـْسَــا
6- كم زارني , والدُّجى يربّدُ من حَنَقٍ والزّهر تـبســِم عن وجه الذّي عَبَسَـا
7- وابتّزَ قلبي , قصراً , قلت ,مظلمةً يا حاكم الحـب هذا القلـب لـم حبسا !؟
8- غرست بالّلحظ وردا , فوق وجنته حَقٌّ لـطرفي أن يـجني الذي غـرسا !!
9- فإن أَبى , فالأقاحي منه لي عوضٌ من عوّضَ الدر عن زهرٍ، فـــما بخسا
10- إن صال صلّ عذاريه , فلا حـرجٌ أن يجني لسعاً , وإنــي أجتـني لـسعا
11- كم باتَ طوعَ يدي , والوصل يجمعنا في بردتيه , التقى ، لا نعرف الدنســا
12- تلك الليالي التي أعْدَدَتُ من عُمْرِي مـع الأحـبة , كانـت كلُّهـا عـرسـا
13- لم يَحلُ , للعينين , شيء , بعدهم , والقـلـب مـُذْ انـَسَ الـتّذكار مـا أنسا
14- يا جنّةً , فارقتها النفس , مكرهةً لولا التّأسي بدار الخـلـد مِـت أســـى
- ابن الفارض-
قراءة في عتبة النص (العنوان) :
بطبيعة الحال يتكون هذا العنوان من : حرف نداء : يا ومنادى : جنة و
فعل ماض : فارق و ت ترجع إلى النفس (تاء تأنيث) , وضمير :ها يرجع إلى جنة ,
واسم معرف وظيفته فاعل النفس : ثم حال : مكرهةً , فياء النداء هنا تأخذُ
معنى التأوّه و الحسرة ولكن على ماذا ؟ يبدو أن الفراق معنيّ بهذا الأمر
غيرّ انّه صرفيّا يحملُ ما يجمع بين متفارقين و هُما المُورفيمين : التّاء ,
و ها .
التَّاءُ جمعٌ في التركيب الصرفي الهَاءُ
ثنائية اللقاء / الفراق
النَّفس فراق جنّةً
فالشَّكل الذي يبين بين الجمع بين المورفيمين , مع ظاهريته , هو في الحقيقة
بنية عميقة تحمل أمل اللقاء المرموز له بمجاورة التاء , والهاء والقرينة
الثانية هو حال الفراق أي الإكراه , وهذا الإكراه له دلالة أخرى على النّفس
, أي أن هذه النفس منقادة لا حول لها إذ أنها تريد البقاء في هذا المكان
الثابت ولكن تغيرها الإرادي يمنعها من ذلك .
فيصبح الصراع في هذا المعطى بين الثابت (الجاذب) لأنه يملك قوته الإرادية , وبين القوى التي تحكم هذا المتغير .
1- البنية الإيقاعية والصوتية:
هذه القصيدة من البحر البسيط ووحدته الإيقاعية المجردة هي : مستفعلن
فاعلن , غير أنه ورد هنا : مستفعلن فعلن وأحياناً وردت مستفعلن : مفاعلن ،
وهي زحافات مقبولة في أوزان الشعر .
وهذا الضرب الإيقاعي يعطي انسيابا صوتيا في الموسيقى المؤداة بواسطة
الوحدات اللفضية والتي تتراوح مابين السببين الخفيفين والوتد المجموع ثم
الفاصلة الصغرى , ومن بساطة هذا الوزن تخرج الكلمات من الجوف بسهولة ويسر
من تناسق الحركات والسواكن , فهذه الخفة المخرجية تحمل على محمل التنهد
الصوتي , ومن جهة أخرى نلاحظ أن القافية تنتهي بمد وحرف صفيرى مهموس وهو
السين وألف المد ، إذ أن الوظيفة المبتغاة من اشتغال الهمس الصفيري هي
تجسيد الحزن والتحسر على نحوٍِ من التخفي فالسين حرف من الحروف الخافتة في
التصويت العربي ، ونرى في ردف الروي هذا, حرف الباء متردّدا بكثرة مع حرف
العين والنون فيحيل هذا المزج الصوتي إلى نوع من البسبسة والعسعسة والتي
دلالتها التستر وعدم لفت الانتباه أما بخصوص القصيدة وبنيتها الصوتية ,
فهناك ترددات متواترة بكثرة سواء على المستوى الفونيمي أو على مستوى الصيغة
، حتى وإن كان هذا التكرار موصولٌ بالأسلوبيات , فبما يتيحه من دلالة على
معنى ما يصبح في مضمونه حاملا لصبغة سيميائية نتيجة الإيحاء المكثف
للمدلولات , وفي هذا الصدد نرى في البيت الأول مثالا لهذه الوظائف التي
يؤديها الحرف في تردده على المستوي الصوتي :
قف بالدّيارِ ,وحيّ الأربع الدُّرُسَا ونادها , فعساها أن تجيب ,عسى
ففي بداية الشطر الأول نلاحظ تكراراً لحرف الراء وهو حرف تكراري مجهور
ومفخم يفيد الإصرار والتأكيد لصوت بعينه , ويليه مباشرة تكرار آخر لحرف
السين الذي من صفاته أنه حرف صامت رخو ومرقق مهموس يوحي بالإشارة الخفية
والخلسة الهادئة .
وفي البيت الثاني نلاحظ نمطا آخر من الإفادة في حرف الشين المتفشي الذي يحمل معنى الراحة .
وإن أجـنـك لـيـل , تـوحـشـهـا فاشعل من الشوق في ظلمائها , قبسا
ثم ننطلق إلى البيت السابع :
وابتز قلبي , قسراً , قلت , مظـلـمـةً يا حاكم الـحب هذا القـلب لم حبسا
فنلاحظ فيه تكرارا لحرف القاف الشديد مع استعلاء ويفيد في سياقه قوة
الحـزن و وقعه في النفس , وبعد ذلك نرى أن حرف العين قد تكرر في الأبيات
التاسع والعاشر والحادي عشر حتى الثالث عشر , وهو حرف حلقي رخو و مجهور
يفيـد حرارة في الشوق أو شابه ذلك , وأخيراَ نرجع إلى حرف السين في البـيـت
الأخير- على اعتبار أن حرف السين و الضاد يكاد تكرارهما يصبح سمة أسلوبية
على كل القصيدة – الذي يتكرر مفيدا ذلك الخفاء الذي أشرنا إليه :
ياجـنـة , فـارقتها النفس مكرهـة لولا التأسي بدار الخلد مـت أسـى
هذا من الجانب الصوتي الإيقاعي , فماذا يكون أمر البنيات الدلالية ؟
البنيات الدلالية :
تحتوي القصيدة في مضمونها علي بنيات دلالية تحيل على معنى ما , وما
يكتشف منها إلا الدال الهارب من إمكان التحديد , وفي قول العرب القديم "لا
يعرف الشئ إلا بضده" فسحة لولوج – المتضادات في هذا النسق الشعري " بوصفه
نمطا فنيا من أنماط التعبير , يتكون من تيارين جوهريين , تيار تأملي تمثله
الأفكار , وتيار وجداني يمثله الشعور " وهكذا تتضح رؤيتنا أكثر .
1- بنية التضاد :
أول ما نلاحظه من تباين حينما يتكلم عن الديار التي لم يتوضح لنا مدلولها بعد فيقول:
و إن أجنك ليل ، من توحشها ، فاشعل من الشوق في ظلمائها , قبسا
و يظهر التباين في بداية الشطرين بين الظلام و النور باعتبارهما ثنائية
يرد من فحواها صراع مابين باطل وحق ، و ما بين ظلال و هدى وكذا في الألوان
سواد وبياض ، إلى ما لا نهاية التشكلات المحددة لمقصد التركيب الدلالي .
من جانب آخر نرى أن توظيف الأمزجة الحسية له دور في القصيدة أين يتبدى
الحنق مقابلا للتبسم في البيت السادس :
كم زارني ، و الدجى يربد من حنق و الزهـر تبسم عن وجه الذي عبسا
فالصورة تظهر تباينا حسيا بين غضب وسعادة و الذي بدوره يحيل إلى
مايقابله من مجردات عميقة يتلمسها العقل دون سواه " إذ ليس هناك شئ اعتباطي
في الشعر ومن ثم فإنه يتعين أخذ الكلمة برمتها بعين الاعتبار ، ثم الأخذ
بعين الاعتبار تركيبها، لأن الطبيعي الأصلي هو الأساس و التخريجات فرعية
ثانوية " , فهذا الغضب يدخل في دائرة الظلام و السعادة والسعادة تدخل في
دائرة النور إذ اعتبرنا ثنائية الظلام / النور بنية رئيسية .
كما أن هناك تباينا من نمط آخر في الدلالة ما يتجلى في هذا البيت الثامن :
غرست باللحظ وردا , فوق وجنته حق لطرفي أن يجني الذي غرسا
فالفعلين الماضي والمضارع : غرست ويجني يشكلان من جهة الزمن بعدا مهما
في تحديد معاني الظرفية والديمومة إذ أن الغرس تم في الماضي في شدة من
التعب ما ينضوي تحت بند الضلام , أما الفعل المضارع الذي يفيد معنى الحالية
وكذا الديمومة هو تحصيل حاصل لذاك الجهد وينال هذا الجني ببسطة من النور .
وهكذا إلى البيتين الأخيرين , ويحق لنا فيهما اجتزاء السطرين الأخيرين منهما لما لمحناه فيهما من إلمام بظاهرة التضاد وهما :
والقلب مذ آنس التذكار ما أنسا.
لولا التأسي لدار الخلد مت أسا.
و الشطرين لوحدهما يشكلان لنا مربعا منطقيا كل على حده ، ونبدأ من الأول
الذي نرى أنه يناقض الشطر الثاني مناقضة على المستوي الدلالي .
آنس القلب
التذكار ما أنسا
والثاني :
التأسي الموت
دار الخلد أسى
و بدمجهما معاً ينتج :
التذكار الاأنس
دار الخلد الحياة
وهكذا تصبح دار الخلد الجنة أو الآخرة ليست هي الحياة , والتذكار برمته
لا أنس فيه , ورغبة في دار الخلـد لا بد من هذا التذكــار , كما أن الاأنس
في الحياة أي التقشـف في الملذات والابتعـاد عن الحرام موصل إلى دار الخلد
الجنة .
2- بنية التكامل :
إذا كنا قد طرقنا باب التضاد , فليس ذلك إلا من قبيل اكتشاف وجه
العلاقة التي تربط بين العناصر التي تشكل معنى (المفهوم لدى القارئ) , لأن
هناك تكاملا بين أجزاء القصيدة من حيث ما يدل به الشكل على المحتوى "
فالمعنى يتطلب درجة من الوضوح في النص , و يقتضي نشاطا لغويا للذات , حيث
يتجلى في العمليات التلفظية , ويتجاوز الاتساق الإشارية الصورية المحدودة "
وبذلك تضيق المسافة أكثر , إلى درجة التماهي بين المتنافرات .
وسنختار البيتين السابع والثامن لوضوح هذا الوجه من التكامل فيهما شكليا و مضمونيا .
وابتز قلبي , قسرا , قلت , مظلمة يا حاكم الحب هذا القلب لم حبسا
أول ما نلاحظه على البيت تعدد الفواصل في الشطر الأول , واسترسال في
الشطر الثاني , فالتقطع الموحي بالحزن يعقبه استرسال يعبر عن الشكوى غير ما
يجعل التكامل بين الذات وموضوعها هو حاكم الحب الذي هو المحبوب الحقيقي , و
القلب هو المنجذب " أي المريد " إلى هذا المحبوب الحقيقي .
وفي البيت الثاني نلاحظ تكامل حدث بعلاقة ما وهي علاقة السبب والمسبب .
غرست باللحظ ورداً , فوق وجنته حق لطرفي , أن يجني الذي غرسا
وهذا التكامل حدث بين الفعلين : غرست ويجني , ذلك أن التكامل بينهما
يحصل أن الغرس كان نتيجة الجني , والجني بدوره كانت نتيجة الغرس , فلا
يتصور غرسا بلا جني أو جنيا بلا غرس , فكل منهما مكمل للآخر , وهي حركة
الحيات الدؤوبة .
استنتاج :
وهكذا نخلص إلى القول بأن القصيدة في تضادها وتداخلها وتكاملها في مستواها
الصوتي أو التركيبي أو الدلالي قد أظهرت لي معنى ما , على الأقل بالنسبة لي
كقارئ , وبالتالي بدأت تلك العلاقات تشي بإيحاءاتها على مضض حينا وبإقتار
حينا آخر .
وهكذا توصلت أن التضاد في هذه القصيدة ضروري لفهم علاقة النص فلا يعرف
الشئ إلا بضده , وعلى هذا الأساس يكون التكامل تحصيل حاصل لا غير لذلك
التضاد , لأن البناء المنسـجم يتم على أساس من التـضاد فـي الهندسة و
الإتساق .
كذلك هناك غموض على مستوى القراءة , بما أتاح متعة في تكرار القراءة
وإعادة القراءة حتى يحصل قصد ما يكون مطية لبدأ التحليل و هو ما حصل في
قصيدة ابن الفارض الذي لم يكن اختياره اعتباطاً .
وأرجو في الأخير أن أكون – ولو بجزء ضئيل- قد وفقت في الوقوف على
الإيحاء الكامن وراء هذا المتن الخطابي الذي يحمل في طياته متنا آخر .
قائمة المراجع :
1- أحمد يوسف – سيميائيات التواصل وفعالية الحوار ( المفاهيم و الآليات ) الطبعة الأولى 2004 – مختبر السيميائيات وتحليل الخطابات .
2- محمد مفتاح – تحليل الخطاب الشعري ( استراتيجية التناص ).
الدار البيضاء - 1985 .
3- عاطف جودة نصر – الرمز الشعري عند الصوفية ، 1998 – المكتب المصري توزيع المطبوعات .
4- ديوان ابن الفارض – شرحه وقدم له : مهدي محمد ناصر الدين .
دار الكتب العلمية بيروت . الطبعة الأولى 1990 .
لابن الفارض
من إعداد : سعد بولنوار
مقدمة :
في هذا العرض البسيط , ينبغي الإشارة أن القصيد الصٌّوفي قد ساقني طوعاً في
وجوهه التعبيرية بحثاً عمَّا يقصد الشَّكل من إيحاءاتٍ تبدو بعيدة في
مضامينها التّي يمكن اعتبارها بنية عميقة جدًّا تسائل عن طبيعة وجودها ,
وتستفزّ القارئ العابر بإشارته المغرية كما في قصيدة :"يا جنّةً فارقتها
النَّفس مكرهة" لابن الفارض التي جمعت بين الطلل والغموض و التعبير الحداثي
.
أعجبتني القصيدة , وما أعجبني أكثر أن تشكل موضوعاً لهذا المقال ,
بغرض تحليلها وفق ما تقتضيه من إجراءاتٍ , وهكذا سندخل إلى النص من عتبة
(العنوان), ثم نتناول البنى الفنية بعلاقاتها بمستويات التحليل المعروفة
وما تتيحه هذه المقاربة من معنى كان مضمراً بقصد الشاعر ولكنه أصبح قصداً
ظاهراً بفعل القراءة المسلحة بالفهم العميق للنَّص ثم بالإجراءات
المُستخدمة , وسنبدأ من العنوان .
القصيدة : (( ياجنّةً فارقتها النفس مكرهةً ))
1 - قف بالدّيار , وحّي الأربع الدُّرسَـا ونادها , فعساها أن تجيب , عســـــى
2- وإن أجنـّك ليلٌ , من توحشــها , فاشتعل من الشَّوق في ظلمائها , قَبَـــسا
3- يا هَلْ درى النّفْرُ الغادون عن كَلَفٍ يبيتُ جِنْحَ اللّيالي , يرقــب الغَــلـَسَا
4- فـإن بـكى في قفارٍ خـلتها لـجَجاً وإن َتـنـفــسَ عادت كلّـها يـَبَـسَـا
5- فـذو المحاسنِ لا تحصــى محاسنه وبارع الأنـس لا أعـدم بـه أُنـْسَــا
6- كم زارني , والدُّجى يربّدُ من حَنَقٍ والزّهر تـبســِم عن وجه الذّي عَبَسَـا
7- وابتّزَ قلبي , قصراً , قلت ,مظلمةً يا حاكم الحـب هذا القلـب لـم حبسا !؟
8- غرست بالّلحظ وردا , فوق وجنته حَقٌّ لـطرفي أن يـجني الذي غـرسا !!
9- فإن أَبى , فالأقاحي منه لي عوضٌ من عوّضَ الدر عن زهرٍ، فـــما بخسا
10- إن صال صلّ عذاريه , فلا حـرجٌ أن يجني لسعاً , وإنــي أجتـني لـسعا
11- كم باتَ طوعَ يدي , والوصل يجمعنا في بردتيه , التقى ، لا نعرف الدنســا
12- تلك الليالي التي أعْدَدَتُ من عُمْرِي مـع الأحـبة , كانـت كلُّهـا عـرسـا
13- لم يَحلُ , للعينين , شيء , بعدهم , والقـلـب مـُذْ انـَسَ الـتّذكار مـا أنسا
14- يا جنّةً , فارقتها النفس , مكرهةً لولا التّأسي بدار الخـلـد مِـت أســـى
- ابن الفارض-
قراءة في عتبة النص (العنوان) :
بطبيعة الحال يتكون هذا العنوان من : حرف نداء : يا ومنادى : جنة و
فعل ماض : فارق و ت ترجع إلى النفس (تاء تأنيث) , وضمير :ها يرجع إلى جنة ,
واسم معرف وظيفته فاعل النفس : ثم حال : مكرهةً , فياء النداء هنا تأخذُ
معنى التأوّه و الحسرة ولكن على ماذا ؟ يبدو أن الفراق معنيّ بهذا الأمر
غيرّ انّه صرفيّا يحملُ ما يجمع بين متفارقين و هُما المُورفيمين : التّاء ,
و ها .
التَّاءُ جمعٌ في التركيب الصرفي الهَاءُ
ثنائية اللقاء / الفراق
النَّفس فراق جنّةً
فالشَّكل الذي يبين بين الجمع بين المورفيمين , مع ظاهريته , هو في الحقيقة
بنية عميقة تحمل أمل اللقاء المرموز له بمجاورة التاء , والهاء والقرينة
الثانية هو حال الفراق أي الإكراه , وهذا الإكراه له دلالة أخرى على النّفس
, أي أن هذه النفس منقادة لا حول لها إذ أنها تريد البقاء في هذا المكان
الثابت ولكن تغيرها الإرادي يمنعها من ذلك .
فيصبح الصراع في هذا المعطى بين الثابت (الجاذب) لأنه يملك قوته الإرادية , وبين القوى التي تحكم هذا المتغير .
1- البنية الإيقاعية والصوتية:
هذه القصيدة من البحر البسيط ووحدته الإيقاعية المجردة هي : مستفعلن
فاعلن , غير أنه ورد هنا : مستفعلن فعلن وأحياناً وردت مستفعلن : مفاعلن ،
وهي زحافات مقبولة في أوزان الشعر .
وهذا الضرب الإيقاعي يعطي انسيابا صوتيا في الموسيقى المؤداة بواسطة
الوحدات اللفضية والتي تتراوح مابين السببين الخفيفين والوتد المجموع ثم
الفاصلة الصغرى , ومن بساطة هذا الوزن تخرج الكلمات من الجوف بسهولة ويسر
من تناسق الحركات والسواكن , فهذه الخفة المخرجية تحمل على محمل التنهد
الصوتي , ومن جهة أخرى نلاحظ أن القافية تنتهي بمد وحرف صفيرى مهموس وهو
السين وألف المد ، إذ أن الوظيفة المبتغاة من اشتغال الهمس الصفيري هي
تجسيد الحزن والتحسر على نحوٍِ من التخفي فالسين حرف من الحروف الخافتة في
التصويت العربي ، ونرى في ردف الروي هذا, حرف الباء متردّدا بكثرة مع حرف
العين والنون فيحيل هذا المزج الصوتي إلى نوع من البسبسة والعسعسة والتي
دلالتها التستر وعدم لفت الانتباه أما بخصوص القصيدة وبنيتها الصوتية ,
فهناك ترددات متواترة بكثرة سواء على المستوى الفونيمي أو على مستوى الصيغة
، حتى وإن كان هذا التكرار موصولٌ بالأسلوبيات , فبما يتيحه من دلالة على
معنى ما يصبح في مضمونه حاملا لصبغة سيميائية نتيجة الإيحاء المكثف
للمدلولات , وفي هذا الصدد نرى في البيت الأول مثالا لهذه الوظائف التي
يؤديها الحرف في تردده على المستوي الصوتي :
قف بالدّيارِ ,وحيّ الأربع الدُّرُسَا ونادها , فعساها أن تجيب ,عسى
ففي بداية الشطر الأول نلاحظ تكراراً لحرف الراء وهو حرف تكراري مجهور
ومفخم يفيد الإصرار والتأكيد لصوت بعينه , ويليه مباشرة تكرار آخر لحرف
السين الذي من صفاته أنه حرف صامت رخو ومرقق مهموس يوحي بالإشارة الخفية
والخلسة الهادئة .
وفي البيت الثاني نلاحظ نمطا آخر من الإفادة في حرف الشين المتفشي الذي يحمل معنى الراحة .
وإن أجـنـك لـيـل , تـوحـشـهـا فاشعل من الشوق في ظلمائها , قبسا
ثم ننطلق إلى البيت السابع :
وابتز قلبي , قسراً , قلت , مظـلـمـةً يا حاكم الـحب هذا القـلب لم حبسا
فنلاحظ فيه تكرارا لحرف القاف الشديد مع استعلاء ويفيد في سياقه قوة
الحـزن و وقعه في النفس , وبعد ذلك نرى أن حرف العين قد تكرر في الأبيات
التاسع والعاشر والحادي عشر حتى الثالث عشر , وهو حرف حلقي رخو و مجهور
يفيـد حرارة في الشوق أو شابه ذلك , وأخيراَ نرجع إلى حرف السين في البـيـت
الأخير- على اعتبار أن حرف السين و الضاد يكاد تكرارهما يصبح سمة أسلوبية
على كل القصيدة – الذي يتكرر مفيدا ذلك الخفاء الذي أشرنا إليه :
ياجـنـة , فـارقتها النفس مكرهـة لولا التأسي بدار الخلد مـت أسـى
هذا من الجانب الصوتي الإيقاعي , فماذا يكون أمر البنيات الدلالية ؟
البنيات الدلالية :
تحتوي القصيدة في مضمونها علي بنيات دلالية تحيل على معنى ما , وما
يكتشف منها إلا الدال الهارب من إمكان التحديد , وفي قول العرب القديم "لا
يعرف الشئ إلا بضده" فسحة لولوج – المتضادات في هذا النسق الشعري " بوصفه
نمطا فنيا من أنماط التعبير , يتكون من تيارين جوهريين , تيار تأملي تمثله
الأفكار , وتيار وجداني يمثله الشعور " وهكذا تتضح رؤيتنا أكثر .
1- بنية التضاد :
أول ما نلاحظه من تباين حينما يتكلم عن الديار التي لم يتوضح لنا مدلولها بعد فيقول:
و إن أجنك ليل ، من توحشها ، فاشعل من الشوق في ظلمائها , قبسا
و يظهر التباين في بداية الشطرين بين الظلام و النور باعتبارهما ثنائية
يرد من فحواها صراع مابين باطل وحق ، و ما بين ظلال و هدى وكذا في الألوان
سواد وبياض ، إلى ما لا نهاية التشكلات المحددة لمقصد التركيب الدلالي .
من جانب آخر نرى أن توظيف الأمزجة الحسية له دور في القصيدة أين يتبدى
الحنق مقابلا للتبسم في البيت السادس :
كم زارني ، و الدجى يربد من حنق و الزهـر تبسم عن وجه الذي عبسا
فالصورة تظهر تباينا حسيا بين غضب وسعادة و الذي بدوره يحيل إلى
مايقابله من مجردات عميقة يتلمسها العقل دون سواه " إذ ليس هناك شئ اعتباطي
في الشعر ومن ثم فإنه يتعين أخذ الكلمة برمتها بعين الاعتبار ، ثم الأخذ
بعين الاعتبار تركيبها، لأن الطبيعي الأصلي هو الأساس و التخريجات فرعية
ثانوية " , فهذا الغضب يدخل في دائرة الظلام و السعادة والسعادة تدخل في
دائرة النور إذ اعتبرنا ثنائية الظلام / النور بنية رئيسية .
كما أن هناك تباينا من نمط آخر في الدلالة ما يتجلى في هذا البيت الثامن :
غرست باللحظ وردا , فوق وجنته حق لطرفي أن يجني الذي غرسا
فالفعلين الماضي والمضارع : غرست ويجني يشكلان من جهة الزمن بعدا مهما
في تحديد معاني الظرفية والديمومة إذ أن الغرس تم في الماضي في شدة من
التعب ما ينضوي تحت بند الضلام , أما الفعل المضارع الذي يفيد معنى الحالية
وكذا الديمومة هو تحصيل حاصل لذاك الجهد وينال هذا الجني ببسطة من النور .
وهكذا إلى البيتين الأخيرين , ويحق لنا فيهما اجتزاء السطرين الأخيرين منهما لما لمحناه فيهما من إلمام بظاهرة التضاد وهما :
والقلب مذ آنس التذكار ما أنسا.
لولا التأسي لدار الخلد مت أسا.
و الشطرين لوحدهما يشكلان لنا مربعا منطقيا كل على حده ، ونبدأ من الأول
الذي نرى أنه يناقض الشطر الثاني مناقضة على المستوي الدلالي .
آنس القلب
التذكار ما أنسا
والثاني :
التأسي الموت
دار الخلد أسى
و بدمجهما معاً ينتج :
التذكار الاأنس
دار الخلد الحياة
وهكذا تصبح دار الخلد الجنة أو الآخرة ليست هي الحياة , والتذكار برمته
لا أنس فيه , ورغبة في دار الخلـد لا بد من هذا التذكــار , كما أن الاأنس
في الحياة أي التقشـف في الملذات والابتعـاد عن الحرام موصل إلى دار الخلد
الجنة .
2- بنية التكامل :
إذا كنا قد طرقنا باب التضاد , فليس ذلك إلا من قبيل اكتشاف وجه
العلاقة التي تربط بين العناصر التي تشكل معنى (المفهوم لدى القارئ) , لأن
هناك تكاملا بين أجزاء القصيدة من حيث ما يدل به الشكل على المحتوى "
فالمعنى يتطلب درجة من الوضوح في النص , و يقتضي نشاطا لغويا للذات , حيث
يتجلى في العمليات التلفظية , ويتجاوز الاتساق الإشارية الصورية المحدودة "
وبذلك تضيق المسافة أكثر , إلى درجة التماهي بين المتنافرات .
وسنختار البيتين السابع والثامن لوضوح هذا الوجه من التكامل فيهما شكليا و مضمونيا .
وابتز قلبي , قسرا , قلت , مظلمة يا حاكم الحب هذا القلب لم حبسا
أول ما نلاحظه على البيت تعدد الفواصل في الشطر الأول , واسترسال في
الشطر الثاني , فالتقطع الموحي بالحزن يعقبه استرسال يعبر عن الشكوى غير ما
يجعل التكامل بين الذات وموضوعها هو حاكم الحب الذي هو المحبوب الحقيقي , و
القلب هو المنجذب " أي المريد " إلى هذا المحبوب الحقيقي .
وفي البيت الثاني نلاحظ تكامل حدث بعلاقة ما وهي علاقة السبب والمسبب .
غرست باللحظ ورداً , فوق وجنته حق لطرفي , أن يجني الذي غرسا
وهذا التكامل حدث بين الفعلين : غرست ويجني , ذلك أن التكامل بينهما
يحصل أن الغرس كان نتيجة الجني , والجني بدوره كانت نتيجة الغرس , فلا
يتصور غرسا بلا جني أو جنيا بلا غرس , فكل منهما مكمل للآخر , وهي حركة
الحيات الدؤوبة .
استنتاج :
وهكذا نخلص إلى القول بأن القصيدة في تضادها وتداخلها وتكاملها في مستواها
الصوتي أو التركيبي أو الدلالي قد أظهرت لي معنى ما , على الأقل بالنسبة لي
كقارئ , وبالتالي بدأت تلك العلاقات تشي بإيحاءاتها على مضض حينا وبإقتار
حينا آخر .
وهكذا توصلت أن التضاد في هذه القصيدة ضروري لفهم علاقة النص فلا يعرف
الشئ إلا بضده , وعلى هذا الأساس يكون التكامل تحصيل حاصل لا غير لذلك
التضاد , لأن البناء المنسـجم يتم على أساس من التـضاد فـي الهندسة و
الإتساق .
كذلك هناك غموض على مستوى القراءة , بما أتاح متعة في تكرار القراءة
وإعادة القراءة حتى يحصل قصد ما يكون مطية لبدأ التحليل و هو ما حصل في
قصيدة ابن الفارض الذي لم يكن اختياره اعتباطاً .
وأرجو في الأخير أن أكون – ولو بجزء ضئيل- قد وفقت في الوقوف على
الإيحاء الكامن وراء هذا المتن الخطابي الذي يحمل في طياته متنا آخر .
قائمة المراجع :
1- أحمد يوسف – سيميائيات التواصل وفعالية الحوار ( المفاهيم و الآليات ) الطبعة الأولى 2004 – مختبر السيميائيات وتحليل الخطابات .
2- محمد مفتاح – تحليل الخطاب الشعري ( استراتيجية التناص ).
الدار البيضاء - 1985 .
3- عاطف جودة نصر – الرمز الشعري عند الصوفية ، 1998 – المكتب المصري توزيع المطبوعات .
4- ديوان ابن الفارض – شرحه وقدم له : مهدي محمد ناصر الدين .
دار الكتب العلمية بيروت . الطبعة الأولى 1990 .