منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    قراءة سيميائية

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    قراءة سيميائية Empty قراءة سيميائية

    مُساهمة   الخميس نوفمبر 26, 2009 11:19 am

    قراءة سيميائية لنص عمر أبوريشة ( بعد النكبة ).

    مقاربة سيميائية (عمر أبو ريشة أنموذجاً تطبيقياً)


    كنت قد مهدتُ بمقدمة نظرية لاتجاه التحليل السيميولوجي قبل البدء بالدراسة التحليلية ، وقد وضعت تلك المقدمة في قسم دراسات نقدية عربية ، إلا أنني آثرت أن أضع الدراسة التطبيقية للنص في هذا الصالون ، أرجو أن أكون قد وُفقتُ في ذلك.

    اخترنا لهذه المقاربة السيميائية مقاطع من قصيدة عمر أبو رشة التي قالها بعد النكبة و هي تحمل اسم (( بعد النكبة )) 1948م . وسنختار منها
    أمـتي، هل لك بـين الأمــمِ = منبرٌ للسيـف أو للـقـلمِ
    أتـلقاكِ و طرفي مطرِقٌ = خجلاً من أمسك المنصرمِ



    كم تخطيتُ على أصدائه = ملعبَ العزّ و مغنى الشّمم


    و تهاديتُ كأني ساحبٌ = مئزري فوق جباه الأنجم


    حلمٌ مرّ بأطياف السّنا = و انطوى خلف جفون الظُّلم


    ***


    أيُّ جرح في إبائي راعفٌ = فاتـــه الآسى فلم يلتئم


    ألاسرائيلَ تعلـو رايةٌ = في حمى المهـد و ظل الحرم؟


    كيف أغضيتِ على الذلّ ولم = تنقضـي عنك غبارَ التُّهم


    أوما كنتِ إذا البغي اعتدى = موجـةً من لهبٍ أو من دم


    فيمَ أقدمتِ ؟ وأحجمتِ ؟ ولم = يشـتفِ الثأرُ و لم تنتقمي


    اسمعي نوح الحزانى و اطربي = وانظري دمع اليتامى وابسمي


    ودعي القادة في أهوائـها = تتــفانى في خسيس المغنم!


    رب "وا معتصماه" انطلقتْ = ملء أفواه البنــــات اليُتَّم


    لامست أسماعَــهم لكنها = لم تلامـــسْ نخوة المعتصم


    أمتي ! كــم صنمٍ مجدتِهِ = لم يكــن يحمل طهر الصّنم


    لا يلامُ الذئبُ في عـدوانه = إن يكُ الراعي عدّو الغنـم !


    فاحبسي الشكوى فلو لاك لما = كان في الحكم عبيدُ الدّرهم !


    أيّها الجندي يا كبشَ الفدا = يا شعاعَ الأمل المبتــسم


    بورك الجرحُ الذي تحمله = شرفاً تحت ظلال العلـــم !



    مما لا شك فيه أن مرحلة النكبة من أخطر وأدهى المراحل التي مرّت على الأمة العربية؛ إذ شكلت منعطفاً قوياً مال بتاريخ المنطقة السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي و الأدبي نحو هوّة سحيقةٍ انشطر لها وجدان الأديب العربي عامة،والفلسطيني منهم بشكل خاص، وخاض الأدب في هذه الهوَّةِ السحيقة جلد الذات العربية، وازدياد الشعور بالأسى والإحباط بعدما ظنّت الأمة العربية أنها خلال مرحلة جديدة من الاستقلال والحرية بجلاء المستعمرين عن أراضيها، وإذ بأدهى جرثومة تعطب الجسد العربي المنهوك آنذاك، ذلك أنّ الاستعمار لم يرحل حتى عطب مقومات الأمة، وترك الجرثومة ( إسرائيل ) مخترقةً جغرافية الوطن العربي، وازداد الخطر الإرهابي و وباؤه السام على المنطقة يوماً بعد آخر عبر سلسلة من الجرائم ما نزال نشهدها حتى يومنا هذا.
    وقف أبو ريشة كغيره من الأدباء العرب أمام هول الكارثة وويلاتها على الهوية العربية التي بالكاد بدأت تأسس لنهوضها، وألقى أبو ريشة ما بجعبته من زفرات أقضّتْ مضجعه، فنفثها بعدما مورس على الذات العربية أعتى أنواع الوجع .
    سنعمل على دراسة النص دراسة سيميائية أفقياً وعمودياً ( البنية الظاهرة – البنية العميقة )
    أ - المستوى الأفقي ( السطحي ) : وسنركّز من خلاله على المستويات الأربعة ( المستوى الصوتي – المستوى المعجمي – التركيبي – الدلالي ) ومن خلال هذه المستويات سنلامس بنيته السطحية قبل محاولة الولوج إلى بنيته العميقة
    1- المستوى الصوتي : اهتم العلماء بالمستوى الصوتي في الأدب، وذلك لما له من تأثير على المتلقي من خلال هذا التشاكل الصوتي، وقد عني النقد العربي القديم بالتجنيس وأُفرد فيه المؤلفات. وفي هذا النص الذي بين أيدينا ( بعد النكبة) يظهر الجناس بشكل ملحوظ منذ البيت الأول بعد التصريع ( الأممِ _ للقلمِ ) ( أمتي /الأمم – أقدمت / أحجمت –لامست /تلامس – صنمٍ / صنمِ – عدوانه /عدوّ- تحمل /تحت - معتصماه/ معتصم ...) للصوت قيمة تعبيرية اهتم بها النقاد العرب، واشتغلوا على الألفاظ تحت مسميات مختلفة أهمها (( الجناس )) وذلك لما يضيفه للنص من حيوية صوتية تعلو وتهبط وفقاً لغرض القصيدة والحالة الشعورية المسيطرة . وجاءت ترانيم الصوت في القصيدة السابقة متسقة وزفرات الشاعر التي ينفثها أمام غبار الهزيمة العربية، وقد تكرر صوت حرف السين مرات عديدة في القصيدة، والسين صوت صفيري يمكننا ربطه بتلك الزفرات التي يطلقها الشاعر كحدٍ أقوى لإثارة الانتباه للنص ( سيف – سنا – إسرائيل – اسمعي – لا مست – تلامس – مبتسم – احبسي ) وتوالت ( السين) في كلمات ذات دلالات مختلفة، ولكنها تتسق وخلجات الإحساس بالألم والفاجعة. وهناك الوزن والإيقاع والنبر والتنغيم، وقد اعتمد الشاعر لقصيدته بحر الرمل ، وهو من البحور الخفيفة الانسيابية على السمع ، وقد أضفى بتراتيب تفعيلاته وقعاً يتآخى وسرعة الغضب والألم اللذين يدوران في النص، فتحررت الأحاسيس من سجنها وانطلقت بهذه الموسيقى وفق تناغم صوتي جاءت فيه التفعيلة الثانية من كل بيت- تقريبا- جوازاً على " فعلاتن///ه/ه " ومن قبل حاول القدماء ربط الأوزان ببعض المعاني والأغراض كما فعل حازم القرطاجني. وقد جاء النبر فجائياً يعتري أعضاء النطق خلال التلفّظ، وهناك النبر المهيمن كالشدة في كلمة واحدة (أتلقّاك - تخطّيت – الظّلم – السّنا – الشّمم – الصّنم – التُّهم – الذّل ...) وجاء في كلمات ذات دلالات مختلفة تؤدي ذات الغرض المأساوي الاستنكاري. لقد انبنت هيكلية القصيدة على إيقاع ووزن واحد، ورويٍّ واحد هو الميم المشبعة، والميم حرف شفوي انتهت به صرخات الشاعر، وقد راعى القافية وتناسب الأصوات، وجاء التكرار على مستوى الكلمة والصوت ذا بعد إقناعي بالجو العام للقصيدة، وخاصة في التراكيب الإنشائية، فنراه يكرر " أمتي " وفق حالة من التشنّج والنبر تبدو أكثر إقناعاً بالأسف واللوم والحزن على أمةٍ يتساءل كيف كانت ذات يوم كقول الرصافي (( بالعلم والسف قبلاً أنشأت دولاً )) .
    2-المستوى المعجمي : يمكن النظر في هذا المستوى من الناحية النحوية، وبيان هذا التركيب النحوي من حيث الضبط وصحة التناول، كما يمكن أن نتناول هذا المستوى دلالياً ، من حيث الألفاظ وأبعادها، فتكرار الكلمات يمكن أن يشكّل حقولاً دلالية من خلال تراكيب تنتمي لهذا المعجم أو ذاك، فلكل خطاب شعري معجمه الخاص، وهذا المعجم يتناسب مع التجربة الشعرية والشعورية، مثلاً : للخمريات معجمها وللشعر الصوفي معجمه ...إلخ . وبين أيدينا خطاب يحمل لغة الألم والاستنكار والغضب والعتاب، فجاء المعجم الشعري بألفاظه متناسباً والغرض من القصيدة، وقد حذا الشاعر بمعجمه حذو الأوائل في اختيار ألفاظ لها جزالتها ورونقها، ونكاد نجمع أن عمر أبو ريشة يجمع في معجمه الشعري بين الرصانة والسهولة؛ بحيث تبدو قريبة على الأسماع باستخدامه ألفاظاً وظفها في سياق الخطاب (السيف – القلم – طرفي – أمم – منصرم – العز – شمم – مئزري – السنا – المهد – يلتئم – الظلم ..) لقد استعار الشاعر مفردات من معجم الأوائل ( التراث الأدبي ) في معمارية القصيدة، ووظّف بعض المفردات التي تنتمي لإحدى الملاحم الأدبية( منبرٌ للسيف أو للقلم ) متسائلاَ عن ذاك السيف الذي ذكره أبو تمام في ملحمته البائيّة التي خلّدت فتح عمورية وبطلها المعتصم ( السيف أصدق أنباءً من الكتب) واستعار" وا معتصماه – المعتصم " من ذات الملحمة علّ نداءً ترفّ له عين أي معتصم عربي عبر التاريخ وبعد النكبة على الخصوص، واسم المعتصم يحمل في دلالته معنى الالتحام والتّوحد، وكأنّ الشاعر يناشد الأمة العربية بالاعتصام الذي لو تمّ لما وقعت النكبة نزولاً عند قوله تعالى " واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا " واستعار مفردات تعود بالذاكرة إلى العصر الجاهلي ( صنم مجدته – طهر الصنم ) مذكّراً بسقوط أصنام لا تسمن ولا تغني من جوع، وتكررت عبر صور ورموز وأفكار مختلفة كالإيمان بحقائق ومسلّمات زائفة، قادت إلى الهزيمة لأن مصيرها الانهيار كـ هُبل – اللات – العزّى ...,الخ . أما نحوياً فقد اعتمد النهج النحوي الدقيق من حيث الرفع والنصب والجر والتقديم والتأخير، وهذا ما سناتي عليه لاحقاً .
    3- المستوى التركيبي : يمكننا النظر إليه من زاويتين: الأولى نحوية والثانية بلا غية، أما نحوياً فقد حذالشاعرحذو التركيب النحوي الأصيل، حيث جرى مجرى الأساليب العربية من حيث التقديم والتأخير والحذف..الخ. وهذا يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالزاوية الثانية( البلاغية) مثلاً نراه يعتمد على أسلوب النداء محذوف الأداة(أمتي) وعلى تقديم شبه الجملة على المبتدأ بعدما حذف الخبر( هل لك بين الأمم منبرٌ) وجاءت الأفعال موزعة بين صيغ الماضي والمضارع والأمر، فالمضارع يدل على الحدث والاستمرارية كتعبير عن فاعلية واستمرارية آلام النكبة والفجيعة بأمة مهزومة( أتلقاك – تنفضي – تتفانى – تعلو ..)، وأكثرَ من استخدام الأفعال الماضية التي تحمل في بنيتها التأكيد والثبوت، وهذا واقع حقيقي إذ النكبة حلّت وأصبحت واقعاً مريراً، فتوزع الفعل بين ثبوت النصر في الماضي وفجاعته في الحاضر الذي أصبح ماضياً ( مرّ – انطوى – كنتِ – تهاديتُ – أقدمتِ – أحجمتِ ..)، وجاءت أفعال الأمر ( اسمعي – احبسي – دعي – اطربي ..) التي تحمل توتراً داخلياً، وتمزقاً شعورياً تحولت في صرخاته إلى سخط على الأمة من أجل النهوض من ركامها، ونبذ الخرافات والتقديس والتصنيم لنماذج فكرية وبشرية، ونبذ الالتفاف والتقوقع حول زمان ومكان جامدين منهزمين(دعي القادة – اسمعي ..)، وتوزعت الأساليب بين خبرية وإنشائية ضمن قالب بلاغي استعاري ومجازي متضافرة والغرض في بناء الأبيات، فمن الاستعارة (جباه الأنجم – جفون الظلم – تنفضي عنك – لامست أسماعهم – عبيد الدرهم – الأمل المبتسم ..)، ومن التشابيه ( كنت موجةً من لهب – الجنديُّ يا كبش الفدا – كم صنمٍ مجدتِهِ ..). لقد جرى الشاعر مجرى القدماء في القوالب البلاغية، وطريقة إيصال الصورة من خلال الحسيات البلاغية، فجاءت صوره مفعمة بطاقة شعورية، وانفعال متّقد بتضافر التراكيب الأسمية التي تؤدي دلالات الثبوت والديمومة، إمعاناً في توصيف الحالة الواقعية( الهزيمة)، والحالة الشعورية ( الألم والسخط )، مثلاً: ( طرفي مطرقٌ – أي جرح راعف ..).
    4- المستوى الدلالي ( المعنوي ): من خلال التفاعل بين النص والمتلقي تتضح الصورة التي أراد أبو ريشة التعبير عنها، ذلك أن تضافر أدوات اللغة بتراكيبها وبلاغتها ونحوها – كما أشرنا سابقاً – أدّت إلى حالة مماثلة لدى المتلقي، وهذا يقوي عملية الاتصال بين المرسل والمتلقي في جانبه الغني بأبعاده المتعددة الجوانب، فالشاعر في حالة حزن مستمر ما لم تنهض الأمة، فحاورها متسائلاً عن ماضيها ، مذكّراً إياها بالنخوة العربية التي استطاعت
    أن تغيّر التاريخ في أيام قلال كما حدث في موقعة عمورية، داعياً الهمة العربية لترك الجراح وأوهام القادة وأهوائهم ( تتفانى في خسيس المغنم)، ورثى حال الجندي العربي الذي خذلته قادته، وأصبح كبش فدىً في مهبّ ريح ألاعيب سياسية، وقد اعتمد الشاعر على إثارة المتلقي وزجّه في المفاعلة من خلال الحقول المعرفية، وما اختزن في ذاكرته من إرث حضاري وأدبي يسمح له في المشاركة بالنص ، متفاعلاً مع نصوص سابقة وفقاً لمبدأ التناص مع تجربة شعورية وشعرية. كلّ هذا يمكننا أن نلمسه من خلال المستوى الأفقي ( السطحي ) للنص بمستوياته الأربعة.
    ب – المستوى العمودي ( البنية العميقة للنص )
    يختلف التفسير السيميائي للمعنى باختلاف النّقاد والقرّاء، وحسب رولا بارت إن القارئ ليس مستهلكاً للنص فحسب، بل منتج له أيضاً. والنص ليس نظاماً بنيوياً مغلقاً كما أشارتْ جماعة " تل – كل " ويأتي كعدسة مقعرة لوجوه عديدة ضمن أطر سياسية واجتماعية وثقافية، وتأتي عملية الإنتاج مع القراءة التي تحاول التغلغل إلى هذه العدسة المقعرة بالاستناد إلى تلك الأطُر السائدة، والمؤثرة في خلق هذا النص أو ذاك. والنقد السيميائي لا يقف عند حدود القراءة الأفقية، بل يتخطاها للدخول إلى بنيته العميقة ( العمودية )، من خلال التنقيب عن المعنى التواصلي أو المعنى المصاحب، وهنا يكمن التحول المستمر مع الالتفات إلى تقاطعات النص ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. ويمكننا التركيز في النص السابق على بنىً محورية تتقاطع فيه، وهي:
    1- البنية الدلالية: يتم ذلك من خلال الكشف عن الدلالات السياسية والتاريخية والثقافية، وقد أتت تلك البُنى متداخلة ضمن ثنائية تتفرع عن بنية أصلية ( الماضي / الحاضر ) كبنية مسيطرة على النص ، وتتمحور حولها بُنىً تجسّد الصراع القائم بين ( الحزن / الإحباط ) والشعور بالعجز أمام واقع مُستلب، وبين ماضٍ وحاضرٍ مع إمكانية ولادة أمل جديد من شأنه نسف الواقع العاجز الذي قاد إلى النكبة، وإعادة صياغته. نرى حتى البيت " 8 " دلالة الاستنكار والرفض المشوب بالانكسار، ويأتي البيت التاسع لاستنهاض الهمة العربية من خلال التذكير بالمواقف التاريخية لها من قوة وعدم السكوت على الضيم والاعتداء، والبحث عن إمكانية جديدة : " أوما كنتِ إذا البغي اعتدى – موجةً من لهبٍ أو من دمِ؟ " ثم تعود دلالة الاستنكار والعجز لتسيطر على النص ضمن قالب دلالي يوحي بالحزن، ويظهر فيه التنديد بسلبية الشعب وضعفه أمام أهواء القادة، وتجسّد هذا التنديد من خلال استعادة شخصية المعتصم التاريخيّة، وقد تحولت هنا دلالياً من القائد البطل إلى قائد فترتْ همته، وخسرتْ معركتهُ.
    2 – البنية السياسية : من خلال إسقاط الحزن على أحداث أخرى ستتكشّف لنا معطيات سياسية وتاريخية، فالنص من حيث التوثيق الزمني معلوم الهوية ( كُتب عام النكبة 1948 )، وعلى الرغم من الحزن والأسى المتغلغلين في النص إلا أنه يمكن تجاوز الحدّ الانفعالي الذاتي للشاعر إلى تصوّر القلق حول المصير الذي ينتظر الأمة من خلال واقعها الواهن، فهناك عملية تحوّل من الذات الفردية إلى الذات الجماعية. وهذا الواقع سيستمر ما لم تنظر الأمة في معطيات التفوق في الماضي، والهزيمة في الحاضر، وعليه تتأسس في النص ثنائية الماضي / الحاضر بتجسيد الصراع من خلال التطلع للماضي بوجهه المشرق ، والحاضر بسوداويته واغتياله للماضي. ويعجب الشاعر كيف يكون لمثل هذه الأمة ماضٍ مشرق:
    أتلقاك وطرفي مطر ق ـــ حاضر
    كيف أغضيتِ على الذل؟ ـــ ماض قريب( حاضر )
    لم يشتفِ الثأرُ ـــــ حاضر ( منفي بـ لم / أصبح ماضياً)
    لم تلامس نخوة المعتصم ــــ حاضر ( منفي بـ لم )
    أوما كنتِ إذا البغي اعتدى ــــ ماض بعيد
    ألاسرائيل تعلو رايةٌ؟ ـــ حاضر
    الماضي المتفوق يخسر هنا ضمن دلالات الحاضر المنتشرة بقوة، ويكاد يتلاشى الماضي بقسوة الحاضر على كل معطيات النصر، فالحاضر يقوّضه ، وتأتي الجماعة ( الأمة ) كعامل قوي في تثبيت دعائم انتصار الحاضر:
    أمتي ! كم صنمٍ مجدتِهِ لم يكن يحمل طهر الصنمِ
    فاحبسي الشكوى فلولاك لما كان في الحكم عبيد الدرهمِ
    وبتخطي الحزن من الانفعال الذاتي إلى الجماعة تتولّد حالة وجدانية تصبح معها الألفاظ علامات وإشارات محمّلة بدلالات كثيفة ( لإسرائيل تعلو راية – دعي القادة – ربّ وامعتصماه – الراعي عدوّ الغنم – عبيد الدرهم ..)، وهذا يدلّ على أنظمة حكم فاسدة تسلب إرادة الشعوب التي رضخت بدورها كالأغنام، ومجدت أصناماً ( الراعي الذي يرعاها ) الذي يأتي بالنهاية كتعبير الشاعر ( الر اعي عدو الغنم )، وعبر الرضوخ تأتي النتيجة الحتمية ( لولاكم لما حكم عبيد الدرهم ).
    أتت البنية السياسية لتعكس ذاتاً منكسرة بين اللاأمل في الحياة, و بين بريق أمل ضئيل إذا نظرت الأمة في عوامل ضعفها و فشلها 1948 أمام إنقاذ فلسطين. إن هذا الصراع بين الماضي و بين الحاضر قد ولّد انفعالا لدى الشاعر , وجد نفسه فيه منقادا انقياداً سلبياً لواقع سياسيي واجتماعي, وصل فيه حد التشاؤم و السوداوية في وجوده ووجود المجتمع مع فسحة تفاؤلية تمثلت بذات الجندي الذي قد يكون ذاتاً مجسدة عن الشاعر نفسه:
    أيها الجندي يا كبش الفدا........ يا شعاع الأمل المبتسم
    بورك الجرح الذي تحمله .........شرفا تحت ظلال العلم
    بعدما ذابت ذات الشاعر بذات الأمة لم تكن النتيجة إلا هزيمة بهزيمة, و أمام انحسار ذاته تماما مع الاستلاب و الضعف المتفشي في جسد الأمة التي لم تشف حرقته رغم كل النداءات (أمتي- أمتي) و للخروج من هذا الشعور المسيطر خلقت الذات الثانية بشكل مستقل (الجندي) الذي كان ضحية سياسات فاشلة, فجاء به الشاعر لإمكانية الحفاظ على توازن الذات الأولى من التلاشي.
    3-بنية التناقض: و تتجلى أيضا في ثنائية الماضي/ الحاضر/ بين نخوة المعتصم في الماضي و انهزامه في الحاضر, بين الوقوف كموجة لهب في وجه المعتدي و بين الانهيار أمام إسرائيل في الحاضر, بين الحكمة و القوة المجسدة بشخصيات الماضي و بين وهن قادة الحاضر و عبادتهم للمال, بين خوف الراعي على رعيته في الماضي و بين استهتار الراعي برعيته في الحاضر (الراعي عدو الغنم) .
    4-البنية الانفعالية: و تتضح من خلال حديث الشاعر عن حزنه العميق، و قد أخذ هذا الحزن إيحاءات دلالية تنأى به عن المعنى القريب، لكن انفعال الشاعر بقي ماثلاً بقوة في التعبير عن الحزن الذي سيطر على النص من البداية إلى النهاية ، و ظهرت بنية الحزن الانفعالية من خلال صورتين ، كانت الأولى هي الطاغية على النص ممثلة بصوت الشاعر ( من خلال الأساليب الإنشائية من استفهام و أمر) و تأتي الصورة الثانية ممثلة بصوت الأمة الذي اختفى تماماً و جسّده الشاعر، فبقيت الصورة سلبية باعتبار الصوت الأول هو بؤرة استقطبت المستوى الانفعالي، جاء النص فيه دائرياً مغلقاً مثّلت فيه البدايةُ النهايةَ باستثناء فسحة خرج منها الشاعر ببروز صوت الجندي الجريح (شعاع الأمل) علَّ جراحه تبرى و ينشد الخلاص، و يبقى الجو العام للمستوى الانفعالي في حالة ثبات و حزن.
    5-البنية التناصيّة: و فيها يتفاعل النص الماضي مع الحاضر و المستقبل، و اعتمد هذا التناص على حوار خارجي من طرف واحد ( ذات الشاعر) يطرح الأسئلة على الأمة و ماضيها، و يجيب بالعودة إلى مساحات حضارية في الماضي، حيث انتقل من الزمن الحاضر بقوة إلى الزمن الماضي المندثر، و يمكننا أن نقع على ذلك في عدد من الأبيات منذ البيت الأول عندما أعاد الأمة العربية إلى منابر السيف و شعلة الأقلام بأسلوب استفهامي استنكاري ولّّده الواقع المهزوم، ثم التذكير بماضي الأمة و قد تصدت للبغي، والانتقال إلى أرض الحاضر( النكبة) وقد ارتفعت فيها رايةٌ لإسرائيل، واستعادَ ذاكرة معركة عمورية، واستحضر أبطالها كأبي تمام و لكن بشكل انعكست فيه دلالة الحدث:
    - يا يوم وقعة عموريةَ انصرفت عنك المنى حفّلاً معسولة الحلبِ
    - حلمٌ مرّ بأطياف السنا و انطوى خلف نجوم الظلمِ
    - لبيت صوتا "زبطريا" هرقت له كأس الكرى.. ( يخاطب أبو تمام هنا المعتصم الذي لبّى نداء المرأة و أحرق زبطرة على رؤوس الروم)
    - لا مستْ أسماعهم لكنها لم تلامسْ نخوةَ المعتصمِ
    ثم الانتقال إلى أرض المهد الأول ( القدس) و ما بُذل من تضحيات لفتحها ثم تحريرها من أيدي الروم، و الآن يرفرف علم إسرائيل عليها (ألاسرائيل تعلو راية) و ينبني هذا التداخل بين الماضي و بين الحاضر على استجلاب شخصيات تاريخية ( عمر بن الخطاب، المعتصم، صلاح الدين) في ذهن أمة انساقت وراء قادة ( عبيد الدرهم)، و يعتبر هذا الحوار الخارجي المرجعية و الخلفية التي صاغ الشاعر بواستطها قصيدته. لقد سجل لنا أبو تمام ببائيته حدثاً بارزاً غنّته الأجيال عبر قرون، وها هو أبو ريشة يسجّل بميميته حدثاً بارزاً مال بالمسلمين والعرب إلى جحيم الإرهاب تغنيه الأجيال حشرجةً وذلاً.
    إنّ تضافر تلك البُنى العميقة للنص، و من خلال مبدأ العلاقات ( التركيب) و من خلال الربط الدلالي بين العلامات كالتشابه و التجانس في التراكيب المتشاكلة من حيث الأسلوب التعبيري ( الشكل) و المعنى الدلالي ( المضمون)، و من خلال المستويات الأربعة الأفقية من صوتية و صرفية (مورفولوجية) و دلالية و نحوية و معجمية و بلاغية ... كل هذا مع تضافر بنى المستوى العمودي قد شكّل البنية الجمالية للنص.

    منقول

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 07, 2024 8:32 pm