تتأسس هذه الشبهة على الخلط في إجراءات التحليل البلاغي بين ما يصلح للخطاب الشعري أو الحجاجي، من ناحية، وما يصلح للخطاب التعليمي، فقد صدر أكثر المحللين للبلاغة النبوية ـ إن لم يكن جميعهم ـ دون مراعاة للفروق والخصائص النوعية لأنواع الخطاب المختلفة، وهو خلط مرده إلى عدم وجود تفريق في النظرية البلاغية العربية بين أنواع الخطاب وغاياتها، فإن وضْعَ الباحثِ نصب عينيه الغايةَ من الخطاب الذي يمثل مادة التحليل الذي يقوم به يُعَدُّ أحدَ أهم المبادئ النظرية التي تؤسس لعملية تحليل دقيقة؛ لأن مراعاة هذه الغاية يحدد للباحث: عن أي شيء يبحث ؟ ومن ثم يحدد له الغاية من عملية التحليل البلاغي التي يقوم بها.
الشعر خطاب تخييلي يهدف إلى تحقيق المتعة وإثارة القبول على المستوى الجمالي، أما الحديث النبوي فهو خطاب حقيقة يهدف إلى تمكين الحقائق التعليمية التبيينية التشريعية في نفوس المتلقين المسلمين عن طريق تضمن نصوص الحديث النبوي الشريف لوسيلتي التمكين للحقائق المتمثلتين في التأثير والإقناع، ولكن مما ينبغي التنبُّه إليه أيضاً أنه في تحقيق هاتين الغايتين يختلف أيضاً عن الخطاب الحجاجي الخالص، ومن ثم يأتي التأثير والإقناع في الحديث النبوي الشريف محتفظاً بخصائصه التي تميزه عن الخطابين الشعري والحجاجي في تحقيقه لغاية التـأثير والإقنـاع، ولكن هذه الغاية لا تلبث أن تتحول إلى غاية وسطية، أو وسيلة ـ بشكل ما ـ بين الغاية المضمونية التعليمية التربوية التشريعية وضمانات تحولها إلى منجز فعلي في السلوك البشري للمستهدفين بالخطاب، والتأثير يخاطب القلب والوجدان أي يخاطب في الإنسان إنسانيته والمشاعر المختلفة من الخوف والحذر والإشفاق وغيرها، أما الإقناع فيخاطب في الإنسان عقله المفكر الذي يختبر الفكرة ويتفحصها حتى إذا اقتنع بها استقرت يقيناً، ومن ثم جاء التأثير والإقناع ـ بوصفهما غاية أولية تؤدي إلى غاية التمكين لما يقتضيه الخطاب من غاية تعليمية تشريعية في السلوك الفعلي ـ منهجاً ملازماً لهذه البلاغة تحقيقاً للغاية الإبلاغية التي كُلف بها صاحب هذه البلاغة في أنماط أسلوبية لها خصوصيتها المتوائمة مع غايتها.
ولنا أن نشير إلى أن بُعدي التأثير والإقناع معاً يختلفان في الحديث النبوي الشريف عن غيره من كثير من أنواع الخطاب، فالإقناع هنا لا ينبني على حجة منطقية عقلية خالصة وفق المفاهيم التي سادت في نظريات الحجاج الأرسطي وتطوراتها الحديثة التي نجد ظواهرها في الخطاب الحجاجي في مختلف ميادينه، ولكنه ينبني هنا على متكأ سياقي يتعلق بعناصر سياقية تحكم عملية التواصل بين المرسل والمستقبل، وليست هذه المحددات السياقية الخاصة بالمتكلم في الخطابة ببعيدة عن رؤية أرسطو، فقد رأي أن التصديقات مبنية على أبعاد ثلاثة ينبني البُعد الأول منها على أخلاق القائل إذ تتمثل هذه الأبعاد المحققة للإقناع عنده فيما يلي:
أولا: أخلاق القائل (المحددات السياقية)
ثانياً: تصيير السامع في حالة نفسية ما (التأثير)
ثالثاً: القول نفسه، من حيث هو يُثبت أو يبدو أنه يُثبت (مدى تضمن القول لحقيقة وبرهان)( ).
ولا يخفى علينا ارتباط أخلاق القائل ـ على حد تعبير أرسطو ـ بالمحددات السياقية التي نقول بها، بل إنه يوليها تفصيلاً وتأكيداً على ضرورتها بقوله: " وليس صحيحاً أن الطيبة الشخصية التي يكشف عنها المتكلم لا تُسهم بشيء في قدرته على الإقناع، بل بالعكس، ينبغي أن يُعد خلقه أقوى عناصر الإقناع لديه"( )، ومن ثم نؤكد على العنصر السياقي بوصفه من أهم عناصر الإقناع في الحديث النبوي الشريف، وتأتي الأبعاد السلوكية ضمن تأسيس الحديث النبوي الشريف لبلاغته الخاصة وهو ما يدخل في الجانب الذي حدده أرسطو فيما يتعلق بكيفية المتكلّم وسمته.
كما لا يخفى أن أمر مراعاة مقتضى الحال عند المتلقي الذي يدخل في الأطر السياقية ليس ببعيد عن النظرة الأرسطية للحجاج ووسائل الإقناع، "فإن الإقناع من الممكن أن يتم بواسطة السامعين إذا كانت الخطبة مثيرة لمشاعرهم، فأحكامنا حين نكون مسرورين ودودين ليست هي أحكامنا حين نكون مغمومين ومعادين"( ).
ثم يأتي العنصر الثالث مُحدداً في العنصر اللغوي لا من حيث الأسلوب وما يشتمل عليه من الظواهر البلاغية ولكن من كون اللغة حاملة للحجج والبراهين العقلية، " فإن الإقناع يحدث عن الكلام نفسه إذا أثبتنا حقيقة أو شبه حقيقة بواسطة حجج مقنعة مناسبة للحالة المطلوبة"( )، إذ لا تحتل الظواهر البلاغية والأسلوبية المكانة الأولى في بلاغة الحجاج في السياق الغربي قديماً وحديثاً، وهي ربما تختلف في هذا المنحى عن السياق العربي، ويشير د. محمد العمري إلى الاختلاف بين الرؤية العربية والرؤية اليونانية القديمة في العنصر المهيمن في الخطابة الحجاجية الإقناعية " فربما كانت للمنطق الأولوية عند اليونان فكان الاهتمام بالحجة، في حين نجد الشعر علم العرب الذين لم يكن لهم علم أصح منه فكانت للأســلوب والعبـــارة الصـــدارة"( )، ولكننا نحترز هنا من أخذ هذا القول على إطلاقه، فالأمر يختلف مع بلاغة الحديث النبوي الشريف تبعاً لاختلاف الملابسات السياقية على تنوعها وغزارتها، ولخصوصية النص من حيث هو منطوق لغوي خاص في أسلوبه.
ومما ينبغي أن يؤخذ في حساب المحلل البلاغي الأسلوبي أن الحجاج في المقامات الخطابية التي انبنت عليها أفكار أرسطو يختلف فيها الأبعاد السياقية من جهتي المخاطِب والمخاطَب، فطرفا الخطاب في المقام الحجاجي ـ في الغالب ـ يجمع بينهما عداء، فكلا الطرفين مدفوع بغايات شخصية ذاتية، ومن ثم فإن الأبعاد السياقية التي تحكم العلاقة بين طرفي الخطاب تتمثل في سوء الظن، والاتهام، والرغبة في إحراز الانتصار، فالمنفعة هي الهدف وليست الحقيقة، ومن ثم فإن العلاقة التي تحكم الطرفين هي علاقة الصراع والمخادعة، والإقناع هنا لا يهدف إلى بيان حقيقة بقدر ما يهدف إحراز منفعة.
وما هكذا يكون بُعد الإقناع في بلاغة الحديث النبوي الشريف، فالسياق الذي يحكم طرفي الخطاب إنما هو سياق غاية في الشفافية والصدق، فالمخاطِب هنا يستهدف بالإقناع من يؤمنون به نبياً ورسولاً شاهدين وغائبين، ومن ثم قلنا بأن الإقناع هنا يعتمد على دعائم سياقية بالدرجة الأولى، ثم تأتي الصياغة بعد ذلك ليست من قبيل الإقناع بالحجة اللغوية الخالصة، ولكن اللغة تأتي هنا وسيلة لتمكين الحقيقة من نفس المتلقي، ومن هنا نقول بمغايرة الإقناع في الحديث النبوي الشريف لغيره من أنماط الخطاب الحجاجي بين البشر بعضهم البعض في دوافعه ووسائله وملابساته السياقية.
إن ما قلناه في الإقناع يصدق على التأثير، وإن كان الأمر فيما يتعلق بالحجاج أقل ظهوراً في معالجات البلاغة النبوية الشريفة، فإذا كان الحديث النبوي الشريف ليس خطاباً حجاجياً فإنه ـ في الوقت نفسه ـ ليس خطاباً شعرياً، فالتأثير بوصفه غاية وجدانية تختلف في الحديث النبوي الشريف عنها في الشعر، فإن التأثير الشعري ربما كا