بسم الله الرحمن الرحيم
شكرا للفاضلين، السيد خالد السوهاجي والسيد أنس بن محمود على كلمتيهما التشجيعيتين في حق الموضوع أعلاه ، أسأل العليَّ القدير أن ينفعنا وإياكم بما فيه الخير والصلاح . فيما يخص سؤال الأخ الكريم خالد سأحاول أن أجيب عن طريق الإشارة إلى بضع نقاط مهمة هي ׃
1 - تتفق أغلب المعاجم العربية على تراوح معنى الرمز بين الإشارة والإيماء بالشفتين أو الحاجبين ، وبين الهمس أو الصوت الخفي ،أنظر على سبيل المثال مادة (رمز) في "أساس البلاغة" للزمخشري (ت 467 – 538 ﻫ )،و "الصحاح" لأبي نصر الجوهري (ت 393 ﻫ )، و"العين" للخليل بن أحمد الفراهيدي ( ت 100-170ﻫ)، و"لسان العرب"لابن منظور الإفريقي (ت 630- 711 ﻫ ) ، وتاج العروس للزبيدي ( ت1145- 1205ﻫ ). وقد وردت لفظة (رمْز) مرة واحدة في المصحف الشريف في قوله تعالى في سورة آل عمران الآية 41׃} قالَ ربِّ اجعَل ليَ آية، قالَ آيتكَ ألا َّتكلّمَ النَّاس ثلاثة َأيَّام إلا رَمزًا، واذكرْ ربَّك كثيرًا وسَبِّح بالعَشِيِّ والإبْكَارِ} واتفق المفسرون على أن الرمز في هذه السورة الكريمة يعني الإشارات والحركات. فيكون بذلك الله تعالى قد حدد لنبيه الكريم وسيلة من وسال التواصل أمره أن يتخذها أداة يخاطب بها غيره عوض التحدث المباشر ،كل رمز (إشارات وحركات) حسب الظرف التواصلي الذي يلائمه، فكانت حركاته وسكناته عليه السلام لغة ًعبَّر بها عما شاء لمدة ثلاثة أيام دون أن يَنبس ببنت شفة ،ولا شك أن مخاطَبيه كانوا يفهمون إشاراته ويتواصلون معه بشكل عادي .
2 - في النحو التوليدي يعطى اسم (الرمز) لكل العناصر الألفبائية الضرورية المستعملة لتدوين التجريدات السابقة للتحقيق الصرفي والصوتي .مثالها الرمز الأولي ج الذي يمثل البناء في المستوى العميق ، و م س الذي يرمز للمركب الإسمي، و م ف الذي يرمز للمركب الفعلي وغيرها من الرموز .
3 - في علم العلامات (السيميولوجيا Sémiologie ( نجد دراسة عامة للعلامات ، بما فيها اللغوية، داخل الحياة الاجتماعية ، حيث يصبح كل ما يحمل "معنى" من آثار إنسانية و أفعال بما فيها الشعائر والأعراف و آداب السلوك ... (باعتبارها رموزا ) عبارةً عن علامات . من هنا نلاحظ في المشروع السيميولوجي وجود أنساق العلامات الاصطلاحية التي استخدمت بغاية الاتصال المباشر والتي اتسمت بالوضوح ، كعلامات الطرق ورموز الرياضيات وإشارات المرور... وأنساق أخرى أكثر تعقيدا اتسمت بالغموض والقابلية للتعديل وهي تلك المتعلقة بتلقي الأدب ،الذي لا تكفي فيه معرفة اللغة التي كتبت بها الأعمال الأدبية لأجل إثبات المعرفة الإضافية اللازمة للتأويل المرضي لها .هكذا نجد أنفسنا منتقلين من مفهوم النسق الذي يُكسِب اللفظة قيمة معينة داخل العبارة إلى مفهوم السياق أو المقام الذي تحتله العلامات داخل المقام التواصلي ، فتبرز لنا الطبيعة الاصطلاحية للعلامة والطبيعة الاختلافية للمعنى . وتعزيزا لهذه الفكرة لا بد من ذكر أهم ما جاء به مشروع العالِم السويسري فردينان دوسوسير في إطار تحديده الموضوعَ الملائم لعلم العلامات ، حيث ميَّز بين اللغة la langueوالكلام le parole ؛ ذلك أن اللغة هي النسق العقلي المرتبط بالقواعد والأعراف التي تسمح بإنتاج التعابير الكلامية، والكلام هو التحقيق الفعلي لهذه القواعد ، ولا شك أن هذا التمييز كان منبعثا من إيمانه الراسخ بضرورة التمييز بين ما هو مستنبط بطريقة حدسية لا شعورية ،أي بين ما لا يستدعي تصميما واعيا عند وضعه من قِبل العشيرة اللغوية ، وبين التحقيق الفردي لعلامات اللسان ،أي ما يدخل فيه الذكاء الشخصي ليختار المتكلم من قواعد اللغة أو اللسان وترخيصاته ما يتلاءم مع أغراضه التبليغية ،فضلا عن أن العناصر النفسية و الفيزيائية و الفيزيولوجية تقوم بدور ضروري ومؤثر في تحقيق التراكيب ...من هنا يبرز وعي هذا العالِم اللساني الكبير بالاستخدامات اللغوية المتباينة وفقا للملابسات التواصلية سواء تعلق الأمر بالعلامة اللغوية أو غيرها من العلامات المعبِّرة بما فيها الرموز والإشارات.
4 - في علم السيميائيات قامت الدراسة العلمية للعلامات على تصنيف خاص يميز بين الإمارة والرمز والأيقونة دون إعطاء الامتياز للغة و المجتمع، مع العلم أنه علم قام على دراسة الأنظمة السيميائية بما فيها النصوص الأدبية .و الرمز عند مؤسس علم السيميائيات، الفيلسوف والعالم المنطقي الأمريكي شارلز بيرس Ch.S.Peirce هو تدوين علاقة قارة بين عنصرين في ثقافة معينة ،وبالتالي فالرمز باعتباره علاقة تفيد مدلولا معينا بواسطة دال سواء كان خطيا أو بصريا يكون عبارة عن أداة تواصلية تستعمل في ظروف تواصلية محددة لتحقيق أغراض تواصلية بعينها من طرق أشخاص بعينهم.
5 - الشعر المعاصر مثلا خطاب "رمزي" قائم على عنصري الغموض والغرابة اللفظيين المبنيين على هيمنة الكنايات والمجازات وغيرها من أساليب البيان ، أي على الاستخدامات المميزة للغة . ذلك أن أساليب اللغة التصويرية وأنماط البناء الأدبي يقتضي تـأويلا خاصا باعتباره يحمل رسالة معينة موجهة إلى مرسل معين لغرض معين، فتظهر هنا المنظومة التواصلية التي تأطر العناصر التواصلية و المبنية على الإنتاج والفهم بالدرجة الأولى ؛ نمثل لذلك بالفرق الصارخ بين ׃
أ - لغة الشعر الثوري (بما فيه الشعر ذو الاصطلاحات الوطنية والقومية)، نموذجها قصيدة بدر شاكر السياب "رسالة من مقبرة" التي أهداها إلى المجاهدين الجزائريين، وهي قصيدة تحمل الوعي بالمعركة وتنبئ بالثورة .
ب - ولغة الشعر الرومانسي الذي دعا أصحابه إلى تغليب مبادئ الحرية والذاتية على القواعد الكلاسيكية والعقلانية الفلسفية ، نموذجها مجموع قصائد الشاعر الفرنسي لامارتين (زعيم الحركة الرومانسية/ الرومنطيقية). فدراسة استعمال اللغة و(بالتالي الرموز) في الصنفين تعكس الطبقات المقامية المختلفة بينهما باعتبارهما خطابين مختلفي المتكلم والمخاطب والمقام التواصلي و الغرض التواصلي المراد تحقيقه من خلال كل واحد منهما.
هكذا نخلص إلى أن الرمز باعتباره ركنا أساسا في المنظومة التواصلية يعتبر موضوعا للدراسة في إطار التداولية كذلك ، باعتبارها علما يدرس الاستعمال اللغوي.والله تعالى أعلم بالصواب.
تقبلوا تحياتي ......
_________________
قال الطغرائي :
حُبُّ السَّلامة يُثنِي عَزمَ صاحِبهِ ٭٭٭٭ عن المَعالِي ويُغري المَرْءَ بالكسلِ
فإن جَنحْت إليه فاتخذ نفقا ٭٭٭٭ في الأرض أو سُلّما في الجَوِّ فاعْتزلِ
استعرض نبذة عن المستخدمين