بعد قراءة عرض الأستاذة أسماء يسعدني أن أساهم، بما تيسر ،في إغناء النقاش حول مفهوم التداولية.ولعل أول ما يلفت الانتباه هو أن هذا المصطلح يستعمل مفردا -تداولية-كما يستعمل جمعا أي تداوليات ؛وهذا ما دأبت عليه كتب اللغة الحديثة في ما أعلم.أما الاستعمال الثاني فهو مصطلح الذريعيات الذي يضعه الأستاذ الفاسي الفهري مقابلا ل pragmatique .أما من حيث المضمون المعرفي فيمكن القول إن التداولية تمثل أحدث فروع الدرس اللساني الحديث؛نشأت في أحضان فلسفة اللغة ،وخاصة أعمال ج أوستين وسورل.أما أول من ميز بين المستويات الثلاثة-تركيب-دلالة-تداول ،فهو شارل موريس الذي أضاف إلى التقابل التقليدي بين التركيب الذي يدرس علاقات الدلائل في ما بينها،وبين الدلالة التي تدرس الدلائل وماتمثله،مستوى ثالثا يرصد علاقات الدلائل بمستعمليها. والتداوليات أقرب إلى علم النفس أو علم الاجتماع منها إلى المنطق أو إلى اللسانيات، لأنها تتجاوز العلاقات بين الدلائل لتنظر في السلوك التجريبي للأفراد بكل العناصر المؤثرة في معنى الملفوظات، وخاصة المعاني الأدبية التي يبنيها المتلقي بعد تدخل المكون البلاغي. ذلك ما يُستفاد من تقسيم O. Ducrot لمراحل إنتاج المعنى(19):
1- يقوم المكون اللغوي بوضع معنى لكل ملفوظ.
2- يتدخل المكون البلاغي ليحسب معنى التلفظ انطلاقا من معنى الملفوظ ووصف المقام.
وقد ترتب على هذا التقسيم تمييز بين "المعنى الحرفي" Signification والمعنى المقامي Sens الذي ينتج عن تدخل المكون البلاغي.
إن هذا التصور يضيف إلى المكون اللغوي الصرف، مكونا تداوليا ينتج المعاني المقامية التي لا يصل إليها المكون الدلالي الذي ظل، تحت تأثير النزعة المنطقية، ينظر إلى الملفوظات باعتبارها مجرد وصف لأوضاع الأشياء والحكم عليها بالصدق أو الكذب(21). إلا أنه ابتداء من العقد الثالث من القرن الماضي ارتسمت ردة فعل داخل الفلسفة التحليلية تسعى، من أجل نقد منهجي، إلى دراسة الملفوظات التي لا تكمن وظيفتها في الوصف. وقد عبر سورل عن هذا التصور معتبرا أن متكلمي الانجليزية حين يستعملون كلمة معنى زMeaningس إنما يعنون بها شيئا مزدوجا «معنى الكلمات، ثم القصد الذي يعطي دلالة معينة لحدث في سياق خاص»(22). وتمثل البنيات المجازية نموذجا للصيغ اللغوية التي تقتضي الانتقال من المعنى الحرفي إلى المعنى المقصود، وهو أمر يسهل عملية معالجة اللغة الشعرية من منظور تداولي يعتبر هذه البنيات قولا مجازيا لا يخضع للمعنى الحرفي للجملة، ومع ذلك فإن المخاطب يفهمها وفق آليات مضمرة، هي جزء من كفايته اللغوية العامة. ويرى سورل(23) أن وجود هذا الصنف من أشكال التلفظ، يثير عددا من الإشكالات من قبيل: ما هو المجاز؟ كيف يتميز عن بقية أشكال التعبير الأخرى؟ لماذا نلجأ إليه بدل أن نقول حرفيا ما نريد؟ ما الذي يجعل بعض الصيغ المجازية مقبولة وأخرى غير مقبولة؟ إن هذه الأسئلة مرتبطة بالاشكال العام الذي يفسر كيف يختلف قصد المتكلم عن معنى الكلمة أو الجملة؟ كيف نقول شيئا ونحن نقصد شيئا آخر ومع ذلك يتحقق التواصل؟ الذين تناولوا هذا الموضوع يحصرون، كما يعبر عن ذلك سورل(24)، العنصر المجازي للتلفظ في مستوى الجملة ليخلصوا إلى أن هناك نوعين من المعنى تتضمنهما الجملة:
أ- المعنى الحرفي.
ب- المعنى المجازي.
ويمثل المعنى الثاني ما يود المتكلم قوله بطريقة تختلف عما يعنيه الملفوظ حرفيا، مما يجعل الحديث عن المجاز، حديثا عن مقاصد المتكلمين الممكنة. وعلى أساس من هذه الخلاصة تصبح الجملة المنحرفة من صنف: «الافكار الخضراء لا لون لها تنام بعنف»، قابلة للتأويل «لأن المعنى المجازي هو دائما قصد تلفظ المتكلم»(25).
وتشكل ثنائية المتكلم-المخاطب قضية أساسية في هذا التحليل. يتبين ذلك من البحث في المبادئ التي بموجبها ينتج المتكلم كلاما يفهم منه المخاطب شيئا آخر غير ما تعنيه الكلمات في ذاتها. أي إن المشكل الذي تطرقه نظرية المجاز، من وجهة نظر التلقي، هو أن يفسر المتلقي كيف يستطيع فهم معنى ما يتلفظ به المتكلم في وقت لا يسمع إلا تحمل كلماتها معاني محددة. أما المتكلم فيعنيه البحث عن تفسير الكيفية التي يقول بها شيئا آخر غير ما تعنيه الكلمات والجمل التي يتلفظ بها. وهذا السلوك في حد ذاته ناتج عن الرغبة في قول أشياء كثيرة بأقل تكلفة لفظية، وبأكبر متعة ممكنة، وتلك خاصية بلاغية أصيلة أدرجها البلاغيون القدامى ضمن حديثهم عن الايجاز. وهذا الاقتصاد في اللغة تنتج عنه ظواهر، قد لا تكون مقصودة، كالغموض، لا يتم تجاوزها إلا إذا توفر السياق الملائم للتأويل.
لنقارن الجملتين:
1- زيد قطعة من ثلج
2- زيد عديم الاحساس ولا تثيره المواقف على اختلافها.
حيث تنفتح الأولى على ضروب من الدلالات، بينما تكتفي الجملة الثانية بكونها أحادية المعنى تستجيب للشروط الدلالية ولا تسمح بأية قراءة ثانية. والفرق بينهما، راجع في الأصل إلى طريقتين في التعبير، طريقة حرفية، وطريقة مجازية، نمثل له بـ: مَ // ج فيكون المجاز، في هذا المنظور، هو أن نقول مَ //م ونحن نقصد مَ //ج حيث ج هو العنصر المقصود مجازيا، وهذا يجعل المجاز مشكلة مرتبطة بمحاولة التمييز بين المجموعات الثلاث: مَ- م- ج، وتخصيص المبادئ التي تفسر بواسطتها كيفية الانتقال من المستوى الحرفي إلى القصد البلاغي دون أن يختل التواصل، إذ «على النظرية المجازية أن تفسر كيف يمكن تبليغ مَ//ج أثناء التلفظ بــ مَ//م»(26)، وفي هذه الحالة، حالة فهم التلفظ المجازي، يكون المتلقي في حاجة إلى عدم الاكتفاء بمعرفة اللغة، وشروط التلفظ، وإنما هو مطالب، كذلك بالتوفر على مبادئ تسمح له بفهم: مَ//ج وهو يسمع مَ//م.
ولا يمكن الوصول إلى هذه النتيجة إلا في ضوء فهم لا يخلط بين معنى الجملة وقصد المتكلم. فالمتلقي ملزم بالتوفر على مبادئ تسمح له بحساب القيم الممكنة لـ "ج" قبل أن يتوفر على المبادئ التي تمكنه من تحديد مجال «ج» ليحدد الخصائص المقصودة من قبل المتكلم. يقول سورل «يجب على المتلقي تبعا لمبدأ التقيد أن يبحث في الأشياء "مَ" والأشياء «م» لمعرفة أي القيم الممكنة في "ج" تشارك في الاسناد المجازي»(27). ذلك لأن هذا الاسناد يقوم، في الغالب، على مبدأ المشابهة، وليس على مبدأ التطابق الكلي. وفي غياب هذه المعرفة لن يصل المتلقي إلى إدراك قصد المتكلم، كمفهوم مركزي ضمن سيرورة إنتاج معنى الملفوظات المجازية، ومنها الملفوظ الشعري، رغم ما قد يطرحه من صعوبة الحديث عن مفهوم "القصد" في مجال الشعر.
AIM عنوان MSN Messenger
استعرض نبذة عن المستخدمين