منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    التَّـدَاولِيَّـة البُعد الثالث فى سيميوطيقا موريس

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    التَّـدَاولِيَّـة البُعد الثالث فى سيميوطيقا موريس Empty التَّـدَاولِيَّـة البُعد الثالث فى سيميوطيقا موريس

    مُساهمة   الأربعاء فبراير 24, 2010 3:02 am


    التَّـدَاولِيَّـة
    البُعد الثالث فى سيميوطيقا موريس
    د. عيد بَـلْـبَع
    مجلة فصول ، القاهرة العدد ، ربيع 2005م
    مقدمات تمهيدية
    1 ـ تقوم التداولية على مخطط موريس morris Charles (1938م )الذى يؤسس فيه ثلاثة أجزاء من السيميوطيقا هى : النحو ( دراسة علاقة العلامات فيما بينها ) ، والدلالة ( دراسة علاقة العلامة بالمرجع المشار إليه المعرب بها عنه ) ، والتداولية ( دراسة العلاقات بين المرسل والمستقبل وعلاقتهما بسياق الاتصال ) (1) ، وهو فى الوقت نفسه يفرق بين ثلاثة أنواع من القواعد وفقاً للأبعاد الثلاثة المذكورة ، وفيما يتعلق بالقواعد التداولية فإنها " تقدم الشروط التى تستخدم فى إطارها تعبيرات ، من حيث أن تلك الشروط لا يمكن أن تصاغ بمفاهيم القواعد النحوية والدلالية " (2) ، ولكن ذلك لا ينصرف بالتداولية انصرافاً كاملاً إلى الأبعاد المعيارية ، فقد كان أول تحديد لوظيفة التداولية فى حقل اللسانيات هو تحديد شارلز موريس morris Charles (1938م) " الدلالة تبحث فى علاقة العلامات بمدلولاتها ، والتداولية تهتم بعلاقة العلامة بمؤولها " (3) الذى أقر دور الرؤية التداولية فى عملية التأويل ، وإن أخذ المؤول ( interprétant) فى الاعتبار قد سبقه فى رؤية شارل ساندرس بيرس الذى جعل المؤول هو الحد الثالث داخل البناء الثلاثى للعلامة وفق تصوره ، " فالعلامة هى ماثول ( Representamen) يحيل على موضوع ( objet) عبر مؤول ( interprétant) ، ويشكل المؤول أداة التوسط الإلزامى الذى يقود معطيات التجربة الصافية إلى التزيِّى بزى القانون والضرورة والفكر ، إن غياب العنصر الثالث داخل سيرورة إنتاج العلامة معناه الاقتصار على تجربة غفل لا تعرف الفكر ولا تعرف الماضى ولا المستقبل ، إنها مثيرات لحظية تنتهى بانتهاء اللحظة التى أنتجتها ." (4)
    ويشير ليتش G. Leech إلى أن موضوع التداولية الذى أصبح مألوفاً إلى درجة كبيرة فى اللسانيات (1983م) ، كان يذكر من قبْل نادراً عند اللغويين ، وفق رؤية جنحت التداولية فيها إلى أن " تُعالَج بوصفها سلة مهملات يودع فيها ركام البيانات المستعصية على التصنيف العلمى بشكل مناسب ، وهناك تُنسى أيضاً بشكل مناسب ، أما الآن فثم من يناقش ، مثلما أفعل ، أنه لا يمكن أن نفهم طبيعة اللغة نفسها فهماً حقيقياً ما لم نفهم التداولية : كيف تستعمل اللغة فى الاتصال . " (5)
    ويذكر ليتش Leech أنه فى أواخر سنة (1960م) بدأ كاتز Katz ومعاونوه فى اكتشاف كيفية دمج المعنى فى النظرية اللغوية الشكلية ، ولم يكن ذلك قبل احتلال التداولية واجهة الصورة بوقت طويل ، كما يشير إلى أن لاكوف Lakoff قد ناقش (1971م) عدم منطقية فصل دراسة التراكيب النحوية عن دراسة استعمال اللغة ، ومن ثم فقد أصبحت التداولية ـ منذ ذلك الحين فصاعداً ـ على خريطة اللسانيات ، وذلك يعد الحلقة الأولى فى قصة التداولية ، وتجدر الإشارة إلى أن المهتمين بهذا الأمر كانوا كلهم من الأمريكيين ، ومن ثم فإن ما سبق يمثل النظرة الضيقة للسانيات المتمثلة فى البيانات الطبيعية للكلام ، ثم جاءت النظرة الواسعة للسانيات جامعة بين الشكل والمعنى والسياق .
    ويجب ألا نغفل مفكرين مهمين من أمثال فيرث Firth وتأكيده الشديد المبكر على الدراسة السياقية ( المواقفية ) للمعنى Situational study of meaning ، كما لا نغفل هاليداى Halliday ونظريته الاجتماعية للغة فى شمولها لكافة المستويات ، ومن المهم ألا نغفل أيضاً تأثير الفلسفة ، فعندما تعرض لاكوف Lakoff لفكرة التداولية (1960) وجدها متبناه من قِبَل فلاسفة اللغة الذين سبقوا بالتأصيل لها ، فالحقيقة أن التأثير الأكثر بقاءً فى التداولية الحديثة وجد بواسطة هؤلاء الفلاسفة : أوستن (1962) ، سيرل (1969) ، جرايس Grice(1975) ." (6)
    فقد قدم جرايس Grice ( 1975) ـ فى معالجته للمعانى فى المحادثات وفق رؤية تداولية ـ معالجةً حديثة للمعنى بتمييزه بين نوعين من المعنى ، طبيعى وغير طبيعى ، واقترح جرايس أن التداولية يجب أن تركز على البعد العملى ـ بصورة أكثر ـ للمعنى ، يعنى المعنى فى المحادثات الذى كان صيغ بعد ذلك فى طرق متنوعة (7) ، فثم شؤون عملية ساعدت فى تحويل تركيز التداوليين Pragmaticians نحو شرح وتفسير طبيعة المحادثات ، وذلك أثمر فى اكتشافات الطابع المميز لمبدأ التعاون Co-operative Principle وفق مصطلح جرايس ( 1975م ) ، ومبدأ التأدب Politeness Principle وفق مصطلح ليتش Leech ( 1983م ) (Cool
    بعد ذلك ، قبيل نهاية ( 1989م ) عُرِّفت التداولية بشكل واضح على أنها فهم اللغة الطبيعية ، وقد تردد هذا المفهوم عند بلاكيمور Blakemore ( 1990) فى فهمها للملفوظ بأنه : تداولية اللغة الطبيعية ، وقد كانت مؤسسة I,Pr,A ( الجمعية التداولية الدولية )
    ( the International Pragmatic Association ) سنة 1987 رمزاً لهذا التطور ، ففى وثيقة عملها اقترحت أَن تكون التداولية نظرية التكيف اللغوى والنظر فى استعمال اللغة من كل الأبعاد 1987. (9)
    وثم رأى آخر لفرانسيس جاك Francis Jacquse 1982م تعرضه فرانسواز أرمينكو ينطلق من الأبعاد الاجتماعية التى تحكم الخطاب ، ومن ثم يتسم هذا التعريف بالاتساع ، ويتحدد هذا التعريف فى أن التداولية تعنى : " كل ما يتعلق بعلاقة الملفوظ بالشروط الأكثر عمومية عند المخاطب " (10) ، ثم تعلق أرمينكو على هذا التعريف باستخلاصها أن التداولية تمثل شروطاً قبلية للتواصلية ، هى شروط دلالة تواصلية عامة ترتبط بكليات الاستعمال التواصلى العامة (11) ، وتشير إلى أن أهمية التداولية هى " التقيد بالبحث عن نظرية ملائمة تتعلق بالاستعمال التواصلى للغة " (12)

    2 ـ ومن الواضح أن تعريفات التداولية جميعها ترتبط بفكرة الاستعمال التى ربما ترددت فى التعريفات جميعها بشكل أو بآخر فالتداولية " هى دراسة اللغة التى تركز الانتباه على المستعملين وسياق استعمال اللغة بدلاً من التركيز على المرجع ، أو الحقيقة ، أو قواعد النحو " (13) ، فهى تدرس استعمال اللغة فى السياق ، وتوقف شتى مظاهر التأويل اللغوية على السياق ، فالجملة الواحدة يمكن أن تعبر عن معانى مختلفة أو مقترحات مختلفة من سياق إلى سياق ، (14) ، ويستخلص د. محمد عنانى مفهوم المصطلح من الدراسات الغربية التى تناولته فيحدده فى أنه : " دراسة استخدام اللغة فى شتى السياقات والمواقف الواقعية ، أى تداولها عملياً ، وعلاقة ذلك بمن يستخدمها ، تفريقاً لها عن مذهب العلاقات الداخلية بين الألفاظ Syntactics ، وعلاقة الألفاظ بالعالم الخارجى أو دلالاتها Semantics ." (15)
    ثم يذكر جيف فيرستشيرن Jef Verschueren عدة تعريفات للتداولية لا تخرج كثيراً عن التعريفات السابقة ، بل إنه يبنى تعريفه الأول لها على تعريف موريس morris الذى أشرنا إليه آنفاً مع شىء من الشرح والتفسير بقوله : " إننا نعنى بالتداولية علم علاقة العلامة بمؤوليها ، فإنه من التمييز الدقيق للتداولية أن نقول إنها تتعامل مع الجوانب الحيوية لعلم العلامات ، وهذا يعنى كل الظواهر النفسية والاجتماعية التى تظهر فى توظيف العلامات "(16) ، وعلى الرغم من إشارته إلى أنه من أبسط تعريفات التداولية هو أنها دراسة استعمال اللغة ، فإنه يضيف أنه من الممكن تعريفها بصورة أكثر تعقيداً بأنها دراسة " الظاهرة اللغوية من وجهة نظر العلامات الاستعمالية ، أو الخصائص الاستعمالية ، ولكن هذا التعريف لا يضع الحدود الفاصلة بين التداولية وموضوعات أخرى : تحليل الخطاب ـ علم اللغة الاجتماعى ـ تحليل المحادثة ، ولكن على الرغم من أنه لا يوضح هذه الحدود الـفاصلة فهو تعريف يبين الطريقة التى يمكن أن توضع التداولية بها فى مكان محدد من علم اللغة " (17) ، وقد قام كنت باش Kent Bach بحصر إحصائى لتعريفات التداولية ومفاهيمها تدور كلها حول فكرة الاستعمال التى ترددت فى أكثر التعريفات (1Cool
    3 ـ ومن الأمور التى تتعلق بتحديد المفهوم الاصطلاحى تلك العلاقة بين التداولية pragmatics والذرائعية Pragmatism ، فإن التداولية pragmatics لا تنفصل عن المذهب الفلسفى Pragmatism الذى يُترجم بالذرائعية انفصالاً تاماً ، فثم أبعاد تجمع بينهما تتعلق أساساً بالغاية والمقاصد الفعلية فى الواقع العملى ، وإن كان مصطلح البراجماتية Pragmatism قديماً نسبياً عن مصطلح التداولية pragmatics ، " فأول من استعمل مصطلح البراجماتية Pragmatism هو( تشارلز ساندر بيرس Charles Sanders Peirce 1842 ـ 1910م ) ، وذلك فى مقال نشره فى يناير 1878م ، ومعناه عملى أو صالح لغرض معين ." (19) ، وتبعه وليم جيمس Willim James فى محاضرته " التصورات العقلية والنتائج العملية " سنة 1898م (20) ، وقد أشار ليفنسون إلى أن وليم جيمس فى محاضرات ألقيت فى هارفارد 1967م هو أول من اقترح مصطلح الإضمار Implicature فى المحادثات الذى استخدمه بعد ذلك جرايس Grice 1975 فى نظريته المعروفة . (21)
    وتشير الجذور التاريخية لفكرة التداولية إلى تأثرها بالمذهب الفلسفى Pragmatism ، وإن كانت جذورها الأولى ترجع إلى أبعد من ذلك بكثير ، إذ ترجع إلى وشائج تربطها بعمق تاريخ الفكر الغربى ، فعلى الرغم من أن التداولية فرع جديد نسبياً فى اللسانيات الحديثة " فإن البحث عنها يمكن أَن يرجع قديماً إِلى اليونان والرومان ، حيث إن المصطلح pragmaticus يوجد فى اللاتينية المتأخرة ، كما أن المصطلح pragmaticos يوجد في اليونانية ، كلا المصطلحين بمعنى العملى ، أما الاستعمال الحديث لمصطلح التداولية pragmatics فقد اعتمد على تأثير المذهب الفلسفى الأمريكى البراجماتية Pragmatism " (22) ، كما أن تأثير الفلسفة البراجماتية Pragmatism قد قاد إلى دراسات دولية متجاوزة للبعد اللسانى لاستعمال اللغة " أنتجت ضمن ما أنتجت نظرية الصلة ـ سبيربير Sperberوويلسون Wilson 1986ـ التى توضح بشكل قاطع كيف يتحادث الناس وكيف تتم عملية التواصل ." (23)
    وعلى الرغم من هذه الصلة التى أكدها غير واحد من العلماء الغربيين فإن د. محمد عنانى أشار إلى أنه " يجب ألا نخلط بين علم التداولية Pragmatics والمذهب البراجماطى Pragmatism ، وهو المذهب الفلسفى الذى يحبذ التركيز على كل ما له أهمية عملية للبشر ويتجنب البحث فى القضايا المطلقة أو المجردة " (24) ، وهذا المذهب الفلسفى مؤداه : " أن معيار صدق الفكرة أو الرأى هو النتيجة العملية التى تترتب عليها من حيث كونها مفيدة أو مضرة " (25)
    فالفكرة الأولى التى نادى بها بيرس Peirce هى أن البراجماتية Pragmatism " نظام فلسفى لتفسير معنى الفكرة أو العقيدة ، فالفكرة إنما هى مشروع للعمل وليست حقيقة فى ذاتها كما تزعم الفلسفة العقلية Rationalism ... هى خطوة تمهيدية للعمل ولإحداث النتائج فى هذا العالم المحسوس " (26) ، وبقيت هذه الفكرة حتى أتى وليم جيمس William James الذى عرف بهذه الفلسفة وعرفت به فأضاف إلى هذا : " أن كل عقيدة تؤدى إلى نتيجة مرضية أو حسنة إنما هى عقيدة حقيقية ، فليست الفكرة مشروعـاً للعمل فقط ، وإنما العمل أو النتائج هى الدليل على صحة الفكرة ، ... ، فقيمة الفكرة ليست فى الصور والأشكال التى تثيرها فى الذهن ، وليست فى انطباقها على حقائق الموجودات ، وإنما فى الأعمال التى تؤدى إليها هذه الفكرة ، وفى التغيرات التى تنتجها فى الدنيا المحيطة بنا ، ولا يهم فى هذه الحالة حقائق الأشياء فى ذاتها " (27)
    وقد كان من أمر الصلة بين التداولية Pragmatics والذرائعية Pragmatism أن أطلقت بعض معاجم المصطلحات على التداولية : الذرائعية الجديدة New Pragmatism (2Cool ، بيد أن هذه الصلة ـ التى لا تعنى بحال من الأحوال تطابق المصطلحين ـ كات سبباً فى كثير من الخلط والاضطراب فى استعمال المصطلحين ، كما أدت إلى كثير من الاضطراب فى تحديد المفاهيم الاصطلاحية، وكذلك فيما أحاط بالمصطلحين من مشكلات تتعلق بالترجمة والتعريب، وعلى الرغم من أن يوسف أبو العدوس حاول تحرير المصطلح فى دراسته : " البراجماتية مصطلحاً نقدياً " (29) ، فإنه بعد أن استقر على استعمال مصطلح " التداولية " مقابلاً للمصطلح Pragmatics عاد إلى الكلمة المعربة مستخدماً كلمة " البراجماتية " التى جاءت فى عنوان دراسته ، وحاول تمييزها عن تعريب البراجماتية Pragmatism بوصفها بالبراجماتية اللغوية ( أو اللسانية ) ، فى مقـابل البراجمـاتية بالمفهوم المطلق (30) ، ومن ثم لم تحل مشكلة الخلط والاضطـراب ، وبقى لنـا أن نحدد أننا نستخدم هنـا مصطلح التداولية مقابلاً للمصطلح الأجنبى Pragmatics (31) ، كمـا نستخدم مصطلح الذرائعية مقـابلاً للمصطلح الأجنبى Pragmatism .
    ولعل أهم نقطة التقاء بين المذهب الفلسفى والتداولية يتحدد فى الواقع ال عملى الذى يجمع بينهما ، فإذا كان المذهب الفلسفى ينطلق من أن الفكرة ليست فى الصور والأشكال التى تثيرها فى الذهن ، وليست فى انطباقها على حقائق الموجودات ، وإنما فى الأعمال التى تؤدى إليها هذه الفكرة ، فإن التداولية تجنح إلى تجاوز تفسير اللغة فى ذاتها إلى تفسيرها حال استعمالها فى الواقع العملى ، بما يحمله ذلك من رد فعل على المذاهب التى اعتمدت على كثرة التنظيرات التى تفرض معايير تفسيرية أو تقويمية كلية على الظواهر اللغوية شأن البنيوية مثلاً ، ولكنْ إذا كانت التداولية قد قيدت ـ خلال تطورها ـ بالممارسة الفلسفية للبراجماتية Pragmatism ، فإنها " أخذت فى صيانة استقلالها بوصفها حقلاً لغوياً بديلاً بمحافظتها على حيز وجودها العملى فى معالجة الاهتمام بالمعنى اليومى ." (32) ، الذى يهتم بالممارسة العملية للغة المتعلقة بالمقاصد التى تحققها الظواهر اللغوية فى التواصل .
    وإذا كان ما تقدم يحدد العلاقة بين التداولية والمذهب الفلسفى الذرائعية فإنه تجدر الإشارة إلى أن هذا ليس هو التداخل للتداولية فى الحقول المعرفية المختلفة ، فإن أمر تشعب التداولية بين الحقول المعرفية المختلفة من الاتساع بحيث غدت تداوليات وليست تداولية واحدة ومن ثم يأتى التساؤل عما إذا كانت التداولية درساً أم صراع دروس مختلفة ؟ " فالتداولية كبحث فى قمة ازدهاره ، لم يتحدد بعد فى الحقيقة ، ولم يتم بعد الاتفاق بين الباحثين فيما يخص تحديد افتراضاتها أو اصطلاحاتها ، ونكاد نرى جيداً ، على العكس من ذلك ، إلى أى حد تكون التداولية مفترق طرق غنية ، لتداخل اختصاصات : اللسانيين ، والمناطقة ، والسيميائيين ، والفلاسفة ، والسيكولوجيين ، والسوسيولوجيين ، فنظام التقاطعات هو نظام للالتقاءات وللافتراقات ." (33)
    إن التداولية تتدخل فى قضايا فلسفية ومنطقية ونفسية واجتماعية لاحصر لها ، ومنها مفهوم الذاتية ، فهى تثير تساؤلات حول مفهوم الفاعل عندما ننظر إليه بوصفه متكلماً ومتحادثاً ، لا انطلاقاً من الفكر بل انطلاقاً من التواصل ، ومنها مفهوم الغيرية وما توليه التداولية من نظر إلى المتلقى بوصفه الطرف الآخر فى عملية التواصل اللغوى فى المحادثة وغيرها من أشكال التواصل اللغوى ، وأن هذا الطرف يمثل ـ بشكل ما ـ سلطة على المتكلم ، إذ يراعى المتكلم ما يقتضيه حال المخاطب مهما كان شأنه الاجتماعى .

    4 ـ ارتبط تحديد المفهوم الاصطلاحى للتداولية Pragmatics دائماً بالتمييز بينها وبين الدلالة Semantics، من ناحية ، والتمييز بينها وبين النحو من ناحية أخرى ، وقد بدأ هذا الارتباط من البدايات الأولى التى عرض فيها موريس morris 1938م مفهوم التداولية مقارناً بالنحو والدلالة ، ثم توالت الأبحاث والدراسات التى اتخذت من تمييز موريس منطلقاً ـ كما اتخذت من تعريفه منطلقاً ـ لبناء المفهوم الاصطلاحى على هذا التمييز .
    تتخذ الدلالة مفهوماً عاماً ومفهوماً خاصاً ، يتحدد المفهوم الخاص فى الوظيفة الدلالية للتراكيب النحوية التى ترتكز على المعنى الحرفى الذى تؤديه الجملة ، وبعبارة أوضح لا تلتفت الدلالة فى هذا المفهوم الخاص إلى أبعاد غير لسانية ، فهى تركز على المنطوق ، وهذا المفهوم الخاص للدلالة هو أساس المقارنات التى قامت بين الدلالة والتداولية ، وبذلك تعد هذه المقارنات تمييزاً بين التداولية والدلالة بمفهومها الخاص قبل ظهور التداولية واستقرارها فى الدراسات اللسانية فى الفكر الغربى ، ومن ثم " كان هناك لبس فى استعمال كلمة الدلالة Semantics حيث تمثل أحد ثلاثة أسس للنموذج السيميائى إلى جانب التركيب والتداول ، ثم تنحصر بعد ذلك فى مستوى من مستويات التركيب ، وقل مثل ذلك فى كلمة تركيب ، فهى جنس وفرع فى الوقت نفسه " (34) ، وتأسيساً على هذا يمكننا تحديد مفهوم الدلالة Semantics ـ فى المصطلح الغربى الذى يستعمل فى مقابل التداولية Pragmatics ـ هنا بأنه دلالة التركيب النحوى بقطع النظر عن الملابسات السياقية والعناصر التداولية ، ولعلنا بهذا التحديد نحترز من وقوع البحث فى لبس آخر ينتج من أن الدلالة Semantics يمكن أن تُفهم فهماً أرحب يستوعب دلالة التراكيب النحوية مضافاً إليها الملابسات السياقية والعناصر التداولية أيضاً ، فكل ما ينتج عن هذه العناصر مجتمعة هو بشكل ما دلالة ، وهذا ما يمكن أن يشكل أما المفهوم العام للدلالة الذى يمتد ليشمل التداولية ؛ لأنه يعتنى بالعناصر المنتجة للدلالة فى صورتها الكلية بعناصرها اللسانية وغير اللسانية من ملابسات الموقف بما يشتمل عليه من أبعاد تداولية ، ولا يدخل هذا المفهوم ضمن المقارنة الحالية بين التداولية والدلالة ، ومن ثم جاز لنا أن نقول المعنى الدلالى ونقصد به المعنى المعتمد على التفسير الحرفى لمنطوق الجملة ، والمعنى بشكل مطلق ونقصد به المعنى معتمداً على العناصر المؤثرة فى إنتاجة فى الأبعاد اللسانية وغير اللسانية ، وضمنه يدخل المعنى التداولى أو المعنى السياقى .
    ومن ثم كان التمييز بين الدلالة والتداولية أسهل فى التطبيق منه فى الشرح و التوضيح " فشرح هذه المسألة معقد بسبب الآراء المتضاربة التى تم طرحها فى الستين سنة الماضية ، فهذا يعد اقتراحا بأنه ليس هناك طريقة واحدة لتوضيح هذا الاختلاف ، وكيفية توضيحه هذه تعد مجرد مسألة مصطلحية ، أو مسألة اتفاق عرضى ، وعلى الرغم من تنازع هذه الآراء وتعارضها ، فإنها كلها ساهمت فى جعل هذا التمييز أسهل وذلك بإعطاء معلومات عنه ، حيث إنه يطبق بشكل عام سواء من الناحية اللغوية أو الفلسفية ، بالرغم من أنه من الواضح ما يكون فى مسألة معينة من التعميم عندما يطبق الناس الفروق حول ظاهرة لغوية معينة ، إلا أنه فى بعض الحالات هناك أشياء تكون قليلة الوضوح ، ويكون ذلك فى كون هذه الظاهرة دلالية أو تداولية أو كلاهما ، ولكن من حسن الحظ أن هناك بعض الظواهر التى تكون دلالية دون جدال ، أو تداولية دون جدال " (35)
    وقد جاء السياق بُعداً جوهرياً فى التداولية إلى حد دخل معه فى تعريفها ، إذ يشير جيفرى ليتش G.Leechإلى فكرة مقامات الكلام Speech situations فى تحديد الفرق بين التداولية والدلالة ، وذكر أن العناصر المكونة لهذا المقام تتمثل فى : " المرسل والمستقبل ـ السياق ـ الأهداف والمقاصد ـ قوة فعل الكلام ـ الملفوظ " ورأى أنه من الممكن أن يضاف إليها عنصرا الزمان والمكان ، ثم ذكر أن التداولية تتميز عن الدلالة فى كونها تهتم بالمعنى فى علاقته بمقام الكلام " Meaning in relation to a speech situation " (36) ، وقد امتدت هذه النظرة إلى فيرستشيرن Verschueren 1999م الذى ذهب إلى أن : " واحدة من التحديدات التقليدية المقبولة بصورة واسعة بين التداولية والدلالية هى قولنا : إن الأخيرة تتعامل مع المعنى المستقل عن السياق ، بينما تبحث الأولى المعنى فى السياق ، فإن التوظيف ذا المعنى للغة بعد صياغته برؤيتنا للتداولية لا يقتصر على ( معنى داخل السياق ) ، الذى يمكن إضافته ببساطة إلى مستوى آخر من المعنى يُدرس بصورة متكافئة فى الدلالية ." (37)
    ولعل الحقيقة التى لا تقبل الجدال هى أن معنى الجملة ( المعنى الحرفى ـ أو المعنى النحوى ) له أهميته الكبيرة فى عملية التحليل التداولى ، ومن ثم فإن نقطة البدء عند ليتش اهتمت بالتمييز بين النحو والتداولية بوصف التداولية هدفاً مباشراً ومتطوراً ، ولذلك فهو يطمح من مؤلفه هذا إلى أن يساعد فى استحداث مدخل جديد بين النحو والبلاغة بوصف البلاغة العلم القديم الذى يحمل بذور التداولية (3Cool ، ثم يشير إلى أن الافتراض الذى ينبغى أن يُنطَلق منه لدراسة هذا التمييز بين التداولية والنحو والدلالة بوصف الدلالة أحد مستويات التركيب النحوى هو " أن النحو ـ بوصفه دراسة النظام الشكلى للغة ـ والتداولية ـ بوصفها مبادئ استعمال اللغة ـ حقلان متكاملان فى اللسانيات ، فلا يمكن أن تُفهم طبيعة اللغة بدون دراسة كلا الحقلين ، ودراسة التفاعل بينهما . " (39) ، وبذلك تأتى الدلالة خطوة لاغنى عنها فى التحليل التداولى للخطاب ، يستوى فى ذلك الدلالة المتعلقة بالتركيب النحوى والدلالة المتعلقة بمرجع العلامة اللغوية ، فالعلامة بوصفها إشارة ، تشير إلى شىء ما ، يرتبط بها ارتباطاً طبيعياً كما هو شأن الدخان بالنسبة للنار ، والعرض للمرض ، هذا عن العلامة بشكل عام ، أى فى وجودها غير اللسانى ، أما بالنسبة إلى وجودها اللسانى ، وهذا ما يهمنا فى هذا المقام، فإن الإحالة تتحدد من خلال السياق الوجودى ، ومن ثم تمثل دراسة البعد الإشارى للعلامة اللغوية جزءاً من التداولية بوصفها رموزاً إشارية ، فالإشارة فى كلمات : ( أنا ، هنا ) لا تتحقق إلا من خلال السياق ، وذلك بمعرفة الملابسات السياقية عن المتحدث والمخاطب والخطاب .(40)
    وبذلك لا تتنكر التداولية فى نظرتها الأكثر اتساعاً ورحابة للدلالة فى مفهومها الخاص بل تتكئ على هذه الدلالة للوقوف على معنى المتكلم ، وينطلق سيرل Searl فى تفسير المنطوق الاستعارى من إيمانه بأهمية الوقوف على تفسير المنطوق الحرفى بوصفه الحلقة الأولى فى تفسير المنطوق الاستعارى ، أما محاولة تفسير المنطوق الاستعارى مع إهمال تفسير المنطوق الحرفى فهى محاولة تفشل غالباً فى التمييز بين المنطوقين ، ومن ثم ينطلق بداية من مبادئ تفسير المنطوق الحرفى بالبحث فى السمات الضرورية للمقارنة بين المنطوق الحرفى والمنطوق الاستعارى (41) ، وإذا كان جيرى مورجان J. Morgan قد انتقد هذا الرأى عند سيرل ، إذ يرى أنه من الخطأ الكبير أن ننسب الاستدلال على المعنى التداولى إلى المعنى النحوى الجملة (42) ، فإنه لم يعن إهمال معنى الجملة ( المعنى النحوى ) ولكنه أراد عدم الاكتفاء به ، ومن هنا كانت دعوته إلى الالتفات إلى العناصر السياقية الأخرى ، كما سيأتى فى الحديث عن الاستعارة .
    وقد وضع ليتش Leech عدة نقاط أساسية انطلق منها إلى التمييز بين الرؤية التداولية والرؤية النحوية والدلالية ، تتمثل هذه النقاط فيما يلى :
    1ـ التحديد الدلالى للجملة يختلف عن تفسيرها التداولى .
    2ـ الدلالة سلطة قاعدة ( نحوية ) ، أما التداولية فهى تحكم مبادئ ( بلاغية ) .
    3ـ إن قواعد النحو أساساً عرفية ، أما مبادئ التداولية العامة فهى أساساً ليست عرفية ، فهى تتعلق بالأهداف المحادثاتية .
    4ـ إن التداولية العامة تربط المعنى sense ( أو المعنى النحوى ) لملفوظ ما بقوته التداولية ( أو قوة فعل الكلام Illocutionary ) ، وربما تتمثل هذه العلاقة نسبياً فى الكلام المباشر وغير المباشر .
    5ـ إن التطابقات النحوية تعرف بدقة بواسطة تخطيطات قواعدية ، أما التطابقات التداولية فتعرف بدقة بالمشكلات وحلها .
    6ـ إن التفسيرات والشروح النحوية هى ابتداءً شكلية ، أما الشروح والتفسيرات التداولية فهى ابتداءً وظيفية .
    7ـ إن النحو فكرى خالص ، أما التداولية فهى نصية كما أنها تتعلق بالترابط التواصلى بين الأفراد .
    8 ـ إن النحو يمكن وصفه بأنه فصول منفصلة ومحددة ، أما التداولية فتوصف بأنها تقديرات مستمرة وغير محددة . (43)
    وبذلك التفت ليتش Leech هنا إلى فروق جوهرية بين الأبعاد التداولية للخطاب والأبعاد النحوية والدلالية بإشارته إلى أن سلطة القاعدة النحوية التى اكتسبتها من مواضعات عرفية تتحدد فى التخطيطات القواعدية ، على حين تتعلق التداولية بمبادئ بلاغية متجاوزة للأعراف ، بل منتهكة لهذه الأعراف التقعيدية المعيارية فى كثير من الأحيان بما يتعلق بها من انحرافات أسلوبية ، مثلاً ، وذلك لتعلقها بأهداف المنشئ فى المحادثات وفى غيرها ، ومن ثم تربط التداولية المعنى النحوى بقوته التداولية ، كما تختلف التداولية عن النحو فيما يقدمه النحو من تفسيرات وشروح شكلية فكرية خالصة ، على حين تقدم التداولية تأويلات وظيفية شاخصة إلى الأبعاد النصية والتواصلية بين الأفراد ، ومن ثم يأتى التأويل التداولى بمثابة التقديرات المستمرة وغير المحددة القائمة على تتبع الظاهرة اللغوية من استعمال إلى آخر .
    5 ـ ويظل هذا التمييز مهيمناً فى تحديد وظيفة التداولية ومهمتها ومادة عملها ، إذ تحدد هذه الوظيفة دائماً بتجاوزها لمهمة دراسة الجملة والعلاقات الداخلية فى النحو ، وتجاوز دراسة قضايا الدلالة ، أما التداولية فهى دراسة أفعال اللغة والسياق الذى تؤدى فيه هذه الأفعال ، ويضيف ستالنكر Stalnaker 1972 أنه " ثم نوعان من المشاكل الرئيسية يمكن أن تُحل بالتداولية : الأولى تعريف الأنواع المهمة لأفعال الكلام بدقة وناتج الكلام ، الأخرى تصوير أشكال سياق الكلام الذى يساعد فى تحديد القضية المعبر عنها بما تعطيه الجملة ، إنها مشكلة دلالية لتحديد القواعد لملاءمة جمل اللغة الطبيعية للقضايا المعبر عنها ، ومع ذلك ، ففى أغلب الأحوال فإن القواعد لا توافق الجمل مباشرة بالقضايا ، ولكن توافق الجمل علاقات القضايا بهيئة السياق الذى تستعمل فيه الجمل ، هذه الهيئات السياقية جزء من الموضوعات المهمة للتداولية ." (44) ، ومن هنا تأتى التداولية بمثابة مجال العمل للخطط والأهداف (45) يسعى إلى الوقوف على أقصى ما يمكن أن يتضمنه المنطوق من المعانى .
    وقد سبقت الإشارة إلى تنبه ليتش Leech إلى أن وظيفة التداولية العامة أنها تربط بين المعنى النحوى sense لأى ملفوظ ودلالته التداولية force ، وهذه العلاقة نسبياً تتمثل فى الكلام المباشر وغير المباشر ، فمن المعروف أن الدلالة والتداولية تصف معنى ملفوظ ما بطرق مختلفة ، وأن مهمة التداولية هى شرح العلاقة بين هذين النوعين للمعنى : المعنى النحوى the sense الذى يوصف غالباً بأنه المعنى الحرفى ، أو المباشر ، وقوة فعل الكلام force ، ثم يقول : " وإننى أفترض ، كما فعل آخرون ، أن المعنى يمكن وصفه بواسطة وسائل التمثيل الدلالى فى بعض الاستعمالات الرسمية للغة ، أما قوة التلفظ فإنها حتماً تتمثل فى عدد من الإضمارات ، والإضمار هنا يستعمل بمعنى أوسع مما ذهب إليه جرايس Grice ، ولكننى أوافق جرايس Grice فى اعتقاده أن حضور الإضمار المحادثاتى يجب أن يكون قادراً على حل المشكلة ، وهذا نتيجة القول بأن التداولية تدرس السلوك الناتج عن دوافع معينة ، وفقاً لمصطلحات الأهداف المحادثاتية " (46)
    وبذلك تكون الظاهرة اللغوية بشكل عام هى موضوع التداولية ، وقد يبين جيف فرستشيرن Jef Verschueren أن التداولية ليست مكوناً إضافياً للنظرية اللغوية لأنها تقدم نظرة جديدة ومختلفة للظاهرة اللغوية ، فهى تهتم بكيفية عمل مصادر اللغة Language Resources حال استعمالها فى الوحدات الكلامية (الجملة ـ النصوص ـ المحادثات ـ الخطاب بشكل عام ) ، ثم يبين أن السبب فى خضوع هذه المكونات للبحث التداولى " أنها م

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 5:11 am