نابع لما سبق
لكن الذي نسجله هنا هو أن الرغبة الجامحة في التواصل قد تدفع المتكلم أحياناً إلى فرض التحاور بالقوة، سماه أبو حيان بـ((المهاترة))، والتي تنشأ من التنافس وإيثار الغلبة. وقد يسبقها بتبرير سبب تلك المهاترة، ووصف صعوبة تقييد مواقف الذات بجمل قد يحسن السكوت عن أدائها، فيقول: ((لعلك تقول بغفلتك وقلة تجربتك، وقصور نظرك، فلو سكتَّ في الجملة كان أصلح من هذه الاستغاثة المكررة، ومن هذا العويل الطويل، ومن هذه البدايات ومن هذه الطرق المختلفة، فالجواب عن قولك إنك لو أحسست بالداعي إلى هذا القول، وبالمهيج على هذا التهويل، لكان عذري عندك مبسوطاً، وكان اعتراضك عني مقبوضاً، ولكنك لا تحس، ولا أظنك تُحسّ بأن تحسّ، والله ما نبست من هذه السطور الكثيرة والورقات المتصلة بحرف إلا بعد الخناق الشديد وعصر الفؤاد بالكره، وإلا بعد التلويح في المنام، وإلا بعد الإلقاء الإلمام، وإلا في المقام والمقام، وكان روحي يخرج من هذه الحال التي كانت تعرض))(1).
يذكرنا هذا القول بقول ابن عربي الذي يصف فيه معاناته في تقييد بيت من الشعر، وهي دعوة للمتلقي لكي يقف على المقاصد، وعلى اختلاف المواقف الخطابية التي يخلفها اختلاف الحال، وإشارة إلى أن تشكيل خطاب ما يفترض مجموعة من الخيارات التي قد يصعب تبريرها أو الإفصاح عنها من قبل المؤلف، وذلك مجال لتحرك المتلقي بكل حرية للقبض على تجربة أو خلفية، أو محددات تاريخية (سياسية أو اجتماعية) تحكمت في إنشاء المعنى، لأن النص الظاهر ليس في حقيقة الأمر سوى مزاحم لنص يسري بين سطوره، وأن الخطاب الصوفي في مجمله ليس مجموعات من الأدلة لتحيل إلى مضامين أو تصورات، بقدر ما كان ممارسة من خلالها يتكون موضوع الاتصال مع الله في وعي المتصوف.
وقد يكون الموضوع ذاته هو الذي يخلق تقلباً في المواقف، ولما كان الموضوع ذاته تجربة في حركة مستمرة، نرى التوحيدي وفي كل مقطوعة يُطرح فيها إنهاء الخطاب يبادر إلى فرضيات خطابية جديدة، تعكس بغية المحافظة على التواصل الخطابي الذي ما هو في الحقيقة سوى تلك الممارسة التي يتكون من خلالها موضوع التواصل مع الله. فإذا أردنا أن نحيل تلك المواقف الخطابية بصيغها المختلفة على الذات المتكلمة، فإن تلك الصيغ نفسها تكشف عن تبعثر تلك الذات، وتبعثر السياق الذي تتكلم منه، عبر عنه التوحيدي بقولـه: ((أنا نطقت بهذه الألغاز بعد سبعين سنة، وقد تحطمت قناتي، وتكمّشت شواتي، وتفككت صفاتي واضمحلت صفاتي، وبليت لحمتي وسداتي، وفقدت شهواتي ولذاتي، ومنيت بموت أحبتي ولداتي، فنطقت وغالب الهوى مغلوب، وسارد الحزم مألوف، وغراب العزّة واقع، وجناح الكبر مكسور، وعازب العقل رائح، ورائح الجهل سارح))(2). وهذه المقطوعة بالرغم أنها تمثل موقفاً خطابياً فرعياً إذا ما قيس بمجموع المواقف الخطابية في الإشارات، فإليها تُعزى الوحدة التي تتركب منها بقية المواقف، والتي تطل بالمتلقي على السياق العام الذي أنتجت في ضوئه الإشارات، وذلك عندما تؤول، على الرغم من أنها ليست خطاباً متوارياً خلف بقية المقطوعات الأخرى، لأنها في أغلب الأحيان تأتي لتسهم في إنشاء مقطوعة خطابية جديدة، قد نعود منها إليها، كما في قوله: ((بالله عليك أيها السامع لا يروعنّك ما أصفك به، مهجناً لك، وخافضاً من قدرك وقادحاً في عرضك، وغامزاً في قناتك، فوحقّ الحق الذي به كل حق، وبه استحق ما استحق كل محقّ، إن مكلمك لشرّ منك كثيراً، وأقدم منك في الضلال بعيداً، وما ينطق بما تسمع إلا ليكون حجّة عليه ووبالاً بين يديه، ولولا أن ذاك كذلك لكان له في استماعه من نفسه شاغل عن استماعه لغيره، وهي محنة كما ترى، وبلاء كما تسمع، فهلمّ واندبه، وإن كان حياً في الظاهر، فإنه ميت في الباطن))(3).
إن تعدد المواقف الخطابية في الإشارات الإلهية، ومن خلال التشكيل التعارضي الذي يغدو موقع إشباع لرغبة معرفية ووجودية، تبدو وكأنها (أي المواقف) تنبع أو تتشكل من الموقع الذي تحتلّه الذات المتكلمة بالنسبة لموضوع التواصل، والذي هو موضوع الخطاب، وهي تعكس مواقع متعددة لها، وإن كانت ذات علاقات فيما بينها يحددها الموضوع ذاته. لذلك بدت على مستوى التمظهر الخطابي ((كبنيان من طبقات تتعدّد بتعدد ذوات المتحاور، وتختلف باختلافها وظائفه الخطابية، فقد يكون في طبقة منها في مقام الذات الكلية، وفي أخرى في مقام الذات المجهولة، وفي غيرها في مقام الذات المذكورة، وفي أخرى مقام الذات الجازمة))(4).
ولقد سمحت بنية الاستدراج للمتكلم والمخاطب بتعدد المواقف الخطابية، وتعدد ذواتهم وتداخلها، وذلك نظراً لتعدد أفعال الكلام من صريحة مباشرة، كأن يكون القول يحوي أمراً يفيد طلب حصول شيء، كما قد يتضمن الأمر فعل كلام مقدر فيه، حين يخرج الأمر عن غرضه الأصلي ليدلّ على الدعاء أو التمني أو الاسترخاء أو التوبيخ وغيرها. وهكذا ينشق المتكلم إلى أكثر من ذات تبعاً لتعدد أفعال الكلام هذه. كما قد تفرض أفعال الكلام ذاتها في القول الواحد على المخاطب أن يكون ملزماً بها أو مجرد مؤول لها. ولا غرو أن نجد هذا التنوع والتغاير في المقامات الخطابية مجالاً للمتحاور للانتقال بينها ((موظفاً أقصى توظيف تنوعها لينوع مظاهره، فيعير صوته إلى المخاطب، كما يستعير صوته ويكثر أدواره))(5). ولا بد من أن يكون هذا التغاير نابعاً من تفهم التوحيدي العميق لدورة التخاطب، والتي تعكس بدورها تفهم علماء العربية لطبيعة الكلام وتقسيمه إلى طلبي وإنشائي، والتي جسدها عبد الرحمن حاج صالح في ترسيمة لدورة التخاطب كما تصوروها:
دورة التخاطب عند العلماء العرب(6)
تتجلى حركة الدورة في اتجاه تبادلي يتم بين القائمين بفعل التخاطب، وتشكل القرائن أهم قواعد الممارسة الخطابية، وهي نفسها التي تسمح ببناء المعنى لدى المخاطب، وعند المتلقي، وهذا لا يعني أنها تلعب دور تحديد معنى معيّن للخطاب، بقدر ما تثير تمفصل المواقف الخطابية بين القائمين بفعل الكلام. وتسهم بشكل أو بآخر في التغاير الذي تحدثنا عنه، والذي يتخلله فعل لساني واحد هو فعل التحاور، ولكنه ينضوي على أفعال لسانية جزئية تحققها العبارات نفسها، لأن كل فعل يتحقق داخل العبارة، والعبارة مسكونة بتلك الأفعال، نمثل لها بمناجاة نقتطف منها هذه الفقرات، حيث يقول:
-((كيف أتكلم والفؤاد سقيم؟ أم كيف أترنم والخاطر عقيم؟ أم كيف أصبر والبلاء شامل؟ أم كيف أجزع والعناد حاصل؟ أم كيف آنس بالصديق والصدّيق مداح؟ أم كيف أستريح إلى المنام وقد لعبت بي الأحلام. نفس تتردد بالحرج في جوانح قد تهتكت بالأماني، وجمرة تتوقد بالحسرات... الويل لمن أعرض عن الحق، والويل لمن بُلي بالخلق.
يا هذا، الضلوع مشوبة بالأسى والحزن، والأكباد متهرئة بأنواع الآفات والسقم. فهل لي الآن بمن أتعلق؟ ولمن أتملّق؟ وماذا أقول وأي شيء أسمع؟ وفي أي شيء أفكر وبأي ركن ألوذ؟ وبأي وادٍ أهيم؟...
أما تعلم أن الوداع من الأحباب نافلة للطاعنين إذا ما يمّموا بلداً، ولست أدري إذا شط المزار غداً هل تجمع الدار أم لا نلتقي أبداً؟
يا هذا، إذا استعفيتك من الكلام، فاعلم أن بحري نازح، وإذا أنشدتك بيتاً فاعلم أن إشارتي وراءه، وإذا رويت لك حكاية فاعلم أن مغزاي دونها، وإذا سترت عنك فاعلم أن قصدي استعدادك لها.
فانظر كيف تدبيري لك وكيف جودي عليك، فجد الآن بحالك إن كان لك في هذه اللغة عبارة، أو هبت في حجاب صدرك من هذا الحديث إشارة.
يا هذا طالت الدندنة، واشتدت النجوى، وتكرر التشاور.
وإنما قلت: ما أولانا بهذه الحال، لأنا عبيد، والذي يليق بالعبد أن يلزم حدّه، ويبذل جهده، وينفق وجده.
فتعال حتى نسكت هائبين، ونقول مختبئين، ونعمل مجتهدين، ونعلم مستسلمين، ونرقد مودعين، وننتبه متعجبين.
اللهم قد أحسسنا بأياديك عندنا، وتقلبنا في نوافلك قبلنا))(7).
نلاحظ في هذا النموذج المختصر من الإشارات كيف تتعدد أفعال الكلام، مما يفرض تعدداً في الذات المسؤولة عن فعل الكلام، وذلك باختلاف الوظيفة الخطابية لها، فتبدو ذاتاً كلية حين الإقرار بإخبار، وتارة ذاتاً جازمة وأخرى مقموعة، وغيرها، حتى في العبارات التي لا تتماثل فيها مع ضمير المتكلم، ويسيطر ضمير المخاطب، أو العبارات الإخبارية، باعتبار الذات المتكلمة فيها صاحبة السلطة في الكلام والتي تطرح فيها بعض المفاهيم موضع سؤال. ولا يمكن في هذه الحالة للاستدراج بوصفه محدداً شروط الخطاب، من أن يفرض كذلك على الذات وجوداً متماثلاً في كل المواقف التخاطبية، في كل المواقع التي تنطلق منها، والتي تكسبها القدرة على امتلاك الآليات والأساليب الكافية للتوجيه الخطابي والتأثير في المتلقي. ومن شأن تلك الآليات أن تفتح اتجاهات عديدة من سبيل تشقيق الكلام، وتوليد النص كالتي لاحظناها في الإشارات الإلهية.
وسنكتفي هنا بوصف ظاهرة من ظواهر تشقيق الكلام ضمن بنية الاستدراج التي تجسد كثافة الإنجازات اللفظية في المخاطبة، وهي المحاججة التي لم يعد بها الاستدراج مسلكاً للعروض السلبية في التحاور، وإنما تجسيداً لحقوق وواجبات التحاور. ((وإذا تساوت عند المتحاور حقوق نفسه مع حقوق غيره في تكوين النص يجنح فيه إلى فتح باب الاستدلال على مصراعيه محاجاً لنفسه، كما يحاجج غيره، وهذا ما اختصّ به التحاور))(.
وقد تبلغ الرغبة في الذهاب بالتحاور إلى أقصاه، حيث يعتمد فيه المتكلم مبدأ المهاجمة عله يحمل المخاطب على الاعتراض، فيتهمه ويحط من شأنه، كقولـه: ((قد طال نشري عليك مطوي هذه القصة بصنوف من العبارة، وأنت على طينتك جامد لا تذوب، وخامد لا تلتهب، وراكد لا تهبّ، وميّت لا تتحرك، وباهت لا تبصر))(9).
ثم ما يلبث أن يسترضيه ويستميله، وقد يفترض ردود فعله واستنباط افتراضات وحجج منها، لأنه يرى في مبدأ المحاججة أساس التواصل، وقد توسع في الاشتغال به، سواء باستدعاء حجج جاهزة في هيئة خبرية كالشعر والقرآن، أو افتراضها مسبقاً في فعل طلبي، أو اعتماد القياس والبرهان في عرضها، والشرح والتعليل وغيرها من الأساليب الإقناعية التي وظّفها الاستدراج.
إن الإقناع بالحجة يبدو في الإشارات بمثابة القانون الإلزامي الذي يحدث التفاعل به، وهو لا يرتبط بالإكراه أو الإحراج ولا يقصد به ما يضر بأحد المتخاطبين، لأن ذلك من المهاترة التي لا تخلق آليات لفرض وضع القبول، وخاصة في خضمّ الوضع المفترض، كما هو الشأن في الإشارات... لأن الكلام مع الخصم كما يقول ((من المهاترة والمناظرة والمذاكرة، فأما المهاترة فباب ينشأ من التنافس وإيثار الغلبة، وأما المذاكرة فالمقصود بها طلب الفائدة، كالرأي المعروض على العقول المختلفة، إلى أن يقع الاختيار عليه بعد الاتفاق، وأما المناظرة فمتوسطة بين المهاترة والمذاكرة، قد تفضي إلى المنافسة، وقد توجد بها الفائدة، وهي كالفكاهة بين العلماء))(10).
إن هذا الوعي المنهجي للتخاطب لا شك أنه يجسّد صورة أخرى لاشتغال المتصوفة الذي يمزج بين القلب والعقل، وقد كان متصوفة القرن الثالث أميل إلى الذوق القائم على القلب أكثر منه على النظر والعقل الذي بدأ بالنفري والتوحيدي، واستمر عند السهروردي في ((حكمة الإشراق))، وابن عربي في ((الفتوحات))، وابن سبعين في ((بد العارف)) وغيرهم، وذلك راجع لخلفيتهم المعرفية. ولا شك أن أبا حيان قد تأثر بأساليب الاشتغال المنهجي عند المعتزلة، وقد كان واحداً منهم، كما أن الفعل التواصلي في المخاطبات يقتضي مثل هذه الصياغة، ذلك أن ((كل نظرية للفعل التواصلي تخفي وراءها نظرية في البرهنة هي عبارة عن صياغة شكل عقلاني للغة، وبالطبع فإن النظرية البرهانية لا تنفصل عن محتوى معرفي))(11). هذا على الرغم من أن التوحيدي في مناجياته ليس بصدد التنظير للفعل التواصلي.
لقد لاحظنا منذ البداية أن الممارسة الخطابية في المناجاة، حددها قصد خطابي يتجلى من خلال الدعاء كبنية مؤطّرة، والمقترن بجلب مبدأ الفائدة للمتكلم والمخاطب على السواء. وإذا كان الدعاء في عرف البسطاء هو آخر وسيلة تستعمل لتحقيق حاجة ما، فإنه عند التوحيدي، إضافة إلى ذلك هو نقطة للتقاطع بين العبادة والعبارة، فيقول: ((والدعاء جامع للحال والحقيقة والوجد والاستكانة والعبادة والعبارة، أما الحال فإنها ترتّب الإنسان في محل السائلين، وأما الحقيقة فإنها تروّح عن قلوب الصادقين، وأما الوجد فإنه يستخرج عين اليقين، وأما الاستكانة، فإنها تهوّن ما يبدو على صاحبها السكين، وأما العبادة فإنها تؤدي حقّ التكليف، وأما العبارة فإنها تقف صاحبها على مدرجة المتلطّفين المترفّقين))(12).
فالمظهر القصدي إذن ووظيفته، والاعتراف به من قبل المتكلم في الدعاء، يعتبر الأثر السابق لفعل النشاط الحجاجي الذي يثري بنية الاستدراج والمحاورة بصفة عامة، حيث نقف على الملفوظات الحجاجية فيها ((مؤدّاة من قبل الفاعل أو بوساطة أداة أو رابط، غير أن المتكلم هو الذي يعطي التعليمات لطريقة توجيه الخطاب، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة))(13).
يبدو التوحيدي في أغلب المخاطبات ملتزماً بالحجة، قولاً وإنجازاً، يطالب بها الطرف الآخر، باعتبارها قانوناً للممارسة الخطابية التي تحفظ فيها حقوق المتخاطبين وواجباتهم التي لا تخرج عن المعيار المنطقي والخلقي في الوقت نفسه، الذي أساسه الصدق في القول، وجلب المنفعة للآخر، كأن يكون أثراً يحدث في النفس ويؤدي إلى فعل ما، ويعتبر السبق الزمني والمعرفي أساس الاعتراف بحقّ الغير، كما لا يجب إيراد الحجة من أجل إلحاق الضرر المعنوي بالآخر، وذلك ما تعكسه هذه الأقوال مثلاً:
-((إن القول حجة على القائل ما لم يؤيّده بما يحققه))(14).
-((يا هذا ما قيّضني الله بنطقي لك على هذا التهذيب والتقريب، وعلى التصعيد والتصويب، إلا لتكون حجة عليك إن لم تقبل، ومحجة لك إن قبلت، فإن قلت أيضاً على وجه العذر فهو أيضاً حجّة عليك ومحجّة لك، فقد صدقت وأجلت، ولكن أين أنت مني؟ ومن أين تقف على خبرك عني؟ أنا نطقت بهذه الألغاز بعد سبعين سنة، وقد تحطّمت قناتي وتكمّشت شواتي))(15).
-((يا هذا لو توحدت عن كثرتي، أو تفردت عن صحبتي، أو لزمت حجتي بدل شبهتي... لأبصرت الطريق واضحاً، وكان دعائي لك بعد سبقي إلى الإجابة))(16).
تعكس هذه النماذج بعضاً من الآليات الأساسية التي وفرها أبو حيان التوحيدي في مناجياته لحمل المخاطب على التقبّل، أو على الأقل خلق فرضية للقبول في خضمّ الوضع التحاوري المفترض. وشكّلت هذه الآليات - التي ليست مجرد مجموعة من العبارات التي تشكل حديثاً نفسياً صامتاً يعكس نزاعاً ذاتياً- منهجاً يتسم بالفعل والمفاعلة*.
ولقد رأينا في هذه النماذج كيف قدَّر المتكلم ردود أفعال المخاطب وبنى عليها أقواله، واستنبط من تلك الأقوال الافتراضية حججاً هيأ لها أخرى، وهنا نقف ضمن الممارسة الخطابية على خطابين: أحدهما ضد للآخر، وبما أن الخطاب الحجاجي يتموضع دائماً قياساً بخطاب ضد حقيقي أو تقديري فإنه يسهم في تحقيق النشاط التواصلي الذي قد تفرضه البنية اللغوية ذاتها، أو السياق النصي، وقد يتعين بطريقة مباشرة عن طريق الروابط الحجاجية connecteurs argumentatifs التي تصل المقدمة بالاستنتاج، وتتدخل في توجيه دلالة المحاججة مثل القسم، والاستفهام، والشرط، وغيرها. وقد أسهم ((الالتفات)) في توسيع تلك الدلالة، لأنه شكل الدينامية الأساسية لفعل التحاور، فهو الذي ينصرف به إلى الإخبار والتقرير بعد الطلب والإنشاء، ويوزع أحياناً الخبر في الطلب، ليعود مرة أخرى ويطلب بالخبر، وينصرف من معنى إلى آخر، ذلك أن الالتفات يجسد الصيغة والرؤية الخطابيتين، لأنه يحدد باعتباره انتقالاً ((في الكلام من صيغة إلى أخرى، أي أنه انتقال خاص بالصرف، وكذلك الانتقال من خطاب إلى عينة، ومن عينة إلى خطاب، وهذا خاص بالضمائر التي هي أبواب النحو، ويرتبط هذا كله بالدلالة))(17).
تبدو الإجابات عن أسئلة مفترضة، أو الإقرار بأشياء تكون سبباً لنتائج معينة، مثل قوله في النماذج السابقة: ((فإن قلت لي أيضاً على وجه العذر... فهو أيضاً حجة، فقد صدقت))، ((ولو توحدت عن كثرتي... لأبصرت الطريق))). وغيرها من الأسئلة التعجبية والشرط القائم على الإقرار بوضعيات معينة، هي بمثابة الفعل الاستنتاجي العام الذي تتمحور حوله كل المعطيات الحجاجية في المناجيات، والأساس الذي يقيم عليه المتكلم استدراجه للمخاطب، ونقول عن المتكلم ((إنه يقوم بالفعل الاستنتاجي حينما يتلفظ بقول ما، وفي الوقت نفسه يرجع إلى معطى معين يقدمه على أساس أنه نقطة انطلاق لاستدلال سيؤدي إلى إصدار القول))(18). ولذلك يبدو هذا الفعل الاستنتاجي الذي ما هو في الحقيقة إلا خطاب حجاجي مرتبط بالوضعية التبليغية التي يقيمها أبو حيان في الإشارات على التأثير والإقناع.
وبين إعطاء مقدمات تتخللها اعترافات، والإعلان عن خلفيات بعد الوصول إلى نتائج معينة يتسنى للمتلقي أن يؤول فعل إدراك المخاطب الذي يبقى في النهاية فعله هو.
ولعل بنية المخاطبة على هذا الوضع التبليغي، هي التي حدت بالتوحيدي إلى الشرح والتعليل، الأمر الذي أدى إلى شيوع نوع من الإطناب لحمل ذلك الشرح والتعليل، والمعاني والمعارف الكثيرة التي يتعرض إليها من خلال ذلك.
ولذلك نرى أن المقطوعات الخطابية التي تحملها المناجاة يدعّم بعضها بعضاً، لأن النتائج التي تحملها مقطوعة معينة تستجيب لعروض مضمنة في مقطوعة سابقة، وهكذا بطريقة تبادلية حتى النتيجة العامة للخطاب والتي يتضمنها دعاء الاختتام، كهذا الشكل:
نتيجة معطيات نتيجة
معطيات نتيجة
إن هذا لا يعني، كما يقول J.M. Adam أن ((المحاججة تحول المقدمات نحو نتيجة، ولكنه يمرر للنتيجة التحام المواقف للمقدمات، وهذا الالتحام مرتبط بالمستمع، ويمكن أن يكون أكثر تكثيفاً بحسب المخاطبين))(19)، والذي مكّن التوحيدي من هذا الانتقال هو اشتغاله بالمقابلة والشرط والتضاد، والتي يمكن أن ندرجها ضمن ظاهرة المشاكلة التي بنيت عليها الإشارات، والتي خلقت نوعاً من القياس الخطابي، وهذا من شأنه كذلك أن يفسح المجال لاحتمال النتيجة داخل المعطيات المقدمة والعكس. ويبرز كذلك سلطة المتكلم الخطابية الطبيعية في موضع المخاطب المفترض، والذي تجلّى خاصة من خلال ظاهرة تقدير السؤال من قبله. وقد كانت المعبر الأساس للمحاججة، والتي ينزاح بها إلى اعتبارات تتعلق بالمتلقي نستنتجها من خلال قول السكاكي: ((إن تنزيل السؤال بالفحوى منزلة الواقع لا يصار إليه إلا لجهات لطيفة))(20).
-إما لتنبيه السامع على موقعه.
-أو لإغنائه أن يُسأل.
-أو لئلا يُسمع منه شيء.
-أو لئلا ينقطع كلامه بكلامه.
-أو للقصد إلى تكثير المعنى بتقليل اللفظ.
نلاحظ -مثلما ذهب إلى ذلك محمد خطابي- أن الجهات الثلاث الأولى اعتبارات تتعلق بالسامع، ويمكن إجمالها في ثلاثة هي: تنبيه السامع، وإغناؤه عن السؤال، وإسكاته عن الكلام، بينما يتعلق الرابع بسلطة المتكلم وتنبئه بإمكان إشارة الكلام للقول، استفهاماً في ذهن السامع فيبادر إلى الجواب قبل السؤال لضمان الاستمرار في الكلام؛ أما الاعتبار الخامس فيتعلق بالخطاب نفسه، بحيث يستغني عن تكرير السؤال بين كل قولين، إذ لو تكرر لثقل الخطاب بكلام حقّه أن يستغني عنه اعتماداً على ما يقتضيه المقام، أي الاستغناء عن إظهار رابط لفظي بتقدير زوج السؤال (المقدر) للجواب الذي يظل ثاوياً في عمق الخطاب المخرج على هذا النحو))(21).
ولقد دفعت المتكلم سلطته الخطابية إلى الخروج من افتراض الأجوبة داخل الأسئلة، والعكس إلى اللجوء إلى شواهد حجاجية جاهزة، كالشعر والقرآن، والحكم، والحديث النبوي، وأقوال العارفين والعلماء. وهي لما تحويه من قيمة علمية وتاريخية أصبحت بمثابة الحجج الجاهزة التي ((تكتسب من مصدرها ومن مصادقة الناس عليها وتواترها))(22). وهي في الإشارات تأتي للدفع بالتحاور إلى أقصاه، وبعدما يحس المتكلم بأن كفاءته اللغوية لم تعد قادرة على مواصلة المسار التواصلي، فتكون بمثابة البديل، وقد تأتي لتؤدي وظيفة تدعيمية، يقول: ((يا هذا مرّ أيضاً هذا الفن، فلا والله لا أدري كيف إنشاؤك به؟ وكيف إرشافك لـه؟ وكيف انتعاشك عليه؟ وكيف انتفاشك منه؟ تأمل مخزون قول بعض العارفين، فإنه قد هتف بشأن عظيم عن محلّ في أعلى عليين؛ قال: إذا رأيت الله عز وجل يؤنسك بذكره، ويوحشك من خلقه، فقد أرادك، وإذا رأيته يؤنسك بخلقه ويوحشك من ذكره فقد طردك. وقال آخر: يا تجّار الآخرة، أبشروا بالأرباح الفاخرة، لا تمهر الدنيا دينك، فإن من مهر الدنيا دينه رفت إليه بالندم والسقم والألم. وقال آخر: حمية العارفين حمية المرضى، ونومهم نوم الغرقى، وندمهم ندم الهلكى))(23).
إن هذه المقطوعات الحجاجية الصناعية، غالباً ما تؤدي وظيفة التدعيم، إلى جانب وظيفة إعادة التوازن بين المتكلم والمخاطب، بعدما يعتري العملية التخاطبية نوع من الخفوت في التفاعل، أو حين يعتقد المتكلم ذلك الخفوت بعدما يكون آخذاً في معنى ((وكأنه يعترضه شك أو ظن، أن راداً يرد قوله، أو سائلاً يسأله عن سببه، فيعود راجعاً إلى ما قدمه، فإما أن يؤكده أو يذكر سببه، أو يزيل الشك عنه))(24). ذلك ما لحظناه من خلال النموذج السابق، كيف يوجه المخاطب عما كان يتحدث فيه ليشكك متسائلاً عن مدى التفاعل معه، ليدعوه إلى أقوال بعض العارفين، ليزيل ذلك الالتباس ويضمن استمرار التخاطب. ولذلك نجد الخطاب في الإشارات يتموضع بين وظيفتين تؤديهما المقطوعات الخطابية ذات الملمح الحجاجي، وهما الامتداد والاختتام. فقد يحدث أنه عند انتهاء مقطوعة خطابية ما يتجلى نوع من الخفوت والرتابة في الخطاب، نظراً للتبادل السلبي للمخاطب للطبيعة الافتراضية لتدخلاته. في هذه الحالة نجد المتكلم يضع فرضية المحاججة، مثلما رأينا، ولكن قد تحمل بعض المقطوعات أحياناً سمة الاختتام، هنا يلجأ المتكلم إلى خلق طرق للاستمالة والاسترخاء، بالاستعطاف (كعرض الحال). وقد يترك المجال للإخبار بأن يسيطر لما يحمله من معطيات حجاجية، فيسهم في تمديد الخطاب نتيجة تغير للسلوك الخطابي، ولذلك اتسمت الإشارات بنوع من الإطناب، ونلمس ذلك من خلال صرف المخاطب عما سبق، بقوله دع ذا، أو مرّ إلى. وقد يعود به مرة أخرى إلى ما سبق بعد اعتراض، معللاً ذلك في أكثر من موضع بأن الكلام إذا وجد مسرحاً لم يقف.
وقد فرضت هذه الظاهرة نمطاً توالدياً لارتباطها بقصد تعكسه ألفاظ، مثل: اسمع، واعلم. ولهذا دلالته ما دام الإطناب هو عند علماء العربية بمنزلة سلوك طريق بعيد نراه يحتوي على زيادة فائدة. وقد قال الخليل: ((يختصر الكتاب ليحفظ، ويبسط للفهم، وقيل لعمرو بن العلاء: هل كانت العرب تطيل؟ قال: نعم، كانت تطيل ليسمع منها، وتوجز ليحفظ عنها، والإطناب إذا لم يكن منه بدّ إيجاز، وهو في المواعظ محمود))(25).
ولقد تمكّن التوحيدي بما يمتلكه من معطيات معرفية وقدرات لغوية تحليلية من استنباط العلل وشرح الظواهر الفكرية المختلفة، وكان الغرض الآخر في هذه المناجيات، وقد بلغ من العمر عتيا، فعاد إلى الناس ناصحاً، عارضاً خلاصة تجاربه في الكتابة والفكر، والتربية الصوفية بأساليب فيها من القدرة على الإقناع والتأثير ما يكسب خطابه نوعاً من الشمولية التي يعطي فيها المتكلم المعارف اللازمة للمخاطب، وذلك بوساطة الشرح الذي هو "زيادة عن كونه نشاطاً معرفياً ونتاجاً للمعرفة وموضوعاً للفكر، له قواعده ومنطقه الداخلي، فهو نشاط لا يمكن إبعاده عن النشاط اللغوي: إنّه أسلوب عقلاني للحديث عن التجربة(26). فمن هنا تبدو أهميته بالنسبة للمحاججة.
لقد كان أمام التوحيدي في مناجاته مسلكان: إمّا أن تكون هذه المناجيات عبارة عن تتالي أدعية كالتي رأيناها عند السابقين من المتصوفة، وإمّا أن تجسد ما يعكسه الدعاء من نزاع ونزوع للنفس، في شكل تحاور بينه وبين مخاطب مفترض، هو ذلك الطرف الآخر من نفسه، يعكس بذلك "الصراع بين قيم معينة، ورغبات النفس، فيتحوّل هذا النشاط إلى جدال بين متكلم خفي ومخاطب خفي أيضاً، ينجرّ عنه طرف غالب وآخر مغلوب"(27).
وقد تبقى الذات مسحوقة دون غلبة لطرف، وخاصة عند الصوفي الذي يبحث عن الحقيقة خارج الواقع وخارج نفسه. وقد عكست الإشارات الذات الصوفية وهي في حال الجدل، ونصوصها تتفق وتتشابه مع نصوص الآخرين من المتصوفة، وإن كانت على منازل علت فيها إشارات التوحيدي، لعلوّ مصدرها، فهي تستمد قوتها من الله، لذلك سماها الإشارات الإلهية، وهي دلالة سيميائية على أزمة التواصل التي عاشها المتصوفة، وجاءت لتجسد النموذج الراقي لمشاهدات ومقامات ودرجات المتصوفة جميعاً، وخاصة السالكين، أو ما عبّرت عنه مرحلة وعي الوضع. وكما نرى فهي تختلف عن نصوص الواصل الفاني كالتي رأيناها في شعر الحب الإلهي، و"ما تحويه من وصف حميمي لعلاقة الإنسان بالله، نصوص تكاد تمحو معالم الثنائية"(28).
وإذا كانت أفعال الكلام الجزئية من نداء وأمر ونهي وشرط والتي زخرت بها الإشارات قد مكنتنا من الكشف عن ظاهرة التنازع بين ذاتين افترض فيهما التوحيدي طرفاً آخر يحاوره ويقدر أفعال كلامه، ويبني عليها التواصل فإنّها أدّت إلى مستوى دلالي أكبر هو فعل الكلام ذو الطبيعة الشاملة، أو فعل الكلام الجامع Macro acte de langage، وهو فعل السؤال الذي مارسه التوحيدي، ويعكس هاجس ثقافة السؤال، "وهاجس اللغة التي بها الحوار وبها السؤال وبها الجواب، وهذا الهمّ الأكبر الذي هو الهاجس التواصلي في كنف مناقضته بحكم استئناف الشكّ في المسلمات"(29). ولعلّ من بين هذه المسلمات ذات الإنسان في علاقتها بنفسها وبالله، لذلك بدت كلّ المحاورات وكأنّها محاكمة للذات، وما يعتري الإنسان من حيرة ودهشة حين يلتفت إليها، وما يصادفه من أشكال في إدراكها، وقد سبق أن وعي هذا الإشكال في "الهوامل والشوامل"، حين قال: إنّ الإنسان قد أشكل عليه الإنسان، وفي الإشارات يعرض لرأي سقراط في معرفة النفس فيقول: "زعمت الحكماء على ما أوجبه آراؤها ودياناتها أنّ من الوحي القديم النازل من الله قوله للإنسان: اعرف نفسك، فإن عرفتها عرفت الأشياء كلها. وهذا قول لا شيء أقصر منه لفظاً ولا أطول منه فائدة ومعنى، وأوّل ما يلوح منه: الزراية على من جهل نفسه ولم يعرفها، وأخلق به إذا جهلها أن يكون لما سواها أجهل، وعن المعرفة به أبعد، فيصير حينئذٍ بمنزلة البهائم، بل أرى أنّه أسوأ منها"(30).
هي إذن دعوة إلى إدراك الذات، وهي بداية المعرفة، ولعلّ فعل السؤال هو جوهر الفعل المعرفي داخل ثقافة المسلمات التي كان يعيش آثارها المتجلية في أزمة التواصل مع الغير، هؤلاء الغير الذين أراد أن يعلّمهم ثقافة السؤال التي "تراهن على الحيرة، وتراهن على إخصابها بواسطة الشك المنهجي، قبل أن يتخلق الشك المنهجي. ولعلّ الذي حصل لأبي حيّان التوحيدي أنّه أراد أن يزرع في الناس حبّ الشك في المسلّمات، فإذا بهم يشرعون بتطبيق الشكّ عليه فأسقطوا عنه يقينهم به، فتسلّط الشكّ على سلّم القيم ورفع السؤال على غير مرابطهم"(31).
وفعل السؤال الذي شكّل دليل وحدة الإشارات هو تعبير عن رؤية وموقف عام من خلل عام كان قد عمّ القرن الرابع، حيث "كان المجتمع الإسلامي مقسماً من الناحية الدينية إلى كتلتين: أهل السنة والشيعة، فالخلفاء العباسيون في بغداد ومن تبعهم من الملوك والحكام سنيّون يتعصّبون للسنة، وبنو بويه في العراق شيعيون يتعصّبون للشيعة وكان الخلاف قائماً على أشده"(32). ولقد صوّر التوحيدي انعكاس هذا الخلاف على الوضع العام الاجتماعي في الإمتاع والمؤانسة بقوله: "فسفكت الدماء، واستبيح الحريم، وشنّت الغارات، وخرّبت الديارات، وكثر الجدال، وطال القيل والقال، وفشا الكذب والمحال وأصبح طالب الحقّ حيران، ومحبّ السلامة مقصوداً بكل لسان وسنان، وصار الناس أحزاباً من النحل والأديان، فهذا نصيري، وهذا أشجعي، وهذا أقطعي، وهذا جبائي، وهذا أشعري، وهذا خارجي، وهذا شعبي، وهذا قرمطي، وهذا راوندي، وهذا نجاري، وهذا زعفراني.. ومن لا يحصى عدّها إلا عند الله الذي لا يجرّه شيء"(33).
أمّا في الإشارات الإلهية فإنّنا نقف على صنوف شتّى من وصف تلك المظاهر..
"عزّ والله عليّ: خُتمت النبوة، ورُفعت الخلافة، وأُهمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفُقد المحدّثون بالغيب، وعدم المجتنبون للعيب، واصطلح الناس على الشك والريب، وفارقهم من الله العزيز العصمة، وبعدت عن عامّتهم وخاصّتهم الرحمة. واستحقوا بكل وجه وسبب النقمة، فلهذا وشبههِ قست القلوب، وخبثت القلوب، واخلت المودات وفسدت الاعتقادات وساءت الآداب، وقبحت المعاملات، وكثرت الخيانات"(34).
لا يعني هذا اعتبار ظروف العصر سابقة لخطاب مثل الإشارات الإلهية، وكأنّها مرجعها الأساس الذي تمثله وتعكسه، لأنّ الخطاب يشكل معرفة في حدّ ذاته، والتي تتمحور حول الكشف عن الإنسان الكامل داخل الإنسان، وإدراك النسبة الإلهية فيه. وهذه التجربة الإدراكية أو الكشفية بتعبير المتصوفة غير منفصلة عن معطيات العصر. وإنّ المعرفة الصوفية تتخلل كلّ المعطيات وقد لا يطالها الخطاب أحياناً، حين يضعه صاحبه في مستوى الدّوال، أو ما عبّر عنه المتصوفة بالعبارة. ومن أجل ذلك عثرنا من خلال التشكيل التعارضي لخطاب التوحيدي على الذات، وهي في حركية تغيرية، لتصبح هي متغيرات هذا التشكيل. وهذه الحركية التغيرية هي القوّة التي تمكن الذات من التأثير في ذاتها وتولّدها من جديد وذلك من خلال تجرّدها المتواصل من الجانب المادي والكشف عن القاعدة الفاعلة فيها، والمتمثلة في الجانب الإلهي، وهي تعمل فيها الذاكرة.
لكن الذي نسجله هنا هو أن الرغبة الجامحة في التواصل قد تدفع المتكلم أحياناً إلى فرض التحاور بالقوة، سماه أبو حيان بـ((المهاترة))، والتي تنشأ من التنافس وإيثار الغلبة. وقد يسبقها بتبرير سبب تلك المهاترة، ووصف صعوبة تقييد مواقف الذات بجمل قد يحسن السكوت عن أدائها، فيقول: ((لعلك تقول بغفلتك وقلة تجربتك، وقصور نظرك، فلو سكتَّ في الجملة كان أصلح من هذه الاستغاثة المكررة، ومن هذا العويل الطويل، ومن هذه البدايات ومن هذه الطرق المختلفة، فالجواب عن قولك إنك لو أحسست بالداعي إلى هذا القول، وبالمهيج على هذا التهويل، لكان عذري عندك مبسوطاً، وكان اعتراضك عني مقبوضاً، ولكنك لا تحس، ولا أظنك تُحسّ بأن تحسّ، والله ما نبست من هذه السطور الكثيرة والورقات المتصلة بحرف إلا بعد الخناق الشديد وعصر الفؤاد بالكره، وإلا بعد التلويح في المنام، وإلا بعد الإلقاء الإلمام، وإلا في المقام والمقام، وكان روحي يخرج من هذه الحال التي كانت تعرض))(1).
يذكرنا هذا القول بقول ابن عربي الذي يصف فيه معاناته في تقييد بيت من الشعر، وهي دعوة للمتلقي لكي يقف على المقاصد، وعلى اختلاف المواقف الخطابية التي يخلفها اختلاف الحال، وإشارة إلى أن تشكيل خطاب ما يفترض مجموعة من الخيارات التي قد يصعب تبريرها أو الإفصاح عنها من قبل المؤلف، وذلك مجال لتحرك المتلقي بكل حرية للقبض على تجربة أو خلفية، أو محددات تاريخية (سياسية أو اجتماعية) تحكمت في إنشاء المعنى، لأن النص الظاهر ليس في حقيقة الأمر سوى مزاحم لنص يسري بين سطوره، وأن الخطاب الصوفي في مجمله ليس مجموعات من الأدلة لتحيل إلى مضامين أو تصورات، بقدر ما كان ممارسة من خلالها يتكون موضوع الاتصال مع الله في وعي المتصوف.
وقد يكون الموضوع ذاته هو الذي يخلق تقلباً في المواقف، ولما كان الموضوع ذاته تجربة في حركة مستمرة، نرى التوحيدي وفي كل مقطوعة يُطرح فيها إنهاء الخطاب يبادر إلى فرضيات خطابية جديدة، تعكس بغية المحافظة على التواصل الخطابي الذي ما هو في الحقيقة سوى تلك الممارسة التي يتكون من خلالها موضوع التواصل مع الله. فإذا أردنا أن نحيل تلك المواقف الخطابية بصيغها المختلفة على الذات المتكلمة، فإن تلك الصيغ نفسها تكشف عن تبعثر تلك الذات، وتبعثر السياق الذي تتكلم منه، عبر عنه التوحيدي بقولـه: ((أنا نطقت بهذه الألغاز بعد سبعين سنة، وقد تحطمت قناتي، وتكمّشت شواتي، وتفككت صفاتي واضمحلت صفاتي، وبليت لحمتي وسداتي، وفقدت شهواتي ولذاتي، ومنيت بموت أحبتي ولداتي، فنطقت وغالب الهوى مغلوب، وسارد الحزم مألوف، وغراب العزّة واقع، وجناح الكبر مكسور، وعازب العقل رائح، ورائح الجهل سارح))(2). وهذه المقطوعة بالرغم أنها تمثل موقفاً خطابياً فرعياً إذا ما قيس بمجموع المواقف الخطابية في الإشارات، فإليها تُعزى الوحدة التي تتركب منها بقية المواقف، والتي تطل بالمتلقي على السياق العام الذي أنتجت في ضوئه الإشارات، وذلك عندما تؤول، على الرغم من أنها ليست خطاباً متوارياً خلف بقية المقطوعات الأخرى، لأنها في أغلب الأحيان تأتي لتسهم في إنشاء مقطوعة خطابية جديدة، قد نعود منها إليها، كما في قوله: ((بالله عليك أيها السامع لا يروعنّك ما أصفك به، مهجناً لك، وخافضاً من قدرك وقادحاً في عرضك، وغامزاً في قناتك، فوحقّ الحق الذي به كل حق، وبه استحق ما استحق كل محقّ، إن مكلمك لشرّ منك كثيراً، وأقدم منك في الضلال بعيداً، وما ينطق بما تسمع إلا ليكون حجّة عليه ووبالاً بين يديه، ولولا أن ذاك كذلك لكان له في استماعه من نفسه شاغل عن استماعه لغيره، وهي محنة كما ترى، وبلاء كما تسمع، فهلمّ واندبه، وإن كان حياً في الظاهر، فإنه ميت في الباطن))(3).
إن تعدد المواقف الخطابية في الإشارات الإلهية، ومن خلال التشكيل التعارضي الذي يغدو موقع إشباع لرغبة معرفية ووجودية، تبدو وكأنها (أي المواقف) تنبع أو تتشكل من الموقع الذي تحتلّه الذات المتكلمة بالنسبة لموضوع التواصل، والذي هو موضوع الخطاب، وهي تعكس مواقع متعددة لها، وإن كانت ذات علاقات فيما بينها يحددها الموضوع ذاته. لذلك بدت على مستوى التمظهر الخطابي ((كبنيان من طبقات تتعدّد بتعدد ذوات المتحاور، وتختلف باختلافها وظائفه الخطابية، فقد يكون في طبقة منها في مقام الذات الكلية، وفي أخرى في مقام الذات المجهولة، وفي غيرها في مقام الذات المذكورة، وفي أخرى مقام الذات الجازمة))(4).
ولقد سمحت بنية الاستدراج للمتكلم والمخاطب بتعدد المواقف الخطابية، وتعدد ذواتهم وتداخلها، وذلك نظراً لتعدد أفعال الكلام من صريحة مباشرة، كأن يكون القول يحوي أمراً يفيد طلب حصول شيء، كما قد يتضمن الأمر فعل كلام مقدر فيه، حين يخرج الأمر عن غرضه الأصلي ليدلّ على الدعاء أو التمني أو الاسترخاء أو التوبيخ وغيرها. وهكذا ينشق المتكلم إلى أكثر من ذات تبعاً لتعدد أفعال الكلام هذه. كما قد تفرض أفعال الكلام ذاتها في القول الواحد على المخاطب أن يكون ملزماً بها أو مجرد مؤول لها. ولا غرو أن نجد هذا التنوع والتغاير في المقامات الخطابية مجالاً للمتحاور للانتقال بينها ((موظفاً أقصى توظيف تنوعها لينوع مظاهره، فيعير صوته إلى المخاطب، كما يستعير صوته ويكثر أدواره))(5). ولا بد من أن يكون هذا التغاير نابعاً من تفهم التوحيدي العميق لدورة التخاطب، والتي تعكس بدورها تفهم علماء العربية لطبيعة الكلام وتقسيمه إلى طلبي وإنشائي، والتي جسدها عبد الرحمن حاج صالح في ترسيمة لدورة التخاطب كما تصوروها:
دورة التخاطب عند العلماء العرب(6)
تتجلى حركة الدورة في اتجاه تبادلي يتم بين القائمين بفعل التخاطب، وتشكل القرائن أهم قواعد الممارسة الخطابية، وهي نفسها التي تسمح ببناء المعنى لدى المخاطب، وعند المتلقي، وهذا لا يعني أنها تلعب دور تحديد معنى معيّن للخطاب، بقدر ما تثير تمفصل المواقف الخطابية بين القائمين بفعل الكلام. وتسهم بشكل أو بآخر في التغاير الذي تحدثنا عنه، والذي يتخلله فعل لساني واحد هو فعل التحاور، ولكنه ينضوي على أفعال لسانية جزئية تحققها العبارات نفسها، لأن كل فعل يتحقق داخل العبارة، والعبارة مسكونة بتلك الأفعال، نمثل لها بمناجاة نقتطف منها هذه الفقرات، حيث يقول:
-((كيف أتكلم والفؤاد سقيم؟ أم كيف أترنم والخاطر عقيم؟ أم كيف أصبر والبلاء شامل؟ أم كيف أجزع والعناد حاصل؟ أم كيف آنس بالصديق والصدّيق مداح؟ أم كيف أستريح إلى المنام وقد لعبت بي الأحلام. نفس تتردد بالحرج في جوانح قد تهتكت بالأماني، وجمرة تتوقد بالحسرات... الويل لمن أعرض عن الحق، والويل لمن بُلي بالخلق.
يا هذا، الضلوع مشوبة بالأسى والحزن، والأكباد متهرئة بأنواع الآفات والسقم. فهل لي الآن بمن أتعلق؟ ولمن أتملّق؟ وماذا أقول وأي شيء أسمع؟ وفي أي شيء أفكر وبأي ركن ألوذ؟ وبأي وادٍ أهيم؟...
أما تعلم أن الوداع من الأحباب نافلة للطاعنين إذا ما يمّموا بلداً، ولست أدري إذا شط المزار غداً هل تجمع الدار أم لا نلتقي أبداً؟
يا هذا، إذا استعفيتك من الكلام، فاعلم أن بحري نازح، وإذا أنشدتك بيتاً فاعلم أن إشارتي وراءه، وإذا رويت لك حكاية فاعلم أن مغزاي دونها، وإذا سترت عنك فاعلم أن قصدي استعدادك لها.
فانظر كيف تدبيري لك وكيف جودي عليك، فجد الآن بحالك إن كان لك في هذه اللغة عبارة، أو هبت في حجاب صدرك من هذا الحديث إشارة.
يا هذا طالت الدندنة، واشتدت النجوى، وتكرر التشاور.
وإنما قلت: ما أولانا بهذه الحال، لأنا عبيد، والذي يليق بالعبد أن يلزم حدّه، ويبذل جهده، وينفق وجده.
فتعال حتى نسكت هائبين، ونقول مختبئين، ونعمل مجتهدين، ونعلم مستسلمين، ونرقد مودعين، وننتبه متعجبين.
اللهم قد أحسسنا بأياديك عندنا، وتقلبنا في نوافلك قبلنا))(7).
نلاحظ في هذا النموذج المختصر من الإشارات كيف تتعدد أفعال الكلام، مما يفرض تعدداً في الذات المسؤولة عن فعل الكلام، وذلك باختلاف الوظيفة الخطابية لها، فتبدو ذاتاً كلية حين الإقرار بإخبار، وتارة ذاتاً جازمة وأخرى مقموعة، وغيرها، حتى في العبارات التي لا تتماثل فيها مع ضمير المتكلم، ويسيطر ضمير المخاطب، أو العبارات الإخبارية، باعتبار الذات المتكلمة فيها صاحبة السلطة في الكلام والتي تطرح فيها بعض المفاهيم موضع سؤال. ولا يمكن في هذه الحالة للاستدراج بوصفه محدداً شروط الخطاب، من أن يفرض كذلك على الذات وجوداً متماثلاً في كل المواقف التخاطبية، في كل المواقع التي تنطلق منها، والتي تكسبها القدرة على امتلاك الآليات والأساليب الكافية للتوجيه الخطابي والتأثير في المتلقي. ومن شأن تلك الآليات أن تفتح اتجاهات عديدة من سبيل تشقيق الكلام، وتوليد النص كالتي لاحظناها في الإشارات الإلهية.
وسنكتفي هنا بوصف ظاهرة من ظواهر تشقيق الكلام ضمن بنية الاستدراج التي تجسد كثافة الإنجازات اللفظية في المخاطبة، وهي المحاججة التي لم يعد بها الاستدراج مسلكاً للعروض السلبية في التحاور، وإنما تجسيداً لحقوق وواجبات التحاور. ((وإذا تساوت عند المتحاور حقوق نفسه مع حقوق غيره في تكوين النص يجنح فيه إلى فتح باب الاستدلال على مصراعيه محاجاً لنفسه، كما يحاجج غيره، وهذا ما اختصّ به التحاور))(.
وقد تبلغ الرغبة في الذهاب بالتحاور إلى أقصاه، حيث يعتمد فيه المتكلم مبدأ المهاجمة عله يحمل المخاطب على الاعتراض، فيتهمه ويحط من شأنه، كقولـه: ((قد طال نشري عليك مطوي هذه القصة بصنوف من العبارة، وأنت على طينتك جامد لا تذوب، وخامد لا تلتهب، وراكد لا تهبّ، وميّت لا تتحرك، وباهت لا تبصر))(9).
ثم ما يلبث أن يسترضيه ويستميله، وقد يفترض ردود فعله واستنباط افتراضات وحجج منها، لأنه يرى في مبدأ المحاججة أساس التواصل، وقد توسع في الاشتغال به، سواء باستدعاء حجج جاهزة في هيئة خبرية كالشعر والقرآن، أو افتراضها مسبقاً في فعل طلبي، أو اعتماد القياس والبرهان في عرضها، والشرح والتعليل وغيرها من الأساليب الإقناعية التي وظّفها الاستدراج.
إن الإقناع بالحجة يبدو في الإشارات بمثابة القانون الإلزامي الذي يحدث التفاعل به، وهو لا يرتبط بالإكراه أو الإحراج ولا يقصد به ما يضر بأحد المتخاطبين، لأن ذلك من المهاترة التي لا تخلق آليات لفرض وضع القبول، وخاصة في خضمّ الوضع المفترض، كما هو الشأن في الإشارات... لأن الكلام مع الخصم كما يقول ((من المهاترة والمناظرة والمذاكرة، فأما المهاترة فباب ينشأ من التنافس وإيثار الغلبة، وأما المذاكرة فالمقصود بها طلب الفائدة، كالرأي المعروض على العقول المختلفة، إلى أن يقع الاختيار عليه بعد الاتفاق، وأما المناظرة فمتوسطة بين المهاترة والمذاكرة، قد تفضي إلى المنافسة، وقد توجد بها الفائدة، وهي كالفكاهة بين العلماء))(10).
إن هذا الوعي المنهجي للتخاطب لا شك أنه يجسّد صورة أخرى لاشتغال المتصوفة الذي يمزج بين القلب والعقل، وقد كان متصوفة القرن الثالث أميل إلى الذوق القائم على القلب أكثر منه على النظر والعقل الذي بدأ بالنفري والتوحيدي، واستمر عند السهروردي في ((حكمة الإشراق))، وابن عربي في ((الفتوحات))، وابن سبعين في ((بد العارف)) وغيرهم، وذلك راجع لخلفيتهم المعرفية. ولا شك أن أبا حيان قد تأثر بأساليب الاشتغال المنهجي عند المعتزلة، وقد كان واحداً منهم، كما أن الفعل التواصلي في المخاطبات يقتضي مثل هذه الصياغة، ذلك أن ((كل نظرية للفعل التواصلي تخفي وراءها نظرية في البرهنة هي عبارة عن صياغة شكل عقلاني للغة، وبالطبع فإن النظرية البرهانية لا تنفصل عن محتوى معرفي))(11). هذا على الرغم من أن التوحيدي في مناجياته ليس بصدد التنظير للفعل التواصلي.
لقد لاحظنا منذ البداية أن الممارسة الخطابية في المناجاة، حددها قصد خطابي يتجلى من خلال الدعاء كبنية مؤطّرة، والمقترن بجلب مبدأ الفائدة للمتكلم والمخاطب على السواء. وإذا كان الدعاء في عرف البسطاء هو آخر وسيلة تستعمل لتحقيق حاجة ما، فإنه عند التوحيدي، إضافة إلى ذلك هو نقطة للتقاطع بين العبادة والعبارة، فيقول: ((والدعاء جامع للحال والحقيقة والوجد والاستكانة والعبادة والعبارة، أما الحال فإنها ترتّب الإنسان في محل السائلين، وأما الحقيقة فإنها تروّح عن قلوب الصادقين، وأما الوجد فإنه يستخرج عين اليقين، وأما الاستكانة، فإنها تهوّن ما يبدو على صاحبها السكين، وأما العبادة فإنها تؤدي حقّ التكليف، وأما العبارة فإنها تقف صاحبها على مدرجة المتلطّفين المترفّقين))(12).
فالمظهر القصدي إذن ووظيفته، والاعتراف به من قبل المتكلم في الدعاء، يعتبر الأثر السابق لفعل النشاط الحجاجي الذي يثري بنية الاستدراج والمحاورة بصفة عامة، حيث نقف على الملفوظات الحجاجية فيها ((مؤدّاة من قبل الفاعل أو بوساطة أداة أو رابط، غير أن المتكلم هو الذي يعطي التعليمات لطريقة توجيه الخطاب، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة))(13).
يبدو التوحيدي في أغلب المخاطبات ملتزماً بالحجة، قولاً وإنجازاً، يطالب بها الطرف الآخر، باعتبارها قانوناً للممارسة الخطابية التي تحفظ فيها حقوق المتخاطبين وواجباتهم التي لا تخرج عن المعيار المنطقي والخلقي في الوقت نفسه، الذي أساسه الصدق في القول، وجلب المنفعة للآخر، كأن يكون أثراً يحدث في النفس ويؤدي إلى فعل ما، ويعتبر السبق الزمني والمعرفي أساس الاعتراف بحقّ الغير، كما لا يجب إيراد الحجة من أجل إلحاق الضرر المعنوي بالآخر، وذلك ما تعكسه هذه الأقوال مثلاً:
-((إن القول حجة على القائل ما لم يؤيّده بما يحققه))(14).
-((يا هذا ما قيّضني الله بنطقي لك على هذا التهذيب والتقريب، وعلى التصعيد والتصويب، إلا لتكون حجة عليك إن لم تقبل، ومحجة لك إن قبلت، فإن قلت أيضاً على وجه العذر فهو أيضاً حجّة عليك ومحجّة لك، فقد صدقت وأجلت، ولكن أين أنت مني؟ ومن أين تقف على خبرك عني؟ أنا نطقت بهذه الألغاز بعد سبعين سنة، وقد تحطّمت قناتي وتكمّشت شواتي))(15).
-((يا هذا لو توحدت عن كثرتي، أو تفردت عن صحبتي، أو لزمت حجتي بدل شبهتي... لأبصرت الطريق واضحاً، وكان دعائي لك بعد سبقي إلى الإجابة))(16).
تعكس هذه النماذج بعضاً من الآليات الأساسية التي وفرها أبو حيان التوحيدي في مناجياته لحمل المخاطب على التقبّل، أو على الأقل خلق فرضية للقبول في خضمّ الوضع التحاوري المفترض. وشكّلت هذه الآليات - التي ليست مجرد مجموعة من العبارات التي تشكل حديثاً نفسياً صامتاً يعكس نزاعاً ذاتياً- منهجاً يتسم بالفعل والمفاعلة*.
ولقد رأينا في هذه النماذج كيف قدَّر المتكلم ردود أفعال المخاطب وبنى عليها أقواله، واستنبط من تلك الأقوال الافتراضية حججاً هيأ لها أخرى، وهنا نقف ضمن الممارسة الخطابية على خطابين: أحدهما ضد للآخر، وبما أن الخطاب الحجاجي يتموضع دائماً قياساً بخطاب ضد حقيقي أو تقديري فإنه يسهم في تحقيق النشاط التواصلي الذي قد تفرضه البنية اللغوية ذاتها، أو السياق النصي، وقد يتعين بطريقة مباشرة عن طريق الروابط الحجاجية connecteurs argumentatifs التي تصل المقدمة بالاستنتاج، وتتدخل في توجيه دلالة المحاججة مثل القسم، والاستفهام، والشرط، وغيرها. وقد أسهم ((الالتفات)) في توسيع تلك الدلالة، لأنه شكل الدينامية الأساسية لفعل التحاور، فهو الذي ينصرف به إلى الإخبار والتقرير بعد الطلب والإنشاء، ويوزع أحياناً الخبر في الطلب، ليعود مرة أخرى ويطلب بالخبر، وينصرف من معنى إلى آخر، ذلك أن الالتفات يجسد الصيغة والرؤية الخطابيتين، لأنه يحدد باعتباره انتقالاً ((في الكلام من صيغة إلى أخرى، أي أنه انتقال خاص بالصرف، وكذلك الانتقال من خطاب إلى عينة، ومن عينة إلى خطاب، وهذا خاص بالضمائر التي هي أبواب النحو، ويرتبط هذا كله بالدلالة))(17).
تبدو الإجابات عن أسئلة مفترضة، أو الإقرار بأشياء تكون سبباً لنتائج معينة، مثل قوله في النماذج السابقة: ((فإن قلت لي أيضاً على وجه العذر... فهو أيضاً حجة، فقد صدقت))، ((ولو توحدت عن كثرتي... لأبصرت الطريق))). وغيرها من الأسئلة التعجبية والشرط القائم على الإقرار بوضعيات معينة، هي بمثابة الفعل الاستنتاجي العام الذي تتمحور حوله كل المعطيات الحجاجية في المناجيات، والأساس الذي يقيم عليه المتكلم استدراجه للمخاطب، ونقول عن المتكلم ((إنه يقوم بالفعل الاستنتاجي حينما يتلفظ بقول ما، وفي الوقت نفسه يرجع إلى معطى معين يقدمه على أساس أنه نقطة انطلاق لاستدلال سيؤدي إلى إصدار القول))(18). ولذلك يبدو هذا الفعل الاستنتاجي الذي ما هو في الحقيقة إلا خطاب حجاجي مرتبط بالوضعية التبليغية التي يقيمها أبو حيان في الإشارات على التأثير والإقناع.
وبين إعطاء مقدمات تتخللها اعترافات، والإعلان عن خلفيات بعد الوصول إلى نتائج معينة يتسنى للمتلقي أن يؤول فعل إدراك المخاطب الذي يبقى في النهاية فعله هو.
ولعل بنية المخاطبة على هذا الوضع التبليغي، هي التي حدت بالتوحيدي إلى الشرح والتعليل، الأمر الذي أدى إلى شيوع نوع من الإطناب لحمل ذلك الشرح والتعليل، والمعاني والمعارف الكثيرة التي يتعرض إليها من خلال ذلك.
ولذلك نرى أن المقطوعات الخطابية التي تحملها المناجاة يدعّم بعضها بعضاً، لأن النتائج التي تحملها مقطوعة معينة تستجيب لعروض مضمنة في مقطوعة سابقة، وهكذا بطريقة تبادلية حتى النتيجة العامة للخطاب والتي يتضمنها دعاء الاختتام، كهذا الشكل:
نتيجة معطيات نتيجة
معطيات نتيجة
إن هذا لا يعني، كما يقول J.M. Adam أن ((المحاججة تحول المقدمات نحو نتيجة، ولكنه يمرر للنتيجة التحام المواقف للمقدمات، وهذا الالتحام مرتبط بالمستمع، ويمكن أن يكون أكثر تكثيفاً بحسب المخاطبين))(19)، والذي مكّن التوحيدي من هذا الانتقال هو اشتغاله بالمقابلة والشرط والتضاد، والتي يمكن أن ندرجها ضمن ظاهرة المشاكلة التي بنيت عليها الإشارات، والتي خلقت نوعاً من القياس الخطابي، وهذا من شأنه كذلك أن يفسح المجال لاحتمال النتيجة داخل المعطيات المقدمة والعكس. ويبرز كذلك سلطة المتكلم الخطابية الطبيعية في موضع المخاطب المفترض، والذي تجلّى خاصة من خلال ظاهرة تقدير السؤال من قبله. وقد كانت المعبر الأساس للمحاججة، والتي ينزاح بها إلى اعتبارات تتعلق بالمتلقي نستنتجها من خلال قول السكاكي: ((إن تنزيل السؤال بالفحوى منزلة الواقع لا يصار إليه إلا لجهات لطيفة))(20).
-إما لتنبيه السامع على موقعه.
-أو لإغنائه أن يُسأل.
-أو لئلا يُسمع منه شيء.
-أو لئلا ينقطع كلامه بكلامه.
-أو للقصد إلى تكثير المعنى بتقليل اللفظ.
نلاحظ -مثلما ذهب إلى ذلك محمد خطابي- أن الجهات الثلاث الأولى اعتبارات تتعلق بالسامع، ويمكن إجمالها في ثلاثة هي: تنبيه السامع، وإغناؤه عن السؤال، وإسكاته عن الكلام، بينما يتعلق الرابع بسلطة المتكلم وتنبئه بإمكان إشارة الكلام للقول، استفهاماً في ذهن السامع فيبادر إلى الجواب قبل السؤال لضمان الاستمرار في الكلام؛ أما الاعتبار الخامس فيتعلق بالخطاب نفسه، بحيث يستغني عن تكرير السؤال بين كل قولين، إذ لو تكرر لثقل الخطاب بكلام حقّه أن يستغني عنه اعتماداً على ما يقتضيه المقام، أي الاستغناء عن إظهار رابط لفظي بتقدير زوج السؤال (المقدر) للجواب الذي يظل ثاوياً في عمق الخطاب المخرج على هذا النحو))(21).
ولقد دفعت المتكلم سلطته الخطابية إلى الخروج من افتراض الأجوبة داخل الأسئلة، والعكس إلى اللجوء إلى شواهد حجاجية جاهزة، كالشعر والقرآن، والحكم، والحديث النبوي، وأقوال العارفين والعلماء. وهي لما تحويه من قيمة علمية وتاريخية أصبحت بمثابة الحجج الجاهزة التي ((تكتسب من مصدرها ومن مصادقة الناس عليها وتواترها))(22). وهي في الإشارات تأتي للدفع بالتحاور إلى أقصاه، وبعدما يحس المتكلم بأن كفاءته اللغوية لم تعد قادرة على مواصلة المسار التواصلي، فتكون بمثابة البديل، وقد تأتي لتؤدي وظيفة تدعيمية، يقول: ((يا هذا مرّ أيضاً هذا الفن، فلا والله لا أدري كيف إنشاؤك به؟ وكيف إرشافك لـه؟ وكيف انتعاشك عليه؟ وكيف انتفاشك منه؟ تأمل مخزون قول بعض العارفين، فإنه قد هتف بشأن عظيم عن محلّ في أعلى عليين؛ قال: إذا رأيت الله عز وجل يؤنسك بذكره، ويوحشك من خلقه، فقد أرادك، وإذا رأيته يؤنسك بخلقه ويوحشك من ذكره فقد طردك. وقال آخر: يا تجّار الآخرة، أبشروا بالأرباح الفاخرة، لا تمهر الدنيا دينك، فإن من مهر الدنيا دينه رفت إليه بالندم والسقم والألم. وقال آخر: حمية العارفين حمية المرضى، ونومهم نوم الغرقى، وندمهم ندم الهلكى))(23).
إن هذه المقطوعات الحجاجية الصناعية، غالباً ما تؤدي وظيفة التدعيم، إلى جانب وظيفة إعادة التوازن بين المتكلم والمخاطب، بعدما يعتري العملية التخاطبية نوع من الخفوت في التفاعل، أو حين يعتقد المتكلم ذلك الخفوت بعدما يكون آخذاً في معنى ((وكأنه يعترضه شك أو ظن، أن راداً يرد قوله، أو سائلاً يسأله عن سببه، فيعود راجعاً إلى ما قدمه، فإما أن يؤكده أو يذكر سببه، أو يزيل الشك عنه))(24). ذلك ما لحظناه من خلال النموذج السابق، كيف يوجه المخاطب عما كان يتحدث فيه ليشكك متسائلاً عن مدى التفاعل معه، ليدعوه إلى أقوال بعض العارفين، ليزيل ذلك الالتباس ويضمن استمرار التخاطب. ولذلك نجد الخطاب في الإشارات يتموضع بين وظيفتين تؤديهما المقطوعات الخطابية ذات الملمح الحجاجي، وهما الامتداد والاختتام. فقد يحدث أنه عند انتهاء مقطوعة خطابية ما يتجلى نوع من الخفوت والرتابة في الخطاب، نظراً للتبادل السلبي للمخاطب للطبيعة الافتراضية لتدخلاته. في هذه الحالة نجد المتكلم يضع فرضية المحاججة، مثلما رأينا، ولكن قد تحمل بعض المقطوعات أحياناً سمة الاختتام، هنا يلجأ المتكلم إلى خلق طرق للاستمالة والاسترخاء، بالاستعطاف (كعرض الحال). وقد يترك المجال للإخبار بأن يسيطر لما يحمله من معطيات حجاجية، فيسهم في تمديد الخطاب نتيجة تغير للسلوك الخطابي، ولذلك اتسمت الإشارات بنوع من الإطناب، ونلمس ذلك من خلال صرف المخاطب عما سبق، بقوله دع ذا، أو مرّ إلى. وقد يعود به مرة أخرى إلى ما سبق بعد اعتراض، معللاً ذلك في أكثر من موضع بأن الكلام إذا وجد مسرحاً لم يقف.
وقد فرضت هذه الظاهرة نمطاً توالدياً لارتباطها بقصد تعكسه ألفاظ، مثل: اسمع، واعلم. ولهذا دلالته ما دام الإطناب هو عند علماء العربية بمنزلة سلوك طريق بعيد نراه يحتوي على زيادة فائدة. وقد قال الخليل: ((يختصر الكتاب ليحفظ، ويبسط للفهم، وقيل لعمرو بن العلاء: هل كانت العرب تطيل؟ قال: نعم، كانت تطيل ليسمع منها، وتوجز ليحفظ عنها، والإطناب إذا لم يكن منه بدّ إيجاز، وهو في المواعظ محمود))(25).
ولقد تمكّن التوحيدي بما يمتلكه من معطيات معرفية وقدرات لغوية تحليلية من استنباط العلل وشرح الظواهر الفكرية المختلفة، وكان الغرض الآخر في هذه المناجيات، وقد بلغ من العمر عتيا، فعاد إلى الناس ناصحاً، عارضاً خلاصة تجاربه في الكتابة والفكر، والتربية الصوفية بأساليب فيها من القدرة على الإقناع والتأثير ما يكسب خطابه نوعاً من الشمولية التي يعطي فيها المتكلم المعارف اللازمة للمخاطب، وذلك بوساطة الشرح الذي هو "زيادة عن كونه نشاطاً معرفياً ونتاجاً للمعرفة وموضوعاً للفكر، له قواعده ومنطقه الداخلي، فهو نشاط لا يمكن إبعاده عن النشاط اللغوي: إنّه أسلوب عقلاني للحديث عن التجربة(26). فمن هنا تبدو أهميته بالنسبة للمحاججة.
لقد كان أمام التوحيدي في مناجاته مسلكان: إمّا أن تكون هذه المناجيات عبارة عن تتالي أدعية كالتي رأيناها عند السابقين من المتصوفة، وإمّا أن تجسد ما يعكسه الدعاء من نزاع ونزوع للنفس، في شكل تحاور بينه وبين مخاطب مفترض، هو ذلك الطرف الآخر من نفسه، يعكس بذلك "الصراع بين قيم معينة، ورغبات النفس، فيتحوّل هذا النشاط إلى جدال بين متكلم خفي ومخاطب خفي أيضاً، ينجرّ عنه طرف غالب وآخر مغلوب"(27).
وقد تبقى الذات مسحوقة دون غلبة لطرف، وخاصة عند الصوفي الذي يبحث عن الحقيقة خارج الواقع وخارج نفسه. وقد عكست الإشارات الذات الصوفية وهي في حال الجدل، ونصوصها تتفق وتتشابه مع نصوص الآخرين من المتصوفة، وإن كانت على منازل علت فيها إشارات التوحيدي، لعلوّ مصدرها، فهي تستمد قوتها من الله، لذلك سماها الإشارات الإلهية، وهي دلالة سيميائية على أزمة التواصل التي عاشها المتصوفة، وجاءت لتجسد النموذج الراقي لمشاهدات ومقامات ودرجات المتصوفة جميعاً، وخاصة السالكين، أو ما عبّرت عنه مرحلة وعي الوضع. وكما نرى فهي تختلف عن نصوص الواصل الفاني كالتي رأيناها في شعر الحب الإلهي، و"ما تحويه من وصف حميمي لعلاقة الإنسان بالله، نصوص تكاد تمحو معالم الثنائية"(28).
وإذا كانت أفعال الكلام الجزئية من نداء وأمر ونهي وشرط والتي زخرت بها الإشارات قد مكنتنا من الكشف عن ظاهرة التنازع بين ذاتين افترض فيهما التوحيدي طرفاً آخر يحاوره ويقدر أفعال كلامه، ويبني عليها التواصل فإنّها أدّت إلى مستوى دلالي أكبر هو فعل الكلام ذو الطبيعة الشاملة، أو فعل الكلام الجامع Macro acte de langage، وهو فعل السؤال الذي مارسه التوحيدي، ويعكس هاجس ثقافة السؤال، "وهاجس اللغة التي بها الحوار وبها السؤال وبها الجواب، وهذا الهمّ الأكبر الذي هو الهاجس التواصلي في كنف مناقضته بحكم استئناف الشكّ في المسلمات"(29). ولعلّ من بين هذه المسلمات ذات الإنسان في علاقتها بنفسها وبالله، لذلك بدت كلّ المحاورات وكأنّها محاكمة للذات، وما يعتري الإنسان من حيرة ودهشة حين يلتفت إليها، وما يصادفه من أشكال في إدراكها، وقد سبق أن وعي هذا الإشكال في "الهوامل والشوامل"، حين قال: إنّ الإنسان قد أشكل عليه الإنسان، وفي الإشارات يعرض لرأي سقراط في معرفة النفس فيقول: "زعمت الحكماء على ما أوجبه آراؤها ودياناتها أنّ من الوحي القديم النازل من الله قوله للإنسان: اعرف نفسك، فإن عرفتها عرفت الأشياء كلها. وهذا قول لا شيء أقصر منه لفظاً ولا أطول منه فائدة ومعنى، وأوّل ما يلوح منه: الزراية على من جهل نفسه ولم يعرفها، وأخلق به إذا جهلها أن يكون لما سواها أجهل، وعن المعرفة به أبعد، فيصير حينئذٍ بمنزلة البهائم، بل أرى أنّه أسوأ منها"(30).
هي إذن دعوة إلى إدراك الذات، وهي بداية المعرفة، ولعلّ فعل السؤال هو جوهر الفعل المعرفي داخل ثقافة المسلمات التي كان يعيش آثارها المتجلية في أزمة التواصل مع الغير، هؤلاء الغير الذين أراد أن يعلّمهم ثقافة السؤال التي "تراهن على الحيرة، وتراهن على إخصابها بواسطة الشك المنهجي، قبل أن يتخلق الشك المنهجي. ولعلّ الذي حصل لأبي حيّان التوحيدي أنّه أراد أن يزرع في الناس حبّ الشك في المسلّمات، فإذا بهم يشرعون بتطبيق الشكّ عليه فأسقطوا عنه يقينهم به، فتسلّط الشكّ على سلّم القيم ورفع السؤال على غير مرابطهم"(31).
وفعل السؤال الذي شكّل دليل وحدة الإشارات هو تعبير عن رؤية وموقف عام من خلل عام كان قد عمّ القرن الرابع، حيث "كان المجتمع الإسلامي مقسماً من الناحية الدينية إلى كتلتين: أهل السنة والشيعة، فالخلفاء العباسيون في بغداد ومن تبعهم من الملوك والحكام سنيّون يتعصّبون للسنة، وبنو بويه في العراق شيعيون يتعصّبون للشيعة وكان الخلاف قائماً على أشده"(32). ولقد صوّر التوحيدي انعكاس هذا الخلاف على الوضع العام الاجتماعي في الإمتاع والمؤانسة بقوله: "فسفكت الدماء، واستبيح الحريم، وشنّت الغارات، وخرّبت الديارات، وكثر الجدال، وطال القيل والقال، وفشا الكذب والمحال وأصبح طالب الحقّ حيران، ومحبّ السلامة مقصوداً بكل لسان وسنان، وصار الناس أحزاباً من النحل والأديان، فهذا نصيري، وهذا أشجعي، وهذا أقطعي، وهذا جبائي، وهذا أشعري، وهذا خارجي، وهذا شعبي، وهذا قرمطي، وهذا راوندي، وهذا نجاري، وهذا زعفراني.. ومن لا يحصى عدّها إلا عند الله الذي لا يجرّه شيء"(33).
أمّا في الإشارات الإلهية فإنّنا نقف على صنوف شتّى من وصف تلك المظاهر..
"عزّ والله عليّ: خُتمت النبوة، ورُفعت الخلافة، وأُهمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفُقد المحدّثون بالغيب، وعدم المجتنبون للعيب، واصطلح الناس على الشك والريب، وفارقهم من الله العزيز العصمة، وبعدت عن عامّتهم وخاصّتهم الرحمة. واستحقوا بكل وجه وسبب النقمة، فلهذا وشبههِ قست القلوب، وخبثت القلوب، واخلت المودات وفسدت الاعتقادات وساءت الآداب، وقبحت المعاملات، وكثرت الخيانات"(34).
لا يعني هذا اعتبار ظروف العصر سابقة لخطاب مثل الإشارات الإلهية، وكأنّها مرجعها الأساس الذي تمثله وتعكسه، لأنّ الخطاب يشكل معرفة في حدّ ذاته، والتي تتمحور حول الكشف عن الإنسان الكامل داخل الإنسان، وإدراك النسبة الإلهية فيه. وهذه التجربة الإدراكية أو الكشفية بتعبير المتصوفة غير منفصلة عن معطيات العصر. وإنّ المعرفة الصوفية تتخلل كلّ المعطيات وقد لا يطالها الخطاب أحياناً، حين يضعه صاحبه في مستوى الدّوال، أو ما عبّر عنه المتصوفة بالعبارة. ومن أجل ذلك عثرنا من خلال التشكيل التعارضي لخطاب التوحيدي على الذات، وهي في حركية تغيرية، لتصبح هي متغيرات هذا التشكيل. وهذه الحركية التغيرية هي القوّة التي تمكن الذات من التأثير في ذاتها وتولّدها من جديد وذلك من خلال تجرّدها المتواصل من الجانب المادي والكشف عن القاعدة الفاعلة فيها، والمتمثلة في الجانب الإلهي، وهي تعمل فيها الذاكرة.