إن الإشارات الإلهية هي استمرار لإخفاء الصبغة الإشكالية لحقيقة العلاقة بين الإنسان والله، كما بدأها الأولون من المتصوفة، لأنّه في إطار هذه العلاقة تدرك علاقة الإنسان بالعالم، وبالقرآن الذي هو في أحد جوانبه تمثيل رمزي لهذا العالم. ولذلك وجدنا التوحيدي ينتقد مسلمة الأعراض التي تمّ من خلالها التعامل مع القرآن، فنراه يقول: "والعجب أنّك أيّها العالم الفقيه والأديب النحوي تتكلم في إعرابه وغريبه وتأويله وتنويله وقصته وشأنه، وكيف ورد، وبأي شكل تعلّق، وكيف حكمه فيما خصّ وعمّ، ودلّ وشمل، وكيف وجهه، وماذا أوّلـه وآخره، وأين صدره وعجزه، وكنايته وإفصاحه، وكيف حلاله وحرامه وبلاغته ونظامه، ومن قرأ بحرف كذا وبحرف كذا، ثمّ لا تجد في شيء مما ذكرتك به، ووصفتك فيه ذرة تدلّ على صفائك في حالك، وإدراكك ما لك، بل لا تعرف حلاوة حرف منها، ولا تزال موجوداً فيما دُعيت إليه من أوساطها ونواحيها، فعلمك كلّه لفظ، وروايتك كلّها حفظ، وعملك كلّه رفض، وتبرّمك كلّه نقض، ودعواك كلّها وقاحة، وجهرك نفاق وباطنك شقاق وذكرك حيلة"(35).
إن تجلّي فعل السؤال بوساطة ممارسة خطابية وجد في التشكيل التعارضي المتنوع مجالاً لتمظهر المواقف حتّى في العبارات التي ينقل فيها أخباراً. والإدلاء بالخبر في أحد جوانبه تعبير عن قضية، وموقف معيّن تجاه تلك القضية، على الرغم من أنّ التوحيدي وكسائر المتصوفة ظلّ يشكّ في قدرة اللغة على إبراز الحقائق أو المعاني، حتّى إن افترضنا عكس هذا الاعتقاد "أنّ كلّ نصّ يعتبر مكوّناً من مكوّنات سياق ظرف معيّن"(36)، فإن الكشف عن ذلك السياق لا يتحقق فيما يقال فعلاً، بل فيما ينتجه التفاعل بين ما قيل والمتلقي. وقد لاحظنا المتكلّم في الإشارات يقيم مخاطباته على ما يفترضه من تبادل وتدخلات وردود أفعال المخاطب، وهي نفسها الافتراضات التي تسمح للمتلقي بأن يفرض بدوره ويبني على تلك الافتراضات المعنى، فسمح الاشتغال الواسع على الأساليب بتشكيل قابلية التلقي مثلما سمح بتكون شروط التأثر بالنسبة للمخاطب.
من ناحية أخرى يبدو فعل السؤال في الإشارات مدفوعاً بإصرار أبي حيان على سنن المشافهة حتّى وإن تحوّلت الكتابة في عصره إلى مؤسسة مستوية تنظيراً وإنجازاً، ولو عن طريق الاستكتاب، كما هو الشأن مثلاً بالنسبة لكتابة الإمتاع والمؤانسة، ويتضح ذلك من خلال حمل التخاطب على المشافهة في مواضع كثيرة من رسائله كقوله:
"أنا -أكرمك الله- إلى نظائر هذه المشافهة مرتاح، ولكنّي من التثقيل عليك مرتاع، وبقدر ارتياحي وارتياعي أتقدّم بين يديك في مخاطبتك محتاجاً"(37). وإذا كانت مرتبطة بالاتساع والروية، فإنّها هنا تصبح مشافهة، ويسيّرها بقانون الاتساع الذي يتبع الخط، مما سمح لـه بالحديث عن حاله في مواضع كثيرة، يقول عنها: "أنها سيئة كيفما قلّبتها، لأنّ الدنيا لم تؤاتني لأكون من الخائضين فيها، والآخرة لم تغلب عليّ فأكون من العاملين لها، وأمّا ظاهري وباطني فما أشدّ اشتباههما، لأنّي في أحدهما متلطّخ تلطّخاً لا يقرّبني من أجله أحد، وفي الآخرة مبتذّخ لا أهتدي فيه إلى رشد.. وأمّا أموري وأسبابي فمن أجلها طال خطابي وعتابي"(38).
ويظلّ التوحيدي يتحدث عن نفسه، مرجعه المستأنف بلا ملل، في واقع فزع من ظاهر "حشي بالشرور إلى باطن قد غُشي بالغرور، فلم يكن في هذا مقنع ولا إلى ذاك مرجع"(39). وعاش غريباً في الواقع كما في اللغة: "يا هذا ارحم غربتي في هذه اللغة العجماء بين هذه الدهماء العثراء"(40).
لقد حملت أقوال المتكلم معاناة عامّة، هي أزمة التواصل التي حاول أن يجد لها بديلاً سيميائياً من خلال استراتيجية التحاور التي أقامها على التشكيل التعارضي، تبادلته الأنا والأنت، وتنازعتاه ورسمتا أوضاع النزوع والجدل الذي يحدثه وعي وضع مرحلة ما قبل الوصول وما بعد الرجوع عند المتصوفة، ولذلك يفهم النشاط هذا اللغوي للضمائر وفق هذا الاعتبار، والفاعلية لا ترتبط بهيمنتها كضمائر، بل بوظيفتها في علاقتها بتلك الأوضاع، وهي وظيفة الإطلاق والمرتبطة بذلك التراكم، لأنّ الضمائر "لا تلزم المسمّى كالأسماء، ولا تدلّ على اقتران حدث بزمن كالأفعال، وإنّما تعبر عن مطلق حاضر غائب بواسطة قرائن تتضامن معها، أو تفتقر إليها، وهذان المعنيان: الحضور والغيبة، يعبر عنهما بواسطة صيغ الضمائر ومبانيها الخاصة"(41) التي لا تتغير صورها، ولا تنتمي إلى أصول اشتقاقية أخرى كالأفعال والصفات، غير أنّ تراكمها في إطار الصيّغة التحاورية أهّلها لكي تكتسب أوضاعاً مختلفة من خلال الوظائف المرنة التي منحتها إياها البلاغة الصوفية. ومن مظاهر هذه المرونة:
1- جعلها منطلقاً للتبادل التخاطبي، وبواسطته تتحوّل هذه المبهمات أنا- أنت التي لا يتعيّن مدلولها إلا ضمن السياق التخاطبي إلى فواعل تتبادل الأدوار، ويتحوّل أنا إلى أنت والعكس.
2- إنّها أعطت إطاراً رحباً لتداول الصفات والأحوال بشكل مكثف لتجاري شكلياً ووظيفياً " ما كان قد شاع من حجاج في العقائد، وإقامة الأدلة على الأصول والفروع المستمدة من الكتاب والسنة والمأثورات الأخرى"(42).
وهكذا أدّى تراكم الصفات والأقوال التابعة للضمائر إلى تجسيد فاعلية تلك المفاهيم الصوفية المؤسسة على الثنائية، كالسكر والصحو، الصمت والكلام، الحضور والغياب. وتبدو في شكل وحدات مكرّرة، متحققة على مستوى الصيغ وتوازن العبارات، والتقابل الدلالي، كالطباق. وتنتهي إلى نوع من التجانس الصوتي الذي سمّاه شوقي ضيف التوقيع الذي نلمسه "من معادلة ألفاظه معادلة لا تنتهي إلى السجع، ولكنّها تنتهي إلى التوازن الصوتي الدقيق"(43). وإن هذه الظاهرة التي ميّزت النثر في القرن الرابع، والتي تدخل في إطار التصنع أو التنميق، وهي موجة كانت حادة لم يسلم منها أحد إلا القليل الأقل حتّى كتّاب التاريخ(44)، كانت عند أبي حيّان التوحيدي- وهو الذي لم يجد حرجاً في التعامل مع مقولات البلاغة الرسمية - تعكس نزاعات هاجس السؤال المرتبط بأزمة التواصل، من جهة، كما تعكس ظاهرة تحوّل الإيقاع إلى النثر، أو توحد الخطابة بالشعر الذي أنتج ظاهرة سميت "بالأزواج أو السجع المعطّل.. يتمّ فيها تقسيم الفقرات إلى جمل قصيرة أشبه ما تكون بالأساليب الشعرية الحديثة"(45).
ولذلك فمن السهل علينا ترتيب أيّ نصّ من نصوص الإشارات ترتيباً أفقيا، ليصبح أشبه بقصيدة النثر، مثل قوله:
"كتبت لك والربيع مطل
والزمان ضاحك
والأرض عروس
والسماء زاهر
والأغصان لدنه
والأشجار وريقه
والجنان ملتفة
والثمار متهدلة، والأودية مطردة
فما تقع الأعين إلا على سندس وإستبرق"(46).
ولئن كان التوحيدي حتّى وهو يكتب خارج الثقافة الرسمية، مثلما يشير إلى ذلك عنوان "الإشارات الإلهية" لم يجد حرجاً في أن يتعامل مع مقولات البلاغة الرسمية لأنّه على رأي المسدّي، "كان ينشد من وراء الكتابة البلاغية مصاهرة الخطاب الرسمي، فكان لذلك يغازل مقولاته، فلّما كبا جواد سيزيف عمد إلى إحراق كتبه"(47). فإنّه جسّد بإشاراته نصوص السالكين إلى الله والراجعين إلى الخلق بعد الوصول، وكلاهما يلتقيان في النزاع النفسي الذي لا يسمح بتأسيس نمط جديد في الكتابة على الظاهر. لكنّنا نقف على خصوصية الأنموذج التوحيدي، في تمثله بليغاً مقموعاً شيّد معمار المرجعية البلاغية السائدة التي قمع فيها، وفقد كلّ تواصل مع مستعمليها، لكنّه من صلب هذا القمع الرسمي، شيّد إشاراته السيميائية هي "على هامشها إلى المرجعية أقرب، وكتابة هي ببلاغة الهامش أقرب"(48). ولعلّ بلاغة الهامش تلك، تتجلى في سلطة المعنى الصوفي الذي ظلّ يزاحم سلطة المعنى الرسمي، والمتصوفة قالوا بمعان لا تقال، وبذلك يكونون قد أصّلوا الكتابة الصوفية والبلاغة الصوفية التي نرى جانباً منها في نصوص رجل تملكه سؤال المعنى هو محمد بن عبد الجبار النفري.
(1) -الإشارات، ص105، 106.
(2) -الإشارات، ص217.
(3) -م.ن، ص200.
(4) -طه عبد الرحمن، في أصول الحوار، ص49.
(5) -م.ن، ص51.
(6) -عبد الرحمن حاج صالح، ((التحليل العلمي للنصوص))، ضمن بحوث في علوم اللسان، جمع وتصنيف وتقديم صالح بلعيد، مخطوط تحت الطبع، ج1، ص234.
(7) -الإشارات، ص292-298.
( -طه عبد الرحمن، في أصول الحوار، ص51.
(9) -الإشارات، ص236.
(10) -الإشارات، ص107.
(11) -مطاع صفدي، ((مغامرة الاختلاف والحداثة))، التداولي/التواصلي، مجلة الفكر العربي المعاصر، ع46، مركز الإنماء العربي، بيروت، باريس، 1987، ص11.
(12) -الإشارات، ص137.
(13) -J. Moeschler, Argumentation et Conversation, p.65.
(14) -الإشارات، ص349.
(15) -م.ن، ص216.
(16) -م.ن، ص104.
* -استندت في هذين المصطلحين إلى طه عبد الرحمن في تحليله لعلم الكلام، حيث يقول: وليس رجماً بالغيب أن نقول بأن تحديدنا للمنهج العقلي الكلامي بصفتي الفعل والمفاعلة قد يجري على قطاعات أخرى من الإنتاج الإسلامي، وذلك أن تصور علماء الإسلام للعلم يجعله دائماً باعثاً على العمل داخل الجماعة ومقيداً للعاملين... (في أصول الحوار، ص168).
(17) -محمود سليمان ياقوت، علم الجمال اللغوي (المعاني، البيان، البديع)، دار المعرفة الجامعية، 1995، ص338.
(18) -O. Ducrot & Ansconbre, L'argumentation dans le langue, Pierre Margada, edition, Bruxelles, 1980, p.10.
(19) -J.M.Adam, Les textes, Types et prototypes, Nathan, 1992, p.116.
(20) -السكاكي، يعقوب يوسف بن أبي بكر محمد بن علي، مفتاح العلوم، ضبط وتعليق نعيم زرزور، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1983، ص110.
(21) -محمد خطابي، لسانيات النص، ص116.
(22) -محمد العمري، في بلاغة الخطاب الإقناعي، مدخل نظري وتطبيقي لدراسة الخطابة العربية، الخطابة في القرن الأول نموذجاً، ط1، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، 1986، ص65.
(23) -الإشارات، ص239-240.
(24) -العسكري، كتاب الصناعتين، ص439.
(25) -م.ن، ص211.
(26) M.J.Borel, L,explication dans l,argu mentation langue francaise, N 50, paris, 1981, p.22
(27) Tzvetan Todorov, Mikhail Bakhtine, Le principe dialogique, Edition du Seuil, paris, 1981- p. 294.
(28) سعاد الحكيم، عودة الواصل، ص73.
(29) عبد السلام المسدي، "التوحيدي وسؤال اللغة"، مجلة فصول، ع3، مج14، الهيئة المصرية للآداب خريف 1995- ص133.
(30) الإشارات، ص382.
(31) المسدي، "التوحيدي وسؤال اللغة"، ص131.
(32) الهجويري، كشف المحجوب، دراسة وترجمة وتعليق إسعاد عبد الحق قنديل، مقدمة الكتاب، دار النهضة العربية، بيروت، 1980- ص23.
(33) التوحيدي، أبو حيّان، الإمتاع والمؤانسة، تصحيح وضبط أحمد أمين وأحمد الزين، منشورات المكتبة العصرية بيروت، د. ت، ج2-ص77-78.
(34) الإشارات، ص433-434.
(35) الإشارات ص40
(36) جون لاينز، اللغة، المعنى والسياق، تر: عباس صادق الوهاب، ط1- دار الشؤون الثقافية العامة (آفاق عربية)، بغداد 1987-ص210.
(37) الإشارات، ص233
(38) م.ن.ص19.
(39) م.ن.ص55
(40) م.ن.ص94.
(41) تامر سلوم، نظرية اللغة والجمال، ص68
(42) ياسر شرف محمد، حركة التصوف الإسلامي، منشورات وزارة الثافة، دمشق، 1984- ص172
(43) شوقي ضيف، الفنّ ومذاهبه في النثر العربي، ط7، دار المعارف، القاهرة، د. ت، ص169.
(44) يراجع م.ن،ص228
(45) علي دب، الأديب والمفكر أبو حيّان التوحيدي، ط3- الدار العربية للكتاب، تونس 1988- ص155.
(46) الإشارات، ص233-234.
(47) المسدي، التوحيدي وسؤال اللغة، ص154
(48) المسدي، التوحيدي وسؤال اللغة، ص154
إن تجلّي فعل السؤال بوساطة ممارسة خطابية وجد في التشكيل التعارضي المتنوع مجالاً لتمظهر المواقف حتّى في العبارات التي ينقل فيها أخباراً. والإدلاء بالخبر في أحد جوانبه تعبير عن قضية، وموقف معيّن تجاه تلك القضية، على الرغم من أنّ التوحيدي وكسائر المتصوفة ظلّ يشكّ في قدرة اللغة على إبراز الحقائق أو المعاني، حتّى إن افترضنا عكس هذا الاعتقاد "أنّ كلّ نصّ يعتبر مكوّناً من مكوّنات سياق ظرف معيّن"(36)، فإن الكشف عن ذلك السياق لا يتحقق فيما يقال فعلاً، بل فيما ينتجه التفاعل بين ما قيل والمتلقي. وقد لاحظنا المتكلّم في الإشارات يقيم مخاطباته على ما يفترضه من تبادل وتدخلات وردود أفعال المخاطب، وهي نفسها الافتراضات التي تسمح للمتلقي بأن يفرض بدوره ويبني على تلك الافتراضات المعنى، فسمح الاشتغال الواسع على الأساليب بتشكيل قابلية التلقي مثلما سمح بتكون شروط التأثر بالنسبة للمخاطب.
من ناحية أخرى يبدو فعل السؤال في الإشارات مدفوعاً بإصرار أبي حيان على سنن المشافهة حتّى وإن تحوّلت الكتابة في عصره إلى مؤسسة مستوية تنظيراً وإنجازاً، ولو عن طريق الاستكتاب، كما هو الشأن مثلاً بالنسبة لكتابة الإمتاع والمؤانسة، ويتضح ذلك من خلال حمل التخاطب على المشافهة في مواضع كثيرة من رسائله كقوله:
"أنا -أكرمك الله- إلى نظائر هذه المشافهة مرتاح، ولكنّي من التثقيل عليك مرتاع، وبقدر ارتياحي وارتياعي أتقدّم بين يديك في مخاطبتك محتاجاً"(37). وإذا كانت مرتبطة بالاتساع والروية، فإنّها هنا تصبح مشافهة، ويسيّرها بقانون الاتساع الذي يتبع الخط، مما سمح لـه بالحديث عن حاله في مواضع كثيرة، يقول عنها: "أنها سيئة كيفما قلّبتها، لأنّ الدنيا لم تؤاتني لأكون من الخائضين فيها، والآخرة لم تغلب عليّ فأكون من العاملين لها، وأمّا ظاهري وباطني فما أشدّ اشتباههما، لأنّي في أحدهما متلطّخ تلطّخاً لا يقرّبني من أجله أحد، وفي الآخرة مبتذّخ لا أهتدي فيه إلى رشد.. وأمّا أموري وأسبابي فمن أجلها طال خطابي وعتابي"(38).
ويظلّ التوحيدي يتحدث عن نفسه، مرجعه المستأنف بلا ملل، في واقع فزع من ظاهر "حشي بالشرور إلى باطن قد غُشي بالغرور، فلم يكن في هذا مقنع ولا إلى ذاك مرجع"(39). وعاش غريباً في الواقع كما في اللغة: "يا هذا ارحم غربتي في هذه اللغة العجماء بين هذه الدهماء العثراء"(40).
لقد حملت أقوال المتكلم معاناة عامّة، هي أزمة التواصل التي حاول أن يجد لها بديلاً سيميائياً من خلال استراتيجية التحاور التي أقامها على التشكيل التعارضي، تبادلته الأنا والأنت، وتنازعتاه ورسمتا أوضاع النزوع والجدل الذي يحدثه وعي وضع مرحلة ما قبل الوصول وما بعد الرجوع عند المتصوفة، ولذلك يفهم النشاط هذا اللغوي للضمائر وفق هذا الاعتبار، والفاعلية لا ترتبط بهيمنتها كضمائر، بل بوظيفتها في علاقتها بتلك الأوضاع، وهي وظيفة الإطلاق والمرتبطة بذلك التراكم، لأنّ الضمائر "لا تلزم المسمّى كالأسماء، ولا تدلّ على اقتران حدث بزمن كالأفعال، وإنّما تعبر عن مطلق حاضر غائب بواسطة قرائن تتضامن معها، أو تفتقر إليها، وهذان المعنيان: الحضور والغيبة، يعبر عنهما بواسطة صيغ الضمائر ومبانيها الخاصة"(41) التي لا تتغير صورها، ولا تنتمي إلى أصول اشتقاقية أخرى كالأفعال والصفات، غير أنّ تراكمها في إطار الصيّغة التحاورية أهّلها لكي تكتسب أوضاعاً مختلفة من خلال الوظائف المرنة التي منحتها إياها البلاغة الصوفية. ومن مظاهر هذه المرونة:
1- جعلها منطلقاً للتبادل التخاطبي، وبواسطته تتحوّل هذه المبهمات أنا- أنت التي لا يتعيّن مدلولها إلا ضمن السياق التخاطبي إلى فواعل تتبادل الأدوار، ويتحوّل أنا إلى أنت والعكس.
2- إنّها أعطت إطاراً رحباً لتداول الصفات والأحوال بشكل مكثف لتجاري شكلياً ووظيفياً " ما كان قد شاع من حجاج في العقائد، وإقامة الأدلة على الأصول والفروع المستمدة من الكتاب والسنة والمأثورات الأخرى"(42).
وهكذا أدّى تراكم الصفات والأقوال التابعة للضمائر إلى تجسيد فاعلية تلك المفاهيم الصوفية المؤسسة على الثنائية، كالسكر والصحو، الصمت والكلام، الحضور والغياب. وتبدو في شكل وحدات مكرّرة، متحققة على مستوى الصيغ وتوازن العبارات، والتقابل الدلالي، كالطباق. وتنتهي إلى نوع من التجانس الصوتي الذي سمّاه شوقي ضيف التوقيع الذي نلمسه "من معادلة ألفاظه معادلة لا تنتهي إلى السجع، ولكنّها تنتهي إلى التوازن الصوتي الدقيق"(43). وإن هذه الظاهرة التي ميّزت النثر في القرن الرابع، والتي تدخل في إطار التصنع أو التنميق، وهي موجة كانت حادة لم يسلم منها أحد إلا القليل الأقل حتّى كتّاب التاريخ(44)، كانت عند أبي حيّان التوحيدي- وهو الذي لم يجد حرجاً في التعامل مع مقولات البلاغة الرسمية - تعكس نزاعات هاجس السؤال المرتبط بأزمة التواصل، من جهة، كما تعكس ظاهرة تحوّل الإيقاع إلى النثر، أو توحد الخطابة بالشعر الذي أنتج ظاهرة سميت "بالأزواج أو السجع المعطّل.. يتمّ فيها تقسيم الفقرات إلى جمل قصيرة أشبه ما تكون بالأساليب الشعرية الحديثة"(45).
ولذلك فمن السهل علينا ترتيب أيّ نصّ من نصوص الإشارات ترتيباً أفقيا، ليصبح أشبه بقصيدة النثر، مثل قوله:
"كتبت لك والربيع مطل
والزمان ضاحك
والأرض عروس
والسماء زاهر
والأغصان لدنه
والأشجار وريقه
والجنان ملتفة
والثمار متهدلة، والأودية مطردة
فما تقع الأعين إلا على سندس وإستبرق"(46).
ولئن كان التوحيدي حتّى وهو يكتب خارج الثقافة الرسمية، مثلما يشير إلى ذلك عنوان "الإشارات الإلهية" لم يجد حرجاً في أن يتعامل مع مقولات البلاغة الرسمية لأنّه على رأي المسدّي، "كان ينشد من وراء الكتابة البلاغية مصاهرة الخطاب الرسمي، فكان لذلك يغازل مقولاته، فلّما كبا جواد سيزيف عمد إلى إحراق كتبه"(47). فإنّه جسّد بإشاراته نصوص السالكين إلى الله والراجعين إلى الخلق بعد الوصول، وكلاهما يلتقيان في النزاع النفسي الذي لا يسمح بتأسيس نمط جديد في الكتابة على الظاهر. لكنّنا نقف على خصوصية الأنموذج التوحيدي، في تمثله بليغاً مقموعاً شيّد معمار المرجعية البلاغية السائدة التي قمع فيها، وفقد كلّ تواصل مع مستعمليها، لكنّه من صلب هذا القمع الرسمي، شيّد إشاراته السيميائية هي "على هامشها إلى المرجعية أقرب، وكتابة هي ببلاغة الهامش أقرب"(48). ولعلّ بلاغة الهامش تلك، تتجلى في سلطة المعنى الصوفي الذي ظلّ يزاحم سلطة المعنى الرسمي، والمتصوفة قالوا بمعان لا تقال، وبذلك يكونون قد أصّلوا الكتابة الصوفية والبلاغة الصوفية التي نرى جانباً منها في نصوص رجل تملكه سؤال المعنى هو محمد بن عبد الجبار النفري.
(1) -الإشارات، ص105، 106.
(2) -الإشارات، ص217.
(3) -م.ن، ص200.
(4) -طه عبد الرحمن، في أصول الحوار، ص49.
(5) -م.ن، ص51.
(6) -عبد الرحمن حاج صالح، ((التحليل العلمي للنصوص))، ضمن بحوث في علوم اللسان، جمع وتصنيف وتقديم صالح بلعيد، مخطوط تحت الطبع، ج1، ص234.
(7) -الإشارات، ص292-298.
( -طه عبد الرحمن، في أصول الحوار، ص51.
(9) -الإشارات، ص236.
(10) -الإشارات، ص107.
(11) -مطاع صفدي، ((مغامرة الاختلاف والحداثة))، التداولي/التواصلي، مجلة الفكر العربي المعاصر، ع46، مركز الإنماء العربي، بيروت، باريس، 1987، ص11.
(12) -الإشارات، ص137.
(13) -J. Moeschler, Argumentation et Conversation, p.65.
(14) -الإشارات، ص349.
(15) -م.ن، ص216.
(16) -م.ن، ص104.
* -استندت في هذين المصطلحين إلى طه عبد الرحمن في تحليله لعلم الكلام، حيث يقول: وليس رجماً بالغيب أن نقول بأن تحديدنا للمنهج العقلي الكلامي بصفتي الفعل والمفاعلة قد يجري على قطاعات أخرى من الإنتاج الإسلامي، وذلك أن تصور علماء الإسلام للعلم يجعله دائماً باعثاً على العمل داخل الجماعة ومقيداً للعاملين... (في أصول الحوار، ص168).
(17) -محمود سليمان ياقوت، علم الجمال اللغوي (المعاني، البيان، البديع)، دار المعرفة الجامعية، 1995، ص338.
(18) -O. Ducrot & Ansconbre, L'argumentation dans le langue, Pierre Margada, edition, Bruxelles, 1980, p.10.
(19) -J.M.Adam, Les textes, Types et prototypes, Nathan, 1992, p.116.
(20) -السكاكي، يعقوب يوسف بن أبي بكر محمد بن علي، مفتاح العلوم، ضبط وتعليق نعيم زرزور، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1983، ص110.
(21) -محمد خطابي، لسانيات النص، ص116.
(22) -محمد العمري، في بلاغة الخطاب الإقناعي، مدخل نظري وتطبيقي لدراسة الخطابة العربية، الخطابة في القرن الأول نموذجاً، ط1، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، 1986، ص65.
(23) -الإشارات، ص239-240.
(24) -العسكري، كتاب الصناعتين، ص439.
(25) -م.ن، ص211.
(26) M.J.Borel, L,explication dans l,argu mentation langue francaise, N 50, paris, 1981, p.22
(27) Tzvetan Todorov, Mikhail Bakhtine, Le principe dialogique, Edition du Seuil, paris, 1981- p. 294.
(28) سعاد الحكيم، عودة الواصل، ص73.
(29) عبد السلام المسدي، "التوحيدي وسؤال اللغة"، مجلة فصول، ع3، مج14، الهيئة المصرية للآداب خريف 1995- ص133.
(30) الإشارات، ص382.
(31) المسدي، "التوحيدي وسؤال اللغة"، ص131.
(32) الهجويري، كشف المحجوب، دراسة وترجمة وتعليق إسعاد عبد الحق قنديل، مقدمة الكتاب، دار النهضة العربية، بيروت، 1980- ص23.
(33) التوحيدي، أبو حيّان، الإمتاع والمؤانسة، تصحيح وضبط أحمد أمين وأحمد الزين، منشورات المكتبة العصرية بيروت، د. ت، ج2-ص77-78.
(34) الإشارات، ص433-434.
(35) الإشارات ص40
(36) جون لاينز، اللغة، المعنى والسياق، تر: عباس صادق الوهاب، ط1- دار الشؤون الثقافية العامة (آفاق عربية)، بغداد 1987-ص210.
(37) الإشارات، ص233
(38) م.ن.ص19.
(39) م.ن.ص55
(40) م.ن.ص94.
(41) تامر سلوم، نظرية اللغة والجمال، ص68
(42) ياسر شرف محمد، حركة التصوف الإسلامي، منشورات وزارة الثافة، دمشق، 1984- ص172
(43) شوقي ضيف، الفنّ ومذاهبه في النثر العربي، ط7، دار المعارف، القاهرة، د. ت، ص169.
(44) يراجع م.ن،ص228
(45) علي دب، الأديب والمفكر أبو حيّان التوحيدي، ط3- الدار العربية للكتاب، تونس 1988- ص155.
(46) الإشارات، ص233-234.
(47) المسدي، التوحيدي وسؤال اللغة، ص154
(48) المسدي، التوحيدي وسؤال اللغة، ص154