"السرديات" في نماذج من النقد المغربي:
- التصور والإنجاز -
عبد الفتاح الحجمري
1 - تقديم:
لا أحد يجادل الآن أن النظر إلى السرديات كتصور وكاختيار يشكل بعدا منهجيا مؤطرا لتحليل يتعلق بالخطاب السردي، وهذا ما يثبت ارتباط السرديات بتحليل الخطاب وانخراطها ضمنه إسهاما في صياغة مقترح نظري وإجرائي يبحث في مكونات السرد وأنساقه، ولذلك كانت الفرضية التي نهضت على أساسها السرديات متمثلة في اعتبارها نظرية للحكي وعلما للسرد(1) له اقتضاءاته المعرفية الخاصة والتي يمكن أن نعود بها إلى المقدمات العامة التي صاغها الشكلانيون الروس في بداية هذا القرن عند اقتراحهم لإسهام البحث في تصور "الأدبية" وخصائص البناء والدلالة النصية(2). إن الانتباه إلى السياقات التاريخية والمعرفية لهذا التصور يساعدنا، من غير شك، على تبين الاستراتيجية العامة لنظرية تحليل السرد، مثلما يمكننا من فهم الخلفية الإبستمولوجية لمستوياتها التطبيقية، بهذا الإدراك، يبقى أفق الدراسة النصية/ الأدبية ممتلكا لغاية الاستفادة من تصورات هذه المنهاجية أو تلك في البحث عن تحققات المعنى، شريطة الوعي بحدود التصور وبيان التطور.
من المعلوم، أن الأدبيات السردية عرفت العديد من التطورات انطلاقا من الأبحاث التي أبرزها مشروع الشكلانيين الروس في دراساتهم للظاهرة الأدبية، وكذا استنادا إلى المبادئ التي صاغها فلاديمير بروب في "مورفولوجيته" خاصة، فأمام تطور البحث تجلى الاهتمام بمجال اشتغال السرديات في ضوء التحليلات المعاصرة للسرد والحكاية: حدد جيرار جنيت بحثه في المنهج ضمن (صور III)(3)، وغريماس الإجراءات العامة" للدلائلية البنيوية"(4)، كما اهتم رولان بارت بصياغة "مدخل للتحليل البنيوي للسرد"(5)، في الوقت الذي كان فيه تودوروف يحدد أهم قضايا "الشعرية"(6)، وهذا ما يسمح، على الأقل، بظهور نوعين من السرديات: الأولى موضوعاتية Thématique بالمعنى الواسع (تحليل الحكاية أو المضامين السردية)، والثانية شكلية Formelle، أو بالأخرى صيغية Modale: أي تحليل السرد كصيغة "لتمثل" الحكايات، في مقابل الصيغ غير السردية كالدراماتيكي، ومن غير شك أنواع أخرى غير أدبية، ويظهر في ارتباط بكل هذا، أن تحليلات المضمون والأنحاء المنطقية والسميائيات السردية لم تستخدم لحد الآن مصطلح السرديات الذي ظل الخاصية (المؤقتة؟) لمحللي الصيغة السردية(7)، وقد أفادت تطورات البحث أيضا ظهور اتجاهين معاصرين، متعارضين، بكل تأكيد، يخص الأول منهما ما يمكن تسميته ب "الشعرية السردية"، وثانيهما "السميائية السردية"، ففي الوقت الذي كان فيه (مثلا) جيرار جنيت يهتم بصياغة الإجراءات العامة لتحليله السردي (بلاغة السرد)، كان غريماس أيضا يبلور اتجاها يهتم بمشاكل السميائيات السردية (منطق السرد)، والتحاليل المنجزة في هذا المجال معروفة لدى أهل الاختصاص.
هكذا، إذا كان تطور السرديات قد ارتبط بمجال الدراسة الأدبية وخاصة الشعرية منها (أعمال: جنيت، تودوروف، ميك بال، ج.برانس…)، فإنها بإبرازها للجمالية الروائية المعاصرة، قد ارتبطت بصفة خاصة بمشكل الحكي من غير أن تبحث في تكوين نحو كلي للسرد(. بموازاة مع ذلك، سعت السميائيات السردية، والتي تطورت أساسا من أعمال غريماس، الانطلاق من "مورفولوجية الخرافة" لبروب، فبسطتها، نسقتها، وعممتها لتستخلص منها نحوا سرديا سيشكل النواة المركزية لهاته السميائية، من ثم، فإن النحو الكلي يميل إلى وصف كل السرود لكل المجتمعات، بل وحتى كل النصوص التي تعتبر قادرة على إيجاد كل الممارسات السميائية(9)، ونفس الطموح تصدر عنه الأبحاث المركزية للذكاء الاصطناعي حول السرد، وهو طموح تزامن مع ازدهار المعلوميات اللسانية حيث تم طرح مشكل "الفهم" الآلي للسرود بأدوات ومفاهيم دقيقة أبانت عن طموح نظري ومنهجي منفتح على العديد من الحقول المعرفية، وإذا كانت جل هذه الأبحاث تستجيب أكثر للخصائص التي تمظهرها النصوص السردية القصيرة، وإذا كان هاجسها الإشكالي قد ارتبط بمفهوم النحو، فإن الاستفادة كانت ستكون أعمق لو ارتكزت تلك الأبحاث على فهم السرد الذي ظل مفهوما حدسيا وبدهيا(10)، إن تحديد الإطار النظري والإجرائي للسرديات من زاوية البحث في "أسئلة المنهج" انطلاقا من "الخصوصية النصية" يعتبر قاعدة أولى لا تنسينا أن تحليل المستويات السردية للنص يمكن النظر إليها وفق مظاهر مختلفة (موضوعاتية، إيديولوجية، أسلوبية، على سبيل المثال)(11)، معنى ذلك، أن صياغة أي مقترح نظري/ منهجي إلا ويستجيب لمنطق الخاصية السردية للنص(12)، ولذلك، فإن إوالية السرديات: mécanisme de la narratologie والتي ليست لها أية علاقة بالفلسفة العامة، تتميز باحترامها لإواليات النص respect de mécanismes de texte(13).
ليست الغاية من عرضنا السابق، رغم الطابع الاختزالي الذي يطبع أهم فقراته، تركيز العناية على بحث الإشكالات التطبيقية فإمكانات السرديات، إن بحثا من هذا النوع يحتاج إلى حيز أرحب ودراسة متكاملة، ورب حكي منتظر، قال فاختصر!، لأجل ذلك، وحتى تكون خلاصتنا مركزة، سنختار نماذج معينة من التطبيقات النقدية نكتفي في هذا السياق، بالكشف عن بعض خلفياتها النظرية والإجرائية، وكذا تمثل منظوراتها في النظر إلى الأبعاد والحدود المعرفية التي تصورها في إنجاز المقاربة السردية وبناء نسقها التحليلي، ولا حاجة للتذكير في هذا المجال، أن البحث الجامعي بالمغرب عرف في السنوات الأخيرة إنجاز العديد من الدراسات التي اعتمدت السرديات كخلفية نظرية ومنهاجية، لا شك أن قراءتها اليوم ستفيدنا في استخلاص بعض/ أهم الإضافات التي حكمت أفق اشتغالاتها بهدف تقصي أنماط "التلقي المنهجي" وتتبع إمكانات تقبله.
وعيا منا بأهمية الملاحظات السابقة، سنخصص الفقرات الموالية من هذا التحليل لعرض مقصدية التأطير المنهجي لاعتماد السرديات، على نحو عام، في تطبيقات من الخطاب النقدي المغربي ورصد إشكالاتها بما يوافق الاختيار التمهيدي لتطبيقاتها النصية، لهذه الغاية، نقترح فهم مقصدية ذلك التأطير المنهجي لدى كل من:
1 - سعيد يقطين: تحليل الخطاب الروائي، المركز الثقافي العربي، 1989.
2 - عبد الله المدغري العلوي: السرديات: نظريات وتحاليل تلفظية للسرد، عكاظ 1989 (بالفرنسية).
3 - سعيد بنكراد: النص السردي، نحو سميائيات للإيديولوجيا، دار الأمان، 1996.
2 - السرديات وتحليل الخطاب:
تبدو الأطروحة التي ينطلق منها سعيد يقطين في تصوره لتحليل الخطاب الروائي ذات منطلقات متكاملة على مستوى تحديد المقدمات وتدقيق الخلاصات، صحيح أن أي تصور لتحليل الرواية عليه، لكي يكون فاعلا، أن ينطلق من خلفية نظرية قادرة على تعيين موضوعها ووجهة النظر الدالة على مبررات الاختيار والبلورة، بهذا المعنى، نستطيع التأكيد أن اهتمام سعيد يقطين في دراسته "تحليل الخطاب الروائي" ينطلق من المشروع النظري والتحليلي كما بلورته السرديات البنيوية من زاوية منحاها البويطيقي، وقد مكنه هذا المنطلق من معاينة جملة من المكونات المركزية في تحليل الخطاب السردي وتركيزه على المظهر النحوي أو البنيوي، مثلما مكنه أيضا في "انفتاح النص الروائي (1989)" من توسيع دائرة التناول والانتقال إلى مظهر آخر يخص الدلالة و/أو الوظيفة.
يستند تقديم المقترح المنهجي للسرديات وتشغيله لدى سعيد يقطين على معاينة العديد من الاعتبارات التصورية المرتبطة بتحليل الخطاب وإجراءاته المحددة للممارسة السردية والأوصاف الممكنة التي يستدعيها الشكل الأدبي، من ثمة، استفادة يقطين من مختلف الأدبيات السردية التي اعتمدها في تعميق أسئلة القراءة وتحديد موضوع النظرية السردية بطموح علمي منفتح، يتجلى هذا الأمر واضحا، مثلا، من دقة المدخل المخصص لتحليل الخطاب الروائي و "استعراض" تصورات البحث حول مقولات القصة والخطاب، والسرد أو الحكي، التعبير والمضمون، والنص الخ…، بيد أن الأساسي من تقديم يقطين للمقترح المنهجي للسرديات يتمثل، في ظني، ضمن التركيب الذي يعرض فيه لتصوره لقضايا "الحكي" و"السرد" و "حدود السرديات" و "القصة"، "الخطاب" و "النص"، إذا كان الحكي يتحدد، بالنسبة ليقطين، كتجل خطابي سواء كان هذا الخطاب يوظف اللغة أو غيرها (ص 46)، فإن اعتماده على معيار الصيغة سمح له بتأكيد توظيفه معيارا للتمييز بين الخطابات الحكائية حسب الاختصاص الذي يهتم ب "سردية" الخطاب السردي من زاوية السرديات باتجاهها الحصري: وهو الاتجاه الأقدم زمنا، نجد بوادره مع جيرار جنيت وتودوروف، ويقوم على أساس اتخاذ الصيغة معيارا؛ واتجاهها التوسيعي، وهو لاحق زمنيا، ويعرض له يقطين، من خلال وجهة نظر بول ريكور وميشيل ماتيو-كولاس (ص 47)، من هذا المنطلق، يبدو من المنطقي قراءة "تحليل الخطاب الروائي" في ارتباط ب "انفتاح النص الروائي"، مادام الإسهام المركزي لدراسة يقطين يميل نحو توسيع أفق اشتغال السرديات وفهم "سردية الخطاب الحكائي" من خلال ثلاثة معايير متكاملة: الصيغة، السرد، الزمن، يضاف إلى ما سبق تحديد آخر يبدو أكثر دقة سيعتمده يقطين لتأطير مجال التناول، ويتمثل في ما يدعوه ب "سرديات خطاب الرواية". لنتأمل دور هذا الإسهام في تبين حدود السرديات من زاوية أخرى: لتوسيع أفق اشتغال السرديات إطار نظري متنوع ومتعدد في الآن ذاته، كنا قد أشرنا آنفا انطلاق يقطين في تحليلاته من السرديات البنيوية، ولذلك فإن انتقاله إلى "سوسيولوجيا النص" (مع بيير زيما خاصة) انتقال مكنه من توسيع مجال السرديات أفقيا وتجاوز الحد النحوي إلى الحد الدلالي، وهذا ما يتجلى واضحا في قوله:
"لذلك وجدت العمل الذي أنهج يتقاطع مع سرديات الخطاب كما نجدها عند السرديين (جنيت، تودوروف)، ومع سوسيولوجيا النص الأدبي عند زيما (…) ولهذا يمكن اعتبار العمل الذي أقوم به توسيعا للسرديات أفقيا بأهم الإنجازات التي نجدها في سوسيولوجيا النص الأدبي"(ص 54).
نستطيع التأكيد، إذن، أن اهتمام يقطين بتوسيع أفق السرديات في "تحليل الخطاب الروائي" ينم عن رغبة الباحث في تعميق دائرة البحث السردي، من ثمة، راهنيته في ضوء ما توفر من حصيلة معرفية يختزل سؤالها المنهجي ما يوفره النص الأدبي/الروائي من خصوصية، بهذا المعنى، يدعونا سعيد يقطين للتفكير في الإمكانات التي ينبغي "للسرديات العربية" أن تتبين من خلالها مواقعها خاصة على مستوى الاستفادة من مستجدات النظرية الأدبية وطرائق فهمها لتصورات النص واللغة والثقافة والتاريخ، وغيرها من التصورات التي ساهمت بشكل وافر في تعميق مفهوم الأدب والدراسة الأدبية، من هنا ضرورة أن يمنح التحليل السردي للنص إمكانية تعميق النظرية، وإمكانية إيجاد التصور انطلاقا من الخصوصية النصية نفسها.
3 - السرديات، وتلفظية السرد..
تتحدد الغاية من دراسة عبد الله المدغري العلوي في كتابه (السرديات..) ضمن بعدين أساسيين: نظري-منهجي -وآخر تحليلي. يتخصص البعد النظري-المنهجي بتقديم تأمل نقدي لبعض الأعمال النظرية والتحليلية والخطابية للسرد، واقتراح مقاربة سردية قادرة على إدماج مختلف العناصر الإيجابية لتفادي مشاكل التحليل، بينما تنطلق المقاربة التحليلية من فهم الاشتغال الخطابي للنص السردي المتصل بالأدب المغربي المكتوب باللغة الفرنسية (أعمال: الطاهر بن جلون، إد. الشرايبي، إ.ع. المالح، ع. الخطيبي، ع.اللعبي، أ. الصفريوي).
يحتل الاهتمام بتصور السرديات في دراسة ع. المدغري العلوي أهمية خاصة، إن ما لاحظناه عند يقطين من رغبة في توسيع أفق السرديات أفقيا وفتحها على مجالات أخرى مجاورة، سنجد لدى ع. المدغري العلوي نظيرا له على مستوى فتح السرديات على تناولات صيغ التلفظ ضمن الأبحاث المتصلة بالاشتغال السردي، وهذا ما يدعو إلى إعادة النظر في مختلف المنطلقات النظرية القائمة على تصور السرد وإيجاد عناصر الائتلاف والاختلاف بينها تشييدا لمنظور متكامل في القراءة والتأويل.
أستطيع القول، أن مراعاة مختلف السياقات الخاصة بالحقل النظري لتصور مجالات التلفظ، أكسبت دراسة عبد الله المدغري العلوي أهميتها وقوتها الإجرائية، إن الانطلاق من النموذج التحليلي الذي بلوره جيرار جنيت جعل مساءلة السرديات في ضوء النظريات اللسانية والخطابية المعاصرة حول التلفظ، أمرا ممكنا، يبقى فقط تأكيد طبيعة الإضافة المنهاجية التي راهنت عليها هذه الدراسة، وهي إضافة ذات خلفية معرفية متحركة (أو دينامية)، أستطيع حصرها في ما يلي:
1-توسيع دائرة تحليل النص الروائي المغربي المكتوب باللغة الفرنسية بالانتقال من المقاربة المضمونية، أو التحليلنفسية، السوسيولوجية، السميولوجية والسردية، إلى تجريب آليات تخص الاشتغال الخطابي للنص السردي على المستوى الماكرو والميكرو نصي، إن الفرضية العامة لهذا الانتقال تتخذ من البحث في سؤال الكتابة توجها أوليا لاقتراح تمثل مرجعية محددة للنسق الأدبي على نحو عام.
2-حصر الخلفية المنهاجية لهذا النمط من التوسيع في توجيه تحليل النص السردي نحو الاستفادة من المقاربة الخطابية التي تعين على فهم آليات السرد ومناحيه الدلالية (راجع لتعميق هذه المعطيات تقديم المؤلف).
على هذا الأساس، فإن ما يثير الانتباه في "المقاربة النظرية للخطاب السردي" قابلية إسهام السرديات على تنويع مواقعها النظرية عبر: مقاربة مفهوم الخطاب (ص 7)، ومقاربة مفهوم التلفظ (10)، وكذا عبر: مقاربة السرد، والتذكير بتصور جيرار جنيت (ص 57) وغيره من التحاليل التي بلورتها مثلا تجارب كل من: جاب لينتفلت، كيت هامبورغر، هارالد فاينريش، باختين وديكرو، د.كوهن، بول ريكور. يبدو لي من خلال ما سبق أن طموح تحليل ع. المدغري العلوي واقتراحه لتوسيع أفق السرديات ينحصر ضمن اختبار المنطلقات الخاصة بالمقاربة التلفظية للسرد وفق.
أ - العالم الخطابي للسرد (ص 140)
ب - وجهة النظر (ص 143)
من ثمة، تبيان الأساس النظري للمقاربة التلفظية في ضوء تداخل الخطاطة التصورية للسانيات والسرديات، والاهتمام بأنماط تشكل المادة الحكائية وترهيناتها الخطابية، من هنا عمق الفهم الذي يمنحه ع. المدغري العلوي للسرديات كتصور وكمنهاجية نظرية وتحليلية ذات أهداف ومقاصد منفتحة في القراءة وإنتاج الدلالة.
4 - السرديات (السميائية) والايديولوجيا..
يتخذ التفكير في النص السردي لدى سعيد بنكراد مرتكزا نظريا وتحليليا قائما على انفتاح المنحى السميائي في المقاربة على الإشكالات المعرفية لتصورات الإيديولوجيا، بما هي مجال للاشتغال وتفجير المعنى. أن تنفتح السرديات على هذا المنحى معناه إعادة النظر في العديد من تحديدات النص السردي الممكنة والتي ندرك من خلالها ما يميز هذه البنية الحكائية عن غيرها. أعتقد أن تحليلات سعيد بنكراد تقع في ملتقى منطلقات تحليلية متكاملة تنطلق من البحث في المسارات المحيطة بأوضاع انفتاح "السرديات السميائية" على أنماط تشكل المعنى والإيديولوجيا داخل النص: هل عالم المعنى هو عالم الإيديولوجيا؟ وكيف يجعلنا نسق ما نعتقد أنه نسق ايديولوجي قابل للإدراك والتعريف؟
في ارتباط بهذا المقترح، تندرج كل ممارسة تأويلية ضمن ما يشكل عالم النص السردي والعالم الممكن، ويبقى بالإضافة إلى ذلك العالم الواقعي أحد الأنساق التي بموجبها يصبح العالم السردي عالما ممكنا. يبدو سعيد بنكراد على حق حين يعالج هذه القضايا في بحثه عن تصورات "السردية" ومواصفاتها الدلالية، لأن النص السردي، ضمن السرديات السميائية التي يدافع عنها بنكراد في هذا المؤلف، ليس مجرد تنظيم لملفوظات مرتبطة بسياقات ثقافية واجتماعية. بعبارة أخرى، ليس النص السردي مجرد تسنين لساني يحاول أن يوازي أو يماثل بين ذلك التنظيم وتمثلاته الذهنية المرتبطة به، إنه "سيرورة خطابية" تتشكل حسب أطوار ومراحل متباينة، وهذا ما يمنح للمستوى الأكسيولوجي والمستوى الايديولوجي قيمتهما في تحقيق بعض التحديدات الخاصة بتسنين النص السردي.
وهكذا، تنفتح السرديات السميائية على عدة أسئلة نظرية متداخلة تخص السرد والإيديولوجيا وعالم الممكنات والتسنين السردي والوقع الايديولوجي، ويصبح البحث في تخلق النص وأبنيته الدلالية مجالا لإظهار بعض الخصائص المميزة لخطاب التخيل، من هذا المنظور فإن اقتراح سرديات سميائية للإيديولوجيا يرتبط، لدى بنكراد، بقواعد بالإمكان حصرها في ما يلي :
1-الانطلاق من مساءلة التسنين السردي وضبط بعض مستوياته "النوعية" التي تسمح بتبين تحققات النص.
2-الاحتكام إلى تناول تحديدات العالم الممكن، ليس فقط على مستوى العلائق الكامنة بين الواقعي والتخييلي، ولكن أيضا على مستوى تمثل العالم الممكن بما هو بناء ثقافي يسمح للنص بإدراك العالم وتحيينه. إن المرور من الواقع إلى الخيال يحتاج إلى تسنين ايديولوجي وآخر سردي لتحقيق عالم الإمكان.
3-مساءلة أنساق النص السردي: إنتاج القيم، قواعد الفن، قواعد النوع التي تمنح النص دوما صياغة جديدة للقيم وتوزيعا جديدا لها.
في ارتباط بما سبق، يصبح كل حديث عن "السردية" و"الايديولوجيا" مقترنا بتقديم الخصائص الجوهرية لنظام الإرغامات التابعة له، مما يفيد أن تحقيق الإرغامات يتم على مستويين: إرغامات خطابية تضبط توزيع الوحدات الدلاللية وأشكالها المضمونية، وإرغامات سردية تقود نحو كون حكائي منسجم ومحكم البناء.
5 - تركيب:
من فهم "التصور" واختباره "بالممارسة"، تقدم لنا التجارب السالفة العديد من القضايا المنهجية المتعلقة بتطبيقات السرديات في الحقل النقدي المغربي المعاصر، وهذا ما حاولنا إثباته بالوقوف عند أهم الإشكالات النظرية وحصر فرضياتها الموجهة في مقترحات عامة نعتبرها مقدمة أولى لبحث إسهام الناقد المغربي في "تطوير" الأداة المنهجية و "تطويعها" وتجلية خصائص الإضافة، ويبقى فهم اشتغال المفاهيم في التحاليل المنجزة ذا أهمية بالغة، نعتقد أن بحثه ومساءلته يحتاج إلى منحى آخر من المقاربة، بناء عليه، بالإمكان حصر نتائج هذا التحليل في ما يلي من معطيات:
1 - أبانت الدراسات السابقة عن طموح نظري قادر على مساءلة مصادر ومرجعيات التصور العام للسرديات من حيث المفاهيم المستثمرة، ومن حيث الدقة العلمية للفعالية الإجرائية للغة الواصفة.
2 - اهتمام هذه الدراسات أيضا بتحديدها لمفهوم النص سواء تعلق الأمر بالسرديات البنيوية أو السرديات السميائية، والظاهر أن الاهتمام بتصور النص يساعد على ضبط الانسجام المنهجي والانفتاح على تحديداته الملائمة في البحث والتحليل.
3 - وأخيرا، بين تحليلنا السابق، اعتماد هذه الدراسات على توسيع أفق اشتغال السرديات البنيوية والسمائية واختبار مواقع نظرية متنوعة تهدف تعميق الدراسة والتحليل باستثمار: سوسيولوجيا النص الأدبي، نظرية التلفظ، ونظرية العوالم الممكنة على سبيل التمثيل لا الحصر.
الهوامش
1 - Todorov (T): Grammaire du Décaméron, Mouton, 1969, p.10
2 - Théorie de la littérature, Textes des Formalistes russes, réunis et présentés et traduits par: T.Todorov. Seuil, 1965.
راجع أيضا ترجمة: إبراهيم الخطيب: نظرية المنهج الشكلي، نصوص الشكلانيين الروس، "م.أ.ع.، سمير"، 1982.
3 - G. Genette: Figures III, Seuil, 1972.
4 - A.J. Greimas: sémantique structurale, larousse, 1966.
5 - R. Barthes: introduction à l'analyse structural des récit, communications 8/1966.
6 - T. Todorov: Qu'est ce que le structuralisme? Poétique, seuil, 1968.
7 - G. Genette: Nouveau discours récit, seuil, 1983, p.12
8 - F. Rastier: Sens et Textualité, Hachette, 1968, p.68.
9 - نفسه: ص69.
10 - نفسه: ص 69/70، استفدنا في تحرير هذه الفقرات من دراستنا: (الجملة السردية: التخييل وتركيب السرد، مقاربة مقطعية لرواية مغربية): انظر: الرواية المغربية، أسئلة الحداثة، مختبر السرديات، دار الثقافة، 1996، ص 101-102.
11 - G.Genette: Nouveau discours du récit, ibidem, p.7.
كما الشأن لدى 12 - Mieke Bal: Narratologie, klincksieck, 1977 :
13 - G.Genette: Nouveau discours du récit, ibidem, p.8