نقد أدبي > الإيقاع في فواصل القرآن الكريم 1
الإيقاع في فواصل القرآن الكريم
(الحلقة الأولى)
د. عمر عبد الهادي عتيق
مشرف أكاديمي في جامعة القدس المفتوحة
فلسطين جنين
إيقاع التجانس اللفظي في الفواصل
تبرز ظاهرة إيقاع التجانس اللفظي في كلمات الفواصل المتتابعة في مواضع كثيرة في القرآن الكريم، ولا نعني بهذه الظاهرة ما يعرف بالجناس اللفظي التام، وإنما نعني التجانس اللفظي الذي اصطلح عليه البلاغيون باسم "الجناس الناقص" وبخاصة اختلاف حرف واحد وسنعرض هذه الظاهرة وفق عدد حروف كلمة الفاصلة، وذلك لأهمية عدد الحروف في المستوى الإيقاعي لكلمة الفاصلة، فكلما زاد عدد الحروف المتجانسة بين الفواصل المتتابعة ارتفع المستوى الإيقاعي. وقد تحقق التجانس اللفظي في الفواصل في أربعة مستويات، وذلك على النحو الآتي:
أولاً: التجانس اللفظي الثلاثي، نحو قوله تعالى: ((ِحكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ{5} فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ{6})) {القمر}، فقد وقع التجانس في اللفظ الثلاثي(النذر، النكر) الذي اختلف فيه صوت واحد. وقد حقق هذا التجانس وحدتين إيقاعيتين (النون والراء ). وليس التجانس بين الصوتين هو المؤثر الوحيد في تشكل الإيقاع، وإنما ينهض موقع الصوت المختلف بدور إيقاعي هام، فقد يأتي الصوت المختلف في بداية الكلمة نحو قوله تعالى: ((فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً{29} قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً {30})) {مريم}، فقد اختلف الصوت الأول في اللفظين المتجانسين (صبيا، ونبيا ) مما وفر مساحة إيقاعية تجاور فيها صوتا الباء والياء المشددة، وقد يأتي الصوت المختلف في وسط الكلمة نحو قوله تعالى)) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً{33} وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً{34} )) {الكهف} فينشأ إيقاع مختلف عن الإيقاع في النموذج المتقدم، لأن الموضع الوسطي للصوت المختلف منع تشكل مساحة إيقاعية إذا جاءت الأصوات المتجانسة (النون والراء) منفصلة عن بعضها بعضا .
ثانياً: التجانس اللفظي الرباعي،ويتحقق إيقاع التجانس في هذا المستوي في الألفاظ الرباعية. ويؤثر الصوت المختلف في مستوى الإيقاع - كما تقدم - ففي قوله تعالى: ((وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً{49} قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً{50})) {الإسراء} وقع الصوت المختلف في بداية لفظي (جديدا وحديداً) مما أدى إلى تشكل مساحة إيقاعية مكونه من (ديدا)، وتقل المساحة الإيقاعية حينما يختلف الصوت الثاني نحو قوله تعالى: ((اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي{31} وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي)){32}{طه}، إذ إن وقوع الزاي والميم في (أزري وأمري) صوتا ثانيا قلص المساحة الإيقاعية إلى مساحة من صوتين (ري) فحينها يتقدم الصوت المختلف يتأخر المستوي الإيقاعي.
ثالثاً: التجانس اللفظي الخماسي، ويتحقق إيقاع التجانس في الألفاظ الخماسية، نحو قوله تعالى (( وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً{28} وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً)) {29}{الإسراء}، فقد جاء الصوت المختلف (الياء والحاء) في كلمتي (ميسوراً ومحسوراً) ثانياً فتشكلت مساحة إيقاعية من أربعة أصوات أصلية وهي (سورا)، في حين أن تقدم موضع الصوت المختلف يقلص المساحة الإيقاعية، نحو قوله تعالى: (( وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ{2} وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ{3})) القمر}، فقد جاء الصوت المختلف (الميم،القاف) في كلمتي (مستمر ومستقر) رابعاً مما أدى إلى فصل الأصوات المتجانسة (الميم والسين والتاء) عن صوت الفاصلة (الراء).
رابعاً: التجانس اللفظي السداسي: ويتحقق إيقاع التجانس في الألفاظ السداسية، نحو قوله تعالى)) َبلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ{22} وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ)){23}{الزخرف}، فقد تشكلت مساحة إيقاعية مكونه من أربعة أصوات وهي (تدون).
وقفنا فيما تقدم على عدد أصوات كلمات الفواصل، وعلى موضع الصوت المختلف في ظاهرة الإيقاع المتجانس، وخلصنا إلى تأثر المساحة الإيقاعية لكلمة الفاصلة بعدد الأصوات وموضع الصوت المختلف.
ويتأثر الإيقاع المتجانس في الفواصل بالملامح الصوتية للصوتين المختلفين، إذ ينجم عن هذه الملامح الصوتية شكلان من الإيقاع وهما:
1-الإيقاع التوافقي: ويعني أن الصوتين المختلفين في كلمات الفواصل ينتميان إلى مجموعة صوتية واحدة، نحو: المجموعة المفخمة، كما في قوله تعالى)) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ{39} بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ{40} )) {الأنبياء}، فقد تماثلت أصوات كلمتي الفاصلة (ينصرون وينظرون) ما عدا صوتي الصاد والظاء، وهذان الصوتان المختلفان يجمعهما ملمح التفخيم، فالإيقاع في هذه الحالة يجمع بين التجانس والتوافق، فقد تجانست أصوات الياء والنون والراء والواو والنون، وتوافق صوتا الصاد والظاء في ملمح التفخيم الذي ينجم عنه اثر سمعي إيقاعي يحوي تجانساً على الرغم من اختلاف الصوتين وكذلك التجانس والتوافق في كلمتي (ناضرة، وناظرة) في قوله تعالى: (( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ{22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)) {23}{القيامة}.
ويتحقق الإيقاع التوافقي في المجموعة الصفيرية، نحو قوله تعالى: (( وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً{9} وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً)) {10} {الجن}، فقد تماثلت أصوات الفاصلتين ما عدا صوتي الصاد والشين، فجمع الإيقاع بين التجانس والتوافق، إذ تجانس صوتا الراء والدال، وتوافق صوتا الصاد والشين في ملمح الصفير. وكذلك يتحقق الإيقاع التوافقي في أصوات الغنّة، نحو (نصير والمصير ) من سورة الحج (( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ{71} وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)) {72}
2-الإيقاع التقابلي: ويعني أن الصوتين المختلفين يتقابلان في ملامحهما الصوتية كالتقابل بين الجهر والهمس، أو التقابل بين التفخيم والترقيق نحو قوله تعالى)) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا{29} وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا{30})) {النازعات}، فقد وقع التقابل بين الصوتين المختلفين (الضاد والدال) في كلمتين (ضحاها، دحاها) فالضاد صوت مفخم يقابله صوت الدال المرقق، وهذا يعني أن الوحدات الصوتية في كلمات الفواصل متماثلة ولا تختلف إلا في ملمحي التفخيم والترقيق .
ومن العوامل المؤثرة في إيقاع التجانس مخرج الصوتين المختلفين، ونرى أن تماثل أو تقارب المخرج للصوتين المختلفين يحققان إيقاعاً لكلمات الفواصل أكثر من الإيقاع الذي يتحقق لكلمات الفواصل التي يكون مخرج الصوتين المختلفين فيهما بعيداً. ففي قوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ{2} خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)){3}{التغابن} تماثلت الوحدات الإيقاعية في كلمتي (بصير والمصير ) ما عدا صوتي الباء والميم وهما صوتان يتفقان في المخرج فهما صوتان شفويان ثنائيان، ولا يخفى أن تماثل آلية إنتاجهما يترك أثراً سمعياً أو لنقل أثراً إيقاعياً.
وقد يكون مخرج الصوتين المختلفين متقاربا، نحو مخرج الهمزة والعين في كلمتي (أليم، عليم ) (( لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ{63} أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) {64} {النور}، فالهمزة صوت حنجري، والعين صوت حلقي، وبين الحنجرة والحلق مسافة قصيرة. وكذلك مخرج الجيم والدال في كلمتي (الراجفة والرادفة) في قوله تعالى: (( يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ{6} تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ)){7} {النازعات}، فالجيم صوت غاري، والدال صوت لثوي أسناني، فقرب المسافة بين المخرجين يجعل الإيقاع متقارباً إلى حد ما، ولا يخفى أن آلية إنتاج الجيم تقربها من صوت الدال، إذ إن الجيم صوت مركب من الدال والشين، فهو صوت انفجاري احتكاكي، لأن طرف اللسان حينما يلتقي مع الغار ويسد مجرى الهواء لا يبتعد عن الغار بسرعة وإنما يبتعد ببطء فيسمح للهواء بالاحتكاك، فهو صوت يبدأ انفجاريا وينتهي احتكاكياً، وهذه الآلية أو الجزء الأول من الآلية تجعل صوت الجيم قريبا من صوت الدال.
ومن العوامل المؤثرة في إيقاع التجانس زيادة أو نقصان أصوات كلمة فاصلة عن أصوات كلمة فاصلة أخرى، وتتخذ الزيادة أو النقصان شكلين من حيث عدد الأصوات، الأول: نقصان وزيادة في صوت نحو قوله تعالى)) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ{27} وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ{28} وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ{29} إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ)){30}{القيامة}، فالفرق بين الفاصلة الأولى (راق) والفاصلة الثانية (الفراق ) هو صوت الفاء، والفرق بين الفاصلة الثالثة (الساق ) والفاصلة الرابعة (المساق ) هو صوت الميم.
والثانـي: نقصان وزيـادة فـي صوتين نحو قولـه تعالى)) وَالطُّورِ{1} وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ))
منقول
الإيقاع في فواصل القرآن الكريم
(الحلقة الأولى)
د. عمر عبد الهادي عتيق
مشرف أكاديمي في جامعة القدس المفتوحة
فلسطين جنين
إيقاع التجانس اللفظي في الفواصل
تبرز ظاهرة إيقاع التجانس اللفظي في كلمات الفواصل المتتابعة في مواضع كثيرة في القرآن الكريم، ولا نعني بهذه الظاهرة ما يعرف بالجناس اللفظي التام، وإنما نعني التجانس اللفظي الذي اصطلح عليه البلاغيون باسم "الجناس الناقص" وبخاصة اختلاف حرف واحد وسنعرض هذه الظاهرة وفق عدد حروف كلمة الفاصلة، وذلك لأهمية عدد الحروف في المستوى الإيقاعي لكلمة الفاصلة، فكلما زاد عدد الحروف المتجانسة بين الفواصل المتتابعة ارتفع المستوى الإيقاعي. وقد تحقق التجانس اللفظي في الفواصل في أربعة مستويات، وذلك على النحو الآتي:
أولاً: التجانس اللفظي الثلاثي، نحو قوله تعالى: ((ِحكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ{5} فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ{6})) {القمر}، فقد وقع التجانس في اللفظ الثلاثي(النذر، النكر) الذي اختلف فيه صوت واحد. وقد حقق هذا التجانس وحدتين إيقاعيتين (النون والراء ). وليس التجانس بين الصوتين هو المؤثر الوحيد في تشكل الإيقاع، وإنما ينهض موقع الصوت المختلف بدور إيقاعي هام، فقد يأتي الصوت المختلف في بداية الكلمة نحو قوله تعالى: ((فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً{29} قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً {30})) {مريم}، فقد اختلف الصوت الأول في اللفظين المتجانسين (صبيا، ونبيا ) مما وفر مساحة إيقاعية تجاور فيها صوتا الباء والياء المشددة، وقد يأتي الصوت المختلف في وسط الكلمة نحو قوله تعالى)) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَراً{33} وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً{34} )) {الكهف} فينشأ إيقاع مختلف عن الإيقاع في النموذج المتقدم، لأن الموضع الوسطي للصوت المختلف منع تشكل مساحة إيقاعية إذا جاءت الأصوات المتجانسة (النون والراء) منفصلة عن بعضها بعضا .
ثانياً: التجانس اللفظي الرباعي،ويتحقق إيقاع التجانس في هذا المستوي في الألفاظ الرباعية. ويؤثر الصوت المختلف في مستوى الإيقاع - كما تقدم - ففي قوله تعالى: ((وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً{49} قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً{50})) {الإسراء} وقع الصوت المختلف في بداية لفظي (جديدا وحديداً) مما أدى إلى تشكل مساحة إيقاعية مكونه من (ديدا)، وتقل المساحة الإيقاعية حينما يختلف الصوت الثاني نحو قوله تعالى: ((اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي{31} وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي)){32}{طه}، إذ إن وقوع الزاي والميم في (أزري وأمري) صوتا ثانيا قلص المساحة الإيقاعية إلى مساحة من صوتين (ري) فحينها يتقدم الصوت المختلف يتأخر المستوي الإيقاعي.
ثالثاً: التجانس اللفظي الخماسي، ويتحقق إيقاع التجانس في الألفاظ الخماسية، نحو قوله تعالى (( وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً{28} وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً)) {29}{الإسراء}، فقد جاء الصوت المختلف (الياء والحاء) في كلمتي (ميسوراً ومحسوراً) ثانياً فتشكلت مساحة إيقاعية من أربعة أصوات أصلية وهي (سورا)، في حين أن تقدم موضع الصوت المختلف يقلص المساحة الإيقاعية، نحو قوله تعالى: (( وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ{2} وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ{3})) القمر}، فقد جاء الصوت المختلف (الميم،القاف) في كلمتي (مستمر ومستقر) رابعاً مما أدى إلى فصل الأصوات المتجانسة (الميم والسين والتاء) عن صوت الفاصلة (الراء).
رابعاً: التجانس اللفظي السداسي: ويتحقق إيقاع التجانس في الألفاظ السداسية، نحو قوله تعالى)) َبلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ{22} وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ)){23}{الزخرف}، فقد تشكلت مساحة إيقاعية مكونه من أربعة أصوات وهي (تدون).
وقفنا فيما تقدم على عدد أصوات كلمات الفواصل، وعلى موضع الصوت المختلف في ظاهرة الإيقاع المتجانس، وخلصنا إلى تأثر المساحة الإيقاعية لكلمة الفاصلة بعدد الأصوات وموضع الصوت المختلف.
ويتأثر الإيقاع المتجانس في الفواصل بالملامح الصوتية للصوتين المختلفين، إذ ينجم عن هذه الملامح الصوتية شكلان من الإيقاع وهما:
1-الإيقاع التوافقي: ويعني أن الصوتين المختلفين في كلمات الفواصل ينتميان إلى مجموعة صوتية واحدة، نحو: المجموعة المفخمة، كما في قوله تعالى)) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ{39} بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ{40} )) {الأنبياء}، فقد تماثلت أصوات كلمتي الفاصلة (ينصرون وينظرون) ما عدا صوتي الصاد والظاء، وهذان الصوتان المختلفان يجمعهما ملمح التفخيم، فالإيقاع في هذه الحالة يجمع بين التجانس والتوافق، فقد تجانست أصوات الياء والنون والراء والواو والنون، وتوافق صوتا الصاد والظاء في ملمح التفخيم الذي ينجم عنه اثر سمعي إيقاعي يحوي تجانساً على الرغم من اختلاف الصوتين وكذلك التجانس والتوافق في كلمتي (ناضرة، وناظرة) في قوله تعالى: (( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ{22} إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)) {23}{القيامة}.
ويتحقق الإيقاع التوافقي في المجموعة الصفيرية، نحو قوله تعالى: (( وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً{9} وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً)) {10} {الجن}، فقد تماثلت أصوات الفاصلتين ما عدا صوتي الصاد والشين، فجمع الإيقاع بين التجانس والتوافق، إذ تجانس صوتا الراء والدال، وتوافق صوتا الصاد والشين في ملمح الصفير. وكذلك يتحقق الإيقاع التوافقي في أصوات الغنّة، نحو (نصير والمصير ) من سورة الحج (( وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ{71} وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)) {72}
2-الإيقاع التقابلي: ويعني أن الصوتين المختلفين يتقابلان في ملامحهما الصوتية كالتقابل بين الجهر والهمس، أو التقابل بين التفخيم والترقيق نحو قوله تعالى)) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا{29} وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا{30})) {النازعات}، فقد وقع التقابل بين الصوتين المختلفين (الضاد والدال) في كلمتين (ضحاها، دحاها) فالضاد صوت مفخم يقابله صوت الدال المرقق، وهذا يعني أن الوحدات الصوتية في كلمات الفواصل متماثلة ولا تختلف إلا في ملمحي التفخيم والترقيق .
ومن العوامل المؤثرة في إيقاع التجانس مخرج الصوتين المختلفين، ونرى أن تماثل أو تقارب المخرج للصوتين المختلفين يحققان إيقاعاً لكلمات الفواصل أكثر من الإيقاع الذي يتحقق لكلمات الفواصل التي يكون مخرج الصوتين المختلفين فيهما بعيداً. ففي قوله تعالى: ((هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ{2} خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ)){3}{التغابن} تماثلت الوحدات الإيقاعية في كلمتي (بصير والمصير ) ما عدا صوتي الباء والميم وهما صوتان يتفقان في المخرج فهما صوتان شفويان ثنائيان، ولا يخفى أن تماثل آلية إنتاجهما يترك أثراً سمعياً أو لنقل أثراً إيقاعياً.
وقد يكون مخرج الصوتين المختلفين متقاربا، نحو مخرج الهمزة والعين في كلمتي (أليم، عليم ) (( لَا تَجْعَلُوا دُعَاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاء بَعْضِكُم بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ{63} أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)) {64} {النور}، فالهمزة صوت حنجري، والعين صوت حلقي، وبين الحنجرة والحلق مسافة قصيرة. وكذلك مخرج الجيم والدال في كلمتي (الراجفة والرادفة) في قوله تعالى: (( يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ{6} تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ)){7} {النازعات}، فالجيم صوت غاري، والدال صوت لثوي أسناني، فقرب المسافة بين المخرجين يجعل الإيقاع متقارباً إلى حد ما، ولا يخفى أن آلية إنتاج الجيم تقربها من صوت الدال، إذ إن الجيم صوت مركب من الدال والشين، فهو صوت انفجاري احتكاكي، لأن طرف اللسان حينما يلتقي مع الغار ويسد مجرى الهواء لا يبتعد عن الغار بسرعة وإنما يبتعد ببطء فيسمح للهواء بالاحتكاك، فهو صوت يبدأ انفجاريا وينتهي احتكاكياً، وهذه الآلية أو الجزء الأول من الآلية تجعل صوت الجيم قريبا من صوت الدال.
ومن العوامل المؤثرة في إيقاع التجانس زيادة أو نقصان أصوات كلمة فاصلة عن أصوات كلمة فاصلة أخرى، وتتخذ الزيادة أو النقصان شكلين من حيث عدد الأصوات، الأول: نقصان وزيادة في صوت نحو قوله تعالى)) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ{27} وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ{28} وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ{29} إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ)){30}{القيامة}، فالفرق بين الفاصلة الأولى (راق) والفاصلة الثانية (الفراق ) هو صوت الفاء، والفرق بين الفاصلة الثالثة (الساق ) والفاصلة الرابعة (المساق ) هو صوت الميم.
والثانـي: نقصان وزيـادة فـي صوتين نحو قولـه تعالى)) وَالطُّورِ{1} وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ))
منقول