التمهيد
مفهومُ التّصوف وأثره في نشأةِ القصَّةِ الصّوفيةِ وتطورها في العصرِ العبّاسي
1-مفهوم التصوف وعالميته:
قد يبدو لمتسائلٍ أن يبحث في الجدوى الكامنة وراء هذا التمهيد لنشأة القصة الصوفية في العصر العباسي، ما دام التصوف قد انبنت مفهوماته واتجاهاته من خلال قرون من الدرس والتأليف، قديماً وحديثاً، وتأصّلت له في الأذهان هيئة مخصوصة ضَمنتها كتب التراجم والطبقات، والرسائل الصوفية، أو المصنّفات الفلسفية والأدبية فضلاً عن التاريخية والدينية؟ والإجابة، على هذا التساؤل تتخذ المسوغات الآتية دافعاً لها يدعم غايتها المنشودة في تسطير هذه الفقرة:
أولاً:ثمة قناعة تتبنّى هذه الدراسة رصانة فرضيتها، وهي أن الأدب –لا شك جزء من منظومة دينية اجتماعية سياسية نفسية تاريخية فكرية، وأن أي بحث يقطع –أو لا يعرف- صلة مفاصل هذه المنظومة مع الأدب، لهو بحث فاقد لمصداقية أهدافه ونيّاتهِ ومن ثم خطأ استنتاجاته بل عقمها وسطحيتها.
ثانياً: القصة الصوفية، جنس أدبي (قصة) موصوف بـ مذهب فكري وديني ومعرفي (الصوفية)، فهي إذن تطرح، في بناها التعبيرية وأساليب تشكيل رؤيتها الفنية والموضوعية، مفهومات فكرية ودينية، بل تمثل فلسفته في الوصول إلى الحقيقة والسعادة والكمال، فهي أدب معرفي أو من قبيل تحميل الأدب بإيديولوجيا، والنظر في أنظمته المجردة والمسطورة في طروحات مصنفات الصوفية الكثيرة. والحق أن هذا الأمر مطلب عقلاني ينبغي توافره لمن يعد نفسه لدراسة مقومات بنية جنس أدبي يمثل مذهباً فكرياً له أهمية كبيرة في تاريخ الفكر العربي الإسلامي، هذا من جانب. ومن جانب آخر سيضيء لنا هذا البحث أسباب اللجوء إلى القص، في الوقت الذي هو (الصوفي) قادر على زج تجربته الصوفية في أشكال تعبيرية أخرى.
ثالثاً: وأجدها الأكثر جدوى. تتمثل في حاجة البحث إلى التمهيد له بمفهوم التصوف، في تشخيص النماذج القصصية التي هي مدار دراسة الفصول القادمة مفتشة فيها عن تقنية السرد، فبماذا تتسم القصة لكي يسوغ لنا عدّها صوفية؟ ما المفهوم الذي تحمله القصة لكي تصح تسميتها أو نسبتها إلى التصوف؟ هل هو المفهوم الأخلاقي الزهدي، أم العرفاني، أم الفلسفي.
فالوقوف على مفهوم التصوف مجسد تطبيقياً في النماذج الحكائية الصوفية، سيكون خير معين للبحث على المحتوى الفكري للتصوف الذي هو عالمي وإنساني في مضامينه بين العرب وغيرهم من الأمم الأخرى، وبين المسلمين وغيرهم من الديانات الأخرى، فإن كان ثمة فرق نسبي بين طرائق التصوف ومقولاته، إلاّ أن التصوف، بوصفه تجربة إنسانية تنشد تحرير الذات البشرية من أسر المادة والشهوات والانطلاق بها نحو عوالم الغيب والطهارة والسمو، هو جوهر متشابه بين شعوب الأرض على اختلاف الجنس أو البلد أو العقيدة.
***
بدأ التصوف دينياً وأخلاقياً ولا يعني ذلك خلوه من الفكر المعرفي سواء أكان ذلك في الأديان الكتابية أم غير الكتابية، وانتهى التصوف فلسفياً في تجاربه العالية قبل أن تنصرف إلى تحويله العامة من المسلمين إلى مجرد مشيخة طرق صوفية تحكمها الضلالات والبدع وهذه يستمر وجودها إلى يومنا هذا.
التصوف، جوهراً فكرياً، يمثل مرحلة راقية من مراحل تطور الفكر الديني حين تتدخل القوى العقلية في إثبات قدرتها على الإدراك إلى جانب النص الديني، إنها حركة إيقاظ للقدرة التأويلية للتفكير الإنساني في مواجهة مجاهيل الكون وخفايا الإنسان وحقيقة الخالق عز وجل وسبيل الوصول إليه، نعم فما أنتجه الفكر الصوفي، من حيث الأصالة، هو اجتراح طريق جديدة للمعرفة والإدراك طريق تتجاوز حدود العقل ومقاييسه المنطقية، وكذلك الحس ومعاييره المادية، فكان أن اجترحوا رؤية (القلب) أو (الحدس) أو (الذوق) والحقيقة أن هذه المسميات ما هي إلا تعبير عن ذلك الصراع الذي واجه الصوفي ثقله ومتاعبه، وهو ممثل بحقيقة مفادها: إن (الحقائق الظاهرة) أمكن أن يتم الوصول إليها عن طريق الحس فتدرك طبيعتها المادية، فناسب المدرك بوسيلته المتبعة، أو أن يتم إدراكها عن طريق الاستدلال والمنطق المحسوب فذلك هو طريق العقل، فالحس، إذن والعقل وسيلتا المعرفة الإدراكية للحقائق الظاهرة، أما (الحقائق الباطنة)، فهي سبيل مختلفة فلا بد وأن يتم انتخاب وسيلة تتناسب مع نوع هذه الحقائق، حين توقف (الحس والعقل) عن الفعالية في الإدراك؛ فكانت الرؤية القلبية والحدس والذوق، أي مزيج من استعداد فطري ومؤهلات اكتسابية بعد رياضة وإجهاد وسياسة للنفس.
أ-جذور التصوف في الفكر الديني في العراق القديم:
أول ما ينبغي البحث في جذور التصوف في العالم، لا بد أن نبدأ من البداية الصحيحة –تاريخياً- في تسلسل ولادة الحضارات الإنسانية على الأرض، ما دامت هذه الفقرة التمهيدية تبحث في جذور التصوف وبداياته. والبداية الصحيحة –تاريخياً- هي في بلاد وادي الرافدين والحضارات التي نشأت على أرض العراق القديم من سومرية وأكادّية وآشورية بدءاً من الألف الثالث ق.م. بوصفه التاريخ الصحيح لأمة العرب والجذر الحضاري الذي انطلقت لتنير للبشرية طريق الحرف والآداب والعلوم والحضارة. وليس تلك
(150 أو 200) سنة قبل الإسلام التي دأب الدرس الأدبي على أن تكون مقولة (الجاحظ) هي المحدد لعمر شعر العرب والعربية.
بناءً على ما سبق، فإن عنصر التفوق الزمني والحضاري الذي تجسد في الحضارة العراقية القديمة لا بد وأن يتزامن مع تفوق فكري وعقائدي. والحق أن هذه الفكرة ظلت تلح على الباحثة حتى سنحت الفرصة للحصول على مصادر تخص الموضوع للوقوف على هذه المسألة تصريحاً أو استنباطاً. فبدا أن موضوعة التصوف شديدة الارتباط بمفهوم الدين، ففي الفكر العراقي القديم بدا الدين بشكل (غريزي وعميق، ليس باتجاه أفقي كما هو حب البشر، بل عمودي، أي ليس نحو شيء حولنا، بل فوقنا، إنه الشعور الغامض بوجود نظام للأشياء هو أسمى منا، ومن كل ما يحيط بنا هنا، فلا تكتمل ذواتنا إلا بالاتجاه نحوه)( )، هذا يعني أن صفة الإحاطة والكمال والهيبة هي الصفات الإلهية التي عرفها الإنسان العراقي القديم، على الرغم من الطابع الوظيفي الذي طبع مهمة كل إله، فللريح إله وللخصب إله وللحب آلهة و.. وهكذا. وهذه مسألة طبيعية بحكم الديانة الوثنية. لكن تعدد الآلهة لم يغلق الباب أمام التفكير في ما وراء الأشياء، بل إن (تعدد الآلهة المعبودة وعدم وجود إجابات قاطعة لتساؤلات أزلية غير قابلة للإجابة، جعلت الإنسان في العراق القديم يفكر في ديانة وحدانية الإله)( )، فغلب استخدام رمز (الطريق) أو (البوابة) للدلالة على ما وراء ذلك التعدد فهو لا بد منته إلى (واحد) كامل، مطلق، لا نهائي.
والحقيقة، إن وجود هذه البوادر في التفكير الديني (الكهنوتي) المدون من قبل السلطة الدينية، يدعو إلى التفكير –افتراضاً- في أن فكرة (الوحدانية) ليست ببعيدة عن مستوى التفكير (الشعبي) ولا سيما الطبقات الكادحة من العمل والعبيد، التي تجد في النظام الوثني الكهنوتي رمزاً لسلطة السياسية في البلاد، ويعزو السيد (جورج لونتينو) فشل الفكر البابلي في بناء نظام ديني متجانس، إلى كون الشكل العقائدي قد تقرر سلفاً وليس بسبب ضعف ما في النظام نفسه( ). وإذا كانت ثمة لمحة (يتسامى) فيه التفكير الديني، فهذا لا يعني أن ديانة وادي الرافدين (تصوفية) على رأي (جان بوتيرو)( )، فيرى أن فحوى الترانيم الدينية تعرب عن نوع من التسامي في النظر إلى الآلهة فتبقى الأخيرة محتفظة بسطوتها الاستعلائية، ولا يتقرب إليها العبد حباً بل خوفاً وطمعاً، قال ذلك إبان تعليقه على ترنيمة الإله شمش التي مطلعها:
[يا شمش.. منير السماء كلها، مضيء الظلمات
يا راعي هذا العالم وما تحته
إن شعاعك يكتنف العالم مثل شبكة
وحتى أبعد الجبال..]( ).
في حين، يرى (جورج لونتينو)( )، إن (بدايات التصوف)( ) شهدت بوادر ظهورها في الأدب الرافديني القديم، فلقد كان على المؤمن في الماضي أن يخشى الإله وهذا جزء من واجبه. لكن معنى هذه العبارة قد اتسع حتى صار تمجيداً سامياً لا يدرك، وعندما قورنت العبادة بالخوف من الإله صار من الممكن تحويل هذا الخوف إلى غاية للحب. كما يوجد ذلك في قصيدة (آلام الرجل الصالح Ludlul bal nemeqi)( ). الذي يقضي حياته بالتأمل الذاتي، والانقطاع للتحسر والعبادة. ثم سائر (الترنيمات) التي تمجد الآلهة بشكل اعتراف بقدرة هذه الآلهة وتمكنها وأزليتها( ). فترتفع عن صفة (الدعاء) طلباً لمنفعة أو تجنباً لضر، فضلاً عن ما ترشح به روحية تلك (المحاورات)( ) التي تأخذ شكل السرد الساخر ذي الطابع الفلسفي العميق ولا سيما محاورة (العبد والسيد)، التي تفصح عن ضعف الإنسان إزاء رغباته المتضادة. وحضور المسوغات التي تؤيد السلوك ونقيضه. وما موقف الملك (كلكامش) في الملحمة الشهيرة حين وصلت رحلته إلى نهاية مطافها حين تكشفت له حقيقة الوجود الإنساني الآيل إلى الفناء الجسدي، فبدا التفكير في الخلود الأخلاقي من خلال الصنيع الطيب والأعمال الجليلة( ). كل تلك إشارات يمكن لمن يجيد النظر في المؤتلفات فيها أن نستنتج حقيقة شاخصة تتمثل في كون التصوف بوصفه حاجة إنسانية ولد مع الإنسان وينمو معه بوصفه حاجة إنسانية ونفسية للخلاص والسمو والصفاء الروحي الذي لا بد وأن تسعى إليه النفس البشرية مهما تكن درجة صرامة الفكر السائد ضمن أي مرحلة تاريخية من عمر البشرية.
ب-في الفكر اليوناني:
من هذه النقطة، يمكن تفسير ولادة التصوف، تاريخياً، في حضن الدين الذي يجترح طريقاً جديدة للمعرفة تتجاوز محدودية الناسوت لاستقبال إشراق اللاهوت الموجود والفاعل ولكن غير منظور، وقد عبر التفكير اليوناني القديم عن هذه الرؤية الانقسامية بشكل مغاير، إن جعلوا الإنسان نصفين، نصف إلهي، والآخر أرضي، وهم على وجه الخصوص عبدة الإله (باخوس) إله الخمر أو (ديونيسوس)؛ فعن طريق السكر يلغى أو ينتشي الجانب الأرضي ليستفيق الجانب الروحي الإلهي( ) في غزارة وتفتح وارتقاء، حتى يصل هذا المرتقى، من خلال طقوس خاصة. إلى ما يدعونه بـ (التوحد)؛ أي اتحاد الله مع المتعبد، بهذا الفكر يجعلون النقص يستحكم شطراً من الإنسان، ومن خلال التصوف وإلغاء الحاجات الحسية، تعرج الروح في عالم الغيب –عند غير المتصوف- وهو الشهود والحضور بالنسبة إليه..، بينما الحال في التصوف الإسلامي، يعتمد على القول بإله واحد (Theism)، والمتصوف –بهذا المبدأ- يبدأ بالله. وبه ينتهي؛ لأن الصوفي المسلم يسلم بحقيقة أولية بوجود الله عز وجل والنفس البشرية بميولها الشهوانية تبعده عن هذا الملكوت فتكون التصفية لإيضاح السبيل إلى الله، فالصوفي المسلم إذن لا يمكن أن يعد جوهر نفسه هو الغاية. والنهاية، والمصدر كما يذهب إلى ذلك التصوف الهندي، بل ثمة إله هو مجلى الكمال والجبروت والمحبة، وهو يدنو منه بقدر ما يتشبه بصفاته، جهد الطاقة، وثمرة الفضل( ).
ج-في الفكر الهندي:
أما المتصوف الهندي، فقد بدأ بـ الوحدة المطلقة (Monism) وانتهى إلى مثل ما بدأ، هذا يؤيد القول أن المذهب أو العقيدة تعد الصوفي كالخريطة تحدد عليها المواقع بصورة رمزية، ويبقى على المتصوف أن يجرب بقاعها على الطبيعة( ) وقبل مئتي سنة قبل الميلاد، أنكر (شانكار) الهندي معرفة الحواس التي لا تكشف عن الواقع الخارجي كما هو ذاته، بل تكشف عن طريقة تشكيلنا له بحواسنا.. فالحس قاصر عن إدراك الحقيقة بتمامها( ) فنظروا إلى محدودية الحس عن الإدراك الكلي للحقائق والتفكير في سبيل أخرى، هذا السبيل هي الطريق الصوفي عند المسلمين، سواء أكانت هذه الرحلة إلى الله ظاهرية، أم خارجية (Extrovertive) أو باطنية داخلية (Introvertive) تتم عن طريق الرؤيا الحلمية أو الاستبطان والهجس الواعي، فهي عملية (توجه القلب إلى الحق) على تعبير (القاشاني)( )، أما وسائل هذا التوجّه فهي جملة مقامات –تعد أجلى ما أبدعه الفكر الصوفي- يدخل من ضمنها: التوبة، والورع، والزهد، والصبر والشكر.. إلخ مقامات تشكيل الطريق الصوفي في الإسلام، وهي ذاتها المراحل الثلاث في التصوف المسيحي، من حيث فكرة التصفية والتدرج، والمراحل هي:
مرحلة الطهارة Purgation
مرحلة التنور أو الإشراق Illuminative
مرحلة الاتحاد Unitive
الواضح، أن هذا التشابه في التفكير مع بعض الاختلاف( ) في التسميات، يجعل من العسير الوقوف على المؤثر والمتأثر؛ القضية التي شغلت الناس قديماً وحديثاً، عرباً ومستشرقين، فاستند المستشرقون إلى قول (البيروني ت962هـ) في انتماء التصوف الإسلامي إلى أصول هندية( )، ولا سيما قولهم بتناسخ الأرواح يقابل مبدأ الحلول والفناء عند متصوفة المسلمين، وفي القول تجوز، ذلك أن التصوف الإسلامي يلتزم بفكرة الألوهية المحورية وما طروحات الحلاج والجنيد إلا كلام ينصرف إلى عدة احتمالات تأويلية( )، ففكرة (الزفانا) في التصوف الهندي هي فناء الفرد تماماً ثم تجدده بكيان آخر عبر عملية دعوها بـ (الاستنارة) والتي تتم عبر ثلاث مراحل:
الأولى: اعتناق آراء قويمة عن طبيعة الوجود.
الثانية: تطبيق نظام محكم للسلوك الخلقي.
الثالثة: التركيز والتأمل( ).
ومن يبلغ مرتبة الاستنارة يطلق عليه لقب (بوذا) أي الفرد المستنير، ولا تعترف البوذية إلا بإنسان واحد بلغ درجة الاستنارة الكاملة هو (جوتاما بوذا)، وهي قريبة الشبه بفكرة الإنسان الكامل في اللاهوت المسيحي، وغير بعيد عن مفهوم (النور القاهر) أو فكرة الجوهر الإلهي عند متصوفة إيران الذي يقوم على أساس ثنائية النور والظلمة التي هي من خوص إيران القديمة( )، وكذلك فكرة تحصيل كلية الإدراك في الطريقة (التاوية) في الصين والتي شرحها (لاوتسه) في عهد الحكيم (كونفوشيوس)، و(تاو) تعني الطريق أو السفر أو السالك في الطريق، ولحظة الاتحاد بـ (التاو)، تحصل كلية الإدراك لكل الموجودات في العالم دون أن يغادر الصوفي بيته( ).
استنتاج:
أجد ثمة اتفاقاً في الفكر التّصوفي العالمي، على حاجة إنسانية تنزع نحو الكمال والسعادة، اختلف التعبير عن هذه الحاجة التي اتخذت لها (الدين) أو الفكرة الإلهية، محوراً وهدفاً، إيماناً أن الإنسان بـ محدودية قواه الإدراكية والجسمانية، ليس مؤهلاً لأن يكون هو غاية الغايات لأن مصيره الفناء أي الزوال، لذا كانت كل فكرة (يؤمن بها الصوفية تنطوي على فكرة واحدة أصلية، شاملة لكل ما عداها، وتلك هي بطلان الظواهر وقيام الحقيقة فيما وراءها)( ). فالبحث في أسبقية الفكرة الصوفية، وتحديد أي الحضارات أسبق من الأخرى، وإنها المتأثرة، لهو بحث يحمل في نياته بذور تهافته بلّةَ تشيعهِ وانتصاره لحضارةٍ دون أخرى.
***
الأساس الراكز الذي ينبغي توجيه النظر إليه، هو البحث في البواعث والعوامل والمسببات التي أنتجت هذا التفكير الصوفي وحددت ملامحه واتجاهاته، فالظاهرة وليدة ظرفها ودواعيها التاريخية والنفسية والاجتماعية والسياسية من خلال انعكاس هذه الدواعي على الذات الإنسانية، وانفعالها بمعطياتها، فتصدر استجابات لهذه الدواعي تتخذ هذا المنحى أو ذاك. هذا فضلاً عن أن التصوف الإسلامي يتسم بصفة (التنوع) في التجربة الصوفية عند المتصوفين؛ فالتجربة الصوفية عند التستري هي ليست ذاتها عند الجنيد أو الحلاج أو الداراني أو ابن عربي.. فلو كان المؤثر واحداً، ما تنوعت هذه التجارب حتى أثمرت مدارس في التصوف واتجاهات متحدة، ولكان التصوف قوالب موروثة تضيق بأية أصالة في الفكر أو ابتكار وتجديد. فالتصوف الإسلامي وليد مباحث الفكر الإسلامي في معنى التوحيد وصفات الخالق عز وجل، ودعوة الإسلام إلى الزهد واستقلال متع الدنيا، فكان الكتاب والسنة هما المنهل الذي نهلت منه فكرة التصوف تعاليمها، ومن ثم كثر اختلاط المسلمين بالأعاجم سواء من كان منهم على دين الإسلام، أم النصارى الذين يعيشون بين ظهراني المسلمين؛ تجارة، أو مجاورة في البلاد الإسلامية، فكان حقيقاً أن تنتقل الأفكار الغنوصية والفلسفة، اليونانية والفكر الديني عند الهنود والصينين والفرس( )، فتتفاعل الثقافة الوافدة مع الثقافة الأصلية في خلال زمن ليس باليسير أنتج تلك الخلاصة العلمية من ناتج امتزاج وتجاور وتحاور ثقافات العالم في البلاد الإسلامية، إلا وهي (علم الكلام) الذي يعد الرافد الأهم في تغذية التفكير الصوفي في مختلف اتجاهاته ومذاهبه.
هذا فضلاً عن حقيقة أجدني على قناعة بها تامة، تفيد أن التصوف هو من الميول الأصيلة عند الإنسان مثل حاجة الإنسان إلى الأديان مثلاً وحاجته إلى (كيان) يخافه ويرجوه، فالتصوف –من هذا المنطلق- ميل فطري أصيل في الذات الإنسانية فـ(في كل إنسان شخصية صوفية، تحتاج إلى من يوقظها من سباتها)( ). وتكمن البذرة التصوفية في كل إنسان، في إحساس عميق يتمحور حول حقيقة فكرية أساسها تأدية الفرائض واعتناق الدين، تأدية لذاتها وليس ابتغاء لمردوداتها الحسنة في عالم الدنيا أو عالم الآخرة؛ اجتلاب خير وثواب، اجتناب شر وعقاب.. أي كيف يمكن أن تكون العبادة، غاية في نفسها ولا يكون وراؤها هدفاً سوى المحبة والقرب، عند ذلك ستتغير مواقف العابدين إزاء النعم والبلاء الذي ينزل بهم، فيصبح العذاب والأذى، عند الصوفي، اختباراً له وتمحيصاً وتهيئة لتقريبه.. فالصوفي حين يناجي ربه (إلهي الكل يطلب منك، وأنا أطلبك)( )، فهو على التضاد مع توجه جمهور العابدين في تقلبهم بين الثواب والعقاب، بين الرغبة والرهبة، فتغدو –عند الصوفي- الجنة حجاباً وأهلها محجوبون عن رؤية الحق، فهذا أبو يزيد البسطامي يقول في إحدى شطحاته (الجنة هي الحجاب الأكبر، لأن أهل الجنة سكنوا إلى الجنة، وكل من سكن إلى الجنة سكن إلى سواه، فهو محجوب)( )، وذا رأيه في النار وعظمة إحراقها وعذابها، فيقول: (ما النار؟! لاستندن إليها غداً وأقول: اجعلني لأهلها فداءاً أو لأبلغنّها! ما الجنة؟! لعبة صبيان)( )، هذا الأمر الذي وصل إليه الصوفي، مردّه إلى أن الناس قد أخذوا علمهم من ميت عن ميت، فهم مساكين يستحقون الشفقة، أما الصوفي فقد أخذ علمه من الأصل الذي لا يزول ولا يحول وهو الحي الذي لا يموت( )، وليس ببعيد عنا السبيل الثالثة البديلة التي اختارها الإمام علي (ع) ومن بعده (رابعة العدوية)، بعد أن رفضوا عبادة التجار وعبادة العبيد، واختاروا عبادة الأحرار التي أساسها (المحبة) (إلهي، ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طمعاً في جنتك، بل وجدتك أهلاً للعبادة، فعبدتك)( ).
2-المعرفة الصوفية والتجربة:
فإذا ما وجهنا النظر إلى حقيقة النظر الصوفي على أساس قاعدة الغاية والوسيلة؛ إن التصوف تقوده رغبة المتصرف في تأدية العبادات وعلاقة العبد والمعبود على أنها غاية في ذاتها ولذاتها، استعلاءً على رؤية المتوسط من جمهور العابدين في توخيهم الثواب وتجنبهم العقاب..، أمكن أن تنظر إلى التجربة الصوفية من حيث هي (إيثار) التوجه للذات الإلهية والانخطاف بها وإليها، والتجرد عن (الأثرة) التي هي فحوى عبادة الناس.
فمتى ما تحققت هذه الرؤية، أدركنا هشاشة البحث في الجانب (المؤثر والمتأثر) في حضارات العالم في موضوعة التصوف، فالفكر الصوفي طرح أفكاره ومنطلقاته من حيث هي البديل للتفكير في الظواهر الوجودية على أساس جوهري وليس على أساس عقلي نظري استدلالي، وما الطريق الصوفي إلا محطات يقطعها السالك ليصل إلى السعادة في الاتحاد أو الفناء، فالإنسان يمثل طوراً من أطوار الألوهية، وعلى السالك أن يتجاوز كل ما يحول دون الارتقاء، بحسب الجهد والطاقة والعزيمة وبمقدار وجود هذه الصفات، تصنف مرتبة الإيمان، والتي انتهى (الغزالي) إلى جعلها ثلاث مراتب:
أولاها: إيمان العوام وهو إيمان التقليد المحض.
ثانيتها: إيمان المتكلمين وهو ممزوج بنوع استدلال وهو قريب من إيمان العوام.
ثالثتها: إيمان العارفين وهو الشاهد بنور اليقين( ).
وهذا الإيمان فوق نطاق الحس، والعقل معاً، بناءً على ذلك انصراف الجدل إلى تقصي قيمة (المساهمة العقلية) في تجربة التصوف، اعتماداً على أن المكتسبات الحسية هي مصدر معرفة العوام، والاستدلالات العقلية هي مصدر معرفة أهل الكلام، أما الصوفية فينتهي (الغزالي) إلى القول بـ(الحدس الباطني) أداة لإدراك العلم اليقيني وبه تدرك الأوليات العقلية التي تجيء بنور يقذفه الله في الصدر، ولا تتيسر بنظم دليل وترتيب كلام، على الرغم من إقرار الغزالي بمرجعية الحدس وتقييده بالكتاب والسنة( )، لكن إذا لم يلغ حضور العقل في المعرفة الصوفية، بل إن المعرفة والتصوف طابعان قد يوجدان جنباً إلى جنب في نظام صوفي واحد( )، والذي يذهب إلى الفصل بين المعرفة والتصوف إنما يجعل من تجربة التصوف ممارسة إيهامية لا عقلانية مجردة، في حين أن فهم أبعاد قضية التصوف يستلزم –من جملة ما يستلزم- فهماً جلياً وموضوعياً متكاملاً لموضوعة (الدين) أولاً ومواقف المتدينين بين حقيقة الدين، ونسبيه الممارسة الإنسانية تجاه حقيقة الدين، ونسبية الممارسة الإنسانية تجاه حقيقة الدين، فضلاً عن الوقوف على الثواب والعقاب، ومن ثم إدراك أبعاد (حدود الظاهر)، و(الباطن) حيث أن الأخير يستلزم توفر الباحث على تصور واضح لخصوصية تأويل (الباطن)( ) بعد حسن ظن، وتجرد من الأهواء المذهبية أو الميول الطائفية، ومهما بلغ عمق هذا التصور، لا يمكن أن يستغني به عن (التجربة)، فمن لم يجرب ليست له القدرة على الفهم والتقدير فضلاً عن استعصاء التجربة على الوصف، والتعبير والإحاطة بها لغة وإيضاحاً تعبيرياً؛ فالصوفي يقول: (من لم يعرف إشارتنا، لم ترشده عباراتنا)( )، وذا أبو يزيد البسطامي في إحدى شطحاته يقول: (تراني عيون الخلق أني مثلهم، ولو رأوني كيف صفتي في الغيب، لماتوا دهشاً)( )، فالصوفي، هنا، عماده خصوصية التجربة، والمقدار الذي ذاقه من المعرفة، ومستوى (وقفته) ودرجتها، فهو يذكر (أفكاراً عن تجربته في التصوف بعد أن تنتهي، ويبدأ باستعادة أبعاد هذه التجربة حين يعود إلى وعيه العادي المقيد بالحس والعقل، ولكن في التجربة نفسها لا يوجد أي فكر)( )، ولعلني أجد في قضية التجربة الصوفية وعلاقاتها بالفكر، بعض التحفظ، بخاصة إذا كان الكلام عن التصوف الإسلامي، دين المعرفة، والكتاب الكريم هو معجزته الخالدة التي ضمت علم الدين والدنيا، هذا من جهة –ومن جهة أخرى، الصوفي نفسه في رحلته التجريبية الاستكشافية في أعماق الذات –أولاً- ثم الارتقاء للحق، وسواء أكان هذا الارتقاء تجلياً أم إشراقاً، أم اتحاداً أم فناءاً، لم يك ليحدث لولا وقوف الصوفي –بوعي تثقيفي مدقق- على أفكار الدين ومفاهيمه، من هنا لا يجوز أن يكون الطفل الصغير صوفياً..، فالتصوف علم قائم على تجربة، نعم لها من الخصوصية والتفرد ما لا شك عند أحد فيها، والحقيقة التي أرجو تقصيها في هذه الموضوعة، هي الكيفية التي نظر بها القائلون بالفصل بين التصوف والفكر أو العلم، إلى مفهوم (الفكر) ودلالته على الصعيد الفلسفي والديني والعلمي الصرف، ولعل القضية هنا تكتسب قدراً من الأهمية لأن مسألة التصوف الأساس فيها هو الدين –وتلك حقيقة قررتها الصفحات الماضيات من أن التصوف نشأ في أحضان الدين- هذا يعني أن التجربة الصوفية لا يمكن فصل الفكر فيها عنها للملمحين الآتيين:
أولاً: تتمثل حقيقة التصوف في جانب نفسي تركيبي يقع في أعماق النفس البشرية، ربما يصح أن تطلق عليه (استعداداً فطرياً أو غريزياً) يتلخص بأنه الإخلاص لفكرة وليس شرطاً أن تكون دينية وما هو عند الناس وسيلة وغاية، يصبح عنده غاية، فقط والممارسات والأفعال تؤدي لذاتها. هذا الاستعداد الفطري يحتاج أن يوقظ وقد تتم اليقظة عن طريق صدمة ما. من هنا صح أن يوصف أي مخلص لفكرة ما، بأنه متصوف في محرابها؛ قد يكون شاعراً، عالماً، موظفاً.. فالإخلاص قيمة وجدانية تفيد ارتباط أشياء الوجود من دون دوافع مادية.
ثانياً: دلالة (الفكر) يجب أن لا تنصرف إلى معنى علمي محدد. فالإسلام أرسى دعائمه على العلم والتفكير والتدبر لهذا شغل العرب بالقرآن وأمسى هو علمهم الذي ليس لديهم أصح منه، كما كان الشعر كذلك في الجاهلية، فيبدأ التصوف بعد أن يصل العالِم أو الإنسان العادي إلى مرحلة (يخلص) فيها نفسه لله، ولا يتم ذلك إلا بعد أن تمت له صورة عقلية لصفات الخالق عز وجل من خلال الكتاب الكريم والأحاديث الشريفة ثم التدبر والتفكير، ولولا ذلك لم يكن الغزالي (ت 505 هـ) رحمه الله، ينتهي إلى تلك الحقيقة اليقينية بعد أن اعتزل الناس واعتكف في بلاد الشام، فخلص إلى: (إني علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة، وإن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء، وحكمة الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ليغيروا شيئاً من سيرهم وأخلاقهم ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلاً، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به)( ).
والقول بـ فكريّة التجربة الصوفية، لا يمنع التفرّد الذي يكتنف تجربة كل متصوف، حسب مذهبه وطريقته، من هنا تحددت اصطلاحية النعت، فالصوفي لغةً واصطلاحاً يعني (الشخص الذي تمتع وحده بالتجربة الصوفية، بصرف النظر عمّا إذا كان يملك القدرة على حسن الأداء في وصف هذه التجربة أولاً، فالتجربة شرط أساس لا يغني عنه امتلاك أزمّة البلاغة، وروعة الوصف، وعمق التحليل)( )، ولهذا تعددت تعريفات التصوف، حتى أحصى منها أحد الباحثين أكثر من ألفي تعريف للتصوف( ).
لعل الذي حار فيه، من جعلوا التجربة الصوفية في جانب، والفكر في جانب آخر،.. هو كامن في طريقة الوصول إلى الحقيقة وليس الحقيقة ذاتها التي قرر سابقاً أنها إنسانية في نزوعها ونشأتها، فالتصوف يرمي إلى أن الحقيقة تكمن في الجانب الغيبي والمجهول من الفقه والشرع وليس في ظاهره، لذا فالوسائل المتبعة في الوصول إلى هذا الغيبي والمجهول، والباطني هي، بالطبع، غير الوسائل المتبعة في الوصول إلى القضايا الشرعية الظاهرة والأخيرة طريقها النقل والعقل، أما وسائل وصول الصوفي، فهي: (القلب، الحدس، الإشراق، الذوق..)( ) من هنا نشأ الرباط الوثيق بين التجربة والذات المجربة، ومن ثم النسبية في الرؤية والأحكام ودرجة الوصول، وهذا لا يعد تناقضاً بل اختلافاً مغايراً وهو تعدد في وسائل الوصول إلى هدف واحد.
3-التجربة الصوفية واللغة:
وما دام الكلام تقدم على التعبير ووصف التجربة الصوفية، تشخص حيال الباحثة مسألة لها قدر من الأهمية، مفادها: إلى أي مدى يمكن الإحاطة بإبعاد التجربة الصوفية، سواء أكان الشرح والتعبير والوصف مقدماً من المتصوف نفسه أم عن طريق غيره، ولا سيما إننا لا نغفل الزعم الذي يستشري عند المتصوفة وهو، كون تجربتهم عصية على الوصف، والشرح، والتفصيل( )، فمن أراد أن يصدق ويشعر ويذوق، عليه أن (يجرب) بنفسه؛ فالتعبير لا يغني عن التجربة بمعنى أن التجربة فوق اللغة، تستمد طاقتها الهائلة والمعجزة من فيضها الاستبطاني الذي يلج في أعماق النفس فاحصاً أصول النوازع ويحاربها لتسمو إلى التوحد بجوهر الشخصية الإنسانية وأصلها الإلهي، وأحياناً إلى الاتحاد والفناء فيه.
ومما يؤكد هذا المنحى المعرفي في حقيقة التصوف والآراء التي تربط التصوف بالمذهب الشيعي أحياناً أو السُّنّي أحياناً أخرى( )، وكلٌّ لـه دلائله ومسوغاته في إثبات مرجعية الأفكار والممارسات الصوفية إلى أقطاب إسلامية وشخصيات أثيرة في تاريخ الإسلام( )، وما دامت هذه الدراسة غير معنيّة بالتفصيل في هذه المسألة، يكفي أن نستخلص منها النتيجة الآتية: إن التصوف كيان فكري ومنظومة معرفية بدأت بالدين ولم تكتفِ به، صاغت لفكرها مقولات تأسست عليها نظم التفكير والممارسة، وهي في الغالب ثنائية أساسها التضاد كـ(الظاهر والباطن) و(الحقيقة والغيب) و(الكشف والخفاء).. إلخ فبمقدار ما يرتقي الصوفي في فهم حقيقة الدين على وفق هذه القاعدة الثنائية، والمقدار الذي ينتهي إليه تصوره الخاص عن موضوعة (الإنسان/ الإله) فالأساس الراكز هنا هو (موضوعة الدين)، وقد يسأل سائل عن فكرة الدين وإمكانية كونها تجربة روحية خاصة نظر إليها الصوفي، واستوعاها، فمُثلت في سلوكه وأحواله؟ الإجابة يَهتدي إليها عن طريق الفكرة البسيطة الآتية: هل الدين نظام روحاني فقط، أم نظام عقلاني فقط، أم حسي فقط؟ فإذا ما كانت الإجابة أن الدين بنية منظومية متجانسة بين الجسم والروح والعقل، ولكي يستقيم كلّ لما خلق له، جاء الدين ليقوّم سير كل قوة بحسب مرتبتها وعلى مقدار الاختيار، تتحدد السبيل التطبيقية لفلسفة الثواب والعقاب.
4-مراحل صياغة المفهوم:
إن مفهوم التصوف –الذي تسعى هذه الدراسة التمهيدية المتواضعة إلى تحديد أبرز سماته- لا ينبغي النظر إليه جملةً وبمعزل عن المؤثرات التاريخية والحضارية المختلفة التي غيّرت من مفهومه وطوّرته من جهة (المجرِّبين) أنفسهم، أو من قِبل الناس وتقديرهم لفكرة التصوف والمتصوفين. تأسيساً على هذا، لا بد أن نقوم بمسْحٍ موجز عن البعد التاريخي لمفهوم التصوف.
عُلمَ سلفاً، إن التصوف نشأ في بيئة الدين والزهد، والمعنى الزهدي استمر بوصفه أحد أهم سمات التصوف من حيث الانقطاع عن الدنيا والاشتغال بملذاتها وقد بدا ذلك واضحاً عند الصحابة والتابعين، وكانت بيئة البصرة أكثر الأمصار الإسلامية اشتهاراً بصفة المبالغة في العبادة، حتى قيل، (فقه كوفي وعبادة بصرية)( )، وكان ذلك في مطلع القرن الثالث الهجري، بيد أن الاصطلاح الصوفي وتعيين جنس من الناس تسلك هذا المسلك قد ظهر قبل هذا الزمن، ولكل ثمة دواعي وأسباباً حالت دون الإفصاح عن منهجهم وطريقتهم للأسباب الآتية:
أولاً: مثول شخصية الرسول الكريم محمد()، في العقول والأذهان، بوصفها مثالاً نابضاً بالمعاني المقدسة التي جمعت علم السماء والأرض.
ثانياً: خشية المسلمين من نسبة فعلهم الصوفي إلى (الرهبنة) في الديانة النصرانية، والتي عدها القرآن الكريم بدعة ابتدعوها.
ويضيف الأستاذ إبراهيم بسيوني( ) سبباً آخر تمثل في استغلال بعض الأدعياء والمضلين، فكرة التصوف فأدخلوا لهذا المذهب مزاعم شتى ليست من التصوف في شيء، ولا يمكن أن تملك في نظامه، لهذا أنكر الحسن البصري وابن السماك على هؤلاء الأدعياء مذهبهم.
فإذا كانت هذه الدواعي، هي التي حالت دون نضوج فكرة التصوف واشتهارها قبل القرن الثاني الهجري، فإن ثمة طائفة من الشكل البارز للتصوف في العصر العباسي الأول وأخريات الدولة الأموية، التي وقعت فيها دولة الإسلام فيما سمي بمرحلة (الهرم) بحسب تعبير ابن خلدون( )، وكان انشغال الدولة الأموية بانتصاراتها في الفتوحات واتساع رقعة الدولة، بصرف نظر الناس عن الفساد الاجتماعي، وضعف الروح الأخلاقية، حتى بلغ الأمر في العصر العباسي حدَّاً تفشت فيه مظاهر المجون والفساد بسبب انفتاح الدولة العربية على البلدان المجاورة والمفتوحة، وتكدس رؤوس الأموال، وظهور الطبقية الاجتماعية، والامتزاج الحضاري والاجتماعي أدى إلى امتزاج ثقافي أخلاقي، فأنتج هذا الامتزاج فكراً هجيناً، وقف منه الحائرون على شفا جرف هار، أما الانغماس وأما الانعزال.. وبدا لهم طريق الخلاص في ضربين من الممارسات: الأول تمثل في التخلع والمجون، والثاني: الذهاب إلى أقصى الجهة المقابلة، حيث الانعزال والتصوف والنقاط، وكلا اليمين واليسار، تطرف، زاد في حدته استمرار الخلافات بين أركان الحكم العباسي ولا سيما حرب الأمين والمأمون، ناهيك عن ذيول حروب بني أمية مع بني العباس التي لم تنقطع، التي أدت إلى شيوع العنف وسياسة البطش بالمخالفين، فانحسر العلماء والزهّاد، عن هذا المسرح الصاخب، بعد أن أسقط في أيديهم. فظهر هذا (الهدى) الذي لم ينتشر إلا من حيث انتشر (الضلال)، وهذا شأن الحضارات المتقدمة، حيث تصبح أرضاً صالحة لتجاذب آراء شتى، ولا يلغى في هذا الجانب وجود الحالة الوسط التي تأخذ خط الاعتدال والموازنة والإفادة من إيجابية اليمين والإيجابية التي في اليسار دون الركون إلى أحدهما، الجانب الذي يعنينا هنا، هو الفئة التي اختارت الشكل الخالد في الحياة، العلم، العبادة والتفكير، التي بفضلها نشطت من جراء جهودها، علوم الفقه والقرآن والحديث ثم علم الكلام ليحتل مكانة طيبة في حلقات العلم ونتيجة لذلك الجدل والمحاورة والقبول والرفض، نشط الوعي المقارن الذي يستنبط ويوازن ويدعم، فكان للمعتزلة دور كبير في تأصيل مفهوم التصوف في إطلاق الحرية للعقل في التفتيش عن الجانب الغيبي من الحقيقة الدينية. ولهذا لا يمكن أن يحدد مفهوم للتصوف إلا من خلال رؤية تزامنية ترد على النحو الآتي:
أولاً: يقف الزهد والتقشف والرغبة في التطهير والنسك، في طليعة سمات التصوف في أدواره الأولى منذ القرنين الأولين للهجرة، أفاد التصوف فيها من سيرة الرسول () وصحابته الكرام والتابعين، وامتازت في هذا الإطار بيئتان هما البصرة والكوفة، فكان الحسن البصري (ت 110 هـ) ورابعة العدوية (ت 185 هـ) والمحاسبي (ت 243 هـ) وذو النون المصري (ت 245 هـ) وأبو يزيد البسطامي (ت 260 هـ) والجنيد (298هـ) وقبله التستري (ت 273 هـ) ثم الحلاج (ت 309 هـ) في قوله بالحلول وأبو بكر الشبلي (ت 338 هـ). تمثَّل الزهد عندهم بالمبالغة في أداء الفرائض والاجتهاد في العبادة( ) وصولاً إلى رقي أخلاقي ورياضة روحية تعرج بالنفس إلى العُلا، ولم تكن الطريق ممهدة أمام هؤلاء؛ فقد رافقتها مشاعر قلق وخوف على أصول الإسلام وعلى دعائمه من بدعة التصوف تزعَّم هذه الحركة الإمام ابن حنبل (ت 241 هـ) على الرغم من أنه ارتضى الموقف المعتدل ولكن اتباعه نكلوا بالصوفية حتى بلغ الأمر ذروته في محنة (غلام الخليل ت 262 هـ) وفيها اتهم نحو سبعين صوفياً بينهم الجنيد شيخ الطائفة ببغداد، وحوكموا( ) وخلال ذلك ظهرت في النص الثاني من القرن الثالث فرقة صوفية دعت لنفسها اسماً هو (الملامتيّة) والتي عنوا بمجاهدة النفس وكتمان الحسنات مع تعمد المخالفة والظهور في الناس بالمظاهر التي تثير لومهم، وقد فسدت تعاليمها على المتأخرين من معتنقيها، في شكل صور وسلوكيات شاذة. وحين بزغ القرن الرابع الهجري، أشرق عصر ذهبي للتصوف انتعشت فيها علومهم وكثرت رجالاتهم ومريدهم، حتى كاد الأمر يستتب لهم ولا سيما على يد المعتزلة والفلاسفة حتى صار التصوف فلسفة إسلامية أخلاقية على يد ابن سينا وابن رشد والفارابي، لولا أن مجيء القرن السابع الهجري الذي كفرت فيه الصوفية على يد (ابن تيمية ت 728 هـ)، وثمة توضيح دقيق لأصول هذا العداء بين طبقة الفقهاء والصوفية يراه الأستاذ توفيق الطويل متمثلة في (إن الدين قد أصبح في يد الفقهاء رسوماً وأوضاعاً لا حياة ولا روحانية فيها، وهي إن أرضت ظاهر الشرع، وأشبعت عقول المشرعين المفتونين بتقعيد القواعد وتعميم القوانين، فإنها لا تتسق مع باطن الشرع ولا تتبع العاطفة الدينية، من هنا انقسم علم الشريعة عندهم إلى (علم ظاهر الشرع) يدرس العبادات والمعاملات، وهم أهل الفقه، و(علم الأعمال الباطنة) أي أعمال القلوب وهو التصوف، أو علم الحقائق وباطن الآيات ينكشف للخواص من عباد الله الذين اختصوا بهذا الفضل وهو التأويل)( ).
ثانياً: سلوك ديني، أخلاقي مخصوص، في مواجيده وصورته المغايرة للمألوف عند الناس من العابدين من حيث تقريب صورة الحق العلية وجعله مرتقى النفس الصوفية التي تجتهد في الوصول إليه والاتحاد به، وسُلّم الترقّي هذا طريقه (المحبة) قال تعالى:
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم( )، وتمثلت صفات هذا الحب وخصائصه في جملة لواعج عاناها الشاعر العذري، من هنا نشأ ذلك الربط بين الحب الإلهي والحب العذري، والدليل على ذلك يقوم على (إن الإسلام يستعلي بالغرائز ويسمو بالعواطف.. ثم تجاوزوا نظرتهم المثالية للحب الإنساني إلى القول بالمحبة الإلهية، قد كان فكرة الحب العذري مرحلة لا بد منها في تاريخ العاطفة للوصول إلى مرتبة الحب الإلهي)( ). فكان طبيعياً أن تتماثل الصور والرموز والتشكيلات الانفعالية الوجدانية التي تجسدت في النص الغزلي والنص الصوفي، فكان الشوق والوجد والهيام والدلال، هنا يضاف دليل آخر على أصالة التوجه الصوفي عند العرب المسلمين؛ من حيث كونه استجابة لمؤثرات الأديب إطاراً جمالياً مؤثراً تتباين أشكاله ومضامينه.
ثالثاً: تطور التصوف مفهوماً ودلالة وفكراً، إلى معان فلسفية، فارتبط علم التصوف بالمعرفة بمختلف مناحيها في العصر العباسي، لهذا يتعذر على أي باحث في الفلسفة العربية الإسلامية، أن يتجاوز علم التصوف الذي تطور إلى مفهوم شمولي لمصطلح العلم، وقد عبر (الغزالي) رحمه الله عن هذا التطور الذي نستخلص منه أن للتصوف دلالات فكرية علمية رصينة تبدأ بالدين وتنتهي بالعقل، حيث يقول: (إذا لم تكن النفس قد ارتاضت بالعلوم الحقيقية البرهانية اكتسبت بالخاطر خيالات تظنها حقائق تنزل عليها، فكم من صوفي بقي في خيال واحد عشر سنين إلى أن تخلص منه ولو كان قد أتقن العلوم أولاً، لتخلص منه على البديهة)( )، والغزالي في هذا الرد على بعض المتصوفة إنما يمنح التجربة الصوفية الذوقية الأصيلة أهمية بالغة في ترصين الشخصية الصوفية التي تفوقت في مجال العمل الأمر الذي عجز فيه المعتزلة وظلوا أصحاب النظر والفكرة( )، تميز الفعل الذوقي المغاير الذي عرف به الصوفية، لكي يدرك به حقائق الأشياء، بأنه (من ثمرات التجلي، ونتائج الكشوفات، وبوادر الواردات، وأول ذلك الذوق ثم الشرب ثم الري، فصفاء معاملاتهم يوجب لهم ذوق المعاني)( ).
يحكم هذه الطريقة الذوقية طابع التفرد والدهشة( ) فتتباين مراتب الصوفية بحسب درجات الوصول، لذا فإن هذه التجربة ليست تقنيناً محدداً بل تراكم خبرات تجريبية لها صفة الذاتية التي تختلف من صوفي إلى آخر، ويبدو لي أن مصطلح (الذوق) عند أوائل المتصوفة ومتأخريهم من أمثال ابن عربي (ت 638 هـ) وقبل السهروردي (ت 587 هـ) يأخذ شكل النظرية العملية ذات البعد النسبي، فكل تجربة هي مثال لذاتها –مع الاعتراف بالمشيخة الصوفية- هي خالص تجربة روحية فيها وجد واستغراق وتنقل بين أحوال ومقامات ومواقف، من هنا كان الذوق شرطاً أساساً ومستلزماً لتجربة التصوف؛ فالذوق فعل نسبي أساسه الميل والفطرة والرغبة فما يرغب فيه زيد لا يروق لعمرو، وهو عند هند لا شيء يذكر.. فتفاوت الأذواق بين التطرف والاعتدال لذا كان الذوق ضد التعلم، سبيله المعاناة والسلوك وليس السماع والنظر( ) فالتصوف ليس نظرية علمية بل تجربة عملية لها أبعادها العرفانية، ترى في العبادة طريقاً ثالثة ترقى على نمطي العبادة: الأول عبادة الرغبة وهي عبادة أهل الطمع، والثاني عبادة الرهبة وهي عبادة العبيد، أما عبادة الصوفي فهي عبادة الشكر والمحبة وحسن التقدير، وهذه لا يتسنم مرتقاها غير الأحرار( )، من هنا يمكن عد التصوف فلسفة الإسلام العملية في الأخلاق( ) والتي تؤدي إلى السعادة والغبطة الناتجة من التلازم بين التوحيد والأخلاق( ).
رابعاً: خصوصية المنجز الأدبي للصوفية، وتكاد تكون هذه الخاصية ناتجاً طبيعياً لتجربة مخصوصة ومنفردة، لذا كان التعبير الأدبي هو الإفصاح عن ذلك الجانب المنفرد من تجربة الصوفي عمن سواه، فتنوعت أشكال الكتابة بين شعر ونثر فني وحكاية، هذا تعدد أفقي، أما التطور العمودي فيتمثل في تطور آليات النوع الأدبي في تشكيل رؤية الكتابة بين المعنى والدلالة مع الحفاظ على روح التجربة الصوفية سواء أكان الكلام فيها على المجاهدات النفسية أم حديث عن الكشف والحقيقة، أم الإعراب عن الكرامات والخوارق، أو الشطحات التي تصل بفن التعبير الصوفي إلى أقصاه في رمزيتها وإيحائيتها( ).
فكما هو حال فلسفتهم في ظاهر الدين وباطنه، فهم في أدبياتهم يصرحون بربع الحقيقة، فالدارس حين يعنيه الأدب الصوفي لا بد أن يعمل فكره في النظر في مجمل آرائهم وفلسفتهم ومواقفهم كي يقف على بينة من المعنى الأدبي المراد الذي هو كامن في العمق والذي لا يتم الوصول إليه إلا بـ التأويل وطول النظر، فأدب الصوفية الرمزي حاله حال جبل جليدي لا يبدو منه إلا ربع حجمه الحقيقي الضارب في العمق، ولهذا الترميز الذي يلجأ إليه الصوفي، دواع أفاضت بالكلام عليها مظان التصوف؛ قديمها وحديثها، نحاول إيجازها في سطور قلائل. يعتقد الصوفي أن مذهبه وما وصل إليه هو استمرار لنبوة الأنبياء وكرامات الأولياء، منها يستمد نور هدايته، ومن تعاليمها وإلهاماتها يمشي في الناس، فهو داعية لهذا الفكر النوراني، فهو بين أمرين:
الأول: ضرورة ملحة على البث والتعبير والإيصال.
الثاني:قناعة تامة بقصور إدراك الناس لصنعته، منهم بين مكذب ومسفه ومكفر، بدت نهاية النفق المظلم في هذه الإشكالية عند الصوفي في صيرورته إلى عدم التصريح بكامل الحقيقة التي وصل إليها، وأكثر من انطبع بهذا الميسم، كان من نتاج القرنين الثالث والرابع الهجريين، عصر نضج الفكر الصوفي وكثرة شيوخه –وتنوع طرقه وكثرة سالكيه، وظهر التصوف فيها علماً مداره بواطن القلوب وأسرار النفوس، بينما مال التصوف إلى الركود في القرن الخامس، فلم ينهض به سوى (الغزالي ت 505 هـ) وعلى يديه ظل التصوف صوره لحياة الروحية في الإسلام، بعد أن عزف الناس عنه وعدوه مروقاً عن الإسلام، فالتزم الغزالي بالأصول السنية للتصوف، وجعل التصوف خارج دائرة الفلسفة وعلم الكلام كما شاع النظر فيه عند فلاسفة الشرق وأهمهم ابن سينا (428 هـ) وكذلك فلاسفة المغرب مثل ابن ماجة (ت 533 هـ) وابن طفيل (ت 581 هـ) وقبلهم ابن رشد (ت 395 هـ)، بل جعل التصوف طريقاً إلى الله وصفاء النفس ونيل السعادة، ومن جانب آخر هو سبيل للمعرفة يفوق الطرائق التجريبية الاستدلالية، فطريقة الكشف الذي يوصل إلى اليقين. نتيجة لأسباب حضارية وتاريخية وثقافية أيضاً، ظهر التصوف بطابعه الفلسفي في القرن السادس الهجري بدءاً بـ (السهروردي ـ 586 هـ) في حكمته الإشرافية، وابن عربي (ت 638 هـ) في وحدة الوجود، وابن سبعين (ت 668 هـ) في الوحدة المطلقة وابن الفارض (ت 632 هـ) في قوله بالوحدة الشهودية. والناظر في النتاج الصوفي لهؤلاء الفلاسفة يدرك النقلة الكبيرة التي أحدثها الفكر المتمازج مع فكر الأمم والحضارات الأخرى مع حضارة العرب المسلمين( )، وما كاد يبزغ القرن السابع الهجري حتى انحدر الوعي الصوفي إلى مرحلة الهرم، وليس فيه إلا اتكاء على تعاليم السابقين، وارتدى التصوف رداء (الطرق الصوفية) التي انصرف جهد زعمائها وشيوخها إلى (كشف حجاب الحس الذي هو نهاية المراتب الصوفية، ولما وراء ذلك على المدارك والمعارف، واختلفت طرقهم في الرياضة والمجاهدة وأمانة القوى الحسية)( )، من هنا، نلحظ هذا الربط الوثيق بين مفهوم التصوف وتطوره خلال المراحل التاريخية العربية، ولأجل هذا فقد ميزوا في تاريخ التصوف ثلاث مراحل مهمة:
- انمازت الأولى بكونها فترة إثبات الهوية والصراع من أجل الوجود، انحصرت في القرون الثلاثة الأولى من الإسلام.
- تطورت الثانية في محاولة التوفيق بين التصوف وخصومه، حتى توجت هذه المحاولات بتفوق عقلية ذكية أصيلة هي شخصية الإمام الغزالي في القرن الخامس الهجري، في الوصول إلى منظور متوازن ومعتدل لقضية التصوف، فضلاً عن محاولة أبي طالب المكي والقشيري.
- أما الفترة الثالثة فقد عنيت بالتاريخ لهذه الحركة ولمفاهيمها ورجالاتها، فاشتهرت بتصنيف أهم المؤلفات الصوفية التي حفظت لنا هذا التراث الخالد، وتمتد هذه الحقبة بين السادس والتاسع الهجريين( ).
5-تحديد مصطلح صوفية القص:
نخلص مما سبق، إلى تحديد القيم الوظائفية التي تتجسد في القصص، حتى أمكن أن يطلق عليها (صوفية)، وهو هدف الدراسة التمهيدية لمفهوم التصوف، بغية تشخيص عينة البحث عن القصص والحكايات؛ ما بين الواقعي منها والغرائبي، وما بين العربي منها والمترجم: على اختلاف أشكال العرض، وطرق التعبير، مستوى الابتكار والتمثيل لحقيقة التصوف علماً وممارسة وفلسفة. فمتى ما تجسدت القيم الوظائفية الآتي ذكرها، في النص القصصي، صحّ أن تكون (قصة صوفية).
أولاً: تأطير تجربة ذاتية، أو مروية، يراد بثها إلى المريدين والسالكين بغية إرشادهم إلى الطريق الصوفي، وأكثر ما يتمثل في هذا النوع، حضور المصطلح الصوفي بشكل واضح سواء أكانت القصص معقولة أم شطحات( ).
ثانياً: مضامين أخلاقية تستبطن الوعي الإنساني لكي تتم له أسباب الوصول إلى الحق تعالى، فيدرك الحقائق بلا واسطة بل إلهاماً، وترد هذه القصص في إطار رمزي إيهامي وأحياناً على لسان حيوانات، وتنحو نحواً فلسفياً بسبب التطور الذي أصاب مفهوم التصوف في العصور العباسية، فالقصة الفلسفية هي جنس من أجناس القصة الصوفية( ).
ثالثاً: رؤى ومنامات يكون لها طابع فلسفي أخلاقي عرفاني، لا تحدد بوحدة وظيفية واحدة بل لها جملة وظائف، يصف فيها الصوفي –حقيقة أو تخيلاً- تجربة وقعت له، وفنية هذا اللون من القصص تعلو على سابقتها لما فيها من توظيف لعناصر التخييل.
فإذا ما صدرت القصة أو الحكاية، عن أحد هذه المضامين المو