[b]
المبحث الثاني ثنائية الراوي والمروي له
بعد الوقوف على الدور الذي ينهض به (الاستهلال) بوصفه بنية لسانية/ دلالية، في تأدية المعنى الصوفي بوسائل طرح متنوعة راعى منها الأديب العربي وحدة الجانب الموضوعي، مع فنيته ليخلق ترابطاً اتصالياً بين النص والمروي له.
بناءً على ذلك، وصدوراً عن قناعة مؤكدة بأهمية هذا الترابط الاتصالي بين أطراف الرسالة الأدبية…، نطرح الأسئلة الآتية، وفي ضوء المنهج المختار سيجتهد هذا المبحث في الإجابة عنها، وهي:
ـ من الراوي في القصة الصوفية؟
ـ ما مكانة الراوي أو السارد وعلاقتهما بجوهر العملية الأدبية؟
ـ ماهية المروي له: (السامع، المؤلف، القاري)…؟
الحقيقة أن مسألة حضور الراوي في الخطاب القصصي، ودرجة ذلك الحضور ونوعه، تعد من أهم مكونات الخطاب القصصي، والروائي والاهتمام بهذه المسألة جعل تنظير الشكلانيين يتجه نحو نقطة أعمق في تحليل عناصر (الأدبية) في النص، فميزوا أولاً بين (الخطاب) و (القصة) فالقصة هي مجموع الأحداث التي يتفاعل فيها أبطالها ضمن إطار زمني ومكاني معين، أما الخطاب، فهو الطريقة التي يتم بواسطتها إيصال القصة، أو أسلوب عرضها، وطرائق أداء الحدث القصصي من خلال حسن تعامل الأديب أو السارد مع مكونات البناء السردي لحكاية ما( ).
فكان أن توجه الاهتمام إلى النظر في علاقة الراوي بالسرد والشخصيات وكذلك تشخيص أنماط السرد، من خلال وجهة نظر الراوي؛ بين أن يكون (عليماً) بالأحداث وسابقاً عليها، وبين راو يتنازل عن مقعد (العالمية) ويترك للشخصيات حرية التعبير فيكون سرده متزامناً وليس استعلائياً. وظهرت على أساس ذلك مصطلحات سردية خاصة تتمحور مفاهيمها الإجرائية على البحث في نمط الرواية فنشأ ما يعرف بـ (وجهة النظر) أو (الرؤية السردية) و (زاوية الرؤية)، فصارت البنية السردية في النص القصصي، ينظر إليها من وجهة لسانية كما هو حال (الجملة) في التركيب النحوي، و (الأسلوب) في الشعر، لكن هذه الاستعارة المقصودة من اللسانيات لها إشكالات تتعلق أهمها بخصوصية أنواع الخطاب الأدبي وأجناسه المختلفة، هذه الخصوصية التي تمنح خطاباً ما مزايا بنائية وتشكيلية خاصة قد لا تصلح قالباً يستوعب محتوىً أدبياً لجنس آخر، لأجل هذا ينبغي النظر إلى هذه المسألة (القالب/ المحتوى)، نظرة انتقائية واعية تستنير بالمنهج وأسلوب النظر المنهجي والتفكير، ولا نضحي كذلك بمزايا النوع الأدبي المخصوصة، ولا سيما إذا توزع البحث الإجرائي على آداب أمم وجنسيات، وأزمان، وأمكنة متباينة، تحمل خصوصياتها المرجعية على صعيد اللغة والتفكير.
على وفق معطيات هذه الرؤية، نطمئن إلى تحديد مفهوم رصين ومتكامل للخطاب السردي من خلال استيفاء أركانه البنائية الثلاثة الأساس:
الراوي القصة المروي له
الخطاب
والتي لولا وجودها، لا يتم أي حضور لعملية السرد الأدبي، فـ (الخطاب السردي) إذن: هو الكيفية التي تروي بها القصة عن طريق راوي يبثها إلى مروي له( ) لغاية تعليمية وجمالية مخصوصة إذن فالقصة لا تتحدد قيمتها فقط بمضمونها وإنما لا بد أن تشتمل على بنية شكل أدبي جميل يتحدد بوصفه خطاباً موجهاً من منتج له طابعه الخاص الذي يختلف ضرورة، عن أي منتج آخر فيما لو أتيح له أن تظهر القصة بإبداعه، على الرغم من مضمون (القصة) واحد عند الاثنين، وهذا هو فحوى قول (فولفغانج كيزر) في (أن الرواية لا تكون مميزة فقط بمادتها، ولكن أيضاً بواسطة هذه الخاصية الأساسية المتمثلة في أن يكون لها شكل ما، بمعنى أن يكون لها بداية ووسط ونهاية)( ) ومعنى الشكل هنا، الطريقة التي تقدم بها القصة المحكية في الرواية، أنه مجموع ما يختاره الراوي من وسائل وحيل لكي يقدم القصة للمروي له( )، ولا يعني ذلك أن تتبع كل قصة (وجهة نظر) واحدة تستمر وتمتد على طول القصة، إنما واقع القص ينبئ عن إمكانية (الراوي) في القصة على المناورة في طرائق سرد متعددة تخدم في محصلة الغايات الاستقبالية من لدن المروي له، فما تعرضه تصنيفات الشكلانيين لوجهات النظر التي تظهر في شخصية السارد ما هو إلا عرض لأشكال صورة الراوي في السرد ولكن هذا لا يمنع أن تتداخل التصانيف وتتفاعل وتتحاور في سبيل تحقيق النص لغاياته، والحق أن التصنيف الأخير الذي تتحاور فيه أشكال وجهات النظر وتتجاور هو من أغزر طرائق الأداء السردي وأكثرها خصوبة للفحص النقدي والتحليل والنظر. ويجد (جان بوبون) في كتابه (الزمن والرواية) هذا النوع من وجهات النظر من النوع الذي تتعادل فيه شخصية السارد مع البطل فتتكاملان لتأدية عملية السرد، حين صنف (وجهات النظر) التي تظهر في شخصية (السارد) على النحو الآتي:
1ـ أن يظهر السارد باستمرار عبر (هو) البطل في القصة الكلاسيكية مع سارد يعرف كل شيء( )، وهو ما يعرف بـ (السارد العليم) أو الراوي العليم، وهو ما يغطي معظم الإنتاج القصصي حيث يمتلك الراوي زمام القص فيه بتجرد موضوعي، إذ ليس الراوي شخصية من شخصيات القصة، ولكنه يعرف الإطار الخارجي والهواجس الداخلية لشخصيات القصة( ) فيحاول بثها إلى المروي له، ولهذا يحلو للبعض تسميته بـ (سرد الراوي الغائب)( ) الذي يكون فيه الراوي غير متجانس مع المسرود على عكس سرد الراوي الحاضر الذي يكون شخصية في الحكاية التي يرويها وهو السرد المتجانس.
2ـ ويرى (بويون) أن ثمة مظهراً آخر لـ (الأنا) السارد حين تمحي كلية خلف البطل وهو سرد موضوعي، هنا يجهل السارد كل شيء من شخصيته (الخبر هنا يحل محل الخطاب).
3ـ النمط الثالث، تكون فيه (أنا) السارد متعادلة مع البطل فيحوزان معاً الأخبار ذاتها حول تطورات الحدث بكيفية واحدة.
ويعطي (جان بويون) أهمية خاصة للنواحي السيكولوجية وليس التقنية في أشكال الفعل الحكائي فهو إلى حد ما يشبه سارتر في عد الأسلوب والشكل، فعلين ثانويين في الظاهرة الأدبية فيقول (في مجال الفهم الذي يكونه ويقترحه الروائي حول شخصياته وحول الأوضاع، يعد كل ما يتعلق بالفنية الروائية المحضة، ثانوياً في العمق، بالنسبة لدلالات الرواية نفسها... فالمهم هو الأنتربولوجيا التي تكشفها أو تقترحها أو تثيرها الرواية حسب الحالات في ذهن القارئ)( ).
إن النظر إلى المحتوى الدلالي الذي تتضح به العملية الأدبية، أمر لا خلاف عليه لكل قول غاية مراد إيصالها، لكن من المهم التفريق بين أمرين:
الأول: ضرورة النظر إلى العمل الأدبي على مقدار متساو من الأهمية لكون العمل الأدبي بؤرة تكاثفت فيها كل عناصر النص ومفاصله لتشكل وحدة عضوية إذا فقد منها عضو، اختل النظام كله.
الثاني: فإن الشكل والأسلوب هما (الصورة) اللسانية التي يتقبل بها المتلقي (المحتوى) الأدبي أو الدلالة، هنا تفترق المواهب والقدرات، في أحكام صنعة الصورة اللسانية للفكرة المجردة لتضمن تقبلاً عالي المستوى للفكرة. وهل قام الفكر النقدي أساساً إلا على اختلاف المواقف حول (الشكل والمضمون) أو (الصورة والمحتوى)؟ من هنا، جاءت الدراسة الشكلانية للشكل الأدبي، محاولة لفك آليات تقنيات النص لمعرفة كيفية أداء الوظائف على حدة، وباستنتاج المحصلة النهاية لمجمل الوظائف الأخرى ـ نحصل على صورة متكاملة (لكيفية) إنجاز (المعنى) باستثمار تقنيات الفعل الأدبي. ويذكرنا هذا الكلام بـ الحدود الوظيفية التي اصطنعها (تشومسكي) بين (البنى السطحية) و (البنى العميقة)( )، فالأولى تختص بالشكل النحوي والأسلوبي والتقني، والثانية مجالها التأويل الدلالي. فكان لا بد من دراسة الشكل وذلك لصعوبة الوقوف على الحدث فقط لأن ثمة ترابطاً بين الحدث وفاعله والجهة المسلط عليها الفعل، ثم ناقل هذا الحدث، وهذا النقل يتم بوسائط يعوزها الفصل والتوضيح ولولا الوقوف عليها، واحتواء علامات كل منها الفارقة، لما أمكن تقدير قيمة النص ومستواه الإبداعي.
ففيما يخص (الراوي)، نجد أن السردية الحديثة أسندت النص السردي إلى تضافر عدد من الركائز ينبغي التمييز بينها بدقة وهي على النحو الآتي:
1. المؤلف الواقعي: وهو الكاتب الحقيقي الذي يعيش حياته خارج النص، ويمثل حقيقة ثابتة وشخصاً محدداً.
2. المؤلف الضمني: هو المؤلف الذي ينتمي إليه النص دون أن يوجد فيه وجوداً مباشراً بالضرورة، فهو الوسيط بين المؤلف الواقعي والعمل الأدبي.
3. الراوي: هو الذي يتولى وظيفة التصوير، والمراقبة فيمهد لخطاب الشخصيات، لكي يهيأ للعمل الأدبي يظهر من خلاله.
4. الشخصية: وهو الذي يقوم بالفعل الذي يتم سرده( )، ولو وضعنا هذا القالب النظري على القصة الصوفية، لوجدنا أن القصة الصوفية بوصفها متناً حكائياً كلاسيكياً، لها مؤلف واقعي هو آخر سلسلة روائية وقفت عندها القصة وضمتها دفتا كتاب بعد أن كانت تطوف بين الشفاه، ومؤلف ضمني يمثل آخر حلقة نقلت القصة من واقعها إلى المؤلف الواقعي الذي يثبت بدوره، القصة من خلال رؤية (سارد) لها تظهر القصة للوجود من خلال منظوره أن واقعاً وأن تخيلاً، وهو الذي يقوم أيضاً بتوزيع الأدوار، وتحديد فعل الشخصيات، ومجريات الفعل الزماني والمكاني.
يعني البحث كثيراً، أن لا يقوم فاصل بين الراوي والمروي له، في القصة الصوفية، إيماناً من الباحثة بحضور فاعل جسده المروي له في الأدب التصوفي يتمحور تأثيره في شخص المتلقي/ السامع في صورة (المريد) أو (السالك) أو التلميذ، فصفة (التعليمية)/ التثقيفية تعد جوهراً في العمل الأدبي الصوفي، وكل جهد يعاين الأدب الصوفي بمعزل عن هذه الرؤية، فهو جهد ركيك مبتسر وسطحي وغير واع لجوهر الفكر الصوفي ومراميه الفكرية التي حوربت وبطلت وكفرت.. فهي في حاجة إلى (جيل) يحمل فكر الشيوخ والأقطاب، ضماناً لبقاء الفكرة الصوفية على الصعيد المستقبلي، من هنا ننظر إلى الأدب الصوفي بوصفه استراتيجية عقلية اتخذت الأدب واحداً من طرائق الطرح اللساني لفكرها الديني، المذهبي، الأخلاقي.
تأسيساً على هذه النظرة، فإن البحث يجد في مصطلح (الترهين السردي)، ضرورة منهجية ذات طابع عملي لكونه يربط بين الراوي والمروي له بعلاقة تبادلية مترابطة وحتمية من خلال (الصوت السردي)، ومصطلح (الترهين السردي) من المصطلحات التي شاعت كثيراً في الدراسات السردية والذي يعود الفضل إلى اقتراحه إلى (بنفنست) الذي استعمله وهو يتحدث عن (الترهين الخطابي)( ) قائلاً بصدد الضمائر بأن بعضها ينتمي إلى تركيب اللسان، وبعضها الآخر هو الذي نسميه (ترهينات الخطاب) بمعنى الأفعال أو الأعمال المكتومة والمتفردة في كل مرة، والتي بواسطتها يرهن اللسان إلى كلام بواسطة متلفظ( ).
ويعني ـ (الترهين) إنجاز الفعل الكلامي راهناً، أي في (حال) يتم نقل هذا المفهوم اللساني إلى السرديات( ).
والمبتغي العملي في مصطلح الترهين السردي، يتعين في أن (أنا) السرد في الخطاب السردي أو (أنت) كضمائر هي ببساطة (ترهينات سردية) أو (أصوات سردية) منتجة من خلال السرد أو الخطاب... ولو شئنا تقريب المراد أكثر فنمثلها بالضمير it، وهذه الترهينات السردية كيفما كان الضمير المنتجة بواسطته والمتوجهة إليه، لا تحيل إلى شيء خارجي عنها، ولأن وجودها مرهون في العمل الكلامي المنجز، ومرهون به أيضاً( ).
وتأتي أهمية عد (الراوي والمروي له) ترهينين سرديين، للوقوف على المسافة الفاصلة بين المؤلف الواقعي للقصة وهو كيان إنساني مشخّص ومعهود و... الراوي الذي ليس له وجود إلا على الورق، عليه فالراوي والمروي له صوتان سرديان يظهران من خلال الخطاب السردي على الرغم من أنهما ليس لهما وجود تشخيصي على أرض الواقع. وسيكون هذا المصطلح مسباراً مهماً يجلي حدود ثنائية (الراوي والمروي له) في القصة الصوفية بأنماطها الثلاثة.
1- الراوي والمروي لـه في القصص الصوفي الذاتي
القصة والحكاية
اعتماداً على مسيرة البحث المنهجية في المبحث السابق، تتوجه الدراسة الحالية إلى دراسة موقع الراوي والمروي له في القصة الصوفية، من خلال الوقوف على إضاءات المنهج المختار في إيضاح كيفية النظر وكيفية الدراسة ليصح فيما بعد صورة الاستنتاج وتكامل الصورة. بدءاً، يجب التفريق بين مصطلحين غاية في الأهمية في موضوع السرديات القديمة منها والحديثة، واللذان يبدوان للوهلة الأولى أنهما يقعان في دائرة الترادف الدلالي، هما (القصة) و (الحكاية)... إذ ثمة فرق بين المصطلحين دقيق. يشخص هذا الفرق مظهرين أساسيين في تمييز العمل القصصي، فـ (الحكاية): هي الأحداث المروية والشخصيات المتحركة في محاولة لمحاكاة الواقع مع قدر من الخيال يخلقه ذهن الأديب. وليس بالضرورة أن تصل الحكاية إلى المتلقي بطريق اللغة والكلمات فقد تكون في شريط سينمائي أو لوحة فنية( ).
أما (القصة): فهي نسيج سردي يختزل الخطاب إلى منطق وأفعال ووظائف ملغياً بذلك أزمنة ومظاهر وأنماط القصة ـ كما هي عند تودوروف وبارت ـ فالقصة هي وصف أفعال عبر حكايات سردية( )، وهي الكلمات الواقعية الموجهة من الكاتب إلى القارئ.
والدراسة البنائية للقصة تبدأ من هذه النقطة فتباشر القصة من خلال نسيجها اللغوي المسجى أمامها على الورق وهنا يبدأ العمل بتشريح القصة على وفق ثلاثة محاور رئيسة:
الأولى: تشتمل على إيضاح العلاقة بين زمن الحكاية وزمن القصة.
الثانية: إيضاح وجهة نظر الراوي، في سرد الأحداث.
الثالثة: أسلوبية الراوي في بث القصة إلى متلقيها.
وقد انتهينا في ورقات البحث السابقات إلى أننا نتعامل مع القصة الصوفية من وحي كونها نمطاً حكائياً (مكتوباً) أي تبدأ معها في اللحظة التي سجلت وقيدت بين دفتي كتاب فأخذت شكلاً لغوياً معيناً انتهت معه مرحلة الشفاهية المتشيأة والمتغيرة مع كل راو وكل زمان.
فالنص السردي الذي نتعامل معه عبارة عن (حكاية) وهي مضمون سردي أي (مدلول) و (قصة) ـ أي خطاب قصصي ـ بمعنى (دال)( ).
بناءً على ذلك يدعو (جينيت) إلى تحديد مجالات البحث بتعديل ما اقترحه تودوروف) من تقسيم دراسة القصة إلى ثلاثة مستويات هي:
الزمن ـ الذي يفصح عن الفرق بين زمن الحكاية وزمن الخطاب.
المظهر ـ وهو الطريقة التي يتمثل بها القاص أحداث الحكاية.
الصيغة ـ نوع الخطاب الذي يستخدمه الراوي.
فيضيف لها (جينيت) مستوىً ثالثاً بعد الإبقاء على الزمن والصيغة مستوى (الصوت) ويشير به إلى الطريقة التي يتدخل بها كل من المرسل والمتلقي في عملية السرد( )، وهذا ما يحيلنا إلى أهمية مفهوم (الترهين السردي) الذي يجعل من حضور المروي له، عنصراً فاعلاً في عملية السرد، بل لا يقوم السرد بانعدامها، إلى الحد الذي يصرخ فيه (برنس) قائلاً. لا يتحقق أي سرد، في غياب المروي له)( ).
وإذا ما أخذنا قصة (الجنيد والشبلي)( ) وقصص ذاتية أخرى( )، مثالاً على تحديد الفرق بين الحكاية والقصة، نلجأ إلى طريقة أجدها ناجعة في تشخيص ذلك الخيط الدقيق والمهم بين الحكاية والقصة، هذه الطريقة تعتمد على (تكثيف) القصة واختزالها في جملة قصيرة أو أقصوصة موجزة هي لب الحدث القصصي الرئيس ـ فإذا ما أمكن ذلك تبين الفرق واضحاً بين ماهية الحكاية وماهية القصة، من خلال هذا الجدول:
تالقصة الحكاية بطريقة الاختزال
1(الجنيد والشبلي) وتتكون من 39 كلمة.الشبلي إذا دخل في حال (الحضور) غلب عن أشد ما يلفت الإنسان من رغائب.
2الشاب الذي غشي عليه حين رأى غبار ذيل بنت عمه. يقع في 74 كلمة. الصوفي في حال التجلي والستر مثل العاشق الذي يغشى عليه إذا رأى غبار ذيل حبيبته فبعض الإشارة تكفي للخواص.
3قصة ذي النون المصري ومسألة الحضور في 64 كلمة. في حال الحضور يغيب الصوفي من الوجود وعن نفسه حتى يبحث عنها وكأنها شيء ضائع فهو من الذاهبين إلى الله.
جدول رقم (2) يبين الفرق الكمي بين القصة والحكاية.
بإطلالة متأنية على محتويات الجدول الذي يبين الفرق (الكمي) فضلاً عن النوع والشكل، بين الحكاية والقصة، فما تريد (الحكاية) قوله في عشرين كلمة، قد تستغرق القصة سبعين أو ثمانين كلمة لقول هذه الحكاية، وذلك لأن القصة لا تحمل معها الحكاية فقط، إنما الأسلوب والترتيب والبلاغة والاستهلال والخاتمة وتفصيل صفة الشخصيات في إطار زماني ومكاني معين...، ولو اعتمدنا اختزالاً أكثر لتبين أكثر ذلك الفرق بين الكينونتين الحكائية والقصية.
2- المؤلف والراوي:
عنيت الدراسات البنيوية للقصة، بتجلية وظيفة كل من: المؤلف الحقيقي والمقصود (مدون) القصة، وبين الراوي، الذي تسرد الحكاية بلسانه وعن طريقه. وهو ما يسمى بـ (البعد السردي) الذي يميز فيه (جينيت) بين ثلاث حالات للخطاب الملفوظ أو الداخلي للشخصيات في السرد وهي( ):
1. خطاب مسرود أو محكي: وتتسم بالإيجاز لا يقدم فيها الراوي حوار الشخصيات وإنما يحمل فكرة القصة في عبارات تقديرية.
2. خطاب منقول بأسلوب غير مباشر: يكون فيها الخطاب الملفوظ ماراً عبر قناة ناقلة يصعب الاطمئنان إلى الأمانة الحرفية في النقل.
3. خطاب المنقول مباشرة: وفيه يعطي القاص للشخصية حرية الكلمة والتعبير والصوت يكون للشخصية.
الحقيقة أن النمط الثالث، يمثل تطوراً تقنياً في مجال القص، الذي يضع القارئ منذ الجملة الأولى في القصة، في لب العملية السردية ومن تفكير الشخصية وسلوكها. وأما أنواع السرود التراثية والكلاسيكية التي تطغى عليها سمة (الحكائية) فأكثر ما تكون من النمط الثاني، حين يكون مرة المؤلف الواقعي هو الممسك بزمام الحدث ومحرك الشخصيات، ولا يتماهى في مرويه وشخصياته كما هو حال النمط الثالث، ومرة يطغى صوت الراوي ناقلاً القصة من منظوره. أما النمط الأول فمجاله الحيوي هو ميدان القصة الأيدلوجية أو الأخلاقية الموجهة( ).
ومن خلال هذه المباحث ظهر ما يعرف بـ مصطلح (بؤرة السرد). أو المنظور أو وجهة النظر، التي يرى (جينيت) أنها المشكلة التي ظفرت بقدر كبير من الاهتمام عند تحليل التقنيات السردية( )، التي أعيدت صياغتها على يد (جينيت) في شكل مصطلح (التبئير) الذي ظهر بتسميات أخرى عند البنيويين الفرنسيين وخاصة (جان بويون)، والروس خاصة (تودوروف)، فكانت على الشكل الآتي الذي يوضح الفكرة الواحدة والتسميات المختلفة عند الثلاثة( ):
جينيت بويون تودوروف
التبئير في درجة الصفر الرؤية من الخلف السارد يعرف أكثر مما تعرفه الشخصية الرؤية المجاوزة
التبئير الداخلي الرؤية مع السارد يعرف نفس ما تعرفه الشخصية الرؤية المصاحبة
التبئير الخارجي الرؤية من الخارج السارد يعرف أقل مما تعرفه الشخصية الرؤية الخارجية
جدول رقم (3) التسميات المتعددة للمنظور
ويأتي تصور جينيت للـ (التبئير) لتفادي الخلط بين الصوت والمنظور، أكثر مما كان أعاده تحديد لمفهوم وجهة النظر أو الرؤية، لقد أصبح القول: "حكاية مروية من طرف شخصية، ولكن بضمير الغائب" محدداً بشكل أكثر صواباً بعده محكياً من طرف السارد ولكنه مبأر على الشخصية.
والحقيقة أن مصطلح (التبئير) ذو حدود متشظية يسهل أن يتداخل مع المصطلحات الأخرى أو يأخذ بطرف منها فحين أخذ معنى (الرؤية) عند (ميك بال)( ) يحدد (جينيت) أكثر فيجعله حق الاختيار الذي يمتاز به السارد وحده في تضييق حقل الرؤية، قد أخذ معنى (المنظور) أو الإدراك في فكرة (الوكالة) عند (بيتر فيتو) حين يكون التبئير وكالة وجهة النظر لشخصية حكائية( ).
إن هذا التشعب والبحث عن الخيوط الفضية الفاصلة، بين قطعة فضية وقطعة أخرى: يوقع هذا المصطلح وحدوده المفهومية والإجرائية في كثير من الخلط والتشويش لم يتحفظ البنيويون من الضيق بها( ) رغبة في توحيد المفاهيم على نحو تطبيقي واضح.
الذي يهم البحث في التوليفة المفهومية، أن تتخذ مسْباراً للتفريق بين وجودين مهمين في عملية السرد القصصي هما:
المؤلف والراوي، فبحسب وجهات نظر البنيويين الذين بطبيعة الحال قد استنبطوا هذه المفاهيم على وفق نماذج حكائية موجودة في تراث شعوبهم البعيد أو القريب الحاضر، معنى هذا أن المنجز الحكائي العربي بما له من خصوصية وتفرد وتعبير عن طبيعة الواقع العربي والمنظومة الاجتماعية والدينية والفردية...الخ، يجعل من هذا المنجز ذا كينونة مخصوصة، تجعلنا ـ بالتالي، في حرية في (انتقاء) ما يلائم مظاهرها السردية من المنهج الغربي، فوكد الدراسة توجه أساساً إلى إقرار واقعة تجسد تقنيات القص الحديث في المنجز الحكائي العربي القديم إلا أن نقد القصة ـ والنثر عموماً ـ لم يلق من الاهتمام والتطور ما لقي الشعر من اهتمام النقد.
3- أنواع الرواة وصفاتهم:
يتضح في القصة الصوفية ورود نوعين من الرواة: رواية مفردة ورواة جماعة موجهة إلى مروي له مفرد أو جماعة، اعتماداً على ما تقدم عرضه من مقولة (الترهين السردي)، حين لا يكفي الحديث عن الراوي إلا في حضور المروي له، فأول سمة تسجل للقصة، الصوفية هي أنها قصة (موجَّهة وموجِّهة) وعنصر التلقي فيها عنصر أساس وحاسم وضروري، شأنها شأن القصص الشعبية والقصص الخرافية( )، ولا سيما حين تحولت قصص مشايخ الصوفية كالحلاج والبسطامي والشبلي وغيرهم إلى ما يشبه الأساطير في أسلوب حياتهم وعبادتهم وميتتهم.
على أساس ذلك تكون رواية القصة الصوفية مارة عبر المراحل الروائية الآتية:
1. المؤلف الواقعي: وهو مدون القصة في كتاب كما وصلت إليه من آخر سارد لها.
2. الراوي: وهو الذي نقل عنه المؤلف الواقعي وجاءت القصة على لسانه.
3. الخطاب أو السرد: وهو المروي بلغة الراوي وبأسلوبه وطريقته ومنظوره.
4. المروي له: مستقبل الظاهرة القصصية ممن سمع القصة من الراوي.
ومن البطل/ الراوي نفسه حين يروي عن نفسه أو عن شيوخه هنا يتضح جلياً أن (ثنائية "النطق والاستمتاع" تحيل إلى ثنائية الراوي والمروي له)( )، وقد تتداخل (الأصوات) السردية في بعض القصص. بحسب درجة البعد السردي وكثافة الحدث، فمن الأنواع القصصية البسيطة في درجة الرواية وهي الأكثر شيوعاً في القصص الصوفي، أن يذكر اسم الرواة (سلسلة) اثنين أو ثلاثة أو أكثر أحدهم سمع من الآخر حتى وصلت الرواية إلى (الراوي) الحقيقي المبلغ للمؤلف وهي طريقة (الخطاب المنقول بشكل غير مباشر) عن الشخصيات، من ذلك نذكر (سمعت محمد بن أحمد بن محمد التميمي، يقول: سمعت عبد الله بن علي الصوفي يقول: سمعت حمزة بن عبد الله العلوي يقول: دخل على أبي الخير التيتاني وكنت اعتقدت في نفسي أن أسلم عليه وأخرج ولا آكل عنده طعاماً، فلما خرجت من عنده ومشيت قدراً. فإذا به خلفي وقد حمل طبقاً عليه طعام فقال: يا فتى كل هذا، فقد خرجت الساعة من اعتقادك)( )، فالراوي هنا هو حمزة العلوي وهو أيضاً (شخصية) داخل الحدث القصصي وبطل ثانوي في القصة، وهو ما يعرف بـ (سرد الراوي الحاضر كشخصية في الحكاية التي يرويها) وهو السرد المتجانس( ) فهو (ذات) في القصة و (موضوع) أيضاً، وإذا شئنا التحديد أكثر قلنا أن هذا النوع من الرواة هو (ذات) في (الحكاية) أي شخصية مشاركة في الحدث، وهو (موضوع) بعد انتهاء زمن الحكاية فصار يروي عن نفسه بوصفها حدثاً حدث في زمان ومكان معينين، فخرج عن جلد (الشخصية) ودخل في مجال مهمة (الراوي). في حين بدت شخصية المروي لـه عبر سلسلة (السماع) من راو إلى آخر فقبل مرحلة (الراوي) فهو بشكل طبيعي (مروي لـه) أي (سامع) ثم تقمص دور (الراوي) وتحول سامعه إلى (مروي له)... وهكذا. هذا في القصص البسيطة في بنيتها السردية والقليلة الوظائف وهو للسرد الراوي الغائب عن المسرود وهو (السرد غير المتجانس).
أما في القصص المركب من ناحية البناء السردي فنجد تعدداً في الرواة والمروي لهم، فضلاً عن حصول (تبادل) أو مناقلة سردية في المواقع حين يحل المروي له محل الراوي أو العكس مثال ذلك ما يعرف بـ (حديث الغار)( ) يروى بسلسلة روائية طويلة تصل إلى أبي اليمان قال حدثنا شعيب عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: قال رسول الله (): انطلق ثلاثة رهط ممن كانوا قبلكم فآواهم المبيت إلى غارٍ فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فقالوا: أنه والله لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله تعالى بصالح أعمالكم فقال رجل منهم...) إلى بقية الحديث، والراوي هنا هو الرسول الكريم ()، وسنطلق عليه الراوي الأول الذي تقترب مهمته هنا من مهمة الراوي (الحكاية الإطارية) كما في قصص ألف ليلة وليلة في حديث شهرزاد إلى شهريار. وكلما قوي الجانب الخرافي أو الأسطوري في القصة، كان ظهور الشخصيات يتم في الحكاية على نحوٍ متوالٍ ومطرد فتصبح القصة الأم (الإطار) مجالاً أمومياً لتفريخ قصص داخل القصص زيادة في كثافة عنصر التخريف وتكريساً له، وبعد إنهاء هذه الحكايات الداخلية المتوالدة في داخل القصة، يعود الراوي الأول إلى المروي له ليتم تماسك الفعل القصصي ليصل إلى غايته المرجوة في التأثير والإقناع وإحداث الاستجابة.
وفي الغالب، يدخل (العنصر العددي) ملوناً مهماً في تشكيل هذا النوع من القصص وأقلها العدد (ثلاثة) أو أكثر. إن لهذا التكرار في الفعل الحكائي وتنوعه عنصراً داعماً لفرضية الفكرة القصصية التي أساسها الحدثي فعل لا معقول أو خرافي فهو مجال به حاجة إلى زيادة إقناع ووسائل ترسيخ وتدعيم لمصداقيته.
نعود إلى (قصة الغار) حين يبدأ الرجل الأول بذكر صالح أعماله، وهو بر والديه حين قضى الليل كله يحمل قدح الغبوق لوالديه وهما نائمان وقد كره أن يوقظهما، فظل على حاله إلى الصباح حتى سقاهما غبوقهما، وحال انتهاء الراوي الثاني من قصته تظهر شخصية (الراوي الأول) الرسول ()، مجالاً رابطاً بين الحكايات الداخلية في القصة، كعبارة (قال رسول الله ()): وقال الآخر. وحكى الراوي الثالث قصته مع ابنة عم له يعشقها وقدر عليها وتعفف لوجه الله، وهكذا وصل إلى القصة رقم (3) الذي أعطى كل ما يملك إلى أجير عنده لم يتسلم أجرته وقتها فدفع له كل ما يملك لأن هذا الخير كله هو من أجرة ذلك الأجير حين تراكمت وتوالدت...
هنا يتدخل الراوي الأول ليضع خاتمة لهذه القصص الداخلية فيحكم النسيج القصصي بانفراج الصخرة وخروج المحبوسين في داخل الغار( ). فاكتمل بذلك المبني الحكائي الذي لوحظ فيه أن شخصية الراوي الأول، مع بروز شخصية جديدة في القصة تنتهي لتصبح مروياً لها ليتصدى الراوي الثاني لمهمة (الراوي) وكذلك الآخران...
ثم يعود إلى دوره الأساس بعد نهاية قصصهما، هذه المناقلة السردية تسهم في إنتاج بنية قصصية مركبة وذات تقنية عالية في ممارسة الفعل الحكائي وتبادل الأدوار.
4- أما في القصص الموضوعي:
فحضور ثنائية (الراوي والمروي له) في القصص الصوفي الموضوعي، يبدو أكثر اتضاحاً بوصف الأخير اشتمل على خاصيته ـ ظهرت في الأعم الأغلب من نماذج قصصية ـ تمثلت في القصص الصوفي على لسان الحيوانات التي يكون فيها الراوي خارج مجريات الأحداث لكنه يقود عملية السرد، بشكل سردي يبدأ تجريدياً وينتهي تجسيدياً، ويربط الرمز بالواقع (الفكرة)، ويصرح بـ المضمون الغائي من رموز القصة التي (يرغب) الراوي بتوجيه المروي له على هديها، هذا التوجه الذي (يضيق) من أفق المعنى أحياناً، أو (يتمحل) لاستنطاق الحكمة التي يضيق عنها النص، في أحايين أخرى.
الذي يعني البحث عن هذه الميزة، أن الراوي هنا أحكم إغلاق نوافذ التجربة فلا يسمح بمرور الأشياء إلا بتوجيه منه، فتظهر شخصية الراوي ذات هيمنة على مجريات القص وإن اختفت لغة (الأنا) عن لغة القصة. فتظهر (وجهة النظر) ضمناً وصراحة، فتوجه (الراوي) الضمني يتمظهر في حركة مفاصل القصة من استهلال وشخصيات وزمان، وصراحة حين يعرب الراوي في نهاية القصة عن حل الشفرة التي بنى عليها النص والفكرة والشخوص من هنا كانت (وجهة النظر) (حيلة تقنية ووسيلة للوصول إلى أهداف أكثر طموحاً.. وهي الوسيلة التي توجد في متناول المبدع ليكشف عن نواياه الخاصة، وللتأثير في الجمهور)( )، وضروري لتقييم مستوى هذه التقنية، أن نعمد إلى رؤية شمولية تربط بين (تقنية) الطرح، وعموم المعنى الذي يسعى الراوي بثه إلى جمهوره، وإلى حد ما ينبغي على المروي له أن يسلم قياده إلى الراوي ويتقبل ما يسديه إليه من المروي له أن يسلم قياده إلى الراوي ويتقبل ما يسديه إليه من معان. ولا يفرض المروي له قناعاته الخاصة على الأثر، فللراوي( ) شدة النصح والطرح والتوجيه وعلى المروي له أن يتقبل ولا يفرض مقاييسه على عمل الراوي. وما تصريح الراوي بالهدف من القصة، إلا إعلاناً عن هذه السلطة التي يتسنّم سدتها الراوي الذي له القدرة على قول الحكاية الواحدة بألف شكل وألف صياغة ووجهة. وإلا فإنه يترك للمروي له متعة اكتشاف الرمز وما يشير إليه دون إملاء وحث.
إن المحور المركزي الذي يشتغل عليه عمل الراوي في القصص الموضوعي هو شكل (الراوي > الشخصية) أي ما تسمى بـ الرؤية المجاوزة، حيث يكون الراوي أكبر من شخصياته وأعلمهم بالحوادث ولا يعنيه أن يفسر سبب علميته هذه أو كيفية حصولها عنده، إنما هو يخترق النيَّات والمقاصد والأفكار، كما يخترق الجدران ليعلم بما يدور وراءها من أحداث وحوار.
والراوي هنا، يكون بمعزل عن شخصياته ولا علاقة تربطه بهم فالسرد هنا (سرد لاحق) بحسب تصنيف البنيويين للأنماط السردية( ) يسرد أحداثاً خارج دائرة الحاضر أو المستقبل بل أحداث سبق حصوله في زمن ما يسردها الراوي وهو صوت غائب عن الشخصيات يحكي الحكاية من الخارج، وتطبيقاً على ذلك، ننظر في بعض قصص (المثنوي) التي أثارت الاهتمام إليها من قبل دارسين عرب ومستشرقين( )، بفضل إتقانه وبراعته في فن الأداء القصصي لحكايات تتعلق بالأنبياء والحكماء والصحابة والصوفية والزهاد وبعض الملوك والخلفاء قاصداً منها إلى مرام حكمية وفلسفية وأخلاقية عبر أسلوب يحافظ على تماسك القصة ووحدتها، بل كثيراً ما كان يوقف سرد القصة ليعلق على إحدى وقائعها، ثم يعود من جديد فيستأنف رواية القصة وربما توقف على النحو ذاته للمرة الثانية أو الثالثة كلما شعر بالحاجة إلى هذا التوقف للتعبير عن فكرة أو لتقرير معنى)( ) وقد تضمن (المثنوي) نحو (275) قصة نجح مؤلفها في صياغة الأفكار على نحو من البراعة والتفنن في الحوار بما لا يخلو من تفسير نفسي أو نقاش فكري يجنح بالمتلقي نحو عدم التمسك بظاهر القصص، أو المعاني الحرفية للقصص من دون الغوص إلى لُباب المعنى، وحقيقة المراد، وجوهر المفاهيم. وهذا في حد ذاته هدف صوفي واضح في مفهوم لقضية الظاهر والباطن، ويبدو أن هذا هو السبب في (الوقفات) التي يفتعلها (الراوي) للتوجه إلى خطاب المروي له لكي لا يذهب بفكره بعيداً عن مرامي الراوي. فكانت (القصة) واحدة من أساليب الصوفية لعرض أفكارهم، على أنها لم تغفل المعالجة الجمالية للفكرة المجردة.
يستأنس البحث بعرض مثال تطبيقي على هذا اللون من القصص، ومنه سنستشف مقومات حضور الراوي والمروي له في قصة قصيرة ذات حدث واحد وعقدة بسيطة معلومة البطل وقصة مطولة فيها أحداث كثيرة وذات نهاية مفاجئة، رمزية الشخوص.
في القصة القصيرة البسيطة التركيب، يظهر أحد الخلفاء الراشدين (رض) وهو الخليفة عمر بن الخطاب (رض) في صورة جدل مع أحد الرجال حول رؤية الهلال في مقتبل شهر رمضان( ) توهم الرجل في رؤية الهلال حتى خاصم من معه، فنصحه الخليفة ببل حاجبيه ومسحهما ثم النظر إلى الأفلاك، عند ذلك لم يرَ الرجل الهلال، فقد تقوست شعرة من حاجب الرجل فسددت إليه سهاماً من الظن عند هذا الموضع من القصة تنتهي الأحداث ليطلع الراوي بلغة الأنا مبدياً وجه الحكمة في هذه القصة فيقول: (فإذا كان شعرة معوجة تصبح حجاباً للفلك، فكيف يكون الحال لو اعوجت كل أعضائك؟! فلتقوِّم أعضاءك باقتدائك بأهل الاستقامة...)( ) وتستمر هذه الجمل الوعظية الخطابية في صفحة ونصف، في حين استغرق سرد القصة نصف صفحة فقط (من القطع المتوسط)، إن دخول الراوي في هذا النسق المنبري الموجه، يقف دليلاً على أن القصة إنما قصدت ليست بوصفها فناً جمالياً، أنّها كانت القصة تلك (الحيلة) التقنية في عرض الفكر بأسلوب جميل مؤثر، فقيمة القصة تقع في ما وراء القصة.
أما القصة الأخرى، فهي تشتمل على تقنية سردية أكثر تعقيداً، تبدأ القصة بصوت الراوي الغائب العليم، بقوله( ): (إن حلقة هؤلاء الصوفية المستفيدين، حين بلغت مداها من الوجد والطرب، أخضر الخوان من أجل الضيف، وحينذاك تذكر دابته فقال للخادم: اذهب إلى الحظيرة وهيئ التبن والشعير من أجل الحمار…). وبعد كل أمر يأمر به الرجل الخادم يحوقل الخادم ويحدث نفسه بأنه لا يحتاج إلى مثل هذه الأوامر فهو عمله من قديم الزمان في رعاية الضيف وتهيأة الظروف الملائمة لمبيت حيواناتهم من أكل وفراش تبن وسقاية ونظافة الموضع… الخ، حتى سئم الخادم من هذه الأوامر وخرج ولم يفعل ما أمر به، ونام الضيف واستيقظ على إثر رؤيا مفزعة حول حماره، ليجد حماره يتهاوى من الضعف والوهن وما كان في ظن الضيف أن حماره جائع وعطشان، وحين أقبل النهار، جاء الخادم ووخز الحمار بإبرة لكي يبدو نشيطاً أمام سيده الضيف. آنذاك تظهر شخصية الراوي المختفي وراء الأحداث فيعلن عن ألم لهذا الموقف فيقول (فأخذ الحمار يتوثب من وخز الإبرة، ومن أين له اللسان ليفصح عن حاله؟)( )، وحين سار الحمار وعلى ظهره سيده، بدأ يتساقط من الوهن، وحاروا في تشخيص علته حتى قال الشيخ: (وهنا تبدأ بوادر حل الأزمة السردية بالانفراج) فيقول الشيخ: (إن هذا الحمار الذي تعشّى بالأمس حوقلات) لا يستطيع أن يسير إلا على هذا النحو. فما دامت الحوقلات هي كل غذائه بالأمس، فقد قضّى الليل في التسبيح، وها هو ذا يقضي النهار في السجود!!).
تنتهي هنا القصة بهذه الخاتمة البليغة، وعند ذلك تظهر شخصية الراوي المفكك لشفرة النص، فيقول: إن أكثر الناس آكلة للبشر، فلا تلتمس في تسليمهم عليك كثيراً من الأمان… الخ من الجمل الوعظية البليغة التي تستغرق سبع صفحات في حين استغرق سرد القصة أربع صفحات فقط.
نخلص من خلال تحليل بنية الرواية في هاتين القصتين، إلى أن شخصية الراوي في القصص الموضوعي ذات هيمنة أعلى على عملية السرد أو مجريات الحدث ومراحله، منها في القصص الذاتي المفروض أنه تتجلى فيه لغة (الأنا) والحكاية عن الذات أو عن ذوات لهم علاقة بالذات الساردة، فالسارد في القصص الموضوعي، خارج الحدث لكنه مركزي التأثير وبيديه كل خيوط القصة بفعل رؤيته المجاوزة التي (تعلم) أكثر من شخصيات القصة وتتحكم بوجهة التلقي
مخطط رقم (1)
وجهة النظر في القصص الموضوعي
بناءً على ما تشير إليه هذه المخططة، تبين أن الراوي في القصص الموضوعي يشتغل على محورين من التأثير:
الأول: نقل الحدث القصصي وبطبيعة الحال، فإن عملية النقل هذه لا تتم إلا من خلال (منظور) السارد.
الثاني: تدخل الراوي في تفكيك شفرات النص، بالإعراب عنها في خاتمة القصة أو في سياقها أي تحديد وجهة التلقي، والمغزى من القص.
5- في القصص الاسترجاعي
يأتي هذا النمط من القصص الموضوعي مثالاً على تلك الوقائع المحللة من الداخل، أي أن البطل هو الذي يحكي حكاية حدثت له في زمن ماضٍ ولكن ليس في عالم الحضور (القصص الذاتي)، وإنما في (عالم الرؤيا) والأحلام، وهو الشاهد الأوحد على أحداثها، معنى ذلك أن (شخصية الراوي)، (شخصية البطل) تتحدان في هذا النمط من القصص.
وفي هذا النمط تظهر عدة تقنيات سردية يقولبها (الراوي/ الرائي) بحسب الحاجة إلى (إقناع) المستمع مستخدماً مرجعياته التي يتشارك فيها مع مستمعه من مثل البنية الثقافية المشتركة والشائع من الأفكار والإرشادات الخاصة بالمذهب الصوفي وما عرف من سير الصالحين والشيوخ والأقطاب فضلاً عن الرسول الكريم () والصحابة والأولياء. فخلق بذلك جسراً إقناعاً للمتلقي بوصفهما ـ معاً ـ يصدران عن بنية مرجعية متشابهة، وسيتضح المقصود من خلال النماذج التطبيقية، التي اشتملت على خصائص بنيوية أنبت عليها تقنية القص فيها، ومن بعد ذلك نستخلص آلية اشتغال القص الرؤياوي في المعاني الصوفية.
اشتهر عن الشيخ ركن الدين محمد بن محمد بن محرز الوهراني المتوفي سنة (575هـ)، وهو من رجالات القرن السادس الهجري كتاب يضم (منامات الوهراني)( )، برز من بينها رواية منام طويل، له شبه كبير بموضوعة (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري (ت449هـ) وبين الرجلين (136هـ) سنة فلا يبعد اطلاع الوهراني على رسائل المعري المشهورة الفارق الجوهري بين منام الوهراني ورسالة المعري، إن الأخير تناول رحلة يقوم بها ابن القارح بين الجنة والنار يقابل فيها الشعراء الجاهليين يسألهم عن صنيع الله تعالى بهم، فيتحول رد الرسالة التي بعثها إليه ابن القارح إلى رحلة( ) متخيلة بينما رؤيا الوهراني( )، يكون هو البطل فيها والراوي يتجول بين الجنة والنار والأعراف فيرى مصير أقرانه وشيوخه وعلماء عصره، وكيف كان حسابهم في حوار صريح جداً( ) أحياناً يعدد فيها مثالب أصحابه وبعض المتصوفة والشيوخ.
لا أبغي عقد موازنة بين العملين ـ وإن كنت راغبة في ذلك ـ لأن بين العملين فروقاً بينة ـ كما فيها من عناصر شبه ـ يقف في مقدمتها أن المعري في رسالته قصد (الرد) الفني على رسالة صديقه في شكل اقتراح رحلة خيالية، أما رؤيا الوهراني فعمل، اتخذ من نمط الرؤيا الحلمية سبيلاً مقنعة للطابع الخيالي لأحداثها.
الذي سيركز الحديث عليه في هذه الفقرة من البحث، هو شخصية الراوي في هذه الرؤيا وطبيعة علاقته مع المروي له، فيما يتعلق بالراوي، يلحظ أن تدرج الرؤيا يمر عبر مراحل ثلاث يكون (للراوي/ الرائي) عنصر الهيمنة الأساس في توجيه الفعل القصصي، وهذه المراحل هي:
1. كلام استهلالي يبين فيه المؤلف الظرف النفسي الذي دعا إلى حصول هذه الرؤيا، يقول (لقد فكر الخادم ليلة وصول كتابه إليه سوء رأيه فيه وشدة حقده عليه، ويبقى طول ليله متعجباً من مطالبته لـه بالأوتار الهزلية بعد الزمان الطويل وامتنع عليه النوم لأجل هذا إلى هزيع من الليل... ثم غلبته عينه بعد ذلك فرأى فيما يرى النائم...)( ) والخادم هنا وصف متواضع للمؤلف إزاء شيخه العالم، فأعطى الراوي في هذه الفقرة محور السياق العام الذي تنضوي الرؤيا تحته وفي ظرفه.
كلام الاستهلال هنا، بما يشتمل عليه من إشارات تخلق توقعاً عند المتلقي بما سيحدث وعلى من ستتركز الأحداث ـ يجعل هذا اللون من القصص يدخل تحت مفهوم (التوقعية)( ) التي تضم القصص التبشيرية والرمزية والحلمية، وإن الحدس بمفارقة سردية تتم عبر استعادة الرؤية والحديث عنها يدعى نقدياً بـ (التوقع السردي).
2. رؤيا البطل التي تستغرق ثلاثاً وأربعين صفحة تفصل الكلام في رحلته إلى الجنة والنار والأعراف وتتحول فيها لغة الخطاب إلى (الأنا) بعد أن كان يكني نفسه بلفظ (الخادم)، فصار يقول (فخرجت من قبري أيمم الداعي إلى أن بلغت إلى أرض المحشر...)( ) ويستمر حتى يشكل متن القصة بأكملها.
3. قبل الخاتمة، يلحظ في سياق الرؤيا تبادل في الأدوار بين (الراوي) و (الرائي)، فتحدث انقطاعات يظهر لنا الراوي فيها معرفته بأشخاص معينين ويذكر معايبهم وتوقعه لهم بهذا العذاب الذي ينتظرهم وهم في عرصات القيامة للحساب، ويبين لشيخه جمال الدين، أن في القيامة أهوال يعاقب عليها الناس لكن الناس في الدنيا تستهين بها، بينما الشيخ الراحل جمال الدين ينقم على الخادم (الراوي) مخاطبته إياه بلا ألقاب في كتاب بعثه إليه الخادم من ثلاث سنوات خاطبه فيه بمجرد الاسم( ) فجعل ذلك سبباً لقطيعة وحقد لا يزول. فمما يمثل ذلك المقطع الذي يعدد فيه الراوي مثالب كمال الدين الشهرزوري( ) وسواه، ممن يضيق المقام عن تفصيل ذكرهم وسيرجئ الكلام فيهم في المبحث اللاحق.
4. الخاتمة جسدت براعة الراوي في ربط الرؤيا بالواقع في سياق تعبيري متجانس كأرقى ما يصل إليه الأسلوب الروائي العالي، فيذكر فيها، بعد أن يبين الضجة العظيمة التي أقبلت عليهم وهم الشاميون الذين أخذ الطرفات عليهم علي (ع) (وجاء على مقدمتها محمد بن الحنفية يزأر في أوائلها مثل الليث الهصور، فلما انتهى إلينا صاح بنا صيحة عظيمة هائلة، أخرجني من جميع ما كنت فيه، فوقعت من على سريري، فانتبهت من نومي خائفاً مذعوراً، ولذة ذلك الماء في فمي، وطنين الصيحة في أذني ورعب الوقعة في قلبي إلى يوم ينفخ في الصور...)( ).
ثم تغيب صورة (الرائي) لتعود صورة (الراوي) كما ابتدأت الرؤيا في الاستهلال، فيربط سبب هذه الرؤيا، وما لاقاه في مضمون الرؤيا فيقول:
(كيف يرى سيدنا هذا النفس الطويل، والهذيان الذي أثاره التعتب والانتقام؟ وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وآله وأصحابه…)
والحقيقة، أن هذا التدرج في موقعية الراوي والرائي في هذه القصص، يبني عليه تدرج آخر، وهو تدرج الأسلوب.
1. بين لغة الأنا كما تظهر لغة المقدمة الاستهلالية من كتابة (الخادم) إلى صيغة المتكلم ا لحاضر.
2. وفي سياق الرؤيا على طول صفحاتها، يتحول الرائي إلى راوٍ لمجريات الأحداث.
3. في الخاتمة تظهر لغة الخطاب في محاولة ربط عالم الرؤيا في موقف الشيخ الغاضب المنتقم.
ومما يحسب لهذه القصة الرؤياوية، جميل ألفاظها، وحسن العناية ببلاغة معانيها في صياغة جميلة اعتمد في أغلبها المؤلف موسيقى السجع الذي ينم عن ثراء لغوي وذائقة صافية غير متكلفة.
المبحث الثالث بنية المروي الصوفي
بين المبحث السابق، فاعلية ركني الخطاب الأدبي المرسل والمرسل إليه في بث الرسالة الأدبية التي تمثلها هنا العملية السردية التي يعدها (كريماس) قائمة (على مجموعة من الملفوظات المتتابعة والموظفة المستندات فيها لتشاكل (السنياً ـ جملة من التصرفات الهادفة إلى تحقيق مشروع)( )، بوصف الأدب نظاماً من العلاقات، وهكذا يعد الخطاب السردي مشروعاً منظماً وفق الغابات القصوى المقصود بلوغها( ) بسبب ذلك الارتباط المهم بين الخطاب الأدبي وبين عنصر السببية، فكل فعل كلامي صادر من مرسل يستوجب مقدمات دعت إليه مع ضرورة انعكاس هذا الفعل على (مرسل إليه) يتلقى هذا الفعل ويتفاعل معه بشكل أو بآخر فعلى وفق هذا الاشتراك والتعالق، ويكون (العامل) في العملية السردية مرتبطاً بـ (الموضوع) بحسب اصطلاح (كريماس) إذ العلاقة بين العامل والموضوع تكون محملة بالشحنة الدلالية الكامنة في الرغبة( )، فحين يتم الكلام عن المروي الصوفي مثلاً فلا يمكن بحالِ، تحليله بوعي مجرد إنما ثمة ترابط وظيفي تحكم الأفعال فيه علاقات وظيفية تشكل هذه العلاقات قواعد مشتركة بين النصوص الحكائية، كما تحدد لها نمطاً بنيوياً يكاد يكون واحداً( ).
من هنا، أجد الخصوصية التي يمتاز بها هذا البحث، من ناحية كون دراسة بنية المروي لا يوقف على تمظهراتها بشكل مجرد، بسبب أن انبناء المروي يتوقف على تفاعل الشخصية الحكائية ووجهة النظر التي ينهض بها الراوي، وكذلك حضور شخصية المروي له، حتى يتكامل أركان العمل الروائي من شخصية ووظائف وراوٍ ومروي له، فما (المروي)، إلا جماع تفاعل كل هذه العناصر والأركان. وسيتم الكلام عنه الآن ـ ولمّا يفصل الحديث في الشخصيات والوظائف ـ لسبب مهم هو أنه أحد مكونات البنية السردية الأساس لأي خطاب أدبي، فلا بد أن تتكامل صورة المكونات الأساس ليتسنى بعد ذلك القول والتفصيل في الشخصيات والوظائف وآليات السرد، وأسلوبيته أيضاً. وتأتي أهمية هذا المحور (المروي) في درس المبني القصصي، من حقيقة كون تحليل العلاقة الناشئة والمكونة للنسيج القصصي في القصة لا يقوم إلا على الفعل، الذي يمثل اللولب المحوري الذي تتحرك ـ على وفق إيقاعه ـ أركان العملية السردية الأخرى من شخوص وراو ومروي له ووظائف، فمن منطلق هذه الأهمية المركزية التي يضطلع بها (الفعل) القصصي الذي في النهاية يمنح الحكاية قيمتها الموضوعية، ومستوى تمثيلها لشريحة ما، ثم إعطاء تصور لمستوى تفكير منتج هذه القصة من حيث عنصر الاختيار الذي على أساس منه، توجه اهتمام المؤلف نحو هذا الفعل القصصي دون غيره في الموضوعات ونوجه العناية إلى مسألة مهمة تتعلق بالفعل القصصي، التي هي: أن (الفعل القصصي) الذي تنهض به شخصيات معينة داخل نسيج البنية السردية للخطاب، ينضوي تحت لواء مصطلح (الحكاية) ويرتبط به. في حين يكون القول المخبر عن ذلك الفعل، يعود إلى مفهوم (الرواية)، وبامتداد (الفعل) و (أسلوب قصة المخبر عنه) يتشكَّل الخطاب القصصي في صياغته التي تعرض أمام المروي له (متلقي القصة) يوضح هذا المخطط الآتي هذه الفكرة:
مخطط رقم (2) ماهية الخطاب القصصي بين الحكاية والرواية
بناءً على ذلك، يتشكل الخطاب القصصي من (فعل) الحكاية (المادة الخام للقصة)، ومن طريقة روايتها بالكلمات فيترتب على أساس هذه الثنائية (الحكاية والرواية)، ظهور مستويين في الزمن القصصي وهما:
1ـ زمن الفعل الحكائي.
2ـ زمن الفعل الكلامي.
يدعوهما (جينيت) بـ زمن القصة وزمن الحكاية( )، وأحياناً يستعاض بـ (السرد) بدل القصة، ولا شائبة على المفهوم المراد على وفق التوضيح الذي حدده البنيويون في الفصل بين القصة والحكاية، وكما أوضحه المخطط.
قبل أن نستعرض تحليلياً نماذج المرويات الصوفية تجدر الإشارة إلى أن ثمة اختلافاً في المسافة الزمنية التي تصل فيها زمن القصة إلى المتلقي، وبطبيعة الحال فإن، زمن الحكاية أبعد عن لحظة الرواية( )، فالمروي له يتلقى (الفعل الكلامي) السردي القولي القصصي الذي يعبر عن (فعل حكائي) حدث في مدة سابقة قد تكون أياماً أو سنوات أو قروناً، أو أنها لم تحدث أصلاً حين يكون الفعل والحدث الحكائي خرافيين من صنع الخيال. لهذا فالنص الحكائي الأصل ي
المبحث الثاني ثنائية الراوي والمروي له
بعد الوقوف على الدور الذي ينهض به (الاستهلال) بوصفه بنية لسانية/ دلالية، في تأدية المعنى الصوفي بوسائل طرح متنوعة راعى منها الأديب العربي وحدة الجانب الموضوعي، مع فنيته ليخلق ترابطاً اتصالياً بين النص والمروي له.
بناءً على ذلك، وصدوراً عن قناعة مؤكدة بأهمية هذا الترابط الاتصالي بين أطراف الرسالة الأدبية…، نطرح الأسئلة الآتية، وفي ضوء المنهج المختار سيجتهد هذا المبحث في الإجابة عنها، وهي:
ـ من الراوي في القصة الصوفية؟
ـ ما مكانة الراوي أو السارد وعلاقتهما بجوهر العملية الأدبية؟
ـ ماهية المروي له: (السامع، المؤلف، القاري)…؟
الحقيقة أن مسألة حضور الراوي في الخطاب القصصي، ودرجة ذلك الحضور ونوعه، تعد من أهم مكونات الخطاب القصصي، والروائي والاهتمام بهذه المسألة جعل تنظير الشكلانيين يتجه نحو نقطة أعمق في تحليل عناصر (الأدبية) في النص، فميزوا أولاً بين (الخطاب) و (القصة) فالقصة هي مجموع الأحداث التي يتفاعل فيها أبطالها ضمن إطار زمني ومكاني معين، أما الخطاب، فهو الطريقة التي يتم بواسطتها إيصال القصة، أو أسلوب عرضها، وطرائق أداء الحدث القصصي من خلال حسن تعامل الأديب أو السارد مع مكونات البناء السردي لحكاية ما( ).
فكان أن توجه الاهتمام إلى النظر في علاقة الراوي بالسرد والشخصيات وكذلك تشخيص أنماط السرد، من خلال وجهة نظر الراوي؛ بين أن يكون (عليماً) بالأحداث وسابقاً عليها، وبين راو يتنازل عن مقعد (العالمية) ويترك للشخصيات حرية التعبير فيكون سرده متزامناً وليس استعلائياً. وظهرت على أساس ذلك مصطلحات سردية خاصة تتمحور مفاهيمها الإجرائية على البحث في نمط الرواية فنشأ ما يعرف بـ (وجهة النظر) أو (الرؤية السردية) و (زاوية الرؤية)، فصارت البنية السردية في النص القصصي، ينظر إليها من وجهة لسانية كما هو حال (الجملة) في التركيب النحوي، و (الأسلوب) في الشعر، لكن هذه الاستعارة المقصودة من اللسانيات لها إشكالات تتعلق أهمها بخصوصية أنواع الخطاب الأدبي وأجناسه المختلفة، هذه الخصوصية التي تمنح خطاباً ما مزايا بنائية وتشكيلية خاصة قد لا تصلح قالباً يستوعب محتوىً أدبياً لجنس آخر، لأجل هذا ينبغي النظر إلى هذه المسألة (القالب/ المحتوى)، نظرة انتقائية واعية تستنير بالمنهج وأسلوب النظر المنهجي والتفكير، ولا نضحي كذلك بمزايا النوع الأدبي المخصوصة، ولا سيما إذا توزع البحث الإجرائي على آداب أمم وجنسيات، وأزمان، وأمكنة متباينة، تحمل خصوصياتها المرجعية على صعيد اللغة والتفكير.
على وفق معطيات هذه الرؤية، نطمئن إلى تحديد مفهوم رصين ومتكامل للخطاب السردي من خلال استيفاء أركانه البنائية الثلاثة الأساس:
الراوي القصة المروي له
الخطاب
والتي لولا وجودها، لا يتم أي حضور لعملية السرد الأدبي، فـ (الخطاب السردي) إذن: هو الكيفية التي تروي بها القصة عن طريق راوي يبثها إلى مروي له( ) لغاية تعليمية وجمالية مخصوصة إذن فالقصة لا تتحدد قيمتها فقط بمضمونها وإنما لا بد أن تشتمل على بنية شكل أدبي جميل يتحدد بوصفه خطاباً موجهاً من منتج له طابعه الخاص الذي يختلف ضرورة، عن أي منتج آخر فيما لو أتيح له أن تظهر القصة بإبداعه، على الرغم من مضمون (القصة) واحد عند الاثنين، وهذا هو فحوى قول (فولفغانج كيزر) في (أن الرواية لا تكون مميزة فقط بمادتها، ولكن أيضاً بواسطة هذه الخاصية الأساسية المتمثلة في أن يكون لها شكل ما، بمعنى أن يكون لها بداية ووسط ونهاية)( ) ومعنى الشكل هنا، الطريقة التي تقدم بها القصة المحكية في الرواية، أنه مجموع ما يختاره الراوي من وسائل وحيل لكي يقدم القصة للمروي له( )، ولا يعني ذلك أن تتبع كل قصة (وجهة نظر) واحدة تستمر وتمتد على طول القصة، إنما واقع القص ينبئ عن إمكانية (الراوي) في القصة على المناورة في طرائق سرد متعددة تخدم في محصلة الغايات الاستقبالية من لدن المروي له، فما تعرضه تصنيفات الشكلانيين لوجهات النظر التي تظهر في شخصية السارد ما هو إلا عرض لأشكال صورة الراوي في السرد ولكن هذا لا يمنع أن تتداخل التصانيف وتتفاعل وتتحاور في سبيل تحقيق النص لغاياته، والحق أن التصنيف الأخير الذي تتحاور فيه أشكال وجهات النظر وتتجاور هو من أغزر طرائق الأداء السردي وأكثرها خصوبة للفحص النقدي والتحليل والنظر. ويجد (جان بوبون) في كتابه (الزمن والرواية) هذا النوع من وجهات النظر من النوع الذي تتعادل فيه شخصية السارد مع البطل فتتكاملان لتأدية عملية السرد، حين صنف (وجهات النظر) التي تظهر في شخصية (السارد) على النحو الآتي:
1ـ أن يظهر السارد باستمرار عبر (هو) البطل في القصة الكلاسيكية مع سارد يعرف كل شيء( )، وهو ما يعرف بـ (السارد العليم) أو الراوي العليم، وهو ما يغطي معظم الإنتاج القصصي حيث يمتلك الراوي زمام القص فيه بتجرد موضوعي، إذ ليس الراوي شخصية من شخصيات القصة، ولكنه يعرف الإطار الخارجي والهواجس الداخلية لشخصيات القصة( ) فيحاول بثها إلى المروي له، ولهذا يحلو للبعض تسميته بـ (سرد الراوي الغائب)( ) الذي يكون فيه الراوي غير متجانس مع المسرود على عكس سرد الراوي الحاضر الذي يكون شخصية في الحكاية التي يرويها وهو السرد المتجانس.
2ـ ويرى (بويون) أن ثمة مظهراً آخر لـ (الأنا) السارد حين تمحي كلية خلف البطل وهو سرد موضوعي، هنا يجهل السارد كل شيء من شخصيته (الخبر هنا يحل محل الخطاب).
3ـ النمط الثالث، تكون فيه (أنا) السارد متعادلة مع البطل فيحوزان معاً الأخبار ذاتها حول تطورات الحدث بكيفية واحدة.
ويعطي (جان بويون) أهمية خاصة للنواحي السيكولوجية وليس التقنية في أشكال الفعل الحكائي فهو إلى حد ما يشبه سارتر في عد الأسلوب والشكل، فعلين ثانويين في الظاهرة الأدبية فيقول (في مجال الفهم الذي يكونه ويقترحه الروائي حول شخصياته وحول الأوضاع، يعد كل ما يتعلق بالفنية الروائية المحضة، ثانوياً في العمق، بالنسبة لدلالات الرواية نفسها... فالمهم هو الأنتربولوجيا التي تكشفها أو تقترحها أو تثيرها الرواية حسب الحالات في ذهن القارئ)( ).
إن النظر إلى المحتوى الدلالي الذي تتضح به العملية الأدبية، أمر لا خلاف عليه لكل قول غاية مراد إيصالها، لكن من المهم التفريق بين أمرين:
الأول: ضرورة النظر إلى العمل الأدبي على مقدار متساو من الأهمية لكون العمل الأدبي بؤرة تكاثفت فيها كل عناصر النص ومفاصله لتشكل وحدة عضوية إذا فقد منها عضو، اختل النظام كله.
الثاني: فإن الشكل والأسلوب هما (الصورة) اللسانية التي يتقبل بها المتلقي (المحتوى) الأدبي أو الدلالة، هنا تفترق المواهب والقدرات، في أحكام صنعة الصورة اللسانية للفكرة المجردة لتضمن تقبلاً عالي المستوى للفكرة. وهل قام الفكر النقدي أساساً إلا على اختلاف المواقف حول (الشكل والمضمون) أو (الصورة والمحتوى)؟ من هنا، جاءت الدراسة الشكلانية للشكل الأدبي، محاولة لفك آليات تقنيات النص لمعرفة كيفية أداء الوظائف على حدة، وباستنتاج المحصلة النهاية لمجمل الوظائف الأخرى ـ نحصل على صورة متكاملة (لكيفية) إنجاز (المعنى) باستثمار تقنيات الفعل الأدبي. ويذكرنا هذا الكلام بـ الحدود الوظيفية التي اصطنعها (تشومسكي) بين (البنى السطحية) و (البنى العميقة)( )، فالأولى تختص بالشكل النحوي والأسلوبي والتقني، والثانية مجالها التأويل الدلالي. فكان لا بد من دراسة الشكل وذلك لصعوبة الوقوف على الحدث فقط لأن ثمة ترابطاً بين الحدث وفاعله والجهة المسلط عليها الفعل، ثم ناقل هذا الحدث، وهذا النقل يتم بوسائط يعوزها الفصل والتوضيح ولولا الوقوف عليها، واحتواء علامات كل منها الفارقة، لما أمكن تقدير قيمة النص ومستواه الإبداعي.
ففيما يخص (الراوي)، نجد أن السردية الحديثة أسندت النص السردي إلى تضافر عدد من الركائز ينبغي التمييز بينها بدقة وهي على النحو الآتي:
1. المؤلف الواقعي: وهو الكاتب الحقيقي الذي يعيش حياته خارج النص، ويمثل حقيقة ثابتة وشخصاً محدداً.
2. المؤلف الضمني: هو المؤلف الذي ينتمي إليه النص دون أن يوجد فيه وجوداً مباشراً بالضرورة، فهو الوسيط بين المؤلف الواقعي والعمل الأدبي.
3. الراوي: هو الذي يتولى وظيفة التصوير، والمراقبة فيمهد لخطاب الشخصيات، لكي يهيأ للعمل الأدبي يظهر من خلاله.
4. الشخصية: وهو الذي يقوم بالفعل الذي يتم سرده( )، ولو وضعنا هذا القالب النظري على القصة الصوفية، لوجدنا أن القصة الصوفية بوصفها متناً حكائياً كلاسيكياً، لها مؤلف واقعي هو آخر سلسلة روائية وقفت عندها القصة وضمتها دفتا كتاب بعد أن كانت تطوف بين الشفاه، ومؤلف ضمني يمثل آخر حلقة نقلت القصة من واقعها إلى المؤلف الواقعي الذي يثبت بدوره، القصة من خلال رؤية (سارد) لها تظهر القصة للوجود من خلال منظوره أن واقعاً وأن تخيلاً، وهو الذي يقوم أيضاً بتوزيع الأدوار، وتحديد فعل الشخصيات، ومجريات الفعل الزماني والمكاني.
يعني البحث كثيراً، أن لا يقوم فاصل بين الراوي والمروي له، في القصة الصوفية، إيماناً من الباحثة بحضور فاعل جسده المروي له في الأدب التصوفي يتمحور تأثيره في شخص المتلقي/ السامع في صورة (المريد) أو (السالك) أو التلميذ، فصفة (التعليمية)/ التثقيفية تعد جوهراً في العمل الأدبي الصوفي، وكل جهد يعاين الأدب الصوفي بمعزل عن هذه الرؤية، فهو جهد ركيك مبتسر وسطحي وغير واع لجوهر الفكر الصوفي ومراميه الفكرية التي حوربت وبطلت وكفرت.. فهي في حاجة إلى (جيل) يحمل فكر الشيوخ والأقطاب، ضماناً لبقاء الفكرة الصوفية على الصعيد المستقبلي، من هنا ننظر إلى الأدب الصوفي بوصفه استراتيجية عقلية اتخذت الأدب واحداً من طرائق الطرح اللساني لفكرها الديني، المذهبي، الأخلاقي.
تأسيساً على هذه النظرة، فإن البحث يجد في مصطلح (الترهين السردي)، ضرورة منهجية ذات طابع عملي لكونه يربط بين الراوي والمروي له بعلاقة تبادلية مترابطة وحتمية من خلال (الصوت السردي)، ومصطلح (الترهين السردي) من المصطلحات التي شاعت كثيراً في الدراسات السردية والذي يعود الفضل إلى اقتراحه إلى (بنفنست) الذي استعمله وهو يتحدث عن (الترهين الخطابي)( ) قائلاً بصدد الضمائر بأن بعضها ينتمي إلى تركيب اللسان، وبعضها الآخر هو الذي نسميه (ترهينات الخطاب) بمعنى الأفعال أو الأعمال المكتومة والمتفردة في كل مرة، والتي بواسطتها يرهن اللسان إلى كلام بواسطة متلفظ( ).
ويعني ـ (الترهين) إنجاز الفعل الكلامي راهناً، أي في (حال) يتم نقل هذا المفهوم اللساني إلى السرديات( ).
والمبتغي العملي في مصطلح الترهين السردي، يتعين في أن (أنا) السرد في الخطاب السردي أو (أنت) كضمائر هي ببساطة (ترهينات سردية) أو (أصوات سردية) منتجة من خلال السرد أو الخطاب... ولو شئنا تقريب المراد أكثر فنمثلها بالضمير it، وهذه الترهينات السردية كيفما كان الضمير المنتجة بواسطته والمتوجهة إليه، لا تحيل إلى شيء خارجي عنها، ولأن وجودها مرهون في العمل الكلامي المنجز، ومرهون به أيضاً( ).
وتأتي أهمية عد (الراوي والمروي له) ترهينين سرديين، للوقوف على المسافة الفاصلة بين المؤلف الواقعي للقصة وهو كيان إنساني مشخّص ومعهود و... الراوي الذي ليس له وجود إلا على الورق، عليه فالراوي والمروي له صوتان سرديان يظهران من خلال الخطاب السردي على الرغم من أنهما ليس لهما وجود تشخيصي على أرض الواقع. وسيكون هذا المصطلح مسباراً مهماً يجلي حدود ثنائية (الراوي والمروي له) في القصة الصوفية بأنماطها الثلاثة.
1- الراوي والمروي لـه في القصص الصوفي الذاتي
القصة والحكاية
اعتماداً على مسيرة البحث المنهجية في المبحث السابق، تتوجه الدراسة الحالية إلى دراسة موقع الراوي والمروي له في القصة الصوفية، من خلال الوقوف على إضاءات المنهج المختار في إيضاح كيفية النظر وكيفية الدراسة ليصح فيما بعد صورة الاستنتاج وتكامل الصورة. بدءاً، يجب التفريق بين مصطلحين غاية في الأهمية في موضوع السرديات القديمة منها والحديثة، واللذان يبدوان للوهلة الأولى أنهما يقعان في دائرة الترادف الدلالي، هما (القصة) و (الحكاية)... إذ ثمة فرق بين المصطلحين دقيق. يشخص هذا الفرق مظهرين أساسيين في تمييز العمل القصصي، فـ (الحكاية): هي الأحداث المروية والشخصيات المتحركة في محاولة لمحاكاة الواقع مع قدر من الخيال يخلقه ذهن الأديب. وليس بالضرورة أن تصل الحكاية إلى المتلقي بطريق اللغة والكلمات فقد تكون في شريط سينمائي أو لوحة فنية( ).
أما (القصة): فهي نسيج سردي يختزل الخطاب إلى منطق وأفعال ووظائف ملغياً بذلك أزمنة ومظاهر وأنماط القصة ـ كما هي عند تودوروف وبارت ـ فالقصة هي وصف أفعال عبر حكايات سردية( )، وهي الكلمات الواقعية الموجهة من الكاتب إلى القارئ.
والدراسة البنائية للقصة تبدأ من هذه النقطة فتباشر القصة من خلال نسيجها اللغوي المسجى أمامها على الورق وهنا يبدأ العمل بتشريح القصة على وفق ثلاثة محاور رئيسة:
الأولى: تشتمل على إيضاح العلاقة بين زمن الحكاية وزمن القصة.
الثانية: إيضاح وجهة نظر الراوي، في سرد الأحداث.
الثالثة: أسلوبية الراوي في بث القصة إلى متلقيها.
وقد انتهينا في ورقات البحث السابقات إلى أننا نتعامل مع القصة الصوفية من وحي كونها نمطاً حكائياً (مكتوباً) أي تبدأ معها في اللحظة التي سجلت وقيدت بين دفتي كتاب فأخذت شكلاً لغوياً معيناً انتهت معه مرحلة الشفاهية المتشيأة والمتغيرة مع كل راو وكل زمان.
فالنص السردي الذي نتعامل معه عبارة عن (حكاية) وهي مضمون سردي أي (مدلول) و (قصة) ـ أي خطاب قصصي ـ بمعنى (دال)( ).
بناءً على ذلك يدعو (جينيت) إلى تحديد مجالات البحث بتعديل ما اقترحه تودوروف) من تقسيم دراسة القصة إلى ثلاثة مستويات هي:
الزمن ـ الذي يفصح عن الفرق بين زمن الحكاية وزمن الخطاب.
المظهر ـ وهو الطريقة التي يتمثل بها القاص أحداث الحكاية.
الصيغة ـ نوع الخطاب الذي يستخدمه الراوي.
فيضيف لها (جينيت) مستوىً ثالثاً بعد الإبقاء على الزمن والصيغة مستوى (الصوت) ويشير به إلى الطريقة التي يتدخل بها كل من المرسل والمتلقي في عملية السرد( )، وهذا ما يحيلنا إلى أهمية مفهوم (الترهين السردي) الذي يجعل من حضور المروي له، عنصراً فاعلاً في عملية السرد، بل لا يقوم السرد بانعدامها، إلى الحد الذي يصرخ فيه (برنس) قائلاً. لا يتحقق أي سرد، في غياب المروي له)( ).
وإذا ما أخذنا قصة (الجنيد والشبلي)( ) وقصص ذاتية أخرى( )، مثالاً على تحديد الفرق بين الحكاية والقصة، نلجأ إلى طريقة أجدها ناجعة في تشخيص ذلك الخيط الدقيق والمهم بين الحكاية والقصة، هذه الطريقة تعتمد على (تكثيف) القصة واختزالها في جملة قصيرة أو أقصوصة موجزة هي لب الحدث القصصي الرئيس ـ فإذا ما أمكن ذلك تبين الفرق واضحاً بين ماهية الحكاية وماهية القصة، من خلال هذا الجدول:
تالقصة الحكاية بطريقة الاختزال
1(الجنيد والشبلي) وتتكون من 39 كلمة.الشبلي إذا دخل في حال (الحضور) غلب عن أشد ما يلفت الإنسان من رغائب.
2الشاب الذي غشي عليه حين رأى غبار ذيل بنت عمه. يقع في 74 كلمة. الصوفي في حال التجلي والستر مثل العاشق الذي يغشى عليه إذا رأى غبار ذيل حبيبته فبعض الإشارة تكفي للخواص.
3قصة ذي النون المصري ومسألة الحضور في 64 كلمة. في حال الحضور يغيب الصوفي من الوجود وعن نفسه حتى يبحث عنها وكأنها شيء ضائع فهو من الذاهبين إلى الله.
جدول رقم (2) يبين الفرق الكمي بين القصة والحكاية.
بإطلالة متأنية على محتويات الجدول الذي يبين الفرق (الكمي) فضلاً عن النوع والشكل، بين الحكاية والقصة، فما تريد (الحكاية) قوله في عشرين كلمة، قد تستغرق القصة سبعين أو ثمانين كلمة لقول هذه الحكاية، وذلك لأن القصة لا تحمل معها الحكاية فقط، إنما الأسلوب والترتيب والبلاغة والاستهلال والخاتمة وتفصيل صفة الشخصيات في إطار زماني ومكاني معين...، ولو اعتمدنا اختزالاً أكثر لتبين أكثر ذلك الفرق بين الكينونتين الحكائية والقصية.
2- المؤلف والراوي:
عنيت الدراسات البنيوية للقصة، بتجلية وظيفة كل من: المؤلف الحقيقي والمقصود (مدون) القصة، وبين الراوي، الذي تسرد الحكاية بلسانه وعن طريقه. وهو ما يسمى بـ (البعد السردي) الذي يميز فيه (جينيت) بين ثلاث حالات للخطاب الملفوظ أو الداخلي للشخصيات في السرد وهي( ):
1. خطاب مسرود أو محكي: وتتسم بالإيجاز لا يقدم فيها الراوي حوار الشخصيات وإنما يحمل فكرة القصة في عبارات تقديرية.
2. خطاب منقول بأسلوب غير مباشر: يكون فيها الخطاب الملفوظ ماراً عبر قناة ناقلة يصعب الاطمئنان إلى الأمانة الحرفية في النقل.
3. خطاب المنقول مباشرة: وفيه يعطي القاص للشخصية حرية الكلمة والتعبير والصوت يكون للشخصية.
الحقيقة أن النمط الثالث، يمثل تطوراً تقنياً في مجال القص، الذي يضع القارئ منذ الجملة الأولى في القصة، في لب العملية السردية ومن تفكير الشخصية وسلوكها. وأما أنواع السرود التراثية والكلاسيكية التي تطغى عليها سمة (الحكائية) فأكثر ما تكون من النمط الثاني، حين يكون مرة المؤلف الواقعي هو الممسك بزمام الحدث ومحرك الشخصيات، ولا يتماهى في مرويه وشخصياته كما هو حال النمط الثالث، ومرة يطغى صوت الراوي ناقلاً القصة من منظوره. أما النمط الأول فمجاله الحيوي هو ميدان القصة الأيدلوجية أو الأخلاقية الموجهة( ).
ومن خلال هذه المباحث ظهر ما يعرف بـ مصطلح (بؤرة السرد). أو المنظور أو وجهة النظر، التي يرى (جينيت) أنها المشكلة التي ظفرت بقدر كبير من الاهتمام عند تحليل التقنيات السردية( )، التي أعيدت صياغتها على يد (جينيت) في شكل مصطلح (التبئير) الذي ظهر بتسميات أخرى عند البنيويين الفرنسيين وخاصة (جان بويون)، والروس خاصة (تودوروف)، فكانت على الشكل الآتي الذي يوضح الفكرة الواحدة والتسميات المختلفة عند الثلاثة( ):
جينيت بويون تودوروف
التبئير في درجة الصفر الرؤية من الخلف السارد يعرف أكثر مما تعرفه الشخصية الرؤية المجاوزة
التبئير الداخلي الرؤية مع السارد يعرف نفس ما تعرفه الشخصية الرؤية المصاحبة
التبئير الخارجي الرؤية من الخارج السارد يعرف أقل مما تعرفه الشخصية الرؤية الخارجية
جدول رقم (3) التسميات المتعددة للمنظور
ويأتي تصور جينيت للـ (التبئير) لتفادي الخلط بين الصوت والمنظور، أكثر مما كان أعاده تحديد لمفهوم وجهة النظر أو الرؤية، لقد أصبح القول: "حكاية مروية من طرف شخصية، ولكن بضمير الغائب" محدداً بشكل أكثر صواباً بعده محكياً من طرف السارد ولكنه مبأر على الشخصية.
والحقيقة أن مصطلح (التبئير) ذو حدود متشظية يسهل أن يتداخل مع المصطلحات الأخرى أو يأخذ بطرف منها فحين أخذ معنى (الرؤية) عند (ميك بال)( ) يحدد (جينيت) أكثر فيجعله حق الاختيار الذي يمتاز به السارد وحده في تضييق حقل الرؤية، قد أخذ معنى (المنظور) أو الإدراك في فكرة (الوكالة) عند (بيتر فيتو) حين يكون التبئير وكالة وجهة النظر لشخصية حكائية( ).
إن هذا التشعب والبحث عن الخيوط الفضية الفاصلة، بين قطعة فضية وقطعة أخرى: يوقع هذا المصطلح وحدوده المفهومية والإجرائية في كثير من الخلط والتشويش لم يتحفظ البنيويون من الضيق بها( ) رغبة في توحيد المفاهيم على نحو تطبيقي واضح.
الذي يهم البحث في التوليفة المفهومية، أن تتخذ مسْباراً للتفريق بين وجودين مهمين في عملية السرد القصصي هما:
المؤلف والراوي، فبحسب وجهات نظر البنيويين الذين بطبيعة الحال قد استنبطوا هذه المفاهيم على وفق نماذج حكائية موجودة في تراث شعوبهم البعيد أو القريب الحاضر، معنى هذا أن المنجز الحكائي العربي بما له من خصوصية وتفرد وتعبير عن طبيعة الواقع العربي والمنظومة الاجتماعية والدينية والفردية...الخ، يجعل من هذا المنجز ذا كينونة مخصوصة، تجعلنا ـ بالتالي، في حرية في (انتقاء) ما يلائم مظاهرها السردية من المنهج الغربي، فوكد الدراسة توجه أساساً إلى إقرار واقعة تجسد تقنيات القص الحديث في المنجز الحكائي العربي القديم إلا أن نقد القصة ـ والنثر عموماً ـ لم يلق من الاهتمام والتطور ما لقي الشعر من اهتمام النقد.
3- أنواع الرواة وصفاتهم:
يتضح في القصة الصوفية ورود نوعين من الرواة: رواية مفردة ورواة جماعة موجهة إلى مروي له مفرد أو جماعة، اعتماداً على ما تقدم عرضه من مقولة (الترهين السردي)، حين لا يكفي الحديث عن الراوي إلا في حضور المروي له، فأول سمة تسجل للقصة، الصوفية هي أنها قصة (موجَّهة وموجِّهة) وعنصر التلقي فيها عنصر أساس وحاسم وضروري، شأنها شأن القصص الشعبية والقصص الخرافية( )، ولا سيما حين تحولت قصص مشايخ الصوفية كالحلاج والبسطامي والشبلي وغيرهم إلى ما يشبه الأساطير في أسلوب حياتهم وعبادتهم وميتتهم.
على أساس ذلك تكون رواية القصة الصوفية مارة عبر المراحل الروائية الآتية:
1. المؤلف الواقعي: وهو مدون القصة في كتاب كما وصلت إليه من آخر سارد لها.
2. الراوي: وهو الذي نقل عنه المؤلف الواقعي وجاءت القصة على لسانه.
3. الخطاب أو السرد: وهو المروي بلغة الراوي وبأسلوبه وطريقته ومنظوره.
4. المروي له: مستقبل الظاهرة القصصية ممن سمع القصة من الراوي.
ومن البطل/ الراوي نفسه حين يروي عن نفسه أو عن شيوخه هنا يتضح جلياً أن (ثنائية "النطق والاستمتاع" تحيل إلى ثنائية الراوي والمروي له)( )، وقد تتداخل (الأصوات) السردية في بعض القصص. بحسب درجة البعد السردي وكثافة الحدث، فمن الأنواع القصصية البسيطة في درجة الرواية وهي الأكثر شيوعاً في القصص الصوفي، أن يذكر اسم الرواة (سلسلة) اثنين أو ثلاثة أو أكثر أحدهم سمع من الآخر حتى وصلت الرواية إلى (الراوي) الحقيقي المبلغ للمؤلف وهي طريقة (الخطاب المنقول بشكل غير مباشر) عن الشخصيات، من ذلك نذكر (سمعت محمد بن أحمد بن محمد التميمي، يقول: سمعت عبد الله بن علي الصوفي يقول: سمعت حمزة بن عبد الله العلوي يقول: دخل على أبي الخير التيتاني وكنت اعتقدت في نفسي أن أسلم عليه وأخرج ولا آكل عنده طعاماً، فلما خرجت من عنده ومشيت قدراً. فإذا به خلفي وقد حمل طبقاً عليه طعام فقال: يا فتى كل هذا، فقد خرجت الساعة من اعتقادك)( )، فالراوي هنا هو حمزة العلوي وهو أيضاً (شخصية) داخل الحدث القصصي وبطل ثانوي في القصة، وهو ما يعرف بـ (سرد الراوي الحاضر كشخصية في الحكاية التي يرويها) وهو السرد المتجانس( ) فهو (ذات) في القصة و (موضوع) أيضاً، وإذا شئنا التحديد أكثر قلنا أن هذا النوع من الرواة هو (ذات) في (الحكاية) أي شخصية مشاركة في الحدث، وهو (موضوع) بعد انتهاء زمن الحكاية فصار يروي عن نفسه بوصفها حدثاً حدث في زمان ومكان معينين، فخرج عن جلد (الشخصية) ودخل في مجال مهمة (الراوي). في حين بدت شخصية المروي لـه عبر سلسلة (السماع) من راو إلى آخر فقبل مرحلة (الراوي) فهو بشكل طبيعي (مروي لـه) أي (سامع) ثم تقمص دور (الراوي) وتحول سامعه إلى (مروي له)... وهكذا. هذا في القصص البسيطة في بنيتها السردية والقليلة الوظائف وهو للسرد الراوي الغائب عن المسرود وهو (السرد غير المتجانس).
أما في القصص المركب من ناحية البناء السردي فنجد تعدداً في الرواة والمروي لهم، فضلاً عن حصول (تبادل) أو مناقلة سردية في المواقع حين يحل المروي له محل الراوي أو العكس مثال ذلك ما يعرف بـ (حديث الغار)( ) يروى بسلسلة روائية طويلة تصل إلى أبي اليمان قال حدثنا شعيب عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: قال رسول الله (): انطلق ثلاثة رهط ممن كانوا قبلكم فآواهم المبيت إلى غارٍ فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فقالوا: أنه والله لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله تعالى بصالح أعمالكم فقال رجل منهم...) إلى بقية الحديث، والراوي هنا هو الرسول الكريم ()، وسنطلق عليه الراوي الأول الذي تقترب مهمته هنا من مهمة الراوي (الحكاية الإطارية) كما في قصص ألف ليلة وليلة في حديث شهرزاد إلى شهريار. وكلما قوي الجانب الخرافي أو الأسطوري في القصة، كان ظهور الشخصيات يتم في الحكاية على نحوٍ متوالٍ ومطرد فتصبح القصة الأم (الإطار) مجالاً أمومياً لتفريخ قصص داخل القصص زيادة في كثافة عنصر التخريف وتكريساً له، وبعد إنهاء هذه الحكايات الداخلية المتوالدة في داخل القصة، يعود الراوي الأول إلى المروي له ليتم تماسك الفعل القصصي ليصل إلى غايته المرجوة في التأثير والإقناع وإحداث الاستجابة.
وفي الغالب، يدخل (العنصر العددي) ملوناً مهماً في تشكيل هذا النوع من القصص وأقلها العدد (ثلاثة) أو أكثر. إن لهذا التكرار في الفعل الحكائي وتنوعه عنصراً داعماً لفرضية الفكرة القصصية التي أساسها الحدثي فعل لا معقول أو خرافي فهو مجال به حاجة إلى زيادة إقناع ووسائل ترسيخ وتدعيم لمصداقيته.
نعود إلى (قصة الغار) حين يبدأ الرجل الأول بذكر صالح أعماله، وهو بر والديه حين قضى الليل كله يحمل قدح الغبوق لوالديه وهما نائمان وقد كره أن يوقظهما، فظل على حاله إلى الصباح حتى سقاهما غبوقهما، وحال انتهاء الراوي الثاني من قصته تظهر شخصية (الراوي الأول) الرسول ()، مجالاً رابطاً بين الحكايات الداخلية في القصة، كعبارة (قال رسول الله ()): وقال الآخر. وحكى الراوي الثالث قصته مع ابنة عم له يعشقها وقدر عليها وتعفف لوجه الله، وهكذا وصل إلى القصة رقم (3) الذي أعطى كل ما يملك إلى أجير عنده لم يتسلم أجرته وقتها فدفع له كل ما يملك لأن هذا الخير كله هو من أجرة ذلك الأجير حين تراكمت وتوالدت...
هنا يتدخل الراوي الأول ليضع خاتمة لهذه القصص الداخلية فيحكم النسيج القصصي بانفراج الصخرة وخروج المحبوسين في داخل الغار( ). فاكتمل بذلك المبني الحكائي الذي لوحظ فيه أن شخصية الراوي الأول، مع بروز شخصية جديدة في القصة تنتهي لتصبح مروياً لها ليتصدى الراوي الثاني لمهمة (الراوي) وكذلك الآخران...
ثم يعود إلى دوره الأساس بعد نهاية قصصهما، هذه المناقلة السردية تسهم في إنتاج بنية قصصية مركبة وذات تقنية عالية في ممارسة الفعل الحكائي وتبادل الأدوار.
4- أما في القصص الموضوعي:
فحضور ثنائية (الراوي والمروي له) في القصص الصوفي الموضوعي، يبدو أكثر اتضاحاً بوصف الأخير اشتمل على خاصيته ـ ظهرت في الأعم الأغلب من نماذج قصصية ـ تمثلت في القصص الصوفي على لسان الحيوانات التي يكون فيها الراوي خارج مجريات الأحداث لكنه يقود عملية السرد، بشكل سردي يبدأ تجريدياً وينتهي تجسيدياً، ويربط الرمز بالواقع (الفكرة)، ويصرح بـ المضمون الغائي من رموز القصة التي (يرغب) الراوي بتوجيه المروي له على هديها، هذا التوجه الذي (يضيق) من أفق المعنى أحياناً، أو (يتمحل) لاستنطاق الحكمة التي يضيق عنها النص، في أحايين أخرى.
الذي يعني البحث عن هذه الميزة، أن الراوي هنا أحكم إغلاق نوافذ التجربة فلا يسمح بمرور الأشياء إلا بتوجيه منه، فتظهر شخصية الراوي ذات هيمنة على مجريات القص وإن اختفت لغة (الأنا) عن لغة القصة. فتظهر (وجهة النظر) ضمناً وصراحة، فتوجه (الراوي) الضمني يتمظهر في حركة مفاصل القصة من استهلال وشخصيات وزمان، وصراحة حين يعرب الراوي في نهاية القصة عن حل الشفرة التي بنى عليها النص والفكرة والشخوص من هنا كانت (وجهة النظر) (حيلة تقنية ووسيلة للوصول إلى أهداف أكثر طموحاً.. وهي الوسيلة التي توجد في متناول المبدع ليكشف عن نواياه الخاصة، وللتأثير في الجمهور)( )، وضروري لتقييم مستوى هذه التقنية، أن نعمد إلى رؤية شمولية تربط بين (تقنية) الطرح، وعموم المعنى الذي يسعى الراوي بثه إلى جمهوره، وإلى حد ما ينبغي على المروي له أن يسلم قياده إلى الراوي ويتقبل ما يسديه إليه من المروي له أن يسلم قياده إلى الراوي ويتقبل ما يسديه إليه من معان. ولا يفرض المروي له قناعاته الخاصة على الأثر، فللراوي( ) شدة النصح والطرح والتوجيه وعلى المروي له أن يتقبل ولا يفرض مقاييسه على عمل الراوي. وما تصريح الراوي بالهدف من القصة، إلا إعلاناً عن هذه السلطة التي يتسنّم سدتها الراوي الذي له القدرة على قول الحكاية الواحدة بألف شكل وألف صياغة ووجهة. وإلا فإنه يترك للمروي له متعة اكتشاف الرمز وما يشير إليه دون إملاء وحث.
إن المحور المركزي الذي يشتغل عليه عمل الراوي في القصص الموضوعي هو شكل (الراوي > الشخصية) أي ما تسمى بـ الرؤية المجاوزة، حيث يكون الراوي أكبر من شخصياته وأعلمهم بالحوادث ولا يعنيه أن يفسر سبب علميته هذه أو كيفية حصولها عنده، إنما هو يخترق النيَّات والمقاصد والأفكار، كما يخترق الجدران ليعلم بما يدور وراءها من أحداث وحوار.
والراوي هنا، يكون بمعزل عن شخصياته ولا علاقة تربطه بهم فالسرد هنا (سرد لاحق) بحسب تصنيف البنيويين للأنماط السردية( ) يسرد أحداثاً خارج دائرة الحاضر أو المستقبل بل أحداث سبق حصوله في زمن ما يسردها الراوي وهو صوت غائب عن الشخصيات يحكي الحكاية من الخارج، وتطبيقاً على ذلك، ننظر في بعض قصص (المثنوي) التي أثارت الاهتمام إليها من قبل دارسين عرب ومستشرقين( )، بفضل إتقانه وبراعته في فن الأداء القصصي لحكايات تتعلق بالأنبياء والحكماء والصحابة والصوفية والزهاد وبعض الملوك والخلفاء قاصداً منها إلى مرام حكمية وفلسفية وأخلاقية عبر أسلوب يحافظ على تماسك القصة ووحدتها، بل كثيراً ما كان يوقف سرد القصة ليعلق على إحدى وقائعها، ثم يعود من جديد فيستأنف رواية القصة وربما توقف على النحو ذاته للمرة الثانية أو الثالثة كلما شعر بالحاجة إلى هذا التوقف للتعبير عن فكرة أو لتقرير معنى)( ) وقد تضمن (المثنوي) نحو (275) قصة نجح مؤلفها في صياغة الأفكار على نحو من البراعة والتفنن في الحوار بما لا يخلو من تفسير نفسي أو نقاش فكري يجنح بالمتلقي نحو عدم التمسك بظاهر القصص، أو المعاني الحرفية للقصص من دون الغوص إلى لُباب المعنى، وحقيقة المراد، وجوهر المفاهيم. وهذا في حد ذاته هدف صوفي واضح في مفهوم لقضية الظاهر والباطن، ويبدو أن هذا هو السبب في (الوقفات) التي يفتعلها (الراوي) للتوجه إلى خطاب المروي له لكي لا يذهب بفكره بعيداً عن مرامي الراوي. فكانت (القصة) واحدة من أساليب الصوفية لعرض أفكارهم، على أنها لم تغفل المعالجة الجمالية للفكرة المجردة.
يستأنس البحث بعرض مثال تطبيقي على هذا اللون من القصص، ومنه سنستشف مقومات حضور الراوي والمروي له في قصة قصيرة ذات حدث واحد وعقدة بسيطة معلومة البطل وقصة مطولة فيها أحداث كثيرة وذات نهاية مفاجئة، رمزية الشخوص.
في القصة القصيرة البسيطة التركيب، يظهر أحد الخلفاء الراشدين (رض) وهو الخليفة عمر بن الخطاب (رض) في صورة جدل مع أحد الرجال حول رؤية الهلال في مقتبل شهر رمضان( ) توهم الرجل في رؤية الهلال حتى خاصم من معه، فنصحه الخليفة ببل حاجبيه ومسحهما ثم النظر إلى الأفلاك، عند ذلك لم يرَ الرجل الهلال، فقد تقوست شعرة من حاجب الرجل فسددت إليه سهاماً من الظن عند هذا الموضع من القصة تنتهي الأحداث ليطلع الراوي بلغة الأنا مبدياً وجه الحكمة في هذه القصة فيقول: (فإذا كان شعرة معوجة تصبح حجاباً للفلك، فكيف يكون الحال لو اعوجت كل أعضائك؟! فلتقوِّم أعضاءك باقتدائك بأهل الاستقامة...)( ) وتستمر هذه الجمل الوعظية الخطابية في صفحة ونصف، في حين استغرق سرد القصة نصف صفحة فقط (من القطع المتوسط)، إن دخول الراوي في هذا النسق المنبري الموجه، يقف دليلاً على أن القصة إنما قصدت ليست بوصفها فناً جمالياً، أنّها كانت القصة تلك (الحيلة) التقنية في عرض الفكر بأسلوب جميل مؤثر، فقيمة القصة تقع في ما وراء القصة.
أما القصة الأخرى، فهي تشتمل على تقنية سردية أكثر تعقيداً، تبدأ القصة بصوت الراوي الغائب العليم، بقوله( ): (إن حلقة هؤلاء الصوفية المستفيدين، حين بلغت مداها من الوجد والطرب، أخضر الخوان من أجل الضيف، وحينذاك تذكر دابته فقال للخادم: اذهب إلى الحظيرة وهيئ التبن والشعير من أجل الحمار…). وبعد كل أمر يأمر به الرجل الخادم يحوقل الخادم ويحدث نفسه بأنه لا يحتاج إلى مثل هذه الأوامر فهو عمله من قديم الزمان في رعاية الضيف وتهيأة الظروف الملائمة لمبيت حيواناتهم من أكل وفراش تبن وسقاية ونظافة الموضع… الخ، حتى سئم الخادم من هذه الأوامر وخرج ولم يفعل ما أمر به، ونام الضيف واستيقظ على إثر رؤيا مفزعة حول حماره، ليجد حماره يتهاوى من الضعف والوهن وما كان في ظن الضيف أن حماره جائع وعطشان، وحين أقبل النهار، جاء الخادم ووخز الحمار بإبرة لكي يبدو نشيطاً أمام سيده الضيف. آنذاك تظهر شخصية الراوي المختفي وراء الأحداث فيعلن عن ألم لهذا الموقف فيقول (فأخذ الحمار يتوثب من وخز الإبرة، ومن أين له اللسان ليفصح عن حاله؟)( )، وحين سار الحمار وعلى ظهره سيده، بدأ يتساقط من الوهن، وحاروا في تشخيص علته حتى قال الشيخ: (وهنا تبدأ بوادر حل الأزمة السردية بالانفراج) فيقول الشيخ: (إن هذا الحمار الذي تعشّى بالأمس حوقلات) لا يستطيع أن يسير إلا على هذا النحو. فما دامت الحوقلات هي كل غذائه بالأمس، فقد قضّى الليل في التسبيح، وها هو ذا يقضي النهار في السجود!!).
تنتهي هنا القصة بهذه الخاتمة البليغة، وعند ذلك تظهر شخصية الراوي المفكك لشفرة النص، فيقول: إن أكثر الناس آكلة للبشر، فلا تلتمس في تسليمهم عليك كثيراً من الأمان… الخ من الجمل الوعظية البليغة التي تستغرق سبع صفحات في حين استغرق سرد القصة أربع صفحات فقط.
نخلص من خلال تحليل بنية الرواية في هاتين القصتين، إلى أن شخصية الراوي في القصص الموضوعي ذات هيمنة أعلى على عملية السرد أو مجريات الحدث ومراحله، منها في القصص الذاتي المفروض أنه تتجلى فيه لغة (الأنا) والحكاية عن الذات أو عن ذوات لهم علاقة بالذات الساردة، فالسارد في القصص الموضوعي، خارج الحدث لكنه مركزي التأثير وبيديه كل خيوط القصة بفعل رؤيته المجاوزة التي (تعلم) أكثر من شخصيات القصة وتتحكم بوجهة التلقي
مخطط رقم (1)
وجهة النظر في القصص الموضوعي
بناءً على ما تشير إليه هذه المخططة، تبين أن الراوي في القصص الموضوعي يشتغل على محورين من التأثير:
الأول: نقل الحدث القصصي وبطبيعة الحال، فإن عملية النقل هذه لا تتم إلا من خلال (منظور) السارد.
الثاني: تدخل الراوي في تفكيك شفرات النص، بالإعراب عنها في خاتمة القصة أو في سياقها أي تحديد وجهة التلقي، والمغزى من القص.
5- في القصص الاسترجاعي
يأتي هذا النمط من القصص الموضوعي مثالاً على تلك الوقائع المحللة من الداخل، أي أن البطل هو الذي يحكي حكاية حدثت له في زمن ماضٍ ولكن ليس في عالم الحضور (القصص الذاتي)، وإنما في (عالم الرؤيا) والأحلام، وهو الشاهد الأوحد على أحداثها، معنى ذلك أن (شخصية الراوي)، (شخصية البطل) تتحدان في هذا النمط من القصص.
وفي هذا النمط تظهر عدة تقنيات سردية يقولبها (الراوي/ الرائي) بحسب الحاجة إلى (إقناع) المستمع مستخدماً مرجعياته التي يتشارك فيها مع مستمعه من مثل البنية الثقافية المشتركة والشائع من الأفكار والإرشادات الخاصة بالمذهب الصوفي وما عرف من سير الصالحين والشيوخ والأقطاب فضلاً عن الرسول الكريم () والصحابة والأولياء. فخلق بذلك جسراً إقناعاً للمتلقي بوصفهما ـ معاً ـ يصدران عن بنية مرجعية متشابهة، وسيتضح المقصود من خلال النماذج التطبيقية، التي اشتملت على خصائص بنيوية أنبت عليها تقنية القص فيها، ومن بعد ذلك نستخلص آلية اشتغال القص الرؤياوي في المعاني الصوفية.
اشتهر عن الشيخ ركن الدين محمد بن محمد بن محرز الوهراني المتوفي سنة (575هـ)، وهو من رجالات القرن السادس الهجري كتاب يضم (منامات الوهراني)( )، برز من بينها رواية منام طويل، له شبه كبير بموضوعة (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري (ت449هـ) وبين الرجلين (136هـ) سنة فلا يبعد اطلاع الوهراني على رسائل المعري المشهورة الفارق الجوهري بين منام الوهراني ورسالة المعري، إن الأخير تناول رحلة يقوم بها ابن القارح بين الجنة والنار يقابل فيها الشعراء الجاهليين يسألهم عن صنيع الله تعالى بهم، فيتحول رد الرسالة التي بعثها إليه ابن القارح إلى رحلة( ) متخيلة بينما رؤيا الوهراني( )، يكون هو البطل فيها والراوي يتجول بين الجنة والنار والأعراف فيرى مصير أقرانه وشيوخه وعلماء عصره، وكيف كان حسابهم في حوار صريح جداً( ) أحياناً يعدد فيها مثالب أصحابه وبعض المتصوفة والشيوخ.
لا أبغي عقد موازنة بين العملين ـ وإن كنت راغبة في ذلك ـ لأن بين العملين فروقاً بينة ـ كما فيها من عناصر شبه ـ يقف في مقدمتها أن المعري في رسالته قصد (الرد) الفني على رسالة صديقه في شكل اقتراح رحلة خيالية، أما رؤيا الوهراني فعمل، اتخذ من نمط الرؤيا الحلمية سبيلاً مقنعة للطابع الخيالي لأحداثها.
الذي سيركز الحديث عليه في هذه الفقرة من البحث، هو شخصية الراوي في هذه الرؤيا وطبيعة علاقته مع المروي له، فيما يتعلق بالراوي، يلحظ أن تدرج الرؤيا يمر عبر مراحل ثلاث يكون (للراوي/ الرائي) عنصر الهيمنة الأساس في توجيه الفعل القصصي، وهذه المراحل هي:
1. كلام استهلالي يبين فيه المؤلف الظرف النفسي الذي دعا إلى حصول هذه الرؤيا، يقول (لقد فكر الخادم ليلة وصول كتابه إليه سوء رأيه فيه وشدة حقده عليه، ويبقى طول ليله متعجباً من مطالبته لـه بالأوتار الهزلية بعد الزمان الطويل وامتنع عليه النوم لأجل هذا إلى هزيع من الليل... ثم غلبته عينه بعد ذلك فرأى فيما يرى النائم...)( ) والخادم هنا وصف متواضع للمؤلف إزاء شيخه العالم، فأعطى الراوي في هذه الفقرة محور السياق العام الذي تنضوي الرؤيا تحته وفي ظرفه.
كلام الاستهلال هنا، بما يشتمل عليه من إشارات تخلق توقعاً عند المتلقي بما سيحدث وعلى من ستتركز الأحداث ـ يجعل هذا اللون من القصص يدخل تحت مفهوم (التوقعية)( ) التي تضم القصص التبشيرية والرمزية والحلمية، وإن الحدس بمفارقة سردية تتم عبر استعادة الرؤية والحديث عنها يدعى نقدياً بـ (التوقع السردي).
2. رؤيا البطل التي تستغرق ثلاثاً وأربعين صفحة تفصل الكلام في رحلته إلى الجنة والنار والأعراف وتتحول فيها لغة الخطاب إلى (الأنا) بعد أن كان يكني نفسه بلفظ (الخادم)، فصار يقول (فخرجت من قبري أيمم الداعي إلى أن بلغت إلى أرض المحشر...)( ) ويستمر حتى يشكل متن القصة بأكملها.
3. قبل الخاتمة، يلحظ في سياق الرؤيا تبادل في الأدوار بين (الراوي) و (الرائي)، فتحدث انقطاعات يظهر لنا الراوي فيها معرفته بأشخاص معينين ويذكر معايبهم وتوقعه لهم بهذا العذاب الذي ينتظرهم وهم في عرصات القيامة للحساب، ويبين لشيخه جمال الدين، أن في القيامة أهوال يعاقب عليها الناس لكن الناس في الدنيا تستهين بها، بينما الشيخ الراحل جمال الدين ينقم على الخادم (الراوي) مخاطبته إياه بلا ألقاب في كتاب بعثه إليه الخادم من ثلاث سنوات خاطبه فيه بمجرد الاسم( ) فجعل ذلك سبباً لقطيعة وحقد لا يزول. فمما يمثل ذلك المقطع الذي يعدد فيه الراوي مثالب كمال الدين الشهرزوري( ) وسواه، ممن يضيق المقام عن تفصيل ذكرهم وسيرجئ الكلام فيهم في المبحث اللاحق.
4. الخاتمة جسدت براعة الراوي في ربط الرؤيا بالواقع في سياق تعبيري متجانس كأرقى ما يصل إليه الأسلوب الروائي العالي، فيذكر فيها، بعد أن يبين الضجة العظيمة التي أقبلت عليهم وهم الشاميون الذين أخذ الطرفات عليهم علي (ع) (وجاء على مقدمتها محمد بن الحنفية يزأر في أوائلها مثل الليث الهصور، فلما انتهى إلينا صاح بنا صيحة عظيمة هائلة، أخرجني من جميع ما كنت فيه، فوقعت من على سريري، فانتبهت من نومي خائفاً مذعوراً، ولذة ذلك الماء في فمي، وطنين الصيحة في أذني ورعب الوقعة في قلبي إلى يوم ينفخ في الصور...)( ).
ثم تغيب صورة (الرائي) لتعود صورة (الراوي) كما ابتدأت الرؤيا في الاستهلال، فيربط سبب هذه الرؤيا، وما لاقاه في مضمون الرؤيا فيقول:
(كيف يرى سيدنا هذا النفس الطويل، والهذيان الذي أثاره التعتب والانتقام؟ وصلى الله على سيدنا محمد نبيه وآله وأصحابه…)
والحقيقة، أن هذا التدرج في موقعية الراوي والرائي في هذه القصص، يبني عليه تدرج آخر، وهو تدرج الأسلوب.
1. بين لغة الأنا كما تظهر لغة المقدمة الاستهلالية من كتابة (الخادم) إلى صيغة المتكلم ا لحاضر.
2. وفي سياق الرؤيا على طول صفحاتها، يتحول الرائي إلى راوٍ لمجريات الأحداث.
3. في الخاتمة تظهر لغة الخطاب في محاولة ربط عالم الرؤيا في موقف الشيخ الغاضب المنتقم.
ومما يحسب لهذه القصة الرؤياوية، جميل ألفاظها، وحسن العناية ببلاغة معانيها في صياغة جميلة اعتمد في أغلبها المؤلف موسيقى السجع الذي ينم عن ثراء لغوي وذائقة صافية غير متكلفة.
المبحث الثالث بنية المروي الصوفي
بين المبحث السابق، فاعلية ركني الخطاب الأدبي المرسل والمرسل إليه في بث الرسالة الأدبية التي تمثلها هنا العملية السردية التي يعدها (كريماس) قائمة (على مجموعة من الملفوظات المتتابعة والموظفة المستندات فيها لتشاكل (السنياً ـ جملة من التصرفات الهادفة إلى تحقيق مشروع)( )، بوصف الأدب نظاماً من العلاقات، وهكذا يعد الخطاب السردي مشروعاً منظماً وفق الغابات القصوى المقصود بلوغها( ) بسبب ذلك الارتباط المهم بين الخطاب الأدبي وبين عنصر السببية، فكل فعل كلامي صادر من مرسل يستوجب مقدمات دعت إليه مع ضرورة انعكاس هذا الفعل على (مرسل إليه) يتلقى هذا الفعل ويتفاعل معه بشكل أو بآخر فعلى وفق هذا الاشتراك والتعالق، ويكون (العامل) في العملية السردية مرتبطاً بـ (الموضوع) بحسب اصطلاح (كريماس) إذ العلاقة بين العامل والموضوع تكون محملة بالشحنة الدلالية الكامنة في الرغبة( )، فحين يتم الكلام عن المروي الصوفي مثلاً فلا يمكن بحالِ، تحليله بوعي مجرد إنما ثمة ترابط وظيفي تحكم الأفعال فيه علاقات وظيفية تشكل هذه العلاقات قواعد مشتركة بين النصوص الحكائية، كما تحدد لها نمطاً بنيوياً يكاد يكون واحداً( ).
من هنا، أجد الخصوصية التي يمتاز بها هذا البحث، من ناحية كون دراسة بنية المروي لا يوقف على تمظهراتها بشكل مجرد، بسبب أن انبناء المروي يتوقف على تفاعل الشخصية الحكائية ووجهة النظر التي ينهض بها الراوي، وكذلك حضور شخصية المروي له، حتى يتكامل أركان العمل الروائي من شخصية ووظائف وراوٍ ومروي له، فما (المروي)، إلا جماع تفاعل كل هذه العناصر والأركان. وسيتم الكلام عنه الآن ـ ولمّا يفصل الحديث في الشخصيات والوظائف ـ لسبب مهم هو أنه أحد مكونات البنية السردية الأساس لأي خطاب أدبي، فلا بد أن تتكامل صورة المكونات الأساس ليتسنى بعد ذلك القول والتفصيل في الشخصيات والوظائف وآليات السرد، وأسلوبيته أيضاً. وتأتي أهمية هذا المحور (المروي) في درس المبني القصصي، من حقيقة كون تحليل العلاقة الناشئة والمكونة للنسيج القصصي في القصة لا يقوم إلا على الفعل، الذي يمثل اللولب المحوري الذي تتحرك ـ على وفق إيقاعه ـ أركان العملية السردية الأخرى من شخوص وراو ومروي له ووظائف، فمن منطلق هذه الأهمية المركزية التي يضطلع بها (الفعل) القصصي الذي في النهاية يمنح الحكاية قيمتها الموضوعية، ومستوى تمثيلها لشريحة ما، ثم إعطاء تصور لمستوى تفكير منتج هذه القصة من حيث عنصر الاختيار الذي على أساس منه، توجه اهتمام المؤلف نحو هذا الفعل القصصي دون غيره في الموضوعات ونوجه العناية إلى مسألة مهمة تتعلق بالفعل القصصي، التي هي: أن (الفعل القصصي) الذي تنهض به شخصيات معينة داخل نسيج البنية السردية للخطاب، ينضوي تحت لواء مصطلح (الحكاية) ويرتبط به. في حين يكون القول المخبر عن ذلك الفعل، يعود إلى مفهوم (الرواية)، وبامتداد (الفعل) و (أسلوب قصة المخبر عنه) يتشكَّل الخطاب القصصي في صياغته التي تعرض أمام المروي له (متلقي القصة) يوضح هذا المخطط الآتي هذه الفكرة:
مخطط رقم (2) ماهية الخطاب القصصي بين الحكاية والرواية
بناءً على ذلك، يتشكل الخطاب القصصي من (فعل) الحكاية (المادة الخام للقصة)، ومن طريقة روايتها بالكلمات فيترتب على أساس هذه الثنائية (الحكاية والرواية)، ظهور مستويين في الزمن القصصي وهما:
1ـ زمن الفعل الحكائي.
2ـ زمن الفعل الكلامي.
يدعوهما (جينيت) بـ زمن القصة وزمن الحكاية( )، وأحياناً يستعاض بـ (السرد) بدل القصة، ولا شائبة على المفهوم المراد على وفق التوضيح الذي حدده البنيويون في الفصل بين القصة والحكاية، وكما أوضحه المخطط.
قبل أن نستعرض تحليلياً نماذج المرويات الصوفية تجدر الإشارة إلى أن ثمة اختلافاً في المسافة الزمنية التي تصل فيها زمن القصة إلى المتلقي، وبطبيعة الحال فإن، زمن الحكاية أبعد عن لحظة الرواية( )، فالمروي له يتلقى (الفعل الكلامي) السردي القولي القصصي الذي يعبر عن (فعل حكائي) حدث في مدة سابقة قد تكون أياماً أو سنوات أو قروناً، أو أنها لم تحدث أصلاً حين يكون الفعل والحدث الحكائي خرافيين من صنع الخيال. لهذا فالنص الحكائي الأصل ي