عتر التجيبي) الذي كان يستمد أقاصيصه عن الإسرائيليات حتى سمي (ذلك مصر وقاصها)( )، تتمحور أقاصيصه، في غالبيتها، حول الوعظ والتوجيه الديني، وما أن أشرق النصف الأول من القرن الثاني حتى أخرياته وبدايات الثالث الهجري، حتى تغير الطابع واختلف الهدف، فأصبحت القصة الصوفية إسلامية عربية تستمد وجودها وهويتها من البيئة العربية الإسلامية، وليس من الكتب السماوية السابقة كالإنجيل والتوراة، لذا نجد الروحية العربية شاخصة في حكايات (ذي النون المصري) حين أطر تعاليمه الصوفية وآراءه في شكل حكايات يبثها لمريديه لتهيأتهم لتقبل آرائه( ).
أما في القرن الرابع الهجري، فقد أصبحت القصة الصوفية، تمضي إلى الجانب الخارق في التجربة الصوفية، والذي دعي عندهم بالكرامات، التي يتمتع بها طائفة من شيوخ التصوف التي هي درجة أدنى من النبوة التي تختص بـ (المعجزات) دليل نبوتهم، وفي هذا القرن اتسع مدار تطور النثر الصوفي نحو ترميز المعنى حتى لقد استغلق على جملة الناس، من حيث عدم تبين حقيقة المقصود، مع مسحة جدلية لا تخلو من تعليل وتحليل، وتكثر فيه الاصطلاحات الصوفية كالغيبة والشهود والفناء،.. إلخ وغالباً مالوا إلى السجع، في نثرهم مع إكثار من المحسنات البديعة كالطباق والتورية( )، وبرز (التضاد) واحداً من أهم أسس تشكيل المعنى عند الصوفية، نتيجة لرؤيتهم الثنائية للوجود والشريعة ويلخصها قولهم في (الظاهر والباطن) والحق إن تطور النثر الصوفي أكثر ما نما وازدهر في غضون هذا القرن؛ إذ أن العصور التي تلته السادس والسابع الهجريين، توجه الاهتمام فيها إلى التأليف وتدبيج التصانيف الخاصة بعلم التصوف وتاريخه ومشايخه وموضوعاته فضلاً عن التأليف في مباحث العقيدة والتوحيد والمقامات، والأحوال، وغيرها.
ولعل تأخر الاهتمام بالقصص والحكايات وقلة المصنفات الحكائية المستقلة يعود إلى أن قريحة العربي وذائقته، شعرية، في الدرجة الأولى، وظل النثر متأخراً عن الشعر في الاهتمام، والتطور والرواية بل حتى عدت الحكايات هي من شأن المسامرين والدهماء من العامة، أو لتسلية الحكام وولاة الأمور، لذا لم يحظ هذا الفن بالعناية المطلوبة، ذاك أنه من حيث الوظيفة لم تستطع القصص والحكايات أن تنافس الشعر في بلاطات الأمراء والخلفاء والقادة مضافاً إلى ذلك أن قدرة (الحكواتي) بدلالة (المحاكاة) بمعناها اليوناني التي يشترط فيها دلالتين، الرغبة في التسرية والحكاية أي التقليد( ). ولعل التطور الحضاري الذي سرى في مفاصل الدولة العربية الإسلامية، وعلو قيمة الكتابة بعد أن تصنفت العلوم وبدأت تميل نحو الدقة والتحديد، هو الذي خفف من حدة الهيمنة التي كان يمارس الشعر على الذائقة العربية محموماً، وبخاصة في مزيته الارتجالية. لهذا ظهرت بوادر قصصية أخذ البعض منها شكل المهارة اللفظية، والعرض اللغوي والبراعة في امتلاك أزمة البلاغة، كما هو أمر (المقامات) التي بلغت أوج تطورها ونضجها عند (الهمداني والحريري) فضلاً عما ذكره صاحب الفهرست في ثبته الخاص بأسماء المضحكين والندماء وأصحاب الحكايات العجيبة، وأخبار الفساق وحكايات الجن( ).
ولولا جنوح المقامة نحو التحسين اللفظي والبراعة الاستعراضية المصنوعة في الشكل اللغوي، لكان يمكن أن تضيء المقامة درباً جديداً لتطور القصة العربية، هذا ولم تكن المقامة وحدها هي المنجز الحكائي العربي الوحيد في هذا العصر، بل لقد سبق لها محاولة قصصية لم يرتض مؤلفها أن تكون مقامة أو من جنس الحكايات الخاصة بالتسرية والفكاهة، هي (حكاية أبي القاسم البغدادي) لمؤلفها محمد أبي المطهر الأزدي( )، يقول في مقدمتها، إنه ينشئ نوعاً من الأدب لا هو بالمقامة، ولا هو بالرسالة، وإنما هو صورة واقعية تصور أحوال البغداديين، وتظهر الواقع الاجتماعي الطبقي، يسرد في شكل قصة تتخللها نماذج الشعر وقطعاً من النثر البليغ، مع نقل عبارات طويلة عن الجاحظ( )، ويقتصر الحوار فيها على شخصية واحدة، فالذي يظهر من هذه القصة، أن المؤلف اقتبس نتفاً من مؤلفات الجاحظ (ت 255 هـ) ( )، واطلع على نمط المقامات التي وضعها الهمداني، وجاء من بعده الحريري (516 هـ)، فهو قد أفاد من عرض تقنيات القص التي ظهرت واضحة في نمط المقامات، وهذه الحقيقة صرح بها الحريري من أن مقاماته حكايات( )، فبهذا المعنى انطلق عمل أبي المطهر في نسج حكايته التي لا يعدها مقامه، فحكايته لا تلقي وقوفاً على جمع من الناس كما هو حال المقامة، بل هي حكاية جمعت بين التاريخ –حقائقه الملموسة التي سجلها الجاحظ- وبين أسلوب القص، وهي بهذا المعنى، حكاية بالمعنى الذي قصدته الكلمة اليونانية من المحاكاة، وهذا الذي جعل بعض الباحثين، تعد حكاية أبي المطهر من آثار مذهب أرسطو بتمامه على يد يونس بن متي (ت 328 هـ) ( )، ولست أرى في هذه المسألة هذا الرأي؛ لأن أرسطو فرّق بين التاريخ والأدب، وبين الحقيقة التاريخية والحقيقة الأدبية، في حين أن العربي منذ القِدم كان الشعر ديوان علمه وسجل فخاره وأيامه وتاريخه الشخصي والقومي، وإنما قيل بتبعية النموذج الحكائي العربي للنظرية الأرسطية، فتلك سُنة من يجرد العرب من كل فضيلة وصنع أصيل وينسبها للغرب، فلم لا يكون المؤثر القريب وجدانياً وأسلوبياً، هو القرآن الكريم والأقاصيص التي سردت في القرآن، حتى إنني أجد في التزام قصاصي القرن الرابع الهجري بالسجع والتقطيع وتوخي الفنون البلاغية والمحسنات البديعية، ما هو إلا احتذاء وتشبّه وتأثر بأسلوب القصص القرآني وحضور الفاصلة القرآنية في تقطيع الحدث القصصي وترتيبه أو اختزاله.
من هنا، افترقت القصة الصوفية عن مجايلاتها من أنماط الحكايات الأخرى التي أخذت طابع الفكاهة والسخرية والنقد الاجتماعي والتسجيل الأدبي بالاستعانة بالتاريخ، في أن القصة الصوفية، موضوعياً، التزمت وحدة متعددة تخدم غرض التصوف وأهدافه الدينية والأخلاقية والمذهبية الخاصة، فكان لها انتماء واضح، وهوية مشخصة، ومن الناحية الفنية التزمت الأسلوب العربي البليغ التي تراوح بين الحكايات المباشرة والحكايات الرمزية، مع الاعتراف أن اللجوء للرمز لم يكن هدفاً شكلياً قُصد للتحسين أو العناية البديعية، إنما قصد لأهداف مذهبية لم يكن من السهل التصريح بها، لذا كانت القصة خير سبيل لاستبطان التجربة الصوفية، وضمان بثها وإيصالها إلى المريد والطالب في شكل تعبيري يشده ويدهشه، الأمر الذي يفضي إلى الإقناع وخلق الإيحاء المطلوب الذي يرجوه الشيخ الصوفي لمريده المبتدئ.
8-بواعث القص وموضوعاته:
لا شك أن الميل الحكائي لتصوير أشياء الكون وجدلية موضوعة الخير والشر، والحب والكراهية، والإنس والجن..، هو سمة إنسانية الطابع؛ ليست قصراً على جنس دون آخر أو حضارة دون أخرى، بدءاً بالأساطير البابلية القديمة والتي جاءت مدونة على ألواح الطين من أواخر الألف الثالث وأوائل الألف الثاني (ق.م)، والتي تم إبداعها في زمن يضرب في عمق التاريخ قروناً عدة( )، ثم تلتها الحضارة الفرعونية في الألف الثالث (ق.م)، وما خلفه الكنعانيون في بلاد الشام من نتاج أدبي يرقى إلى الألف الثاني (ق.م)، أما الحضارة الإغريقية وبخاصة (الأوديسة والألياذة) فلا يتجاوز زمن تدوينها القرن السابع أو الثامن (ق.م)، ومثل ذلك يقال على حضارة الهند القديمة، كان الأسلوب القصصي في رواية الأساطير والملاحم، هو أشهر سمة توحدت فيها هذه المنجزات في منحاها الأدبي الكتابي، وهذا أحد الأدلة التي تثبت تهافت نظرة الغرب الاستعلائية في النظر إلى الحضارة العربية وعدها شعرية وجدانية فقط غير مؤهلة لإنتاج لأعمال الدرامية الضخمة مثل ملاحم الإغريق.. فتاريخ العرب الحقيقي يبدأ من الحضارة البابلية العريقة والمتطورة وليس من (الجاهلية) التي تبعد عن أول الإسلام خمسين ومئة سنة أو مئتين على رأي (الجاحظ) (ت 255 هـ)، وأربعمئة سنة قبل الإسلام، على رأي (الأصمعي) (ت 210 هـ) قبله( )، وكان للعرب الأقاصيص والملاحم فضلاً عن الأشعار والترانيم التي ينشدونها في غزواتهم، وقد صرح بذلك المؤرخ الإغريقي (سوزيموس) القرن الخامس (ق.م)( ). وعلى سبيل المثال، ترد ملحمة (كلكامش) في خمس قصص موضوعها الرئيس البطل كلكامش، ثم الملاحم الثماني المشهورات (زو، وإيتانا، وإيرا، وآدابا، وأنيمركار، وسرجون الأكدي، ونرام-سين، ونرجال)( ).
وحين يكون الشعر العربي في عصوره الأولى، تدخل الروح القصصية في التركيب الفني لموضوعات الشعر بين بعديها الأسطوري والواقعي، مثل قصص الحيوان وقصص الغزل وقصص الكرم والبطولة( )، ولم يكن الأمر قصراً على الشعر؛ فلقد حفل القرآن الكريم بهذه الخصيصة في طرائق سرد لافتة للنظر والتأمل والاعتبار، حتى عُد وصف أحوال الأمم السالفة وقصص الأنبياء من آدم وحواء حتى النبي عيسى (ع)، أحد الأقوال الخاصة بالإعجاز القرآني( ).
فليس يستغرب إذن، أن يوجد هذا الكم الهائل من القصص والحكايات الصوفية والتي ضمتها تآليف المتصوفة ومصنفاتهم الأمر الذي يجعلها جديرة بحمل هوية فنية بوصفها فناً تعبيرياً مستقلاً (قوامه السرد المباشر الذي يكون أداة تشويق وإثارة، في عرض الحدث واقعياً كان أم خيالياً.. فالحكاية ضرب من الفن القصصي الذي هو فن قديم اتخذ تعويضاً للإنسان عن واقع سيء يعيش فيه)( ) فالحكاية، تحاكي الواقع ولا تتطابق معه، إذن لقد انتفت الحاجة إليها، إذ المطلوب من الفن أن يرسم صورة للواقع، وليس تسجيل الواقع ونقله، إنما قيمة الفعل الإبداعي الأصيل تكمن في الإمساك بتلك الهبة التخيلية التي تتوازن فيها رغبة الإعراب عن الواقع ومحاكاته، وبين الارتفاع عن الواقع، بما يحقق الإيحاء وليس الإيهام.. من هنا تتجلى أهمية العامل النفسي المتأثر بضغوط الحياة والتفكير في صياغة أسئلته الوجودية في شكل حكايات، والجانب المؤثر في متلقي الظاهرة القصصية، من ناحية سرعة الوصول والاستلذاذ، والتقبل، وقد بدأ الهدف الوعظي في طليعة الأهداف التي ينويها الصوفي؛ حيث يروي عن الجنيد أنه سئل: ما للمريدين في مجاراة الحكايات؟ فقال: له: فهل لك في ذلك شاهد؟ فقال: نعم –قوله عز وجل: وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك( )، قياماً على ذلك، يتبين اتكاء الصوفية على هذه اللفتة القرآنية في قصد إحداث الأثر النفسي في قلب الرسول() وبعث الاطمئنان والسكينة والثبت في همته ويقينه، وأجد في هذه (الاتكاءة) ما يدعم القول السابق في مصدر التصوف الإسلامي والرسالة المحمدية الشريفة، فيكاد الصوفي لا يُسأل –وكثيراً ما يسأل- حتى يستحضر آية قرآنية أو حديثاً شريفاً أو منقبة لولي أو صالح، يتخذها مرجعاً إليه، وقاعدة فكرية يطمئن إليها في طريق تجربته الصوفية.
وإذا ما كانت الحقيقة الإجمالية، التي يقررها الباحث (علي صافي حسين) من أن (نشأة النثر الصوفي بمصر تتمثل في ظهوره. أول ما ظهر –في ثوب قصصي، وعلى شكل حكم وعظات تقال في الحاجة)( ) –خاصة بإقليم مصر (مجال بحثه)- إلا أنه يمكن إلمام هذا الخاص، فيمكن الاستدلال على صحة ذلك الإلمام بالمظاهر الآتية:
أولاً: تلك الكثرة الوفيرة من القصص والحكايات المنبثة في تآليف الصوفية –التي تيسر تحقيقها ونشرها- مثل كتب الطبقات الصوفية والتراجم ومؤلفاتهم المختلفة والتي تدخل في سياق كتب الأدب.
ثانياً:أجده له علاقة بفن القصة نفسه، فلربما سهولة اندياح النفس مع القصص بشكل يجعل من أسلوب القص والسرد حاملاً سهلاً وميسوراً لأكثر المتكلمين مما لو ضمن تجربته قصيدة شعرية فإنها تستلزم وقوفاً على قوانين القصيدة العربية والتي أولها الموهبة، وهذا ليس بوسع أي متصوف استحصاله. فضلاً عن التجربة الصوفية فيها تدرج وترتيب لأحداث قد تقف قوانين الشعر الإيقاعية حائلاً أمام زج مضامين التجربة الصوفية الخاصة.
هذا، وقد صرح بعض المتصوفة بمقاصدهم وأهدافهم من اختيار شكل الحكاية أو القصة وسيلة لإيصال مضامينهم الصوفية، التي يعنون ببثها إلى مريديهم، فقد [استعمل بعض المصنفين في التصوف] الحكايات –أداة تعبير عن المعاني الصوفية التي تدل على آدابهم، هذا أبو نصر السراج يذكر أنه لا يمكن ذكر آداب هؤلاء في معانيهم إلا بحكايات بلغتنا عنهم، يدل ذلك على آدابهم، وصحة مقاصدهم، وعلو مراتبهم، وأحوالهم وصفاتهم)( )، أما تعليل (ابن الخطيب) لإيراد الحكايات، فإنه يأخذ جانب التلقي والتأثير مسوغاً للقص فيقول: إنها (تجري دموع المريدين، وتؤثر في قلوب العارفين، وتهيج مواجد المحبين)( ). من هنا، تمثل اللجوء إلى القص وسيلة أدبية عند الصوفية لبث مواجيدهم الخاصة. والتعبير عن التجربة الصوفية، تطميناً لمقصدين مهمين:
المقصد الأول: تجنب الكشف عن العبارة المراد معناها الدقيق في النهج الصوفي، تحوطاً من مقابلتها بسوء الفهم، أو التأويل أو النبذ أو الازدراء، وهي معان (ذوقية، وجدانية يجدها الإنسان في نفسه، ولا يقدر أن يصورها لغيره إلا بضرب مثال، أو تجوز بعيد)( ).
المقصد الثاني: روعي فيه جانب التلقي، وحسن استقبال النفس للعظة أو النصيحة أو الحكمة أو المعلومة، إذا ما بثت في شكل قصة أو حكاية أو رؤيا حلمية لهذا لوحظ ملمح المبالغة والخارقية في بعض أحداث القصص والرؤى ومضامينها( ).
9-مرحلة التأصيل/ الملامح العامة:
تبين من خلال ما سبق، أن نشأة هذا الفن إبان القرن الأول الهجري على يد (سليم بن عتر التجيبي) وأبي الحسن الشاذلي؛ في أقاصيصه الأولى، ورؤى الثاني، ما يكشف عن أن ثمة ضرورة لنشأة الفن، وحاجة إليه لغرض التعبير عن الحقائق والأسرار وما يفيضه الله على قلب الصوفي من العلوم اللونية من خلال لقائه بالأنبياء والملائكة الأولياء)( )، وهذه الأقاصيص والرؤى ترد –في الغالب- بسيطة في سردها، ألفاظها خالية من التعقيد لأن الهدف منها ليس فنياً، بل ما سبق ذكره في الورقة السابقة، أو إثبات الولاية لشيخ صوفي كما حدث الأمر مع الشيخ (أبو الحسن الصباغ)( )، وإثبات كونه من أصحاب الخوارق ومنها هذه الحكاية (كان الشيخ أبو الحسن الصباغ (رضي الله عنه) جالساً في بعض الأيام عند جماعة من مريديه، فقال له أحدهم: يا سيدي المشاهد لأنوار جلال الله تعالى كيف نظره في الوجود؟ فقال بنظر السر القائم في الوجود الذي به استقام وجود كل موجود، فإن نظر إلى عاصٍ أحياه، وإن نظر إلى ناسٍ ذكره، وإن نظر إلى ناقص كمله، فقال له يا سيدي وما علاقة من هو موصوف بهذا؟ فقال: هو من نظر إلى هذا الحجر لذاب من هيبته، ثم نظر إلى حجر عظيم أصم بالقرب منه، فذاب الحجر وصار ماءً وغار في الأرض)( ).
إن هذا النمط من الحكايات يشترط (يفترض) أحداثاً ذات طابع لا معقول، أو هي من قبيل استثمار تلك القوة الواقعة بين العقل العملي وبين الحس المشترك على تعبير (الغزالي)، وهي متنازعة بين التفكير والتخيل( ) وهذه القوة ليست متشابهة في أصناف الناس بل هي مترتبة متفاضلة، قد تصل في بعض حالات قوتها إلى الاتصال (بنفوس السموات من خلال قوة التخيل( ) التي ينتج منها هذه الأفعال ذات الطابع الخارق للعادة وتعطيل قانون الأسباب المادية التي تسمى عند الأولياء بـ (الكرامة) وهي مرتبة من العطايا الإلهية أدنى من (المعجزة) التي اختص بها الله عز وجل الأنبياء والمرسلين، والكرامة من الناحية الأدبية التعبيرية هي (أقصوصة تحكي بالرمز إيمان البطل الديني بقدرته على الاقتراب التدرجي والشديد من الله ومن ثمة أخذ طبيعة إلهية توفر له إمكانية التشبه بالله من حيث الإرادة الحرة المطلقة)( )، الذي يعني البحث، من هذا اللون القصصي؛ وهو عنصر الادهاش والمفاجأة المتمثلة في (العقدة) مرتكز الثيمة القصصية التي توفر جذباً استقبالياً عالياً بسبب وجود خصيصة المفاجأة من هنا، أخذت هذه القصص مكانة طيبة في الدرس النقدي القصصي لأنها اتخذت سبيلاً وسطاً بين القصص الموغلة في السردية المباشرة التي تنقل الحدث الواقعي بفوتوغرافية فجة، وبين تلك التي تصل الحدث إلى حدود الإيهام والخرافة اللامعقولة، فكانت حكايات (الكرامات) أنضج من سابقتها لأنها نحت نحو (الخيالي) الذي بين (الواقعي) و(الإيهامي) فهي واقعية مجنحة وتلك صفة الأدب الرفيع والمخيل لأجل ذلك عدّها (د.فائز طه) من الحكايات الصوفية الناضجة من الناحية الفنية( ) لأنها حملت خصائص الفن القصصي المثير والممتع لما تضمنته من حدث غريب ومفاجئ يسرد على نحو مشوق، ثم اشتمالها على خيال واسع وحوار جميل مع ما تتضمنه من أدعية ومناجيات ووصايا وعبارات حكمية، وأحياناً يكون السرد على لسان الحيوان، كأن ترافق الصوفي فتفهم منه المعاني التي يقولها ويكون الحيوان واسطة تتمثل فيه قدرة الله (عز وجل) حين يستجيب لدعاء دعا به الصوفي في ألوان من الكرامات وخاصة عند الطيور( ).
وأصاب هذا الضرب من الحكايات الصوفية على لسان الحيوان، تطور كبير حين تطور مفهوم التصوف إلى دلالات فلسفية فكرية، من هنا لا أحبذ الفصل بين (القصة الصوفية)، و(القصة الفلسفية) التي ظهرت عند بعض فلاسفة العرب كابن طفيل لدواعٍ منها:
أولاً: من الناحية الفكرية، يدور الفلسفي على حقيقة استدلالية أساسها إعمال العقل في تفسير حقائق الوجود وإشكاليات الإنسان أي تأسست نظرية معرفية عند المسلمين يكون منطلقها (الدين)، يضاف إليه (العقل) في تأويل النص الشرعي وجعل النص بؤرة تحفظ ديمومته وقدرته على الانسجام مع متغيرات المكان والزمان بمعنى خلق فهم جديد ومتطور لحقيقة (نقلية) ثابتة مرتبطة بمناسبة قولها وظرفها، من هذه الزاوية يلتقي مفهوم التصوف بمفهوم الفلسفة، لأجل هذا حين صنف (الغزالي) الفلاسفة وسماهم (أصناف الطالبين للحق)، جعل المتصوفة الصنف الرابع منهم بعد (المتكلمين) وهم أهل الرأي والنظر، والباطنية وهم أهل الإمامة المعصومين والفلاسفة أهل المنطق والبرهان، ثم الصوفية وهم خواص الحضرة وأهل المشاهدة والمكاشفة( )، فالنظر العقلي والتصفية النفسية، ليسا طريقين للمعرفة بل هما مرحلتان في الوصول إلى الحق( )، لهذا (الغزالي) يستخدم كلمة (الحكماء) في موضع (المتصوفة)، فهو يساوي بين (الحكمة) و(التصوف)( ) فلا يقيم فاصلاً بين العلماء النظار وبين المتصوفة، إنما يجد الفارق في جهة زوال الحجاب( )، أي درجة العلم التي ينكشف عليها العالم بهدف الوصول إلى الحقيقة الكاملة.
ثانياً: الحقيقة التي يتلمسها الباحث في علوم العربية وآدابها، والتي تفيد بأن العالم العربي ذو معرفة موسوعية، آخذ من كل علم بطرف، مقتطف من كل بستان زهرة أو ثمرة، فالفيلسوف هو طبيب وشاعر وفلكي ومفسر ومحدث.. إلخ، وهذا واقع يتلمسه المثقف مع ابن سلام الجمحي والجاحظ وابن رشد وابن سينا.. ويطول هذا الثبت لمن شاء الإحصاء والإحاطة، على هذا، فالتفكير في مسألة (التخصص) في علم معين غير وارد، لعدم تبلور العلوم ونضجها الأمر الذي يجعل لها مناهج خاصة، وحدوداً خاصة لمديات كل علم فلا يجوز تخصيص علم على آخر، فضلاً على أن العلم اختيار شخصي ورغبة ذاتية تنهض في ذات العالم، فيطورها ويقويها استعانة بالمشايخ، من غير أن تنهض بذلك مؤسسة علمية لها طابع وتخصص وإمكانيات.
وعلى الرغم من ذلك، فقد يطغى علم ما على سائر العلوم الأخرى التي يجيدها العالم نفسه، كأن يكون جهده الفلسفي أكثر أو أعمق من المعارف الأخرى التي يقف عليها. وأجد في هذه المسألة بوادر لهوية علمية محددة، فكر بها العربي المسلم، حين اجتاحت حياته الجديدة في العصر العباسي، علوم شتى سواء منها الأصيل (الشعر والخطابة والفقه..) والوارد مثل (الفلسفة، والمنطق، والطب..) فالكثرة تدعو إلى التصنيف والرغبة في تحديد المعالم والقيام على تخصيص أو اثنين وإشباعهما درساً وتمحيصاً.
فالعلماء الذين كانت هويتهم العلمية (فلاسفة) –فضلاً عن موسوعية علمهم- سواء منهم ما كان في المشرق العربي أم المغرب، مثل إخوان الصفاء وابن سينا وابن طفيل وغيرهم، فقد كانت لهم تجربة صوفية، نعم، أخذت طابعاً فلسفياً، حيث تطور مفهوم التصوف من فهم الشريعة على وفق القاعدة الثنائية (الظاهر والباطن) إلى مفهوم ذي شمولية واتساع يشمل طرائق اكتساب المعرفة، وموضوعة الأخلاق، أضف إلى ذلك القدرة الأدبية التي امتاز بها علماؤنا، فأنجزوا شكلاً أدبياً متقيلاً حذراً من الوقوع في مخالفة الإجماع من الفقهاء وأهل السنة. فضلاً عن ذلك أن مجيء أفكارهم الفلسفية في سياق تعبيري أدبي، يمنحها طابع التأليف الأدبي الجمالي، الذي تعلو فيه القيمة الماتعة على القيمة الفكرية، منها إذا ما جاءت في شكل نظرية معرفية خالصة في لغة علمية، لكن هذا لا يمنع أن تتوشى لغة القصص باصطلاحات فلسفية ومنطقية( ) كما يظهر ذلك في الحديث الذي جرى بين الحيوانات عند إخوان الصفاء، ففي بعض هذه الحوارات نجد: (.. ثم اعلم أيها الملك العادل. إن هذه الصور والأشكال والهياكل والصفات، التي تراها في عالم الأجسام، وجواهر الإجرام، هي مثالات وأشباه وأصباغ لتلك الصور التي في عالم الأرواح)( ).
فكان الشكل الأدبي والأسلوب القصصي، يخلق إيهاماً متوزع التأويلات بحسب أصناف المتلقين، فما يفهم منها القارئ الصوفي والفيلسوف، غير ما يصل من مفهومها عند الفقيه أو رجل السلطة وثبت أن (المتصوفة/ الفلاسفة) في طريق بحثهم عن الحقيقة، تواجههم قضية التعبير عن هذه الحقيقة، فتقف (اللغة) ذاتها عاملاً مهماً في نسبتها، وقدرتها على استيعاب الكثير من الاحتمالات بكثرة عدد متلقيها، فانصرف المتصوفة إلى تجريب ألوان من الكتابة (لأن اللغة تحمل إشكالية في ذاتها، فالعبارة الواحدة لها دلالات، بعدد سامعيها، إنها تفهم باختلافات نسبية تعود لتجارب المتلقي، واللغة إنما تقوم على تقريب المجهول بالمعلوم)( )، من هنا نشأ هذا الارتباط بين (الإشارة) و(العبارة) في قول الحلاج: (من لم يقف على إشارتنا، لم ترشده عبارتنا)، فهذه الإشارة تنبئ عن غموض تلك التجربة الصوفية، لكونها عصية على الفهم والاستيعاب من دون تجربة فعلية ذاتية، فحين تنكشف للصوفي صعوبات طريق الحقيقة، وفي يقينه أن سامعه وقارئه لن يقف على أبعاد هذه التجربة، فهو يلجأ إلى التكنية والاستنارة بالإشارة والتلميح التي به حاجة دوماً إلى الشرح والتفسير، وهنا تكمن معضلة الصوفي في أن ما حسبه ملجأ، صار فخاً منصوباً ومشكلة يعوزها الحل والتوضيح لأمن اللبس، علماً أن هذا (اللبس) أودى بحياة متصوفة، ومأساة (الحلاج) عنا ليست ببعيد، بله التفكير والاتهام بالزندقة وأهونها الجنون.. فاللغة أعراف تواضع الناس على مواضعاتها، فيأتي الصوفي ليعلن عدم كفاية هذه الأعراف لتجربته الفريدة، فيخلق أنساقاً جديدة تتسق -كما يرى- مع جدة تجربته واختلافها، حتى وصلت اللغة عند (النفري) في القرن الرابع الهجري إلى أرفع مستوى بلغته اللغة الأدبية الصوفية من ناحية المعجم والاصطلاح والأسلوب والدلالة.
المستوى النظري في المنهج ومقولاته
توطئة: في المنهج ومقولاته
إن من دواعي منطقية الفكر البحثي، أن تتم التوطئة في مستواه الإجرائي لموضوعة البحث، بمقدمة تمهيدية تحدد بموجب طروحاتها المهادات النظرية التي تتوالد في متسع أرضيتها: طروحات المنهج، وآفاق تشكله ثم تأصيله وموجهات وآفاق وتجلياته التطبيقية. لذا كان لزاماً أن تقرأ هذه الوريقات مقولات المنهج البنيوي الخاصة بتشريح القصة من حيث المكونات البنائية والآفاق الدلالية المستفادة من تضافر مجمل آليات النص التركيبية والمشتغلة على مساحة تعبيرية ووظائفية مقصودة من أجل إحداث التأثير الفكري والجمالي في متلقي هذه الظاهرة التعبيرية.
ولعل أهم ما يواجهه الباحث في تحديد مقولات المنهج الذي ستعتمده الدراسة في فصولها القابلة، جملة صعوبات ذات محاور متعددة تستلزم وعياً دقيقاً، وفكراً مهيئاً للفرز والتنظيم والاستيعاب والاختيار. لذا فإن المنهجية التي تروم هذه الدراسة السير على وفق سياقاتها التنظيرية، هي ليست الوحيدة في مجال تحليل القصة؛ فثمة المنهج النفسي وبخاصة مدرسة (فرويد) و(يونج) في التحليل النفسي للأدب على اعتبار أن البنية الأدبية هي شكل من أشكال انفتاح عالم اللاشعور على الخارج، وهناك أيضاً الرؤية الاجتماعية في تحليل القصة، كما ظهرت عند دعاة البنيوية التكوينية وفي مقدمتهم (جورج لوكاش)، و(لوسيان غولدمان) الذي قال بفكرة (الفاعل الجماعي)، على أساس أن النقد الأدبي يتبلور في شكل منهجية سوسيولوجية وفلسفية لإضاءة البنيات الدالة، مع تحديد مستويات إنتاج المعنى عبر أنماط من الرؤية للعالم، وارتباط تحول الأشكال الأدبية وتطورها بـ"التحولات الاجتماعية على المستوى الاقتصادي والسياسي( ). أما المنهجية التي تروم الدراسة الحالية السير على هدي طروحاتها فهي موجهة نحو دراسة نصوص حكائية عربية قديمة ارتبط موضوعها بفكرة دينية/فلسفية/ أخلاقية هي (التصوف)، قاصدة إلى كشف مكونات البنية السردية والخطاب السردي عبر منهجية شكلانية، هيكلية لها أكثر من آصرة مع علم الدلالة (semantiqe)، وكذلك الكشف عن شفراتها العلامية (semiotique) في مجمل ما زخرت به مصنفات البنيويين أمثال (بروب) و(غريماس) و(جنيت) و(تودورف) و(بارت)، فترى أن الطريق الذي أمنت السير فيه هو القائل بفرضية: أن الشكل هو الطريق العلمي الأسلم في الوصول إلى المعنى (القصد)، من الوجهة المنطقية: ذلك أنه ينطلق من قاعدة رصينة، ترى أن المنجز الكلامي يشتق قوانينه منه لا من خارجه، وهذا لا يعني تهويناً لصنيع (الهرمينوطيقا) في رصد المنظومة التاريخية والاجتماعية، وتسبيب الحدث الكلامي بأنه ناتج طبيعي انعكاسي لتلك البواعث والمؤثرات، من خلال تأويل رموز لغة أدبية بوصفه كلاً لعناصر ثقافية ما، بإنشاء نظرية عامة للمعنى مع نظرية عامة للنص، كما بدا ذلك واضحاً في نظر (ب ـ ريكور)، فالميدان الذي تشتغل عليه (الهرمونطيقا) ميدان خاص، يقيم علاقة بين النص والمرجعية متشبثاً بالمعطيات الخارج ـ لسانية للخطابات ولشروط إنتاجها وقراءتها( )، من خلال إدخال السياق السوسيو ـ تاريخي بما في ذلك سياق الفهم في محاولة لاستخلاص المعنى.
هذا فضلاً عن الاستفادة من طروحات (رولان بارت) في كشفه عن المستويات اللسانية في النص، و(تودوروف) في تمييز المظهر الخطاب من المظهر الحكائي وتأثير أحدهما في الآخر في صياغة الفضاء الذي تتحرك فيه عملية إنتاج المعنى، التي لا تتم بمعزل عن أدبية الأثر الأدبي، لذا توزع اهتمام الشكلانيين على مظهرين أساسيين هما: (اللغة والشكل)، بناءاً على هدفهم النهائي للتفكير البنيوي في الكشف عن البنى الدائمة وكيفية تلاؤمها وتكيفها مع الأفعال والإدراكات الإنسانية، فوجدوا أن اللغة الأدبية وسيلة إبلاغ وغاية فنية في نفس الوقت، وأرجعوا جل قيم الأثر إلى صياغته الشكلية، وجاءت نظريتهم هذه، رد فعل على توجهات النظرية الأيديولوجية للفن( )، ولعل أبرز مصنف تطبيقي جسد الفكر الشكلاني في نقد القصة (الخرافة)، و(موروفولوجيا الخرافة)( )، لـ(فلاديمير بروب)، وبخاصة اصطناعه فكرة (الوظائف) السردية في القصة، ونتيجة لتطور بحوث ودراسات في علم الألسنية العام وذيوع شهرة نتائجها البحثية حيث تم تطبيقها على مجالات متعددة، فأغنى (لويس هيمسليف)مباحثه في الألسنية وتلاه (كلود ليفي شتراوس) في الاتينولوجيا) و(التوسير)، في الاقتصاد الماركسي و(جاك لاكان)، في التحليل النفسي و(ميشال فوكو) في الفلسفة( )، كذلك ظهرت (الهيكلية) في تطبيقاتها الأدبية فركزت اهتمامها بالجانب الشكلي للأثر الأدبي باعتبار علاقة الدال بالمدلول، من دون إيلاء ماضي الأثر ومؤلفيه وعصره ومجمل السياقات الخارجية، عناية تذكر؛ بسبب تمركز الهيكلية حول فكرة وجود النص مرهون بالعلاقات التي يدخل فيها مع غيره، وعليه تحددت الوظائف البنائية لعنصر ما في الأثر الأدبي كنظام هو إمكانية دخوله في علاقة متبادلة مع عناصر أخرى لنفس النظام وبالتالي مع النظام بأكمله( )، بعد هذا ظهر تفصيل أكثر وضوحاً في الرؤية لمسألة البنية العلائقية في النص، حيث رأى (رولان بارت) أن المستويات الثلاثة الوظائف والأفعال والسرد، لابد أن تكون مترابطة فيما بينها، وفقاً لنوع من التراكيب التدريجي؛ فليس للوظيفة معنى إلا إذا كان لها مكان في الفعل العام للمساهم، وهذا الفعل نفسه يتم معناه الأخير عندما يروى ويدرج ضمن خطاب له سننه الخاصة( ) الملاحظ هنا، أن جعل النص كياناً منغلقاً على ذاته، أمر لا يمكن الاطمئنان إليه، وذلك لأن النص الأدبي منظومة تكاملية متجانسة من الدوافع والتراكيب والعلاقات، حتى وكأن الجزء فيها عضو في بنية لا يستقيم لها وجود ذو جدوى، إذا ما فقد أحد أركانها، على ذلك، فالباحث الذي يروم رؤية تكاملية توفر له مصداقية في العمل البحثي، ولابد وأن نتخذ توجهاتها من روح موضوعي رصين؛ (فلا شرعية لأي نظرية جمالية في الأدب ما لم تتخذ من مضمون الرسالة الأدبية أُسّاً لها، بل أهم قواعدها التأسيسية، كما أنه لا يمكن الإقرار بأية قيمة جمالية للأثر الأدبي مالم نشرح مادته اللغوية على أساس اتحاد منطوق مدلولاتها بملفوظ دوالها)( ).
1 ـ مفهوم السرد:
من هنا، كان الوقوف على مفهوم شمولي متكامل للسرد، أمراً له من الضرورة الكثير، وستقف الدراسة عند أهم التحديدات التي وردت لمفهوم السرد، من خلال الاعتماد على معطيات المنهج الشكلاني وبخاصة في دراستها للسرود الخرافية والشعبية المروية والمكتوبة، الأمر الذي يجعل دراسة أشكال السرد الشعبي والحكائي العربي على وفق المنهج الشكلاني، أمراً مقبولاً من وجهة نظر منهجية، لأن النقود الشكلانية الأصل تعاملت ـ على المستوى الإجرائي ـ مع التراث الشعبي المروي والذي تحتفظ كل أمة بنصيب لها من هذا الإرث الحكائي، بوصفه مُعطىً إنسانياً قيماً ذا هوية مميزة لا يخلو تراث أمة على وجه الأرض منه، لذا استثمرت طائفة من الدراسات العربية الحديثة آليات هذا المنهج وفحصت أشكال السرد العربي على أساس منه( ).
تراوح مصطلح (السرد) بين كونه خطاباً غير منجز أو قصاً أدبياً يقوم به (سارد) ليس هو الكاتب بالضرورة بل وسيط بين الأحداث ومتلقيها( )، وارتبط به مصطلح (السردية) الذي يعنى به: الطريقة التي تروى بها القصة أو الخرافة فعلياً، وهي فروع (الأدبية)( )، التي بحث في أدبية الأدب أو ما المقومات التي تجعل العمل الأدبي أدبياً، فكانت السردية بحث في ما يجعل القصة أو الرواية، أدباً سردياً، من خلال رواية سلسلة من الوقائع والأحداث بعد إقامة بعض العلائق بينها( )، ورغم كون علم السرد قديماً في نشأته منذ عام 1918، على يد (ايخنباوم) في مقالة له بعنوان (كيف صيغ معطف غوغول)( )، إلا أنه لم يظهر هذا المصطلح إلا في سنة 1969، على يد (تدوروف). واستجماعاً لأركان العملية السردية، فالسرد هو (وسيلة توصيل القصة إلى المستمع أو القارئ بقيام وسيط بين الشخصيات والمتلقي هو الراوي)( )، والمعتاد، أن تختلف طرائق (توصيل) الأثر ـ ومن خلال هذا الاختلاف ـ وهو جوهر عمل النقد البنيوي ـ تبيين الطرائق التي أعاد فيها السارد ترتيب الحكاية التي في جوهرها هي أحداث موجودة في محصلتها، لكن تكمن (أدبية) ساردها في اختيار وإتقان (أسلوب) إسداء هذه الحكاية التي هي عبارة عن (مجموعة من الأحداث، أو من الأفعال السردية تتوق إلى نهاية، أي أنها موجهة نحو غاية، هذه الأفعال السردية تنتظم في إطار (سلاسل) تكثر أو تقل حسب طول الحكاية أو قصرها كل سلسلة يشد فعالها رباط زمني ومنطقي)( )، ويقف إدراك الراوي (السارد) لتسلسل الأحداث ركناً مهماً في اختبار (زاوية النظر) التي يطل منها السارد في انتقاء (طريقة) سرد الأحداث والتي تعد محك التأثير، وإحداث الاستجابة المرتجاة، التي لم تتحكم بها (نوعية) الحدث وتنوعه وأخلاقيته... إنما (كيفية) أدائه وطرائق توصيله، حتى كان شخصية (السارد) هنا قبل إقامة الفعل السردي هي (شخصية ناقدة) للأحداث تعرض رؤيتها للأحداث وليست معنية فقط بنقل الحدث الذي يفترض نقله، فيبرز جراء ذلك، طابع الاختيار والقصدية ورجاء التأثير؛ مع هذه العناصر الثلاثة، تتحقق (الأدبية)، وتعدد مستويات التلقي، إذ لا قيمة للشيء إذا ما تم نقله من وجود، المرجعي ليكون ذاته منعكساً على صورة منقولة طبق الأصل، فالخلق الأدبي يعني الإضافة والاجتراح أو التغيير واقتراح هوية مخصوصة للشيء مستمدة من خصوصية منتجة وناقلة إلى المتلقي.
ثمة بحوث أخرى لاحقة عاينت السرد برؤية شمولية، ومنها ستستمد هذه الدراسة تحديد مقولاتها إذ هدف الدراسة متمركز حول مسألة الإحاطة بمجمل ما تستند إليه النصوص القصصية الصوفية وما تكتنفه من مستويات وما تؤول إليه من مدلولات تصدر عن علاماتها النصية، هذه البحوث عاينت السرد على أنه (فعل لا حدود له، يتسع ليشمل مختلف الخطابات سواء أكانت أدبية أم غير أدبية، يبدعه الإنسان أينما وجد وحيثما كان)( )، فيمكن تأدية الحكي باللغة والصورة والحركة والأسطورة والخرافة والحكاية والقصة والملحمة والتاريخ والمأساة والدراما والملهاة والإيحاء واللوحة...الخ.
معنى هذا أن السرد طريقة لسانية يمكن لها أن تتجسد في أي نظام لساني أو غير لساني وتختلف تجلياتها باختلاف النظام الذي استعمل فيه( )، لأن البنيوية إنما ظهرت بوصفها منهجاً وطريقة في الرؤية، لكي تجمع أجزاء العمل أو أي مكون آخر لتكشف عن نظامه الكلي المتكامل والمتناسق الذي تشكلت الأفكار على وفق ما يؤمن به الإنسان من مرجعيات إيديولوجية( ).
ولا يتسنى تقديم صورة استنتاجية عن هذا النظام الكلي من دون البدء بالذرات المكونة لهذا النظام، لهذا كان من أهم نتائج البنيوية أنها أدركت العلاقة الوثيقة بين مادة الإدراك والإدراك ذاته والذات المدركة الفاعلة والوسيط الذي يهيأ هذه العملية (اللغة) لما للغة من أثر بالغ في إعطاء كل هذه العناصر سمتها المميزة( ).
وليس ذا عجباً إذ أن منبثق البنيوية كان من مصدر لساني طوره (سوسير) في دراسة اللغة دراسة آنية تزامنية، أي أنه لا يمكن إدراك دلالة الجملة قبل أن تنتهي فينظر في مجموع إشاراتها وعلاماتها التي تشير إلى واقع معين في لحظة معينة أي تدرس (البنية) لهذا يمكن عد الكثير من الأنماط اللسانية في تاريخنا العربي مندرجاً ضمن المفهوم الشمولي للسرد، من سير وحكايات ومسامرات وأدب مجالس وقصص شعبي وديني،... من هذا قد يبزغ سؤال يحاول توسيع قاعدة التطبيق في الدراسة لتشمل مجمل عطاء الصوفية (السردي) ـ بالمعنى الشمولي المشار إليه ـ فتتسع جغرافية الدراسة فتشمل الأخبار والمرويات والتراجم والشطحات... الخ، على أنها أنماط سردية صوفية، والحق أن (وكد الدراسة) منصب على التركيز على جنس القصة الصوفية، أي سرد أحداث تقوم بها شخصيات فاعلة ضمن محاور دلالية مقصود إليها قصداً متضمنة التآليف والمصنفات الصوفية المتعددة، أما إذا كان هدف الدراسة الاستقصاء، فالأمر يكون أكبر من أن تحيط به دراسة واحدة، فضلاً عن أن النظر إلى السرد بهذه الرؤية التعميمية يجعل الفعل السردي الروائي يفقد أهم خصائصه التي يقف في صدارتها خصوصية الجنس الأدبي، فالنظرة العقلية السليمة تتوخى دقة المقدمات كي تخلص إلى نتائج مجدية، وهذا لا يعني أيضاً تهوين طرح (بارت) إنما هو حاول تأليف الأشكال الخطابية في منظومة (سردوية) ( ) حين يتعذر تصنيف بعض الأشكال التأليفية ضمن جنس أدبي مخصوص، فكما كان (الشعر) مصطلحاً يضم تحت لوائه جميع أشكال القول المموسق الجميل، يكون (السرد) هو الكنف الذي تحتمي فيه أجناس القول اللا شعورية، من هذا المنطلق ثمة أشكال من التأليف عند العرب بها حاجة إلى فحص من وجهة نظر سردية لدراسة أدب المجالس والمسامرات وأدب الفكاهة، وكذلك المشروع الذي طرحه خلدون الشمعة لدراسة نمط التأليف في (طوق الحمامة) الذي ضم طرائق وأشكالاً متنوعة من القص الخبري الموضوعي، والقصيدة والتعليق، ولكنه موحد في تأثير ووحدة موضوعه.
2 ـ اتجاهات علم السرد
في كل منظومة فكرية، يحدث تطور في الرؤية، استكمالاً لنواقص، أو تجذيراً لمفاهيم، أو تأصيلاً لمستجد... وهذا ديدن كل إنجاز بشري فهو نسبي في صحته والمآخذ عليه، وجدواه.
لهذا ظهرت عدة اتجاهات في علم السرد عملت بمجملها على استيفاء ما سكتت عنه الاتجاهات الأخرى فبدت وكأنها تكمل إحداها الأخرى، صنفت هذه الاتجاهات إلى ثلاثة بحسب رؤية الناقد عبد الجبار البصري على اعتبار مستويات القصة الثلاثة: الحكائي والسردي، والدلالي( ). وهذا التصنيف لا يخضع للتسلسل التاريخي وإنما تصنيف منهجي نظر إلى علم السرد من جهة بنية القصة ذاتها فهي تبدأ حكاية مجردة (وظائف وشخصيات)، ثم كيفية عرض هذه الحكاية سرداً، ثم ما الأفق الذي رمت إليه هذه الكيفية من خلال توظيف (الحكاية) (سردياً) لخدمة هدف وإيصال فكرة.
الاتجاه الأول: الخاص (بمستوى الحكاية)، ترجع جذوره إلى ما قبل (بروب)، حيث عمل (فلكوف) على تقديم صورة منهجية لتحليل الخرافات إلى حوافز، هي خصائص الأبطال وعددهم وأفعالهم. وكانت هذه موطئة لفكرة الوظائف عند بروب على الرغم من أن بروب لا يعدها شيئاً ولا تؤدي إلى غاية. ثم أعقبه (توماشفسكي) حيث ركز على دراسة (الحدث) وليس (الشخصية) في دراسة (نظرية الأغراض) عام 1925( ).
وكانت هذه الدراسة خير تمهيد لفكرة الوظائف عند (فلاديمير بروب) في إصداره لكتابه (موروفولوجيا الخرافة) عام 1928، في دراسة بنية الحكاية من خلال تفكيك أجزائها المكونة لها وكشف العلاقة بينها وبين مجمل الكيان العام للخرافة.
بعد أن اعتمد مئة خرافة روسية ليخرج بنتائج أساس سيتم الحديث عنها في الفصل الثاني بشيء من التفصيل في موضعها من هذا البحث. الذي يمكن أن يقال أن بروب في مصنفه هذا أعطى صورة للترابط المنطقي والجمالي لتسلسل الوظائف السردية، فيعد منهجه هذا صالحاً لإجرائه على جميع الحكايات مهما اختلفت مصادرها وأماكنها ويأتي بعد بروب (شتراوس) في (تحليل الأسطورة) ، فاختط خطاً قريباً من صنيع بروب وإن لم يطلع عليه، حين عد الأسطورة جزءاً لا يتجزأ من اللغة، والأسطورة تستند إلى أحداث ضاربة في القدم.
لكنها تؤلف بنية تصلح لتفسير الحاضر واستشراف أفق المستقبل( ). وتكمن قيمة الأسطورة عنده في تنسيقها لعناصر تكوينها وليس من فحواها وأسلوبها وطرائق سردها( ). فبدا أن شتراوس أفاد كثيراً من منهج التحليل النفسي، لاسيما نظرية اللا شعور الجمعي عند (يونج).
أما (تزفيتان تودوروف)، فقد دعا إلى دراسة وتشريح القصة من خلال المفاصل الآتية، في كتابه (نحْو القصة):
1 ـ دراسة الشخصيات وتقييمها ووصفها.
2 ـ دراسة المسانيد (الأفعال) الواقعي منها والخيالي.
3 ـ تركيب النص ووحداته الصغرى و الكبرى.
4 ـ ضبط العلامات الرابطة حيث الأعوان (الشخصيات) والمسانيد وفقاً لمظهري القصة( ):
الخطاب Discours
والحكاية Histoire
الاتجاه الثاني: فكان سردياً يُعنى بطرائق السرد وأساليب أداء الحكاية، وكان أشهر من تصدى لهذا الاتجاه هو (جيرار جينيت)، و(رولان بارت) أسس الأول نظريته على رواية (بحثاً عن الزمن الضائع) لـ(مارسيل بروست)، واقترح أبعاداً ثلاثة لتحليل الرواية وهي: القصة، والسرد، والخطاب (النص)( ).
فعنى بمكونات البنية السردية، وموضع الراوي، والمروي له، والزمن والصيغة والصوت السردي. مما سيتم تفصيله في الفصل الثالث من هذا البحث. فكان بحق مصنفه (خطاب الحكاية) و(عودة إلى خطاب الحكاية) من المصادر المهمة في النقد البنيوي للقصة والرواية.
أما (رولان بارت) فقد ركز عنايته على (المستويات السردية)، وهي الوظائف والأفعال والسرد والنظام القصصي، وقسم الوحدات السردية إلى نمطين: توزيعي، وتكميلي، الأول يقابل الوظائف التي عند بروب، والثاني هو الإشارات أو القرائن التي تصف الشخصيات وأفعالها والزمان والمكان والمناخ العام للقصة( ). ويعنى (بارت) في دراسة (مدخل إلى التحليل البنيوي للسرد) و(لغة النص) وغيرها، بـ"الأنظمة الاجتماعية والفكرية التي يكمن وراءها المستوى السردي، وعلى ضوئه يتم تحديد سيميائية دلالاته.
وتكاد هذه الرؤية هي ذاتها منطق (القيمة) التي قال بها (كريماس) في أن أدب مرآة العالم والمجتمع وهو يمثل:
الاتجاه الثالث: مستوى الدلالة، فذهب (كريماس) إلى أن مجمل القواعد والأسس التي تنظم العملية السردية هي (النحو السردي)( ) فيرى أن السردية تقوم على مجموعة من الملفوظات المتتابعة والموظفة المستندات فيها لتشاكل ـ السنيا ـ جملة من التصرفات الهادفة إلى تحقيق مشروع( ) وبنى رؤيته هذه على أساس أن المسرود يتصف بمستويين: سطحي وعميق، الأول يختص بالفواعل والثاني يعتمد نظام الوحدات المعنوية الصغرى.
وكان أهم ما أنجزه كريماس في نظريته الدلالية هو (المربع الدلالي) الذي تتأسس فكرته على أن الدلالة تستخلص من علاقات الاختلاف والتقابل القائمة بين حزمة من الوحدات الدالة.. فالطول لا يدرك إلا بالقصر وهكذا...( ).
أي أن الأشياء تعرف بأضدادها كما يقول العربي قديماً، أما وظيفة (المربع الدلالي) وأهميته، فتكمن في أنه يهيء اكتشاف بنية الدلالة العميقة المؤسسة للنص والمتحكمة في بنيته السطحية، بمعنى أنه يجسد شكل المعنى الذي ينبني عليه النص في جملته( ).
والذي نصير إليه، بعد هذه الاضمامة من الآراء والأفكار والتوجهات، أن المنهج البنيوي لا يمثل قوانين صارمة إنما هو مناهج متعددة بحسب مستوى الرؤية واتجاهها وفلسفتها، وإذا ما تم تطبيق هذه المناهج على شتى صنائع الإنسان وسائر أقاويله، فلا غرو في تطبيق هذه المناهج أو روحها، في تحليل القصة الصوفية، وفحص مكوناتها السردية ووظائفها ودلالاتها.
لقد عني الفكر النقدي العربي القديم منذ القرن الثاني حتى السابع الهجري ـ ضمن ما عني به من القضايا ـ بقضية الشكل والمضمون أو اللفظ والمعنى ووصلت هذه العناية حد (الصراع) واختلاف وجهات النظر في النظر إلى مسألة (الثابت والمتغير) التي لم تستقر على مبدأية تصورية موحدة، انتهى الصراع فيها على يد العالم العربي الإمام (عبد القاهر الجرجاني ت 471هـ)، حين وقف عند هذه القضية مصرحاً بأن ثمة علاقة بين اللفظ والمعنى تنتظم الأسلوب التعبيري، وهذه العلاقة النظمية هي علاقة سببية يقصدها المتكلم بغية إحداث تأثير في المتلقي، فأصبحت مقولة (النظم) و(الصياغة) حالة محل مقولة (اللفظ والمعنى) أو (الشكل والمضمون).
إذن تشكيل (الشكل) الأدبي في التعبير يتم على وفق المعنى المراد إسداءه، وكلما اختلفت النيات وغايات القول ومجالات المعنى، تنوعت أشكال الصياغة وطرق أداء المعنى واتساع فضاءات الدلالة فهماً وتأويلاً.
الأمر، إذن، على التضاد بين الرؤية الغربية والرؤية العربية، والاختلاف يقع في الأسباب قبل النتائج وهو اختلاف فكر وحضارة.
لا أعد ما سبق قوله أعلاه استطراداً، إنما دعت الحاجة إليه بوصفه مرجعاً فكرياً تستند عليه الدراسة في اختيار ما يناسب تطبيقاتها من منهج يأخذ الأفضل والأكثر تكاملاً من بين مناهج البحث القصصي الغربي التي نظرت لفن غير عربي ولا إسلامي، الأمر الذي سيأتي الكلام فيه لاحقاً عن صلاحية المناهج الغربية الحديثة لبحث القصص العربي الإسلامي القديم ـ وقد وجد أن بحث (الدلالة) و المقاصد الظاهرة والمرمز إليها في المنجز اللساني الأدبي، هامشية ولاحقة للدراسة التركيبية التي تجعل هدفها الأول إبراز الدلالة من خلال فحص الهياكل اللغوية، فلابد إذن، من إنشاء (وحدة) ذات بعدين: لغوي (هيكلي)، وفني (دلالي). ولا يكتفي بأن يكون الأثر الأدبي، حجةً وشاهداً كما هو حالة في الدرس النحوي واللغوي والبلاغي، إنما التركيز على خلق (استنتاج) وحدة لا يكون أساسها النظري منطق التبعية؛ تبعية الشكل للمضمون أو العكس، إنما استحضار المفهوم العلائقي الذي يشكل الطبيعة الحقيقية للأشياء والظواهر، حين يتخلق الشكل ـ في لحظة الصياغة ـ مع المضمون في هيئة ذات علاقات سببية يظهر فيها هذا التعبير عند شاعر أو ناثر أو لا يظهر عند غيره.
ولعل القول بـ(التبعية) تلك، يفقد العملية الإبداعية أحد شروطها المهمة من الناحية الأسلوبية، وهو مبدأ (الاختيار) الذي يعد نواة أدبية الخطاب الأدبي( )، وهو مفهوم يعنى بخصوصية المبدع وتفرده في رؤية للموضوع ووجهة النظر الخاصة به التي تعد مقياساً لقيمة الإبداع ودرجته ومستواه ونجد ذلك ماثلاً في (أسلوبيات) القص العربي القديم ـ على سبيل المثال، فهيئة القص وطريقة السرد في (ألف ليلة وليلة) في نمط الحكاية الإطارية له أهدافه البنيوية التي يمكن تلمسها بالنسبة للواقف على منظومة الفعل السردي في (الليالي) والأمر يختلف في (رسالة الغفران) أو (منطق الطير) أو (حكايات الصالحين) والمتصوفة...
فالذي كان محط عناية الشكلانيين في تحليل القصة، هو دراسة الهياكل اللغوية في المستوى التركيبي، بعد ذلك يتم الوقوف على القيمة الدلالية والإيحائية للخطاب، وكان أبرز من مثل هذه العناية المنهجية ودعا إليها (تزفيتان تودوروف) فقد وقف عند وصف اللغة وسيرورتها على كل مستوياتها الصوتية، والتركيبية والدلالية، أوجدت تقنيات خاصة منحت الدرس الأدبي استقلالاً عن علو
أما في القرن الرابع الهجري، فقد أصبحت القصة الصوفية، تمضي إلى الجانب الخارق في التجربة الصوفية، والذي دعي عندهم بالكرامات، التي يتمتع بها طائفة من شيوخ التصوف التي هي درجة أدنى من النبوة التي تختص بـ (المعجزات) دليل نبوتهم، وفي هذا القرن اتسع مدار تطور النثر الصوفي نحو ترميز المعنى حتى لقد استغلق على جملة الناس، من حيث عدم تبين حقيقة المقصود، مع مسحة جدلية لا تخلو من تعليل وتحليل، وتكثر فيه الاصطلاحات الصوفية كالغيبة والشهود والفناء،.. إلخ وغالباً مالوا إلى السجع، في نثرهم مع إكثار من المحسنات البديعة كالطباق والتورية( )، وبرز (التضاد) واحداً من أهم أسس تشكيل المعنى عند الصوفية، نتيجة لرؤيتهم الثنائية للوجود والشريعة ويلخصها قولهم في (الظاهر والباطن) والحق إن تطور النثر الصوفي أكثر ما نما وازدهر في غضون هذا القرن؛ إذ أن العصور التي تلته السادس والسابع الهجريين، توجه الاهتمام فيها إلى التأليف وتدبيج التصانيف الخاصة بعلم التصوف وتاريخه ومشايخه وموضوعاته فضلاً عن التأليف في مباحث العقيدة والتوحيد والمقامات، والأحوال، وغيرها.
ولعل تأخر الاهتمام بالقصص والحكايات وقلة المصنفات الحكائية المستقلة يعود إلى أن قريحة العربي وذائقته، شعرية، في الدرجة الأولى، وظل النثر متأخراً عن الشعر في الاهتمام، والتطور والرواية بل حتى عدت الحكايات هي من شأن المسامرين والدهماء من العامة، أو لتسلية الحكام وولاة الأمور، لذا لم يحظ هذا الفن بالعناية المطلوبة، ذاك أنه من حيث الوظيفة لم تستطع القصص والحكايات أن تنافس الشعر في بلاطات الأمراء والخلفاء والقادة مضافاً إلى ذلك أن قدرة (الحكواتي) بدلالة (المحاكاة) بمعناها اليوناني التي يشترط فيها دلالتين، الرغبة في التسرية والحكاية أي التقليد( ). ولعل التطور الحضاري الذي سرى في مفاصل الدولة العربية الإسلامية، وعلو قيمة الكتابة بعد أن تصنفت العلوم وبدأت تميل نحو الدقة والتحديد، هو الذي خفف من حدة الهيمنة التي كان يمارس الشعر على الذائقة العربية محموماً، وبخاصة في مزيته الارتجالية. لهذا ظهرت بوادر قصصية أخذ البعض منها شكل المهارة اللفظية، والعرض اللغوي والبراعة في امتلاك أزمة البلاغة، كما هو أمر (المقامات) التي بلغت أوج تطورها ونضجها عند (الهمداني والحريري) فضلاً عما ذكره صاحب الفهرست في ثبته الخاص بأسماء المضحكين والندماء وأصحاب الحكايات العجيبة، وأخبار الفساق وحكايات الجن( ).
ولولا جنوح المقامة نحو التحسين اللفظي والبراعة الاستعراضية المصنوعة في الشكل اللغوي، لكان يمكن أن تضيء المقامة درباً جديداً لتطور القصة العربية، هذا ولم تكن المقامة وحدها هي المنجز الحكائي العربي الوحيد في هذا العصر، بل لقد سبق لها محاولة قصصية لم يرتض مؤلفها أن تكون مقامة أو من جنس الحكايات الخاصة بالتسرية والفكاهة، هي (حكاية أبي القاسم البغدادي) لمؤلفها محمد أبي المطهر الأزدي( )، يقول في مقدمتها، إنه ينشئ نوعاً من الأدب لا هو بالمقامة، ولا هو بالرسالة، وإنما هو صورة واقعية تصور أحوال البغداديين، وتظهر الواقع الاجتماعي الطبقي، يسرد في شكل قصة تتخللها نماذج الشعر وقطعاً من النثر البليغ، مع نقل عبارات طويلة عن الجاحظ( )، ويقتصر الحوار فيها على شخصية واحدة، فالذي يظهر من هذه القصة، أن المؤلف اقتبس نتفاً من مؤلفات الجاحظ (ت 255 هـ) ( )، واطلع على نمط المقامات التي وضعها الهمداني، وجاء من بعده الحريري (516 هـ)، فهو قد أفاد من عرض تقنيات القص التي ظهرت واضحة في نمط المقامات، وهذه الحقيقة صرح بها الحريري من أن مقاماته حكايات( )، فبهذا المعنى انطلق عمل أبي المطهر في نسج حكايته التي لا يعدها مقامه، فحكايته لا تلقي وقوفاً على جمع من الناس كما هو حال المقامة، بل هي حكاية جمعت بين التاريخ –حقائقه الملموسة التي سجلها الجاحظ- وبين أسلوب القص، وهي بهذا المعنى، حكاية بالمعنى الذي قصدته الكلمة اليونانية من المحاكاة، وهذا الذي جعل بعض الباحثين، تعد حكاية أبي المطهر من آثار مذهب أرسطو بتمامه على يد يونس بن متي (ت 328 هـ) ( )، ولست أرى في هذه المسألة هذا الرأي؛ لأن أرسطو فرّق بين التاريخ والأدب، وبين الحقيقة التاريخية والحقيقة الأدبية، في حين أن العربي منذ القِدم كان الشعر ديوان علمه وسجل فخاره وأيامه وتاريخه الشخصي والقومي، وإنما قيل بتبعية النموذج الحكائي العربي للنظرية الأرسطية، فتلك سُنة من يجرد العرب من كل فضيلة وصنع أصيل وينسبها للغرب، فلم لا يكون المؤثر القريب وجدانياً وأسلوبياً، هو القرآن الكريم والأقاصيص التي سردت في القرآن، حتى إنني أجد في التزام قصاصي القرن الرابع الهجري بالسجع والتقطيع وتوخي الفنون البلاغية والمحسنات البديعية، ما هو إلا احتذاء وتشبّه وتأثر بأسلوب القصص القرآني وحضور الفاصلة القرآنية في تقطيع الحدث القصصي وترتيبه أو اختزاله.
من هنا، افترقت القصة الصوفية عن مجايلاتها من أنماط الحكايات الأخرى التي أخذت طابع الفكاهة والسخرية والنقد الاجتماعي والتسجيل الأدبي بالاستعانة بالتاريخ، في أن القصة الصوفية، موضوعياً، التزمت وحدة متعددة تخدم غرض التصوف وأهدافه الدينية والأخلاقية والمذهبية الخاصة، فكان لها انتماء واضح، وهوية مشخصة، ومن الناحية الفنية التزمت الأسلوب العربي البليغ التي تراوح بين الحكايات المباشرة والحكايات الرمزية، مع الاعتراف أن اللجوء للرمز لم يكن هدفاً شكلياً قُصد للتحسين أو العناية البديعية، إنما قصد لأهداف مذهبية لم يكن من السهل التصريح بها، لذا كانت القصة خير سبيل لاستبطان التجربة الصوفية، وضمان بثها وإيصالها إلى المريد والطالب في شكل تعبيري يشده ويدهشه، الأمر الذي يفضي إلى الإقناع وخلق الإيحاء المطلوب الذي يرجوه الشيخ الصوفي لمريده المبتدئ.
8-بواعث القص وموضوعاته:
لا شك أن الميل الحكائي لتصوير أشياء الكون وجدلية موضوعة الخير والشر، والحب والكراهية، والإنس والجن..، هو سمة إنسانية الطابع؛ ليست قصراً على جنس دون آخر أو حضارة دون أخرى، بدءاً بالأساطير البابلية القديمة والتي جاءت مدونة على ألواح الطين من أواخر الألف الثالث وأوائل الألف الثاني (ق.م)، والتي تم إبداعها في زمن يضرب في عمق التاريخ قروناً عدة( )، ثم تلتها الحضارة الفرعونية في الألف الثالث (ق.م)، وما خلفه الكنعانيون في بلاد الشام من نتاج أدبي يرقى إلى الألف الثاني (ق.م)، أما الحضارة الإغريقية وبخاصة (الأوديسة والألياذة) فلا يتجاوز زمن تدوينها القرن السابع أو الثامن (ق.م)، ومثل ذلك يقال على حضارة الهند القديمة، كان الأسلوب القصصي في رواية الأساطير والملاحم، هو أشهر سمة توحدت فيها هذه المنجزات في منحاها الأدبي الكتابي، وهذا أحد الأدلة التي تثبت تهافت نظرة الغرب الاستعلائية في النظر إلى الحضارة العربية وعدها شعرية وجدانية فقط غير مؤهلة لإنتاج لأعمال الدرامية الضخمة مثل ملاحم الإغريق.. فتاريخ العرب الحقيقي يبدأ من الحضارة البابلية العريقة والمتطورة وليس من (الجاهلية) التي تبعد عن أول الإسلام خمسين ومئة سنة أو مئتين على رأي (الجاحظ) (ت 255 هـ)، وأربعمئة سنة قبل الإسلام، على رأي (الأصمعي) (ت 210 هـ) قبله( )، وكان للعرب الأقاصيص والملاحم فضلاً عن الأشعار والترانيم التي ينشدونها في غزواتهم، وقد صرح بذلك المؤرخ الإغريقي (سوزيموس) القرن الخامس (ق.م)( ). وعلى سبيل المثال، ترد ملحمة (كلكامش) في خمس قصص موضوعها الرئيس البطل كلكامش، ثم الملاحم الثماني المشهورات (زو، وإيتانا، وإيرا، وآدابا، وأنيمركار، وسرجون الأكدي، ونرام-سين، ونرجال)( ).
وحين يكون الشعر العربي في عصوره الأولى، تدخل الروح القصصية في التركيب الفني لموضوعات الشعر بين بعديها الأسطوري والواقعي، مثل قصص الحيوان وقصص الغزل وقصص الكرم والبطولة( )، ولم يكن الأمر قصراً على الشعر؛ فلقد حفل القرآن الكريم بهذه الخصيصة في طرائق سرد لافتة للنظر والتأمل والاعتبار، حتى عُد وصف أحوال الأمم السالفة وقصص الأنبياء من آدم وحواء حتى النبي عيسى (ع)، أحد الأقوال الخاصة بالإعجاز القرآني( ).
فليس يستغرب إذن، أن يوجد هذا الكم الهائل من القصص والحكايات الصوفية والتي ضمتها تآليف المتصوفة ومصنفاتهم الأمر الذي يجعلها جديرة بحمل هوية فنية بوصفها فناً تعبيرياً مستقلاً (قوامه السرد المباشر الذي يكون أداة تشويق وإثارة، في عرض الحدث واقعياً كان أم خيالياً.. فالحكاية ضرب من الفن القصصي الذي هو فن قديم اتخذ تعويضاً للإنسان عن واقع سيء يعيش فيه)( ) فالحكاية، تحاكي الواقع ولا تتطابق معه، إذن لقد انتفت الحاجة إليها، إذ المطلوب من الفن أن يرسم صورة للواقع، وليس تسجيل الواقع ونقله، إنما قيمة الفعل الإبداعي الأصيل تكمن في الإمساك بتلك الهبة التخيلية التي تتوازن فيها رغبة الإعراب عن الواقع ومحاكاته، وبين الارتفاع عن الواقع، بما يحقق الإيحاء وليس الإيهام.. من هنا تتجلى أهمية العامل النفسي المتأثر بضغوط الحياة والتفكير في صياغة أسئلته الوجودية في شكل حكايات، والجانب المؤثر في متلقي الظاهرة القصصية، من ناحية سرعة الوصول والاستلذاذ، والتقبل، وقد بدأ الهدف الوعظي في طليعة الأهداف التي ينويها الصوفي؛ حيث يروي عن الجنيد أنه سئل: ما للمريدين في مجاراة الحكايات؟ فقال: له: فهل لك في ذلك شاهد؟ فقال: نعم –قوله عز وجل: وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك( )، قياماً على ذلك، يتبين اتكاء الصوفية على هذه اللفتة القرآنية في قصد إحداث الأثر النفسي في قلب الرسول() وبعث الاطمئنان والسكينة والثبت في همته ويقينه، وأجد في هذه (الاتكاءة) ما يدعم القول السابق في مصدر التصوف الإسلامي والرسالة المحمدية الشريفة، فيكاد الصوفي لا يُسأل –وكثيراً ما يسأل- حتى يستحضر آية قرآنية أو حديثاً شريفاً أو منقبة لولي أو صالح، يتخذها مرجعاً إليه، وقاعدة فكرية يطمئن إليها في طريق تجربته الصوفية.
وإذا ما كانت الحقيقة الإجمالية، التي يقررها الباحث (علي صافي حسين) من أن (نشأة النثر الصوفي بمصر تتمثل في ظهوره. أول ما ظهر –في ثوب قصصي، وعلى شكل حكم وعظات تقال في الحاجة)( ) –خاصة بإقليم مصر (مجال بحثه)- إلا أنه يمكن إلمام هذا الخاص، فيمكن الاستدلال على صحة ذلك الإلمام بالمظاهر الآتية:
أولاً: تلك الكثرة الوفيرة من القصص والحكايات المنبثة في تآليف الصوفية –التي تيسر تحقيقها ونشرها- مثل كتب الطبقات الصوفية والتراجم ومؤلفاتهم المختلفة والتي تدخل في سياق كتب الأدب.
ثانياً:أجده له علاقة بفن القصة نفسه، فلربما سهولة اندياح النفس مع القصص بشكل يجعل من أسلوب القص والسرد حاملاً سهلاً وميسوراً لأكثر المتكلمين مما لو ضمن تجربته قصيدة شعرية فإنها تستلزم وقوفاً على قوانين القصيدة العربية والتي أولها الموهبة، وهذا ليس بوسع أي متصوف استحصاله. فضلاً عن التجربة الصوفية فيها تدرج وترتيب لأحداث قد تقف قوانين الشعر الإيقاعية حائلاً أمام زج مضامين التجربة الصوفية الخاصة.
هذا، وقد صرح بعض المتصوفة بمقاصدهم وأهدافهم من اختيار شكل الحكاية أو القصة وسيلة لإيصال مضامينهم الصوفية، التي يعنون ببثها إلى مريديهم، فقد [استعمل بعض المصنفين في التصوف] الحكايات –أداة تعبير عن المعاني الصوفية التي تدل على آدابهم، هذا أبو نصر السراج يذكر أنه لا يمكن ذكر آداب هؤلاء في معانيهم إلا بحكايات بلغتنا عنهم، يدل ذلك على آدابهم، وصحة مقاصدهم، وعلو مراتبهم، وأحوالهم وصفاتهم)( )، أما تعليل (ابن الخطيب) لإيراد الحكايات، فإنه يأخذ جانب التلقي والتأثير مسوغاً للقص فيقول: إنها (تجري دموع المريدين، وتؤثر في قلوب العارفين، وتهيج مواجد المحبين)( ). من هنا، تمثل اللجوء إلى القص وسيلة أدبية عند الصوفية لبث مواجيدهم الخاصة. والتعبير عن التجربة الصوفية، تطميناً لمقصدين مهمين:
المقصد الأول: تجنب الكشف عن العبارة المراد معناها الدقيق في النهج الصوفي، تحوطاً من مقابلتها بسوء الفهم، أو التأويل أو النبذ أو الازدراء، وهي معان (ذوقية، وجدانية يجدها الإنسان في نفسه، ولا يقدر أن يصورها لغيره إلا بضرب مثال، أو تجوز بعيد)( ).
المقصد الثاني: روعي فيه جانب التلقي، وحسن استقبال النفس للعظة أو النصيحة أو الحكمة أو المعلومة، إذا ما بثت في شكل قصة أو حكاية أو رؤيا حلمية لهذا لوحظ ملمح المبالغة والخارقية في بعض أحداث القصص والرؤى ومضامينها( ).
9-مرحلة التأصيل/ الملامح العامة:
تبين من خلال ما سبق، أن نشأة هذا الفن إبان القرن الأول الهجري على يد (سليم بن عتر التجيبي) وأبي الحسن الشاذلي؛ في أقاصيصه الأولى، ورؤى الثاني، ما يكشف عن أن ثمة ضرورة لنشأة الفن، وحاجة إليه لغرض التعبير عن الحقائق والأسرار وما يفيضه الله على قلب الصوفي من العلوم اللونية من خلال لقائه بالأنبياء والملائكة الأولياء)( )، وهذه الأقاصيص والرؤى ترد –في الغالب- بسيطة في سردها، ألفاظها خالية من التعقيد لأن الهدف منها ليس فنياً، بل ما سبق ذكره في الورقة السابقة، أو إثبات الولاية لشيخ صوفي كما حدث الأمر مع الشيخ (أبو الحسن الصباغ)( )، وإثبات كونه من أصحاب الخوارق ومنها هذه الحكاية (كان الشيخ أبو الحسن الصباغ (رضي الله عنه) جالساً في بعض الأيام عند جماعة من مريديه، فقال له أحدهم: يا سيدي المشاهد لأنوار جلال الله تعالى كيف نظره في الوجود؟ فقال بنظر السر القائم في الوجود الذي به استقام وجود كل موجود، فإن نظر إلى عاصٍ أحياه، وإن نظر إلى ناسٍ ذكره، وإن نظر إلى ناقص كمله، فقال له يا سيدي وما علاقة من هو موصوف بهذا؟ فقال: هو من نظر إلى هذا الحجر لذاب من هيبته، ثم نظر إلى حجر عظيم أصم بالقرب منه، فذاب الحجر وصار ماءً وغار في الأرض)( ).
إن هذا النمط من الحكايات يشترط (يفترض) أحداثاً ذات طابع لا معقول، أو هي من قبيل استثمار تلك القوة الواقعة بين العقل العملي وبين الحس المشترك على تعبير (الغزالي)، وهي متنازعة بين التفكير والتخيل( ) وهذه القوة ليست متشابهة في أصناف الناس بل هي مترتبة متفاضلة، قد تصل في بعض حالات قوتها إلى الاتصال (بنفوس السموات من خلال قوة التخيل( ) التي ينتج منها هذه الأفعال ذات الطابع الخارق للعادة وتعطيل قانون الأسباب المادية التي تسمى عند الأولياء بـ (الكرامة) وهي مرتبة من العطايا الإلهية أدنى من (المعجزة) التي اختص بها الله عز وجل الأنبياء والمرسلين، والكرامة من الناحية الأدبية التعبيرية هي (أقصوصة تحكي بالرمز إيمان البطل الديني بقدرته على الاقتراب التدرجي والشديد من الله ومن ثمة أخذ طبيعة إلهية توفر له إمكانية التشبه بالله من حيث الإرادة الحرة المطلقة)( )، الذي يعني البحث، من هذا اللون القصصي؛ وهو عنصر الادهاش والمفاجأة المتمثلة في (العقدة) مرتكز الثيمة القصصية التي توفر جذباً استقبالياً عالياً بسبب وجود خصيصة المفاجأة من هنا، أخذت هذه القصص مكانة طيبة في الدرس النقدي القصصي لأنها اتخذت سبيلاً وسطاً بين القصص الموغلة في السردية المباشرة التي تنقل الحدث الواقعي بفوتوغرافية فجة، وبين تلك التي تصل الحدث إلى حدود الإيهام والخرافة اللامعقولة، فكانت حكايات (الكرامات) أنضج من سابقتها لأنها نحت نحو (الخيالي) الذي بين (الواقعي) و(الإيهامي) فهي واقعية مجنحة وتلك صفة الأدب الرفيع والمخيل لأجل ذلك عدّها (د.فائز طه) من الحكايات الصوفية الناضجة من الناحية الفنية( ) لأنها حملت خصائص الفن القصصي المثير والممتع لما تضمنته من حدث غريب ومفاجئ يسرد على نحو مشوق، ثم اشتمالها على خيال واسع وحوار جميل مع ما تتضمنه من أدعية ومناجيات ووصايا وعبارات حكمية، وأحياناً يكون السرد على لسان الحيوان، كأن ترافق الصوفي فتفهم منه المعاني التي يقولها ويكون الحيوان واسطة تتمثل فيه قدرة الله (عز وجل) حين يستجيب لدعاء دعا به الصوفي في ألوان من الكرامات وخاصة عند الطيور( ).
وأصاب هذا الضرب من الحكايات الصوفية على لسان الحيوان، تطور كبير حين تطور مفهوم التصوف إلى دلالات فلسفية فكرية، من هنا لا أحبذ الفصل بين (القصة الصوفية)، و(القصة الفلسفية) التي ظهرت عند بعض فلاسفة العرب كابن طفيل لدواعٍ منها:
أولاً: من الناحية الفكرية، يدور الفلسفي على حقيقة استدلالية أساسها إعمال العقل في تفسير حقائق الوجود وإشكاليات الإنسان أي تأسست نظرية معرفية عند المسلمين يكون منطلقها (الدين)، يضاف إليه (العقل) في تأويل النص الشرعي وجعل النص بؤرة تحفظ ديمومته وقدرته على الانسجام مع متغيرات المكان والزمان بمعنى خلق فهم جديد ومتطور لحقيقة (نقلية) ثابتة مرتبطة بمناسبة قولها وظرفها، من هذه الزاوية يلتقي مفهوم التصوف بمفهوم الفلسفة، لأجل هذا حين صنف (الغزالي) الفلاسفة وسماهم (أصناف الطالبين للحق)، جعل المتصوفة الصنف الرابع منهم بعد (المتكلمين) وهم أهل الرأي والنظر، والباطنية وهم أهل الإمامة المعصومين والفلاسفة أهل المنطق والبرهان، ثم الصوفية وهم خواص الحضرة وأهل المشاهدة والمكاشفة( )، فالنظر العقلي والتصفية النفسية، ليسا طريقين للمعرفة بل هما مرحلتان في الوصول إلى الحق( )، لهذا (الغزالي) يستخدم كلمة (الحكماء) في موضع (المتصوفة)، فهو يساوي بين (الحكمة) و(التصوف)( ) فلا يقيم فاصلاً بين العلماء النظار وبين المتصوفة، إنما يجد الفارق في جهة زوال الحجاب( )، أي درجة العلم التي ينكشف عليها العالم بهدف الوصول إلى الحقيقة الكاملة.
ثانياً: الحقيقة التي يتلمسها الباحث في علوم العربية وآدابها، والتي تفيد بأن العالم العربي ذو معرفة موسوعية، آخذ من كل علم بطرف، مقتطف من كل بستان زهرة أو ثمرة، فالفيلسوف هو طبيب وشاعر وفلكي ومفسر ومحدث.. إلخ، وهذا واقع يتلمسه المثقف مع ابن سلام الجمحي والجاحظ وابن رشد وابن سينا.. ويطول هذا الثبت لمن شاء الإحصاء والإحاطة، على هذا، فالتفكير في مسألة (التخصص) في علم معين غير وارد، لعدم تبلور العلوم ونضجها الأمر الذي يجعل لها مناهج خاصة، وحدوداً خاصة لمديات كل علم فلا يجوز تخصيص علم على آخر، فضلاً على أن العلم اختيار شخصي ورغبة ذاتية تنهض في ذات العالم، فيطورها ويقويها استعانة بالمشايخ، من غير أن تنهض بذلك مؤسسة علمية لها طابع وتخصص وإمكانيات.
وعلى الرغم من ذلك، فقد يطغى علم ما على سائر العلوم الأخرى التي يجيدها العالم نفسه، كأن يكون جهده الفلسفي أكثر أو أعمق من المعارف الأخرى التي يقف عليها. وأجد في هذه المسألة بوادر لهوية علمية محددة، فكر بها العربي المسلم، حين اجتاحت حياته الجديدة في العصر العباسي، علوم شتى سواء منها الأصيل (الشعر والخطابة والفقه..) والوارد مثل (الفلسفة، والمنطق، والطب..) فالكثرة تدعو إلى التصنيف والرغبة في تحديد المعالم والقيام على تخصيص أو اثنين وإشباعهما درساً وتمحيصاً.
فالعلماء الذين كانت هويتهم العلمية (فلاسفة) –فضلاً عن موسوعية علمهم- سواء منهم ما كان في المشرق العربي أم المغرب، مثل إخوان الصفاء وابن سينا وابن طفيل وغيرهم، فقد كانت لهم تجربة صوفية، نعم، أخذت طابعاً فلسفياً، حيث تطور مفهوم التصوف من فهم الشريعة على وفق القاعدة الثنائية (الظاهر والباطن) إلى مفهوم ذي شمولية واتساع يشمل طرائق اكتساب المعرفة، وموضوعة الأخلاق، أضف إلى ذلك القدرة الأدبية التي امتاز بها علماؤنا، فأنجزوا شكلاً أدبياً متقيلاً حذراً من الوقوع في مخالفة الإجماع من الفقهاء وأهل السنة. فضلاً عن ذلك أن مجيء أفكارهم الفلسفية في سياق تعبيري أدبي، يمنحها طابع التأليف الأدبي الجمالي، الذي تعلو فيه القيمة الماتعة على القيمة الفكرية، منها إذا ما جاءت في شكل نظرية معرفية خالصة في لغة علمية، لكن هذا لا يمنع أن تتوشى لغة القصص باصطلاحات فلسفية ومنطقية( ) كما يظهر ذلك في الحديث الذي جرى بين الحيوانات عند إخوان الصفاء، ففي بعض هذه الحوارات نجد: (.. ثم اعلم أيها الملك العادل. إن هذه الصور والأشكال والهياكل والصفات، التي تراها في عالم الأجسام، وجواهر الإجرام، هي مثالات وأشباه وأصباغ لتلك الصور التي في عالم الأرواح)( ).
فكان الشكل الأدبي والأسلوب القصصي، يخلق إيهاماً متوزع التأويلات بحسب أصناف المتلقين، فما يفهم منها القارئ الصوفي والفيلسوف، غير ما يصل من مفهومها عند الفقيه أو رجل السلطة وثبت أن (المتصوفة/ الفلاسفة) في طريق بحثهم عن الحقيقة، تواجههم قضية التعبير عن هذه الحقيقة، فتقف (اللغة) ذاتها عاملاً مهماً في نسبتها، وقدرتها على استيعاب الكثير من الاحتمالات بكثرة عدد متلقيها، فانصرف المتصوفة إلى تجريب ألوان من الكتابة (لأن اللغة تحمل إشكالية في ذاتها، فالعبارة الواحدة لها دلالات، بعدد سامعيها، إنها تفهم باختلافات نسبية تعود لتجارب المتلقي، واللغة إنما تقوم على تقريب المجهول بالمعلوم)( )، من هنا نشأ هذا الارتباط بين (الإشارة) و(العبارة) في قول الحلاج: (من لم يقف على إشارتنا، لم ترشده عبارتنا)، فهذه الإشارة تنبئ عن غموض تلك التجربة الصوفية، لكونها عصية على الفهم والاستيعاب من دون تجربة فعلية ذاتية، فحين تنكشف للصوفي صعوبات طريق الحقيقة، وفي يقينه أن سامعه وقارئه لن يقف على أبعاد هذه التجربة، فهو يلجأ إلى التكنية والاستنارة بالإشارة والتلميح التي به حاجة دوماً إلى الشرح والتفسير، وهنا تكمن معضلة الصوفي في أن ما حسبه ملجأ، صار فخاً منصوباً ومشكلة يعوزها الحل والتوضيح لأمن اللبس، علماً أن هذا (اللبس) أودى بحياة متصوفة، ومأساة (الحلاج) عنا ليست ببعيد، بله التفكير والاتهام بالزندقة وأهونها الجنون.. فاللغة أعراف تواضع الناس على مواضعاتها، فيأتي الصوفي ليعلن عدم كفاية هذه الأعراف لتجربته الفريدة، فيخلق أنساقاً جديدة تتسق -كما يرى- مع جدة تجربته واختلافها، حتى وصلت اللغة عند (النفري) في القرن الرابع الهجري إلى أرفع مستوى بلغته اللغة الأدبية الصوفية من ناحية المعجم والاصطلاح والأسلوب والدلالة.
المستوى النظري في المنهج ومقولاته
توطئة: في المنهج ومقولاته
إن من دواعي منطقية الفكر البحثي، أن تتم التوطئة في مستواه الإجرائي لموضوعة البحث، بمقدمة تمهيدية تحدد بموجب طروحاتها المهادات النظرية التي تتوالد في متسع أرضيتها: طروحات المنهج، وآفاق تشكله ثم تأصيله وموجهات وآفاق وتجلياته التطبيقية. لذا كان لزاماً أن تقرأ هذه الوريقات مقولات المنهج البنيوي الخاصة بتشريح القصة من حيث المكونات البنائية والآفاق الدلالية المستفادة من تضافر مجمل آليات النص التركيبية والمشتغلة على مساحة تعبيرية ووظائفية مقصودة من أجل إحداث التأثير الفكري والجمالي في متلقي هذه الظاهرة التعبيرية.
ولعل أهم ما يواجهه الباحث في تحديد مقولات المنهج الذي ستعتمده الدراسة في فصولها القابلة، جملة صعوبات ذات محاور متعددة تستلزم وعياً دقيقاً، وفكراً مهيئاً للفرز والتنظيم والاستيعاب والاختيار. لذا فإن المنهجية التي تروم هذه الدراسة السير على وفق سياقاتها التنظيرية، هي ليست الوحيدة في مجال تحليل القصة؛ فثمة المنهج النفسي وبخاصة مدرسة (فرويد) و(يونج) في التحليل النفسي للأدب على اعتبار أن البنية الأدبية هي شكل من أشكال انفتاح عالم اللاشعور على الخارج، وهناك أيضاً الرؤية الاجتماعية في تحليل القصة، كما ظهرت عند دعاة البنيوية التكوينية وفي مقدمتهم (جورج لوكاش)، و(لوسيان غولدمان) الذي قال بفكرة (الفاعل الجماعي)، على أساس أن النقد الأدبي يتبلور في شكل منهجية سوسيولوجية وفلسفية لإضاءة البنيات الدالة، مع تحديد مستويات إنتاج المعنى عبر أنماط من الرؤية للعالم، وارتباط تحول الأشكال الأدبية وتطورها بـ"التحولات الاجتماعية على المستوى الاقتصادي والسياسي( ). أما المنهجية التي تروم الدراسة الحالية السير على هدي طروحاتها فهي موجهة نحو دراسة نصوص حكائية عربية قديمة ارتبط موضوعها بفكرة دينية/فلسفية/ أخلاقية هي (التصوف)، قاصدة إلى كشف مكونات البنية السردية والخطاب السردي عبر منهجية شكلانية، هيكلية لها أكثر من آصرة مع علم الدلالة (semantiqe)، وكذلك الكشف عن شفراتها العلامية (semiotique) في مجمل ما زخرت به مصنفات البنيويين أمثال (بروب) و(غريماس) و(جنيت) و(تودورف) و(بارت)، فترى أن الطريق الذي أمنت السير فيه هو القائل بفرضية: أن الشكل هو الطريق العلمي الأسلم في الوصول إلى المعنى (القصد)، من الوجهة المنطقية: ذلك أنه ينطلق من قاعدة رصينة، ترى أن المنجز الكلامي يشتق قوانينه منه لا من خارجه، وهذا لا يعني تهويناً لصنيع (الهرمينوطيقا) في رصد المنظومة التاريخية والاجتماعية، وتسبيب الحدث الكلامي بأنه ناتج طبيعي انعكاسي لتلك البواعث والمؤثرات، من خلال تأويل رموز لغة أدبية بوصفه كلاً لعناصر ثقافية ما، بإنشاء نظرية عامة للمعنى مع نظرية عامة للنص، كما بدا ذلك واضحاً في نظر (ب ـ ريكور)، فالميدان الذي تشتغل عليه (الهرمونطيقا) ميدان خاص، يقيم علاقة بين النص والمرجعية متشبثاً بالمعطيات الخارج ـ لسانية للخطابات ولشروط إنتاجها وقراءتها( )، من خلال إدخال السياق السوسيو ـ تاريخي بما في ذلك سياق الفهم في محاولة لاستخلاص المعنى.
هذا فضلاً عن الاستفادة من طروحات (رولان بارت) في كشفه عن المستويات اللسانية في النص، و(تودوروف) في تمييز المظهر الخطاب من المظهر الحكائي وتأثير أحدهما في الآخر في صياغة الفضاء الذي تتحرك فيه عملية إنتاج المعنى، التي لا تتم بمعزل عن أدبية الأثر الأدبي، لذا توزع اهتمام الشكلانيين على مظهرين أساسيين هما: (اللغة والشكل)، بناءاً على هدفهم النهائي للتفكير البنيوي في الكشف عن البنى الدائمة وكيفية تلاؤمها وتكيفها مع الأفعال والإدراكات الإنسانية، فوجدوا أن اللغة الأدبية وسيلة إبلاغ وغاية فنية في نفس الوقت، وأرجعوا جل قيم الأثر إلى صياغته الشكلية، وجاءت نظريتهم هذه، رد فعل على توجهات النظرية الأيديولوجية للفن( )، ولعل أبرز مصنف تطبيقي جسد الفكر الشكلاني في نقد القصة (الخرافة)، و(موروفولوجيا الخرافة)( )، لـ(فلاديمير بروب)، وبخاصة اصطناعه فكرة (الوظائف) السردية في القصة، ونتيجة لتطور بحوث ودراسات في علم الألسنية العام وذيوع شهرة نتائجها البحثية حيث تم تطبيقها على مجالات متعددة، فأغنى (لويس هيمسليف)مباحثه في الألسنية وتلاه (كلود ليفي شتراوس) في الاتينولوجيا) و(التوسير)، في الاقتصاد الماركسي و(جاك لاكان)، في التحليل النفسي و(ميشال فوكو) في الفلسفة( )، كذلك ظهرت (الهيكلية) في تطبيقاتها الأدبية فركزت اهتمامها بالجانب الشكلي للأثر الأدبي باعتبار علاقة الدال بالمدلول، من دون إيلاء ماضي الأثر ومؤلفيه وعصره ومجمل السياقات الخارجية، عناية تذكر؛ بسبب تمركز الهيكلية حول فكرة وجود النص مرهون بالعلاقات التي يدخل فيها مع غيره، وعليه تحددت الوظائف البنائية لعنصر ما في الأثر الأدبي كنظام هو إمكانية دخوله في علاقة متبادلة مع عناصر أخرى لنفس النظام وبالتالي مع النظام بأكمله( )، بعد هذا ظهر تفصيل أكثر وضوحاً في الرؤية لمسألة البنية العلائقية في النص، حيث رأى (رولان بارت) أن المستويات الثلاثة الوظائف والأفعال والسرد، لابد أن تكون مترابطة فيما بينها، وفقاً لنوع من التراكيب التدريجي؛ فليس للوظيفة معنى إلا إذا كان لها مكان في الفعل العام للمساهم، وهذا الفعل نفسه يتم معناه الأخير عندما يروى ويدرج ضمن خطاب له سننه الخاصة( ) الملاحظ هنا، أن جعل النص كياناً منغلقاً على ذاته، أمر لا يمكن الاطمئنان إليه، وذلك لأن النص الأدبي منظومة تكاملية متجانسة من الدوافع والتراكيب والعلاقات، حتى وكأن الجزء فيها عضو في بنية لا يستقيم لها وجود ذو جدوى، إذا ما فقد أحد أركانها، على ذلك، فالباحث الذي يروم رؤية تكاملية توفر له مصداقية في العمل البحثي، ولابد وأن نتخذ توجهاتها من روح موضوعي رصين؛ (فلا شرعية لأي نظرية جمالية في الأدب ما لم تتخذ من مضمون الرسالة الأدبية أُسّاً لها، بل أهم قواعدها التأسيسية، كما أنه لا يمكن الإقرار بأية قيمة جمالية للأثر الأدبي مالم نشرح مادته اللغوية على أساس اتحاد منطوق مدلولاتها بملفوظ دوالها)( ).
1 ـ مفهوم السرد:
من هنا، كان الوقوف على مفهوم شمولي متكامل للسرد، أمراً له من الضرورة الكثير، وستقف الدراسة عند أهم التحديدات التي وردت لمفهوم السرد، من خلال الاعتماد على معطيات المنهج الشكلاني وبخاصة في دراستها للسرود الخرافية والشعبية المروية والمكتوبة، الأمر الذي يجعل دراسة أشكال السرد الشعبي والحكائي العربي على وفق المنهج الشكلاني، أمراً مقبولاً من وجهة نظر منهجية، لأن النقود الشكلانية الأصل تعاملت ـ على المستوى الإجرائي ـ مع التراث الشعبي المروي والذي تحتفظ كل أمة بنصيب لها من هذا الإرث الحكائي، بوصفه مُعطىً إنسانياً قيماً ذا هوية مميزة لا يخلو تراث أمة على وجه الأرض منه، لذا استثمرت طائفة من الدراسات العربية الحديثة آليات هذا المنهج وفحصت أشكال السرد العربي على أساس منه( ).
تراوح مصطلح (السرد) بين كونه خطاباً غير منجز أو قصاً أدبياً يقوم به (سارد) ليس هو الكاتب بالضرورة بل وسيط بين الأحداث ومتلقيها( )، وارتبط به مصطلح (السردية) الذي يعنى به: الطريقة التي تروى بها القصة أو الخرافة فعلياً، وهي فروع (الأدبية)( )، التي بحث في أدبية الأدب أو ما المقومات التي تجعل العمل الأدبي أدبياً، فكانت السردية بحث في ما يجعل القصة أو الرواية، أدباً سردياً، من خلال رواية سلسلة من الوقائع والأحداث بعد إقامة بعض العلائق بينها( )، ورغم كون علم السرد قديماً في نشأته منذ عام 1918، على يد (ايخنباوم) في مقالة له بعنوان (كيف صيغ معطف غوغول)( )، إلا أنه لم يظهر هذا المصطلح إلا في سنة 1969، على يد (تدوروف). واستجماعاً لأركان العملية السردية، فالسرد هو (وسيلة توصيل القصة إلى المستمع أو القارئ بقيام وسيط بين الشخصيات والمتلقي هو الراوي)( )، والمعتاد، أن تختلف طرائق (توصيل) الأثر ـ ومن خلال هذا الاختلاف ـ وهو جوهر عمل النقد البنيوي ـ تبيين الطرائق التي أعاد فيها السارد ترتيب الحكاية التي في جوهرها هي أحداث موجودة في محصلتها، لكن تكمن (أدبية) ساردها في اختيار وإتقان (أسلوب) إسداء هذه الحكاية التي هي عبارة عن (مجموعة من الأحداث، أو من الأفعال السردية تتوق إلى نهاية، أي أنها موجهة نحو غاية، هذه الأفعال السردية تنتظم في إطار (سلاسل) تكثر أو تقل حسب طول الحكاية أو قصرها كل سلسلة يشد فعالها رباط زمني ومنطقي)( )، ويقف إدراك الراوي (السارد) لتسلسل الأحداث ركناً مهماً في اختبار (زاوية النظر) التي يطل منها السارد في انتقاء (طريقة) سرد الأحداث والتي تعد محك التأثير، وإحداث الاستجابة المرتجاة، التي لم تتحكم بها (نوعية) الحدث وتنوعه وأخلاقيته... إنما (كيفية) أدائه وطرائق توصيله، حتى كان شخصية (السارد) هنا قبل إقامة الفعل السردي هي (شخصية ناقدة) للأحداث تعرض رؤيتها للأحداث وليست معنية فقط بنقل الحدث الذي يفترض نقله، فيبرز جراء ذلك، طابع الاختيار والقصدية ورجاء التأثير؛ مع هذه العناصر الثلاثة، تتحقق (الأدبية)، وتعدد مستويات التلقي، إذ لا قيمة للشيء إذا ما تم نقله من وجود، المرجعي ليكون ذاته منعكساً على صورة منقولة طبق الأصل، فالخلق الأدبي يعني الإضافة والاجتراح أو التغيير واقتراح هوية مخصوصة للشيء مستمدة من خصوصية منتجة وناقلة إلى المتلقي.
ثمة بحوث أخرى لاحقة عاينت السرد برؤية شمولية، ومنها ستستمد هذه الدراسة تحديد مقولاتها إذ هدف الدراسة متمركز حول مسألة الإحاطة بمجمل ما تستند إليه النصوص القصصية الصوفية وما تكتنفه من مستويات وما تؤول إليه من مدلولات تصدر عن علاماتها النصية، هذه البحوث عاينت السرد على أنه (فعل لا حدود له، يتسع ليشمل مختلف الخطابات سواء أكانت أدبية أم غير أدبية، يبدعه الإنسان أينما وجد وحيثما كان)( )، فيمكن تأدية الحكي باللغة والصورة والحركة والأسطورة والخرافة والحكاية والقصة والملحمة والتاريخ والمأساة والدراما والملهاة والإيحاء واللوحة...الخ.
معنى هذا أن السرد طريقة لسانية يمكن لها أن تتجسد في أي نظام لساني أو غير لساني وتختلف تجلياتها باختلاف النظام الذي استعمل فيه( )، لأن البنيوية إنما ظهرت بوصفها منهجاً وطريقة في الرؤية، لكي تجمع أجزاء العمل أو أي مكون آخر لتكشف عن نظامه الكلي المتكامل والمتناسق الذي تشكلت الأفكار على وفق ما يؤمن به الإنسان من مرجعيات إيديولوجية( ).
ولا يتسنى تقديم صورة استنتاجية عن هذا النظام الكلي من دون البدء بالذرات المكونة لهذا النظام، لهذا كان من أهم نتائج البنيوية أنها أدركت العلاقة الوثيقة بين مادة الإدراك والإدراك ذاته والذات المدركة الفاعلة والوسيط الذي يهيأ هذه العملية (اللغة) لما للغة من أثر بالغ في إعطاء كل هذه العناصر سمتها المميزة( ).
وليس ذا عجباً إذ أن منبثق البنيوية كان من مصدر لساني طوره (سوسير) في دراسة اللغة دراسة آنية تزامنية، أي أنه لا يمكن إدراك دلالة الجملة قبل أن تنتهي فينظر في مجموع إشاراتها وعلاماتها التي تشير إلى واقع معين في لحظة معينة أي تدرس (البنية) لهذا يمكن عد الكثير من الأنماط اللسانية في تاريخنا العربي مندرجاً ضمن المفهوم الشمولي للسرد، من سير وحكايات ومسامرات وأدب مجالس وقصص شعبي وديني،... من هذا قد يبزغ سؤال يحاول توسيع قاعدة التطبيق في الدراسة لتشمل مجمل عطاء الصوفية (السردي) ـ بالمعنى الشمولي المشار إليه ـ فتتسع جغرافية الدراسة فتشمل الأخبار والمرويات والتراجم والشطحات... الخ، على أنها أنماط سردية صوفية، والحق أن (وكد الدراسة) منصب على التركيز على جنس القصة الصوفية، أي سرد أحداث تقوم بها شخصيات فاعلة ضمن محاور دلالية مقصود إليها قصداً متضمنة التآليف والمصنفات الصوفية المتعددة، أما إذا كان هدف الدراسة الاستقصاء، فالأمر يكون أكبر من أن تحيط به دراسة واحدة، فضلاً عن أن النظر إلى السرد بهذه الرؤية التعميمية يجعل الفعل السردي الروائي يفقد أهم خصائصه التي يقف في صدارتها خصوصية الجنس الأدبي، فالنظرة العقلية السليمة تتوخى دقة المقدمات كي تخلص إلى نتائج مجدية، وهذا لا يعني أيضاً تهوين طرح (بارت) إنما هو حاول تأليف الأشكال الخطابية في منظومة (سردوية) ( ) حين يتعذر تصنيف بعض الأشكال التأليفية ضمن جنس أدبي مخصوص، فكما كان (الشعر) مصطلحاً يضم تحت لوائه جميع أشكال القول المموسق الجميل، يكون (السرد) هو الكنف الذي تحتمي فيه أجناس القول اللا شعورية، من هذا المنطلق ثمة أشكال من التأليف عند العرب بها حاجة إلى فحص من وجهة نظر سردية لدراسة أدب المجالس والمسامرات وأدب الفكاهة، وكذلك المشروع الذي طرحه خلدون الشمعة لدراسة نمط التأليف في (طوق الحمامة) الذي ضم طرائق وأشكالاً متنوعة من القص الخبري الموضوعي، والقصيدة والتعليق، ولكنه موحد في تأثير ووحدة موضوعه.
2 ـ اتجاهات علم السرد
في كل منظومة فكرية، يحدث تطور في الرؤية، استكمالاً لنواقص، أو تجذيراً لمفاهيم، أو تأصيلاً لمستجد... وهذا ديدن كل إنجاز بشري فهو نسبي في صحته والمآخذ عليه، وجدواه.
لهذا ظهرت عدة اتجاهات في علم السرد عملت بمجملها على استيفاء ما سكتت عنه الاتجاهات الأخرى فبدت وكأنها تكمل إحداها الأخرى، صنفت هذه الاتجاهات إلى ثلاثة بحسب رؤية الناقد عبد الجبار البصري على اعتبار مستويات القصة الثلاثة: الحكائي والسردي، والدلالي( ). وهذا التصنيف لا يخضع للتسلسل التاريخي وإنما تصنيف منهجي نظر إلى علم السرد من جهة بنية القصة ذاتها فهي تبدأ حكاية مجردة (وظائف وشخصيات)، ثم كيفية عرض هذه الحكاية سرداً، ثم ما الأفق الذي رمت إليه هذه الكيفية من خلال توظيف (الحكاية) (سردياً) لخدمة هدف وإيصال فكرة.
الاتجاه الأول: الخاص (بمستوى الحكاية)، ترجع جذوره إلى ما قبل (بروب)، حيث عمل (فلكوف) على تقديم صورة منهجية لتحليل الخرافات إلى حوافز، هي خصائص الأبطال وعددهم وأفعالهم. وكانت هذه موطئة لفكرة الوظائف عند بروب على الرغم من أن بروب لا يعدها شيئاً ولا تؤدي إلى غاية. ثم أعقبه (توماشفسكي) حيث ركز على دراسة (الحدث) وليس (الشخصية) في دراسة (نظرية الأغراض) عام 1925( ).
وكانت هذه الدراسة خير تمهيد لفكرة الوظائف عند (فلاديمير بروب) في إصداره لكتابه (موروفولوجيا الخرافة) عام 1928، في دراسة بنية الحكاية من خلال تفكيك أجزائها المكونة لها وكشف العلاقة بينها وبين مجمل الكيان العام للخرافة.
بعد أن اعتمد مئة خرافة روسية ليخرج بنتائج أساس سيتم الحديث عنها في الفصل الثاني بشيء من التفصيل في موضعها من هذا البحث. الذي يمكن أن يقال أن بروب في مصنفه هذا أعطى صورة للترابط المنطقي والجمالي لتسلسل الوظائف السردية، فيعد منهجه هذا صالحاً لإجرائه على جميع الحكايات مهما اختلفت مصادرها وأماكنها ويأتي بعد بروب (شتراوس) في (تحليل الأسطورة) ، فاختط خطاً قريباً من صنيع بروب وإن لم يطلع عليه، حين عد الأسطورة جزءاً لا يتجزأ من اللغة، والأسطورة تستند إلى أحداث ضاربة في القدم.
لكنها تؤلف بنية تصلح لتفسير الحاضر واستشراف أفق المستقبل( ). وتكمن قيمة الأسطورة عنده في تنسيقها لعناصر تكوينها وليس من فحواها وأسلوبها وطرائق سردها( ). فبدا أن شتراوس أفاد كثيراً من منهج التحليل النفسي، لاسيما نظرية اللا شعور الجمعي عند (يونج).
أما (تزفيتان تودوروف)، فقد دعا إلى دراسة وتشريح القصة من خلال المفاصل الآتية، في كتابه (نحْو القصة):
1 ـ دراسة الشخصيات وتقييمها ووصفها.
2 ـ دراسة المسانيد (الأفعال) الواقعي منها والخيالي.
3 ـ تركيب النص ووحداته الصغرى و الكبرى.
4 ـ ضبط العلامات الرابطة حيث الأعوان (الشخصيات) والمسانيد وفقاً لمظهري القصة( ):
الخطاب Discours
والحكاية Histoire
الاتجاه الثاني: فكان سردياً يُعنى بطرائق السرد وأساليب أداء الحكاية، وكان أشهر من تصدى لهذا الاتجاه هو (جيرار جينيت)، و(رولان بارت) أسس الأول نظريته على رواية (بحثاً عن الزمن الضائع) لـ(مارسيل بروست)، واقترح أبعاداً ثلاثة لتحليل الرواية وهي: القصة، والسرد، والخطاب (النص)( ).
فعنى بمكونات البنية السردية، وموضع الراوي، والمروي له، والزمن والصيغة والصوت السردي. مما سيتم تفصيله في الفصل الثالث من هذا البحث. فكان بحق مصنفه (خطاب الحكاية) و(عودة إلى خطاب الحكاية) من المصادر المهمة في النقد البنيوي للقصة والرواية.
أما (رولان بارت) فقد ركز عنايته على (المستويات السردية)، وهي الوظائف والأفعال والسرد والنظام القصصي، وقسم الوحدات السردية إلى نمطين: توزيعي، وتكميلي، الأول يقابل الوظائف التي عند بروب، والثاني هو الإشارات أو القرائن التي تصف الشخصيات وأفعالها والزمان والمكان والمناخ العام للقصة( ). ويعنى (بارت) في دراسة (مدخل إلى التحليل البنيوي للسرد) و(لغة النص) وغيرها، بـ"الأنظمة الاجتماعية والفكرية التي يكمن وراءها المستوى السردي، وعلى ضوئه يتم تحديد سيميائية دلالاته.
وتكاد هذه الرؤية هي ذاتها منطق (القيمة) التي قال بها (كريماس) في أن أدب مرآة العالم والمجتمع وهو يمثل:
الاتجاه الثالث: مستوى الدلالة، فذهب (كريماس) إلى أن مجمل القواعد والأسس التي تنظم العملية السردية هي (النحو السردي)( ) فيرى أن السردية تقوم على مجموعة من الملفوظات المتتابعة والموظفة المستندات فيها لتشاكل ـ السنيا ـ جملة من التصرفات الهادفة إلى تحقيق مشروع( ) وبنى رؤيته هذه على أساس أن المسرود يتصف بمستويين: سطحي وعميق، الأول يختص بالفواعل والثاني يعتمد نظام الوحدات المعنوية الصغرى.
وكان أهم ما أنجزه كريماس في نظريته الدلالية هو (المربع الدلالي) الذي تتأسس فكرته على أن الدلالة تستخلص من علاقات الاختلاف والتقابل القائمة بين حزمة من الوحدات الدالة.. فالطول لا يدرك إلا بالقصر وهكذا...( ).
أي أن الأشياء تعرف بأضدادها كما يقول العربي قديماً، أما وظيفة (المربع الدلالي) وأهميته، فتكمن في أنه يهيء اكتشاف بنية الدلالة العميقة المؤسسة للنص والمتحكمة في بنيته السطحية، بمعنى أنه يجسد شكل المعنى الذي ينبني عليه النص في جملته( ).
والذي نصير إليه، بعد هذه الاضمامة من الآراء والأفكار والتوجهات، أن المنهج البنيوي لا يمثل قوانين صارمة إنما هو مناهج متعددة بحسب مستوى الرؤية واتجاهها وفلسفتها، وإذا ما تم تطبيق هذه المناهج على شتى صنائع الإنسان وسائر أقاويله، فلا غرو في تطبيق هذه المناهج أو روحها، في تحليل القصة الصوفية، وفحص مكوناتها السردية ووظائفها ودلالاتها.
لقد عني الفكر النقدي العربي القديم منذ القرن الثاني حتى السابع الهجري ـ ضمن ما عني به من القضايا ـ بقضية الشكل والمضمون أو اللفظ والمعنى ووصلت هذه العناية حد (الصراع) واختلاف وجهات النظر في النظر إلى مسألة (الثابت والمتغير) التي لم تستقر على مبدأية تصورية موحدة، انتهى الصراع فيها على يد العالم العربي الإمام (عبد القاهر الجرجاني ت 471هـ)، حين وقف عند هذه القضية مصرحاً بأن ثمة علاقة بين اللفظ والمعنى تنتظم الأسلوب التعبيري، وهذه العلاقة النظمية هي علاقة سببية يقصدها المتكلم بغية إحداث تأثير في المتلقي، فأصبحت مقولة (النظم) و(الصياغة) حالة محل مقولة (اللفظ والمعنى) أو (الشكل والمضمون).
إذن تشكيل (الشكل) الأدبي في التعبير يتم على وفق المعنى المراد إسداءه، وكلما اختلفت النيات وغايات القول ومجالات المعنى، تنوعت أشكال الصياغة وطرق أداء المعنى واتساع فضاءات الدلالة فهماً وتأويلاً.
الأمر، إذن، على التضاد بين الرؤية الغربية والرؤية العربية، والاختلاف يقع في الأسباب قبل النتائج وهو اختلاف فكر وحضارة.
لا أعد ما سبق قوله أعلاه استطراداً، إنما دعت الحاجة إليه بوصفه مرجعاً فكرياً تستند عليه الدراسة في اختيار ما يناسب تطبيقاتها من منهج يأخذ الأفضل والأكثر تكاملاً من بين مناهج البحث القصصي الغربي التي نظرت لفن غير عربي ولا إسلامي، الأمر الذي سيأتي الكلام فيه لاحقاً عن صلاحية المناهج الغربية الحديثة لبحث القصص العربي الإسلامي القديم ـ وقد وجد أن بحث (الدلالة) و المقاصد الظاهرة والمرمز إليها في المنجز اللساني الأدبي، هامشية ولاحقة للدراسة التركيبية التي تجعل هدفها الأول إبراز الدلالة من خلال فحص الهياكل اللغوية، فلابد إذن، من إنشاء (وحدة) ذات بعدين: لغوي (هيكلي)، وفني (دلالي). ولا يكتفي بأن يكون الأثر الأدبي، حجةً وشاهداً كما هو حالة في الدرس النحوي واللغوي والبلاغي، إنما التركيز على خلق (استنتاج) وحدة لا يكون أساسها النظري منطق التبعية؛ تبعية الشكل للمضمون أو العكس، إنما استحضار المفهوم العلائقي الذي يشكل الطبيعة الحقيقية للأشياء والظواهر، حين يتخلق الشكل ـ في لحظة الصياغة ـ مع المضمون في هيئة ذات علاقات سببية يظهر فيها هذا التعبير عند شاعر أو ناثر أو لا يظهر عند غيره.
ولعل القول بـ(التبعية) تلك، يفقد العملية الإبداعية أحد شروطها المهمة من الناحية الأسلوبية، وهو مبدأ (الاختيار) الذي يعد نواة أدبية الخطاب الأدبي( )، وهو مفهوم يعنى بخصوصية المبدع وتفرده في رؤية للموضوع ووجهة النظر الخاصة به التي تعد مقياساً لقيمة الإبداع ودرجته ومستواه ونجد ذلك ماثلاً في (أسلوبيات) القص العربي القديم ـ على سبيل المثال، فهيئة القص وطريقة السرد في (ألف ليلة وليلة) في نمط الحكاية الإطارية له أهدافه البنيوية التي يمكن تلمسها بالنسبة للواقف على منظومة الفعل السردي في (الليالي) والأمر يختلف في (رسالة الغفران) أو (منطق الطير) أو (حكايات الصالحين) والمتصوفة...
فالذي كان محط عناية الشكلانيين في تحليل القصة، هو دراسة الهياكل اللغوية في المستوى التركيبي، بعد ذلك يتم الوقوف على القيمة الدلالية والإيحائية للخطاب، وكان أبرز من مثل هذه العناية المنهجية ودعا إليها (تزفيتان تودوروف) فقد وقف عند وصف اللغة وسيرورتها على كل مستوياتها الصوتية، والتركيبية والدلالية، أوجدت تقنيات خاصة منحت الدرس الأدبي استقلالاً عن علو