مقطع ثالث:
عذبيني، يا نفس أو فدعيني
هادئا، والعذاب أحلى مذاقا
إن فيه الجوى، وفيه التباري
ح رؤومين يكسباني السباقا
عدت لا أشتهي الرفاهة في العي
ش، ولا أشتهي ذويها رفاقا
ربما كان في المشيب عن اللهـ
و، نذير، يهزهز الأعماقا
هزني، فالتفت للخلف، وارتع
ت، فقد كان مظلما غساقا
عجبا هل أنا الذي شربت وأصحابي
من الموبقات كأسا دهاقا؟
فرأيت الشقاق منها وفاقا
ورايت الوفاق منها شقاقا
أتراني، وقد رجعت إلى الرش
د يكون الرشاد لي ترياقا؟
فيداوي تلك المباذل في نف
سي، ويطوي الميول والأشواقا
أم تراني ألوي عناني إلى الخل
ف غويا، وأكسر الأطواقا؟
هذه، هذه التي تقصم الظهـ
ر، وتدمي القلوب والأحداقا
لا تعودي للدرك، أيتها النف
س، وإلا احترقت فيه احتراقا
وارفعي الطرف للسماء، وقولي
أنت، يا رب، من يفك الوثاقا
همت السحب فوق أرضي، فما عا
دت قفارا، وأورقت إيراقا
***
المستوى اللفظي:
المادة:
فيه تآزر الاسم مع الفعل، للدلالة على ثبوت ذكرى الفقيد في نفس الشاعر، وتجدد الشوق والحنين إليه.
وفي الخاتمة بالأفعال تأكيد لتجدد التطلّع، والبكاء على الراحل، وإن كان إيمانه بالله يجعله موقناً بأن لا أحد باقٍ إلا وجهه.
الهيئة:
يورد الشاعر أسماء معرّفة بشكل باذخ في هذا المقطع؛ ليربط لنا عن طريق هذه الوسيلة التعبيرية ما يريدنا أن نصل إليه، وذلك حينما يذكر: (العذاب، الجوى، والتباريح) كلها تدلّل على قمة الحزن لدى الشاعر، وذلك لا يتأتّى إلا إذا كان لمن مات منزلة عالية في نفسه.
وكذلك في تعريفه في البيت الثالث ل(الرفاهة، العيش، اللهو)، واللاتي تدلّل على عظم هذا العيش الفاره؛ حتى يستطيع المتلقّي أن يتصوّر هذا النعيم الذي ما عاد يشتهيه الشاعر، ومنه يعلم بمدى حزنه على صديقه، المستحق لهذا الحزن والرثاء.
وفي تعريف (الرشد، الرشاد) تبيين من الشاعر لأهمية هذا الرشد الذي يتمناه، فكأنه يهذي بسبب حزنه على الراحل، ويبحث عن الرشاد الذي يرجو أن يكون دواءً له في محنته، محاولاً أن يتشبه بالفقيد، وهذه وسيلة تعبيرية تجعل الشاعر يكشف عن صفات صديقه بطريقة غير مباشرة، فيتمنى أن يتصف بصفاته.
وتعريف (المباذل، الميول، الأشواق) فيه حصر وتحديد لهذه الأمراض كما يراها الشاعر، وكأنه يحاول ذلك من أجل أن يتمكن من معالجتها.
أما التنكير ففي البيت الأول: (نفس)، وهو خلاف ما سيأتي في آخر الأبيات، حين أتت نفس معرّفة بأل التعريف، وأداة النداء فيها تختلف عمّا هنا.
التعريف في: (الدرك) للدلالة على قبح هذه المنزلة، وسوئها حتى تترفع نفسه عن السقوط فيها.
وعُرِّفت (النفس) أيضاً؛ وفي ذلك تشديد عليها ألا تسقط في الدرك خوفاً عليها، وتتآزر هذه الوسيلة، مع النداء ب(أي) و(ها) التنبيه، وأسلوب التحذير الذي يليها، كل هذه الوسائل الثلاث تتضافر لتبرز حرص الشاعر على السمو بنفسه عن المستوى الوضيع، إذ كيف يكون كذلك وهو يتحدث عن صديقه الرفيع المنزلة؛ فكأنه يحثّ النفس أن تسير على ما كان عليه الراحل حتى تصل لما وصل.
وفي تعريف (الوثاق) إبراز لما في هذا الوثاق المحكم من تضييق على نفسه التي تتطلّع للعلو والرفعة، وذلك يتآزر مع أسلوب الخطاب، والنداء لله عز وجل.
***
المستوى التركيبي:
الجمل الإنشائية والخبرية:
الجمل الإنشائية: البيت الأول، والسادس، والثامن، والعاشر، والثاني عشر، والثالث عشر.
الجمل الخبرية: البيت الثاني، والحادي عشر.
الأساليب الإنشائية هنا تكشف عن العذاب، والغربة، والألم التي يعيشها الشاعر، فهو حيناً يطلب من نفسه أن تعذّبه، أو تتركه ثم يعود ليفضّل العذاب بجملة اسمية تتآزر مع الإنشاء هنا في توضيح قلقه، وتردده، كمن فقد غالياً لا يعلم ما يفعل.
ويتساءل بتعجب: هل عبّ من الخمر حتى أسكر نفسه، فلم يعد يميّز شيئاً، ويرى الأشياء معكوسة؟! إذ إن الألم الذي يتجرعه بفقد صديقه لم يجعله متوازناً حتى أصبح يشكك في عقله، وحاله.
ويعود ليتساءل أخرى: هل سيكون الرشد لي دواء، إذا عدت له؟ إنه يمارس جلد ذاته من خلال التوجّع والتفجّع، فينفي عن نفسه الرشد، الذي يحاول العودة إليه.
ويكمل تساؤله مخيّراً متحيّراً: أيعود للرشد أم يلتفت إلى الغواية؟!! وأعتقد أنه يرمز إلى الوفاء من عدمه؛ فإن عاد للرشد فهو سيخلص لصاحبه المتوفّى، وإن ذهب للغواية، فسيخرق عهد الصداقة.
وينهى الشاعر نفسه من العودة للأسفل، ويحذّرها من أنها لو عادت فستحترق؛ بل يأمرها بأن ترفع النظر للسماء، وتدعو الله العون والخلاص؛ وهذا ما يميّز تناول الألم عند فقي عن غيره من الشعراء؛ كالمهجريين والرومانسيين؛ الذين أوغلوا في التشاؤم والسوداوية بيد أن الشاعر هنا لا يطيب له أن يختم القصيدة إلا معزّزها بالجانب الإيماني الصحيح.
ثم يختم مكرّراً، ليؤكّد بالخبر أن هذه الهواجس، وهذا التردد هو ما يهلكه، وهذا يكشف عن نفسية الشاعر التي تبدو متأثرة بغياب الصديق، وأنه يلفت انتباه المتلقّي إلا أن إخلاصه له سيكون عن طريق التزام الرشد؛ الذي كان سبيل الراحل، وهو لم يذكر هذا مباشرة إنما يُفهم بعد ردّ البصر للنص.
كما وظّف الخبر الطلبي، الذي يؤتى به للمخاطب المتشكك في الأمر، لتأكيد تفضيله للعذاب، خاصة وهو يصف الجوى والتباريح بأنها رؤوم، مما يؤكد ما قلته من اصطباغ شعره بالألم، والمعاناة.
الجملة الاسمية والفعلية:
الجمل الاسمية: البيت الأول.
الجمل الفعلية: البيت الثاني، والخامس، والسابع، والتاسع، والرابع عشر.
يستخدم الشاعر الجملة الاسمية هنا لدلالتها على الرغبة التي في نفسه، وهو يقرّر بأن العذاب هو الأفضل! بينما في الجمل الفعلية المضارعية كما: (يكسباني السباقا) تدلّل على تجدد الرغبة في هذا العذاب، وذلك ما عُرف به فقي من التلذذ في الألم. وهو يتحدّث في البيت الخامس، فكأنه يسترجع لحظات قد مرّت عليههزّني، التفتّ، ارتعت)، ثم يصحو منها: (فقد كان مظلماً غسّاقا)، ويعود للتذكر: حينما يقول: ورأيت.. في البيت السابع.
وفي حمأة رغبته في العلاج الناجع يوظّف الفعل المضارع رغبة منه في تجديد العلاج، والخلاص بالرشاد إلى الراحة: (يداوي، يطوي). ويختم بذكر أن السحب قد أمطرت في أرضه، مجدّدة الإيمان بالله، وإن كان قد فقد الحبيب والصديق، كما يجدّد هو الإخلاص له.
التقديم والتأخير:
في البيت الثاني هنا قدم الجار والمجرور مرتين حينما قال: (فيه الجوى) و(فيه التباريح)، وذلك لقرب هذا العذاب من الشاعر، بل وانسجامه معه، وهذا ملمح من الملامح التي عرف بها الشاعر في الألم، وتعذيب الذات. وقدّم (لي) على (ترياقاً) في البيت الثامن؛ إذ إن الرشاد قريب من الشاعر، فاستدعى أن يقدّم ليختصّ به.
الحذف والذكر:
ذكر (أنت) قبل النداء في آخر الأبيات؛ لتأكيد الرغبة الملحّة في الإجابة من المولى القدير المستوى التصويري:
الصور الجزئية:
يستثمر الشاعر الجمادات ليبيّن ما فيه من حزن، وغربة مؤلمة بعدما غاب شحاتة، فيشخّص في البيت الخامس المشيب، وكأنه إنسان أتاه ينذره بأن هزّه، ولكن مسحة الحزن والتشاؤم جعلت فقي يرتاع حينما التفت، ليرى الظلام المهيب.
وحينما يتعجّب من شربه الخمر حتى أنه لم يعد يفرّق بين الشقاق، والوفاق كناية عما وصل إليه حاله من الحزن، واللوعة على الفقيد، وكل هذه الأحزان، يجعلها الشاعر كاشفة عن مكانة الفقيد، الذي لو لم تكن له هذه المكانة لما حزن عليه.
ويشخّص الشاعر النفس في آخر الأبيات، وكأنها إنسان سيرفع رأسه للسماء، ويتضرّع لله عز وجل أن يفكّ وثاقه، وينجيه مما يعتمل في نفسه، حتى تكون هذه النفس قريبة من ربها.
وفي البيت الأخير يكني الشاعر بما حدث بدعاء النفس، فيقول إن المطر نزل، وأورقت الأرض بعد أن كانت قفارا، والظاهر أنه يقصد بهذه الأرض نفسه التي أقفرت بوداع الصديق، والعيش في غربة؛ وأكرر بذكاء الشاعر حيث لم يفته أن يشير إلى رحمة الله، حتى وإن كان قد عُرف بالغربة والشجن، إلا أنه لم ييأس.
***
المستوى الإيقاعي:
التكرار، والتضعيف:
وفي هذا المقطع وردت عدّة كلمات مضعّفة تختلف دلالتها بحسب سياقها: فحينما نسب الشاعر (يهزهز) للمشيب، الذي أخاف الشاعر فكأنما قد أصابه بالرعب حتى أتت هذه الكلمة المعبِّرة عمّا في نفسه.
وتتفق هذه الكلمة مع وصفه للنذير (الشيب) بأنه (غسّاقاً)؛ فكأنها أتت مؤكِّدة لما قبلها في تأكيد الدلالة التي يريد الشاعر توظيفها.
ومن الوسائل التي استثمرها الشاعر في هذا المقطع التكرار؛ ليكشف عمّا في نفسه من الزهد في الحياة، وهو ما عُرف عنه؛ إذ يكرر الجار والمجرور (فيه) في البيت الثاني، وتتآزر كذلك مع أنها أتت متقدّمة على الاسم (الجوى والتباريح).
ومع هذا أيضا كرّر الفعل المنفي في البيت الذي يليه (لا أشتهي)؛ مدلِّلا ومؤكداً على زهده. وهذا كله نابع من الحزن على شحاتة، الذي يكن له فقي الشيء الكثير.
والفعل المضعّف (يفكّ) يدلّ على معاناة فقي من هذا الإسار، ويلحّ في طلب الله بأن يزيله عنه.
القافية:
القاف المردوفة بحرف المد الألف، وقد أشبعت حركة القاف لنحصل على ألف ممدودة (الوصل). وها هو المدّ يتبعنا هنا ليؤكد ما ذكرته سابقاً من تناسب الوسائل التعبيرية السابقة، وتآزرها مع هذه لتكشف ما يجول في نفس الشاعر من ألم الفقد، بآهات تمثّلت في حرف المد الخاتم لكل بيت، رغبة منه في إيصال ما يريده من حرّ ما في جوفه من معاناة.
البحر الشعري:
البحر الخفيف بتفعيلاته (فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن). وهو من البحور التي يغلب عليها الليونة، والسهولة؛ مما يتناسب مع الرثاء، فليس بحرا طويل النفس، كالطويل المناسب للفخر مثلاً.
الخصائص الأسلوبية للنص:
1- شيوع ألفاظ الحزن؛ إذ إن أجواء الرثاء تحتّم ذلك؛ إضافة إلى نفسية الشاعر التي عُرفت بذلك.
2- بروز الجمل الفعلية، وطغيانها في النص على الاسمية؛ فتجدد الذكرى في نفس الشاعر استدعت ظهورها، وأما الاسمية الدالة على الثبوت فهي قليلة.
3- التنوّع في الضمائر، والتنقّل في استخدامها ظاهرة واضحة لدى الشاعر، يحاول أن يستثمرها لصالح النص في تأكيد مكانة المرثي.
4- في الجانب الصوتي نجد الشاعر يوظف المدّ في القافية، كهيكل عام للنص، وكذلك في العناصر الداخلية كما هو واضح للقارئ؛ وكل ذلك يصبّ فيما عُرف عن الشاعر من مسحة الحزن، والأسى التي لازمته في حياته، إضافة إلى الغرض الذي من أجله سطر أبيات شعره، وهو رثاء شخص قريب من روحه.
5- كثرة التساؤلات في النص، وكأن الشاعر يتعجّب مما حصل، والتساؤل في هذا الموضع كثيراً ما يصدر من غير المصدّق، أو من يريد تقرير أمر فأتى بالاستفهام ليكون أبلغ في النفس، وأكثر استقبالاً.