:بلاغة الجناس في القرآن الكريم
بلاغة الجناس في القرآن الكريم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم : الدكتور أحمد عبد المجيد خليفة
الكلية الجامعية بمكة المكرمة ـ الأستاذ المشارك بجامعة أم القرى
الجناس في اللغة : مصدر جانس الشيء بالشيء ، أي شاكله ، واتحد معه في الجنس . يقول صاحب لسان العرب : " والجنس أعم من النوع ، ومنه المجانسة والتجنيس ، ويقال : هذا يجانس هذا أي يشاكله ، وفلان يجانس البهائم ولا يجانس الناس ، إذا لم يكن له تمييز ولا عقــل " (1) .
وفي الاصطلاح : " هو أن يتشابه اللفظان في النطق (الحروف ) ، ويختلفان في المعنى . على أن التشابه قد يكون تاما في كل الحروف ، و قد يكون في بعضها دون البعض ."
و الجناس هو لون من ألوان الجمال اللفظي ، له أثر موسيقي قوى على السامع ،ينبع من تكرار الحروف و ترديدها ، و تقابل الألفاظ المتشابهة ، و هو ينشط الذهن و يطرد السآمة ، و يسهم إسهاما كبيرا في إيضاح المعاني و زيادة الإفادة ، وهو ليكون كذلك إلا إذا جاء عفو الخاطر ، وسمح به الطبع من غير أن تبدو عليه لوثة الصنعة والتكلف ، وإلا شوه العبارة ، وأدى إلى التعقيد .
تكلم البلاغيون والنقاد عن الجناس ، وبلاغته فقال فيه الإمام عبد القاهر الجرجاني :" كأنه يخدعك عن الفائدة ، وقد أعطاها ، ويوهمك كأنه لم يزدك وقد أحسن الزيادة ووفاها " (2).
وهذا يعني أن الجناس يحمل عنصر المفاجأة ، وخداع الأفكار ، لأنه يوهم السامع أن اللفظ قد تكرر ولا فائدة سيجنيها من ذلك ، ولكن سرعان ما يدرك ببديهته ، وفكره أنه خُدِعَ ، وأن اللفظ الآخر يحمل معنى آخر غير المعنى المتوقع ، فيكون له أثر حسن في النفس ، ووقع جميل في القلب .
ويقول ابن حجة الحموي : " ويحسن الجناس إذا قلَّ ، وأتى في الكلام عفوا من غير كدٍّ ، ولا استكراه ، ولا بعد ، ولا ميل إلى جانب الركاكة " (3) " فإنك لا تجد تجنيسا مقبولا ، ولا سجعا حسنا ، حتى يكون المعنى هو الذي طلبه ، واستدعاه وساق نحوه ، وحتى تجده لا تبتغي به بديلا ، ولا تجد عنه حولا ، ومن هنا كان أحلى تجنيس تسمعه وأعلاه ، وأ حقه بالحسن وأولاه ، ما وقع من غير قصد من المتكلم إلى اجتلابه ، وتأهب لطلبه " .
ومن أوائل من فطن إلى الجناس عبد الله ن المعتز الخليفة العباسي ، فقد عده في كتابه "البديع " ثاني أبواب البديع الخمسة الكبرى ، وعرفه ، ومثل للحسن والمعيب منه بأمثلة مختلفة (5) .
وقد اختلفت نظرة البلاغيين والنقاد على مر العصور إلى الجناس ، وبيان قيمته الفنية ، فمنهم أبدى إعجابه به ، واعتبره غرة شادنة في وجه الكلام (6) .
ومنهم من عده " من أنواع الفراغ ، وقلة الفائدة ، زمما لا شك في تكلفه .. ولم يحتج إليه ، بكثرة استعماله ، إلا من قصرت همته عن اختراع المعاني " (7) .
وقد شغفت طائفة من الأدباء بهذا النوع البديعي ، فكان في القرن السادس الهجري يؤلف والطباق مذهبا أسلوبيا خاصا ، يتصنعه الشعراء كثيرا ، أما في القرن السابع الهجري فقد أهمل الطباق بعض الأهمال ، واشتدت العناية بالجناس ، وكثرت حوله المؤلفات من أدباء هذا المذهب ( .وكثرت أنواعه ، وأقسامه حتى أم جلال الدين السيوطي عدَّ أصول أنواع الجناس ثلاثة عشـر نوعـًا تـحت كل نـوع منها عـدة أقسـام ، استخرجها ، وحصرها ، ووصل بها إلى أربعمائة قسم (9) .
وقد وقع الجناس في القرآن الكريم في كثير من آياته . فكان في غاية الروعة ، وقمة الفصاحة ، وزروة البلاغة ، بل كان ضربا من ضروب الإعجاز البلاغي في نظمه ، فهو يعطي للمعاني قوة ، ويضفي على الألفاظ جزالة ، ويسكب في الآذان موسيقا رائعة ساحرة ، ويصنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة .فهو جناس حسن ، غير متكلف ، له بديع الأثر في إبراز المعنى المقصود ، وجمال الأسلوب ، وإيضاح الصورة ، وزيادة تأثيرها ، ويدخل في نفس المتلقي بهجة ومتعة وراحة .
ومن الطبيعي أن لا نجد في كلام القرآن الكريم أو السنة النبوية بعض أنواع الجناس المختلفة ، وتقسيماته المتنوع’ ، التي وصلت إلى أربعمائة قسم كما حصرها جلال الدين السيوطي . لأن أكثر هذه المسميات تنطبق على الشعر ، وليس جميعها مما يدخل في حوزة النثر .
وكما أن هذه التقسيمات وضعت في مراحل متأخرة بدأت في القرن الثالث الهجري حتى القرن التاسع ، ومن ثم فإن المصطلحات البديعية ، وعناصرها قد تكاثرت ، وتعددت ، وتضخمت إلى آماد بعيدة ، فأصابت الإبداع الأدبي بالجمود والتكلف الممقوت ، وأفسدت عليه روحه وجماله في أغلب الأحيان .
ومن ثم فإننا سنعرض لبعض الأمثلة على أنواع الجناس المختلفة من غير القرآن الكريم ، أو السنة المطهرة ، إذا عز الحصول عليها في القرآن الكريم حتى تعم الفائدة .
أقسام الجناس
قلنا أن الجناس في الاصطلاح : هو أن يتشابه لفظان في النطق ، ويختلفان في المعنى ، وقد يكون هذا التشابه تاما فى كل الحروف ، وقد يكون في بعضها دون البعض ، ومن ثم كان الجناس نوعين : جناس تام ، وآخر غير تام .وإليك بيان ذلك :
أولا - الجناس التام
وهو الذي يختلف فيه اللفظان في المعنى ، ويتفقان في أمور أربعة هي : (1) عدد الحروف . (2) نوعها . (3) ترتيبها . (4) هيئتها .
ونذكر من أمثلته في الأسلوب القرآني قوله تعالى يخبر عن جهل الكافرين في الدنيا والآخرة ، إذ عبدوا في الدنيا الأوثان ، وأقسموا في الآخرة بالله أنهم ما لبثوا في الدنيا غير ساعة ، ومقصدهم في ذلك عدم قيام الحجة عليهم ، وأنهم لم ينظروا حتى يعذر إليهم ، فقال سبحانه:
((يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون )) (10)
فالساعة الأولى : يوم القيامة .والساعة الثانية : هي الساعة الزمنية التي يعرف بها الوقت ، ويتكون من مجموعها الليل والنهار . وبينهما جناس تام ، حيث اتفق اللفظان في عدد الحروف ، ونوعها ، وترتيبها ، وهيئتها .
وقد قسم البلاغيون الجناس التام إلي قسمين :
-جناس تام مركب .
-وجناس تام غير مركب .
أولا – الجناس التام غير المركب :
وينقسم هو أيضا إلي قسمين : أحدهما مماثل ، والآخر مستوفي .
1- الجناس التام المماثل : " وهو من أعلى أنواع الجناس مرتبة " (11) .وهو أن يتفق ركناه في أنواع الحروف، وعددها ، وترتيبها ، وهيئتها من غير تركيب فيها ، ولا في أحدها ، وأن يكونا اللفظان من نوع واحد ، إما اسمين (مفردين ، أو جمعا ، أو مختلفين ) ، أو فعلين ، أو حرفين . (12)
فمن الجناس التام المماثل بين اسمين في الأسلوب القرآني قوله تعالى :
(( ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة ))
ويقول ضياء الدين بن الأثير : " إنه ليس في القرآن الكريم غير هذه الآية فاعرفها " (13) . وقد جانبه الصواب في هذا الرأي ، ففيه آية أخرى ، هي قوله تعالى ( يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار )) (14) .
أي يكاد سنا برقه من شدته يخطف الأبصار ويذهبها . وأن الله سبحانه وتعالى يتصرف في الليل والنهار ويقلبهما ، فيأخذ من طول هذا في قصر هذا حتى يعتدلا ، ثم يأخذ من هذا في هذا فيطول الذي كان قصيرا ، ويقصر الذي كان طويلا ، والله هو المتصرف في ذلك بأمره وقهره وعزته وعلمه .
- فالأبصار الأولى : جمع بصر ، وهو حاسة الرؤيا .
- والأبصار الثانية : جمع بصر ، وهو العلم ، أي لذوي القلوب .
* ونذكر من أمثلة الجناس التام المماثل بين اسمين في الأسلوب النبوي ، قول الحبيب محمد (ص) لما نازع الصحابة جرير بن عبد الله يوم أحد أيهم يقبض زمام ناقة الرسول (ص) ، فقال صلوات الله وسلامه عليه :
((خَلُّوا بين جَرير والجرير )).
-فجرير الأولى : هو ذلك الصحابي الجليل .
-وجرير الثانية : (المعرف بالألف واللام ) تعني زمام الناقة .
* · ونذكر أيضا من أمثلته في القريض قول الشاعر :
عبّـاس عبّـاسٌ إذا احتدم الوغى
والفضل فضلٌ والربيعُ ربيعُ
** أما الجناس التام المماثل بين فعلين : فإننا لانكاد نعثر في القرآن الكريم والحديث النبوى على مثال لهذا النوع من الجناس ،. ونذكر من ذلك فى غيرهما قولك لصاحبك : (( تمسك بقراءة القرآن ، النار لا تمسك )) . فوقع الجناس هنا بين الفعل ( تمسَّك ) أي إلزم وأحرص ، وبين (تمسك ) الثانية أي لا تلمسك ولا تصيبك النار .
* · ومن ذلك - أيضا – قولك لمن تحب : (( لو أنك شعرت بنار حبي ، لشعرت )) .
فالجناس التام المماثل هنا بين الفعل ( شعرت ) الأولى ، وهي بمعنى (أحسست ) من الإحساس والشعور ؛ وبين الفعل ( شعرت ) الثانية ، وهي بمعنى ( نظمت الشعر ) .
* أما الجناس التام المماثل بين حرفين : فهو يقع كثيرا في آيات القرآن الكريم ، ونذكر من ذلك قوله تعالى يخبر عن أصحاب الشمال ، وما ينالهم من عذاب في الآخرة :
(( ثم إنكم أيها الضالون المكذبون ، لآكلون من شجر من زقوم ))(15).
- فالجناس هنا وقع بين ( من ) الأولى : " وهي لابتداء الغاية ، وبين (من) الثانية لبيان الشجر وتفسيره " (16) .
* ومنه –أيضا- قوله تعالى : (( وينـزِّلُ مِـنَ السماء مِن جبال فيها من بَردٍ )) –ف (من ) الأولى لابتداء الغاية ، أي ابتداء الإنزال من السماء ، والثانية للتبعيض ؛ أي بعض جبال منها ، والثالثة لبيان الجنس ، لأن الجبال تكون بردا وغير برد )) (18) .
* · ومنه أيضا قوله تعالى ، يخبر عن حال المؤمين وما أعد لهم في الآخرة من جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار : (( أولئك لهم جنَّاتُ عدنٍ تجري من تحتهمُ الأنهارُ يحلونَ فيها مِن أَساورَ مِن ذهبٍ..))(21) .
- فمن الأولى لابتداء الغاية ، والثانية : لبيان الجنس ، أو زائدة ، بدليل قوله : ( وَحُلُّوا أَساورَ ) (22) .
- ومن الثالثة : لبيان الجنس أو التبعيض . (23) .
* · ونذكر أيضا من الجناس التام المماثل بين حرفين في غير الأسلوب القرآني ، قولك لمن تحب( بالله لا تبكي أمامي ، فإن قلبي بعينيك)).
- فالباء الأولى فى ( بـالله ) هي باء القسم .والباء الثانية في ( بـعينيك ) هي باء الظرفية .
(1) الجناس التام المستوفَـي (بفتح الفاء ) :وهو أن يتفق اللفظان المتجانسان في أنواع الحروف ، وعددها ، وترتيبها ، وهيئتها من غير تركيب فيها ، ويكونا من نوعين مختلفين ، بأن يكون أحدهما اسما والآخر فعلا أو غير فعل .
*ومن أمثلته في القريض بين فعل واسم ، قول الشاعر أبي تمام : -
ما فات من كـرم الزمان فإنـه
يحيـا لدى يـحيى بن عبد الله
- فيحيا الأولى فعل مضارع بمعنى ( يعيش ) . ويحيى الثانية : اسم علم على يحيى بن عبد الله .
* · ومن ذلك قول الشاعر محمد بن كناسة في رثاء ابنه :
وسميته يحيى ليحيا ولم يكن
إلى رد أمر الله فيه سبيل
* · ومنه –أيضا_ قول الشاب الظريف في الهجاء :
لاطال صوب الغوادي ساحتي قطنا
ولا رعى الله من في أرضها قطنا
-( فقطن ) الأولى : اسم مكان لبلدة . (وقطن ) الثانية : فعل ماض بمعنى سكن .
* · ومن الجناس المستوفَى بين فعل وحرف : قولك (( أنَّ الرجلُ أنينًا ، لأنَّـه مريض )) . فـ (أنَّ) الأولى: فعل ماض من الأنين . و (أنَّ) الثانية : حرف نصب .
* · ومنه –أيضا- قول الشاعر :
علا نجمه في عالم الشعر فجأة
على أنه ما زال في الشعر شاديا
- فالجناس المستوفي في البيت بين الفعل ( علا ) بمعنى (ارتفع ) وبين حرف الجر (على) الثانية .
ثانيا – الجناس التام المركب
وهو ما كان أحد لفظيه مفردا ، والآخر مركبا من كلمة وجزء من كلمة أخرى ، أو من كلمتين ، ولهذا النوع ثلاثة أضرب هي :
الضرب الأول – الجناس المرفو : وهو أن يكون أحد لفظيه مفردا ، والآخر مركبا من كلمة ، وجزء من كلمة أخرى . ومن أمثلته في السعر ، قول الحريري :
المكر مهما استطعت لا تأته
لِتَقتَـنَي السـؤددَ والمـكرمة
-فالجناس في البيت بين كلمة ( المكر ) مضافة إليها جزء من الكلمة التي تليها ( مـه ) والمأخوذة من كلمة ( مهما ) في الشطر الأول من البيت ، وبين كلمة واحدة مفردة ، وهي ( المكرمة ) . ويبدو أثر التكلف واضحا على هذا النوع من الجناس ، وقد ندر أن يقع في الشعر أو النثر ، ويسلم من التكلف والتعقيد ، فهو " لا يخلو من تعسف وعقادة في التركيب " (24) . وإنما هو لون من ألوان إثبات قدرة الشاعر على الإتيان به في شعره ، وأنه لا يعجزه شيء من ذلك . لذلك ندر أن يقع في القرآن الكريم ، والسنة النبوية شيء منه .
* الضرب الثاني : الجناس المتشابة: وهو ما تشابه ركناه ( أي الكلمة المفردة والأخرى المركبة ) خطا ولفظا .ومن ذلك قولك مداعبا صديقك : " إذا أَولـم لنـا أحببناه ، سواء أكل معنـا أو لـم " . فالجناس المتشابه هنا بين كلمة ( أولـم ) وهي فعل أمر من الوليمة ، أي صنع لنا طعاما . وبين ( أو) حرف العطف ، مضافة إليه ( لـم ) حرف النصب والجزم ، بمعنى ( أو لـم يأكل معنا ) .
* · ومن ذلك أيضا قول الشاعر :
إذا ملك لم يكن ذا هـبة
فدعه فدولته ذاهـبة
فالجناس المتشابه هنا بين (ذاهبة ) مكون من ( ذا ) بمعنى : صاحب ، و (هبة ) أي عطية . وبين ( ذاهبة ) أي : زائلة .
0الضرب الثالث : الجناس الملفوف : وسمي –أيضا- [بالمفروق] (25) وهو ماتشابه ركناه(أي الكلمة المفردة والأخرى المركبة ) لفظا لا خطاً . ومن أمثلته فى الشعر ،قول الشاعر الشاب الظريف :
أتراك بالهجران حين فتكت في
قلبي علمت بما يجنُّ فتكتفِ
- فالجناس المفروق هنا بين ( فتكت في ) ، وبين ( فتكتفِ) . وهما متشابهان لفظا ومختلفان خط، مع الاختلاف في المعنى .
- ومثله –أيضا- بين ( تهذيبها) و بين (تهذي بها ) في قول الشاعر :
لا تعرضن على الرواة قصيدة
ما لم تكن بالغت في تهذيبها
وإذا عرضت الشعر غير مهذب
عدوه منك وساوسا تهذي بها
* · أو بين كلمة ( النواقيس ) و ( النواى قيسي) في قول آخر :
فقل لنفسك أي الضرب يوجعها
ضرب النواقيس أم ضرب النوى قيسي
- فالنواقيس : جمع ناقوس ، وهو لفظ مفرد ، وقد جانس الشاعر بينه ، وبين مركب من اسم وفعل ، هما ( النوى ) بمعنى : الفراق ، و(قيسى) فعل أمر مسند إلى ياء المخاطبة، من ( قاس يقيس ) . وقد تشابها ركنا الجناس لفظا واختلفا خطا ، واختلفا في المعنى.
*الضرب الرابع : الجناس الملفق : ويكون التركيب في الجزأين معاً .ومن أمثلته في القريض ، قول الشاب الظريف :
عاهدتني أن لا تخون ولنت في
طلبي وفاءك بالعهود ولم تفِ
- فطرفا الجناس في البيت مركب من كلمتين : الأولى-(لمت في ) في عروض البيت ، ومكون من فعل (لمت ) ، وحرف ( فـي ) . والثانية ( ولم تفِ) في ضربه ، ومكون من حرف الجزم (لـم) ، وفعل المضارع المجزوم بها ( تفِ) .
- ومنه قول شرف الدين بن عنين :
خبروها بأنه " ما تصدى "
لسلو عنها ولو " مات صدى "
-ومنه أيضا- قول القاضي عبد الباقي بن أبي حصين :
فلم تضع الأعادي " قدر شاني "
ولا قـالوا فـلان " قد رشاني "
- فطرف الجناس الأول مركب من كلمتين ( قدر) و (شاني ) . والطرف الآخر : مركب من كلمتين ( قد) حرف تحقيق ونصب ، و ( رشاني ) الفعل الماضي المسند له ضمير المتكلم .
الجناس غير التام
ويقال له الجناس الناقص ، والجناس المشبه . وهو ما اختلف فيه ركناه في واحد ،أو أكثر من الشروط الأربعة السابقة التي يجب توافرها في الجناس التام وهي :
(1) نوع الحروف . (2) عددها .
(3) ترتيبها . (4) هيئتها ( حركاتها ) .
وذلك مـع اختلافهما فـي المعنى .
وهو ينقسم وفقا للتعريف السابق إلى أربعة أقسام ؛ تحت كل منها أقسام أخرى كثيرة :
أولا- الاختلاف في هيئة الحروف: وقد قسم البلاغيون هذا القسم الى نوعين :
(1) جناس تحريف . (2) جناس تصحيف .
أولاً : الجناس المحرف: (26) وفيه يختلف طرفا الجناس في حركات الحروف (هيئاتها ) وسكناتها ، مع اتفاقهما في الشروط الثلاثة الأخرى ( عدد الحروف – نوعها – ترتيبها ) سواء كانا من اسمين أو فعلين ، أو فعل ، أو من غير ذلك " (27) .
وقد وقع هذا النوع من الجناس في الأسلوب القرآني وفق ما يتطلبه المعنى ، ولم يكن مقصودا لذاته . ونذكر من أمثلته قوله تعالى ن يخبر عن الأمم الماضية بأنه سبحانه أرسل فيهم منذرين ، ينذرونهم بأس الله ، ويحذرونهم نقمته ممن كفر به وعبد غيره ، وتمادوا في تكذيب رسله فأهلك المكذبين ، ونجى المؤمنين ونصرهم ، فقال :
(( ولقد أرسلنا فيهـم مُنذِرِينَ ، فانظر كيف كان عاقبة الـمُنذَرِينَ )) (28) .فوقع الجناس في هذه الآية بين ( منذرين ) الأولى ، وهي اسم فاعل ( مكسور ما قبل الآخر ). ويقصد بها هنا الفاعلون ، وهم الرسل ( عليهم الصلات والسلام ) . وبين ( منذرين ) الثانية ، وهي اسم مفعول ( مفتوح الذال ) ، وهم المفعولون ، من وقع عليهم الإنذار . فاللفظان مختلفان في حركات الحروف فقط مع توافر الشروط الثلاثة الأخرى .
* · ومن ذلك –أيضا- قوله تعالى ، يخبر أنه سبحانه عاوض من عبادة المؤمنين عن أنفسهم ، وأموالهم إن بذلوها في سبيله بالجنة فقال : (( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون .. )) (29) .
وهذا من فضله وكرمه وإحسانه ، فإنه قبل العوض عما يملكه بما تفضل به على عبيده المطيعين له ، وقوله " يقاتلون في سبيل الله ويقتلون ويقتلون " أي : سواء قَتَلوا أو قُتِلوا أو اجتمع لهم هذا وهذا فقد وجبت لهم الجنة .
- فالجناس المحرف في الآية الكريمة وقع بين ( يقتلون) و ( يقتلون) وهو وقع بين فعلين .
* ومنه –أيضا – قوله تعالى على لسان سيدنا إبراهيم لضيفه ، عندما بشروه بإسحاق (عليه السلام ) رغم كبر سنه وكبر زوجته ، بأنه ليس يقنط ، ولكن يرجوا من الله الولد ، وإن كان قد كبر ، وأسنت امرأته فإنه يعلم من قدرة الله تعالى ورحمته ما هو أبلغ من ذلك فقال : ( ( ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون )) (30)
- فوقع جناس التحريف في هذه الآية بين ( من ) الأولى الاستفهامية ، وبين ( من ) الثانية الجارة . وقد اتفقت فيهما شروط الجناس التام عدا هيئته .
*ومنه أيضا قوله تعالى يذكر قدرته التامة ، وسلطانه العظيم في خلقه أنواع المخلوقات على اختلاف أشكالها ، وألوانها ، وحركاتها ، وسكناتها من ماء واحد ، فقال : (( والله خلق كل دابة مـن ماءٍ فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ، ومـنهم مـن يمشـي علـى أربـع ، يـخلـق الله ما يشاء إن الله عـلى كـل شيء قدير )) (31) .
فالذي يمشي على بطنه كالحية وما شاكلها ،ومن يمشي على رجلين كالإنسان والطير ، ومن يمشي على أربع كالأنعام وسائر الحيوانات ، ولهذا قال تعالى : " يخلق الله ما يشاء " أي بقدرته لأنه ما شاء كان ولم يشأ لم يكن . (32)
وجناس التحريف هنا وقع بين ( مـن ) الأولى في الآية ، وهي حرف جر ، وبين (مـن ) المتكررة في الآية ، وهي نكرة موصوفة المطلقة على من يعقل ، ومن لا يعقل ، لاختلاطها مع من يعقل في صدر الآية ، لأن عموم الآية يشمل العقلاء وغيرهـم ، فغلب على الجمع حكم العاقل . (33)
ومثله -أيضا – قوله تعال: (( وننزل من السماء مـن جبال )) . فالجناس بين (مـن) الأولى ، وهي لابتداء الغاية ، أي ابتداء الإنزال من السماء ، (ومـن ) الثانية للتبعيض ، أي بعض جبال منها .
ونذكر من أمثلة الجناس المحرف في الأسلوب النبوي ، قول الحبيب محمد (ص) : ((اللهم كما حسَّنت خَلقِي فحسن خُلُقِي )) . فالجناس وقع بين ( خَلقِي ) و ( خُلُقِي ) . فالحروف هنا متساوية في اللفظتين ، زفي تركيبهما ، ونوعها ، ولكنها مختلفة في هيئتها
* ومثله أيضا قوله( صلى الله عليه وسلم ) حيث وقع الجناس بين ( صلوا ) و ( صلوا ) في قوله أول ما وصل إلى المدينة المنورة لأصحابه : (( أفشوا السلام ، وصلوا الأرحام ، وصلوا والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام)) .
ثانيا - الجناس المصحف : ومنهم من يسميه جناس الخط ، وهو ما تماثل ركناه خطا واختلفا لفظا . أو بعبارة أخرى هو ما اختلـف فيـه ركناه في ( نقط الحروف ) .
ومن أمثلته في الأسلوب القرآني ، قوله تعالى يخبر عن الأخسرين أعمالا : (( الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا )) (34).
- فالجناس المصحف وقع في الآية الكريمة بين ( يحسنون ) و ( يحسبون ) .
-ومنه - أيضا - قوله تعالى ، على لسان سيدنا إبراهيم ( عليه السلام ) :
(( والذي هو يُطعمني ويسقينِ ، وإذا مرضت فهو يشفين )) (35) .
-أي لا أعبد إلا الله الذي هو رازقي ، بما سخر ، ويسَّر من الأسباب التي تؤدي إلى رزق العباد طعاما وشرابا ، والذي إذا قدَّرَ مرضي ، فمرضت ، فهو الذي يقدر الشفاء ، فأشفى ، ولا يقدر على شفائي أحد غيره ، بما قدره من الأسباب (36) .
-فجناس التصحيف هنا وقع بين ( يسقين ) و (يشفين ) .
-ومن أمثلة ذلك في الأسلوب النبوي ، قول المصطفى ( عليه الصلات والسلام) وقد جانس جناس تصحيف بين ( ارتجلت ) و (ارتحلت ) في قوله: (( .. ألا و أن الدنيا قد ارتحلت مدبرة ، وأن الآخرة قد ارتجلت مقبلة )) .
* ومثله أيضا قوله (ص) : (( عليكم بالأبكار فإنهن أشد حبًّا ، وأقل خِبًّا )) . - فجانس (ص) بين ( حُبًّا ) و ( خِبًّا ) أي خداعا .
* · ومنه -أيضا -قوله (ص) لعلي بن أبي طالب ( كرم اله وجهه ) : (( قصر ثوبك فإنه أنقى ، وأتقى ، وأبقى )) .
* · ومنه أيضا قوله (ص) حين سمع رجلا ينشد علي سبيل الافتخار ، وقيل : سأله عن نسبه ، فقال :
إني امرؤ حميريّ حين تنسبني
لا من ربيعه آبائي ولا مضر
فقال له النبي (ص) : (( ذلك والله ألأم لجدك ، وأقل لحدِك )) .
* · ومنه قول عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه) : (( لو كنت تاجرا ما اخترت غير العطر ، إن فاتني ربحه لم يفتني ريحه )) .(37) .
- فالجناس المصحف هنا وقع بين ( ربحه ) و ( ريحه ) .
ثانيا - الاختلاف في أنواع الحروف
وقد يكون الاختلاف في حروف متقاربة في المخرج ، فيطـلقـون عليـه
( الجناس المضارع ) أو في حروف متباعـدة الـمخارج فيطلقون عليه (الجناس اللاحق ) .
(1) الجناس المضارع : وهو أن يختلف طرفا الجناس في حرف من حروفهما مع التقارب في المخرج بين الحرفين . ومن أمثلته في الأسلوب القرآني ، قوله تعالى ، يخبر عن المشركين بأنهم ينهون الناس عن اتباع الحق ، وتصديـق الـرسول ، والانقياد للقرآن ، ويبتعدون عنه ، فلا ينتفعون ولا يدعون أحدا ينتفع : (( وهم ينهون عنـه ، وينأون عنـه وإن يُهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون )) (38) . وهم بهذا الصنيع لا يهلكون ألا أنفسهم ، ولا يعود وبالهم ألا عليهم وهم لا يشعرون . (39)
- فالجناس في الآية الكريمة وقع بن ( ينهون ) و ( ينأون ) والحرفان الذي وقع بينهما الخلاف ( الهاء )و(الهمزة ) وهما متقاربان في المخرج لأنهما من مخرج(الحلق).
* ومنه - أيضا- قوله تعالى يخبر عن قريش والعرب أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم ، قبل إرسال الرسول إليهم ، لـئـن جاءهم نذير : (( ليكـونـُنَّ أَهـدى مـن إحدى الأمَمِ )) (40) . فالجناس هنا بين ( أهدى ) و ( إحدى).
*ومنه قوله تعالى يقسم بالنجوم تخنس بالنهار ، وتكنس بالليل : (( فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس )) (41) . فالجناس هنا وقع بين ( الخنس ) و ( الكنس ) .
* · من أمثلة الجناس المضارع في الأسلوب النبوي ، قول الحبيب محمد (ص) : (( الخيل معقود ٌ بنواصيها الخير )) .
- فالجناس وقع بين ( الخيل ) ، و (الخير ) . والحرفان اللذان وقع بينهما الخلاف هما : ( اللام ) ، و ( الراء ) هما حرفان متقاربان في المخرج ، لأنهما من الحروف اللثوية .
(2) الجناس اللاحق : وهـو مـا كـان الـحرفـان المختلفان متباعديـن في الـمخـرج . ومن أمثلته في الأسلوب القرآني ، قوله تعالى يتوعد بالويل للهماز بالقول واللماز بالفعل ، الذي يزدري الناس وينتقص بهم ، فيقول :
(( ويـل ٌ لكل همـزةٍ لـمـزةٍ )) (42) .
- فقد وقع الجناس هنا بين ( همزة ) و ( لمزة ) . وهما مختلفان في أنواع الحروف ، والحرفان اللذان وقعا بينهما الخلاف هما ( الهاء ) ، و( اللام ) بينهما تباعد في المخرج فالهاء من مخرج ( الحلق )، واللام من مخرج (الحنك واللسان ) .
* · ومثله قوله تعالى :
(( وإنـه على ذلك لشهيدٌ وإنه لحـبِّ الخـير لشديد )) (43) .
أي أن الإنسان على كنوده لشهيد على نفسه ، ولا يقدر أن يجحد ، لظهور أمره ، وقيل إن الله على كنوده لشهيد على سبيل الوعيد . والكنود : الكفور ، أو العاصي ، أو البخيل . وإنه لحب المال وإثارة الدنيا وطلبها قوي مطيق ، وهو لحب عبادة الله وشكر نعمته ضعيف متقاعس ، تقول : هو شهيد لهذا الأمر وقوي له إذا كان مطيقا له ضابطا أو أراد إنه لحب الخير غير هش منبسط ، ولكنه شديد منقبض .(44)
- فالجناس في الآية الكريمة وقع بين ( شهيد ) و ( شديد ) .
*ومنه - أيضا - قوله تعالى على لسان الملائكة للمكذبين :
(( ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحقِّ وبما كنتم تـمرحون))(45) .
أي هذا الذي أنتم فيه من عذاب ، جزاء على فرحكم في الدنيا بغير الحق ، ومرحكم ، وأشَركم ، وبطركم .
- فالجناس اللاحق في هذه الآية الكريمة وقع بين ( تفرحون ) و (تمرحون ) .
- ومنه أيضا قوله تعلى لحبيبه محمد (ص) : (( فأما اليتيم فلا تنهر ، وأما السائل فلا تنهر )) (46) .
- أي كما كنت يا محمد يتيما فآواك الله فلا تقهر اليتيم أي لا تذله ، وتنهره ، ولكن أحسن إليه ، وتلطف به ، وكما كنت ضالاً فهداك الله ، فلا تنهر السائل في العلم المسترشد .
- فالجناس اللاحق هنا بين ( تقهر ) و ( تنهر ) .
* · ومنه قوله تعالى ينكر على من يبادر إلى إفشاء الأمور قبل تحقيقها ، فيقول : (( وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به .. )) (47) .
فقد روى مسلم في صحيحه 792 " أن عمر بن الخطاب بلغه أن رسول الله (ص) طلق نساءه فجاء من منزله حتى دخل المسجد فوجد الناس يقولون ذلك فلم يصبر حتى أستأذن على النبي (ص) فاستفهمه : أ طلقت نساءك ؟ فقال : لا . فقلت الله أكبر .. فقمت على بـاب المسجـد فناديـت بأعلـى صـوتي لم يطلـق رسـول الله (ص) نسـاءه ، ونزلت هذه الآية . (48)
- و نذكر من الجناس اللاحق في الأسلوب النبوي قول الحبيب المصطفى (ص):
(إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ، ولا ينزع من شيء إلا شانه))
فقد جانس بين ( زانه ) و (شانه ) ، وحرفا الاختلاف ( الزاي ) وهو لثوي أسناني ، والشين وهي ( غارية ) .
* ومنه أيضا قوله صلوات الله و سلامه عليه :
(( بشر خديـجة ( رضي الله عنها ) ببيت في الجنة من قصب ، لا صخب فيه ولا نصب )) .
فالجناس هنا وقع بين ( قصب ) و (نصب ) وحرفا الاختلاف ( القاف ) وهي ( لهوية ) ، والنون ( لثوية ) .
* ومنه أيضا قوله (ص) : ((رب تقبل توبتي ، واغسل حوبتي )) .
- فالجناس اللاحق بين ( توبتي ) و (حوبتي ) . والاختلاف فيهما بين حرفي ( التاء) وهي ( أسنانية ) وبين حرف ( الحاء ) وهي من مخرج ( الحلق ) .
ثالثا- الاختلاف في عدد الحروف
إذا اختلف ركنا الجناس في عدد الحروف بزيادة حرف واحد ، أو أكثر في أحدهما ، سواء في أوله أو وسطه أو آخره سمي هذا اللون من الجناس بـ (الجناس الناقص ) لنقصان أحد اللفظين عن الآخر .
ومن أمثلته في الأسلوب القرآني قوله تعالى :
(( والتفت الساق بالساق ، إلي ربك يومئذ المساق )) . (49)
أي إذا التفت ساقه بساقه ، والتوت عليها عند علز الموت . وعن قتادة : ماتت رجلاه فلا تحملانه ، وقد كان عليهما جوالا ، وقيل شدة فراق الدنيا بشدة إقبال الآخرة على أن الساق مثل في الشدة ، وعن سعيد بن المسيب : هما ساقاه حين تلفان في أكفانه و (المساق) أي يساق إلي الله وإلى حكمه.(50) " وذلك أن الروح ترفع إلى السماوات فيقول الله عز وجل : " ردوا عبدي إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ، ومنها أخرجهم تارة أخرى " كما ورد في حديث البراء الطويل (51) .
- والجناس الناقص في هذه الآيه الكريمة وقع بين ( الساق ) و (المساق ) . فالميم زيادة في اللفظة الثانية عن الأولى .
* · ومنه أيضا قوله تعالى : (( لقد أرسلنا رُسلنا بالبينات )) (52) .بالبينات أي المعجزات ، والحجج والدلائل القاطعة ،. والجناس هنا وقع بين ( أرسلنا ) و (رسلنا )
*ومنه أيضا قوله تعالى : ((إن ربهم بهـم يومئـذ لخبير )) .(53)
أي أن الله سبحانه وتعالى لعالم بجميع ما كانوا يصنعون ، ويعملون ، ويجازيهم عليه أوفر الجزاء ، ولا يظلم مثقال ذرة . والجناس هنا وقع بين ( ربهم ) و ( بهم ) .
* · ومنه أيضا قوله تعالى : (( ..ولكـنا كنا مرسلين )) (54) .
* · ومن الجناس الناقص أيضا قوله تعالى : (( وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قـدر )) (55) .
أي جعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر ، وهو أبلغ من قولك فجرنا عيون الأرض ، فالتقى مياه السماء والأرض ( على أمر قد قدر ) على حال قدرها الله كيف شاء ، وقيل في حال جاءت مقدرة مستوية ، وهي أن قدر ما أنزل من السماء كقدر ما أخرج من الأرض سواء بسواء.(56)
- فالجناس الناقص في الآية السابقة ، بين (قد ) و (قدر ) .
*ونذكر من الجناس الناقص في القريض قول الشاعر أبي تمام :
يمدون من أيد عواص عواصم
تصول بأسياف قواض قواضب
- والجناس هنا بين ( عواص ) جمع عاصية ،من عصاه ،ضربه بالعصا : أي السيف هنا ، و بين ( عواصم ) جمع عاصمه ،من عصمه ، أي حفظه و رعاه ، و (الميم ) هنا زائدة عن اللفظة الأولى . وبين (قواض) جمع قاضية ، من قضى عليه قتله ، و (قواضب ) جمع قاضب ، من قضبه قطعه . و(الباء) هنا زائدة في الثانية عن الأولى .
* · ومن ذلك أيضا قول حسان بن ثابت :
وكنا متى يغز النبي قبيلة
نصل جانبيه بالقنا والقنابل
- فقد جانس بين ( القنا) و ( القنابل ) واحدها قنبلة ، والقنبل ( بفتح القاف ) الجماعة من الناس أو الخيل ما بين الثلاثين إلى الأربعين ونحوه . والزيادة هنا حرفان ( الباء واللام ) في اللفظة الثانية عن الأولى.
رابعا : الاختلاف في التركيب أو الترتيب
وينجم عن هذا الاختلاف نوع من الجناس غير التام يسمى :
الجناس المعكوس : وسمي أيضا جناس ( القلب ) ، وجناس ( التبديل ) ." وهو الذي يشتمل كل واحد من ركنيه على حروف الآخر من غير زيادة ولا نقص ، ويخالف أحدهما الآخر في الترتيب " (57) .
ويمكن أن نقسم هذا الجناس إلى قسمين ، أحدهما - يكون بعكس الحروف أو تبديلها ، أو قلبها . والثاني- يكون بعكس الألفاظ أو تبديلها ، أو قلبها .
(1) الجناس المعكوس بالحروف :
ومثاله في الأسلوب القرآني قوله تعالى : (( .. وكل في فلك يسبحون))(58).
- أي أن الليل والنهار والشمس والقمر كلهم يسبحون أي يدورون في فلك السماء ، كفلكة المغزل ، لا يدور المغزل إلا بها ، ولا تدور إلا به .
- فالجناس المعكوس وقع بين ( كل ف ) وبين ( فلك ) فلو أنك عكست هذا التركيب ، وقرأت من اليسار إلى اليمين في كلمة ( فلك) فإنها ستكون ( كل ف ) .
* · ومن ذلك أيضا قوله تعالى لحبيبه محمد (ص) آمرا له بتعظيمه :
(( وربـك فـكبر )) (59) .
- فالجناس المعكوس هنا وقع بين ( ربك ) ، و ( كبر ) ، وهو جناس قلب وعكس .
* · ومنه أيضا قوله تعالى حكاية عن سيدنا هارون لأخيه موسى ( عليهما أفضل السلام ) :
(( .. إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي )) (60).
- أي راعيت ما أمرتك به حيث استخلفتك فيهم .
- فالجناس في الآية وقع بين ( بين ) و ( بني ) .
* · من الجناس المعكوس بالحروف في الأسلوب النبوي ، قول الحبيب محمد 0ً) :
(( يقال لصاحب القرآن : اقرأ وارق ، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ )) .
- فالجناس المقلوب وقع بين ( أقرأ ) و ( ارق ) .
*ومنه أيضا قوله ( صلوات الله وسلامه عليه ) :
(( اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا ))
- فبين ( عوراتنا ) و (روعاتنا ) جناس قلب جزئي .
* · ومنه أيضا قوله (ص) : (( إن لله تعالى في كل محنة منحة )) . فالجناس هنا وقع بين ( محنه ) و ( محنة ) .
ويقول ابن الأثير : " وهذا النوع من الجناس المعكوس [قصد به عكس الحروف ] نادر الاستعمال ، لأنه قلَّ ما يقع كلمة تقلب حروفها فيجيء معناها صوابا " (61) .
(2) الجناس المعكوس باللفظ: (62)
وهو ما يدل عليه قول الحبيب محمد (ص) :
(( جار الدار ، أحق بدار الجار )) .
- وفي هذا الجناس عكست الألفاظ .
الجناس المطلق
عـدَّ البلاغيون الجناس المطلق من بين الأنواع المختلفة للجناس غير التام ، وسماه السكاكي وغيره المتشابه والمتقارب ، لشدة مشابهته وقربه من المشتق (63). بل إن منهم من يسميه بجناس الاقتضاب ، أو جناس الاشتقاق . وقد عرفه البعض بأنه :هة ما " يجمع ركنيه أصل واحد في اللغة ، ويكون بين اسمين وفعلين واسم وفعل " (64) . وقد نفى ابن حجة الحموي أن يكون الاشتقاق من أنواع الجناس ، وفرق بينه وبين الجناس المطلق فقال : " فإن المشتق غلط فيه جماعة من المؤلفين وعدوه تجنيسا ، وليس الأمر كذلك ، فإن معنى المشتق يرجع إلى أصل واحد ، والمراد من الجناس اختلاف المعنى في ركنيه ، والمطلق كل ركن منه يباين الآخر في المعنى " (65) .
ثم قال : " وأنا أذكر لكل واحد منها شاهدا يزول به الالتباس ، فالمشتق كقوله تعالى : (( قل يا أيها الكافرون ، لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم )) (66) . وقيل : إن ما مصدرية ، أي : لا أعبد عبادتكم ، ولا تعبدون عبادتي ، فعلى كل تقدير ، الجمع راجع إلى العبادة ، والمعني في الاشتقاق راجع إلى أصل واحد "
* · ومنه قوله تعالى : (( ومن شر حاشد إذا حسد )) (67) . وقوله تعالى : (( إذا وقعت الواقعة )) (68) . وقوله تعالى : (( أزفة الآزفة )) (69) . وكقوله تعالى على لسان بلقيس : (( .. وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين )) (70) .
وهو جناس مطلق " لأنه لم يرجع في المعنى إلى أصل واحد ، وهو أعظم شواهد البديعيين على الجناس المطلق " (71) .
-وأرى أن ما يسميه البديعيون بجناس الاشتقاق ، ليس جناسا وإنما يمكن لنا أن نطلق عليه " الملحق بالجناس " لأنه فقد شرط أساسي من شروط الجناس هو " اختلاف المعنى . والمشتق راجع إلى أصل واحد ، فهو ألصق بتسميته بالملحق بالجناس عن أن يكون أحد أنواعه . أما الجناس المطلق فلشدة تشابهه بالمشتق ، يوهم أحد ركنيه ، أن أصلها واحد وليس كذلك ،لقوله تعالى : (( وإن يردك الله بخير فلا راد لفضله )) ( 72) .
- وقوله تعالى : (( ليريه كيـف يـواري سـوأة أخيـه )) ( 73) .
* ومنه ما كتب به إلى المأمون في حق عامل له ، وهو : (( فلان ما ترك فضة إلا فضها ، ولا ذهبا إلا أذهبه ، ولا مالا إلا مال عليه ، ولا فرسا إلا افترسه ، ولا دارا إلا أدارها ملكا ، ولا غلة إلا أغلها ، ولا ضيعة إلا ضيعها ، ولا عقارا إلا عقره ، ولا حالا إلا أحاله ، ولا جليلا إلا أجلاه ، ولا دقيقا إلا دقه )).
-فهذه الأركان هنا شواهد على الجناس المطلق ، ليس فيها ركنان يرجعان إلى أصل واحـد كالمـشتق ، بـل جميـع ما ذكـرناه أسماء أجناس ، وهى محمولة على دم الاشتقاق . (74)
منقول
بلاغة الجناس في القرآن الكريم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم : الدكتور أحمد عبد المجيد خليفة
الكلية الجامعية بمكة المكرمة ـ الأستاذ المشارك بجامعة أم القرى
الجناس في اللغة : مصدر جانس الشيء بالشيء ، أي شاكله ، واتحد معه في الجنس . يقول صاحب لسان العرب : " والجنس أعم من النوع ، ومنه المجانسة والتجنيس ، ويقال : هذا يجانس هذا أي يشاكله ، وفلان يجانس البهائم ولا يجانس الناس ، إذا لم يكن له تمييز ولا عقــل " (1) .
وفي الاصطلاح : " هو أن يتشابه اللفظان في النطق (الحروف ) ، ويختلفان في المعنى . على أن التشابه قد يكون تاما في كل الحروف ، و قد يكون في بعضها دون البعض ."
و الجناس هو لون من ألوان الجمال اللفظي ، له أثر موسيقي قوى على السامع ،ينبع من تكرار الحروف و ترديدها ، و تقابل الألفاظ المتشابهة ، و هو ينشط الذهن و يطرد السآمة ، و يسهم إسهاما كبيرا في إيضاح المعاني و زيادة الإفادة ، وهو ليكون كذلك إلا إذا جاء عفو الخاطر ، وسمح به الطبع من غير أن تبدو عليه لوثة الصنعة والتكلف ، وإلا شوه العبارة ، وأدى إلى التعقيد .
تكلم البلاغيون والنقاد عن الجناس ، وبلاغته فقال فيه الإمام عبد القاهر الجرجاني :" كأنه يخدعك عن الفائدة ، وقد أعطاها ، ويوهمك كأنه لم يزدك وقد أحسن الزيادة ووفاها " (2).
وهذا يعني أن الجناس يحمل عنصر المفاجأة ، وخداع الأفكار ، لأنه يوهم السامع أن اللفظ قد تكرر ولا فائدة سيجنيها من ذلك ، ولكن سرعان ما يدرك ببديهته ، وفكره أنه خُدِعَ ، وأن اللفظ الآخر يحمل معنى آخر غير المعنى المتوقع ، فيكون له أثر حسن في النفس ، ووقع جميل في القلب .
ويقول ابن حجة الحموي : " ويحسن الجناس إذا قلَّ ، وأتى في الكلام عفوا من غير كدٍّ ، ولا استكراه ، ولا بعد ، ولا ميل إلى جانب الركاكة " (3) " فإنك لا تجد تجنيسا مقبولا ، ولا سجعا حسنا ، حتى يكون المعنى هو الذي طلبه ، واستدعاه وساق نحوه ، وحتى تجده لا تبتغي به بديلا ، ولا تجد عنه حولا ، ومن هنا كان أحلى تجنيس تسمعه وأعلاه ، وأ حقه بالحسن وأولاه ، ما وقع من غير قصد من المتكلم إلى اجتلابه ، وتأهب لطلبه " .
ومن أوائل من فطن إلى الجناس عبد الله ن المعتز الخليفة العباسي ، فقد عده في كتابه "البديع " ثاني أبواب البديع الخمسة الكبرى ، وعرفه ، ومثل للحسن والمعيب منه بأمثلة مختلفة (5) .
وقد اختلفت نظرة البلاغيين والنقاد على مر العصور إلى الجناس ، وبيان قيمته الفنية ، فمنهم أبدى إعجابه به ، واعتبره غرة شادنة في وجه الكلام (6) .
ومنهم من عده " من أنواع الفراغ ، وقلة الفائدة ، زمما لا شك في تكلفه .. ولم يحتج إليه ، بكثرة استعماله ، إلا من قصرت همته عن اختراع المعاني " (7) .
وقد شغفت طائفة من الأدباء بهذا النوع البديعي ، فكان في القرن السادس الهجري يؤلف والطباق مذهبا أسلوبيا خاصا ، يتصنعه الشعراء كثيرا ، أما في القرن السابع الهجري فقد أهمل الطباق بعض الأهمال ، واشتدت العناية بالجناس ، وكثرت حوله المؤلفات من أدباء هذا المذهب ( .وكثرت أنواعه ، وأقسامه حتى أم جلال الدين السيوطي عدَّ أصول أنواع الجناس ثلاثة عشـر نوعـًا تـحت كل نـوع منها عـدة أقسـام ، استخرجها ، وحصرها ، ووصل بها إلى أربعمائة قسم (9) .
وقد وقع الجناس في القرآن الكريم في كثير من آياته . فكان في غاية الروعة ، وقمة الفصاحة ، وزروة البلاغة ، بل كان ضربا من ضروب الإعجاز البلاغي في نظمه ، فهو يعطي للمعاني قوة ، ويضفي على الألفاظ جزالة ، ويسكب في الآذان موسيقا رائعة ساحرة ، ويصنع في القلوب صنيع الغيث في التربة الكريمة .فهو جناس حسن ، غير متكلف ، له بديع الأثر في إبراز المعنى المقصود ، وجمال الأسلوب ، وإيضاح الصورة ، وزيادة تأثيرها ، ويدخل في نفس المتلقي بهجة ومتعة وراحة .
ومن الطبيعي أن لا نجد في كلام القرآن الكريم أو السنة النبوية بعض أنواع الجناس المختلفة ، وتقسيماته المتنوع’ ، التي وصلت إلى أربعمائة قسم كما حصرها جلال الدين السيوطي . لأن أكثر هذه المسميات تنطبق على الشعر ، وليس جميعها مما يدخل في حوزة النثر .
وكما أن هذه التقسيمات وضعت في مراحل متأخرة بدأت في القرن الثالث الهجري حتى القرن التاسع ، ومن ثم فإن المصطلحات البديعية ، وعناصرها قد تكاثرت ، وتعددت ، وتضخمت إلى آماد بعيدة ، فأصابت الإبداع الأدبي بالجمود والتكلف الممقوت ، وأفسدت عليه روحه وجماله في أغلب الأحيان .
ومن ثم فإننا سنعرض لبعض الأمثلة على أنواع الجناس المختلفة من غير القرآن الكريم ، أو السنة المطهرة ، إذا عز الحصول عليها في القرآن الكريم حتى تعم الفائدة .
أقسام الجناس
قلنا أن الجناس في الاصطلاح : هو أن يتشابه لفظان في النطق ، ويختلفان في المعنى ، وقد يكون هذا التشابه تاما فى كل الحروف ، وقد يكون في بعضها دون البعض ، ومن ثم كان الجناس نوعين : جناس تام ، وآخر غير تام .وإليك بيان ذلك :
أولا - الجناس التام
وهو الذي يختلف فيه اللفظان في المعنى ، ويتفقان في أمور أربعة هي : (1) عدد الحروف . (2) نوعها . (3) ترتيبها . (4) هيئتها .
ونذكر من أمثلته في الأسلوب القرآني قوله تعالى يخبر عن جهل الكافرين في الدنيا والآخرة ، إذ عبدوا في الدنيا الأوثان ، وأقسموا في الآخرة بالله أنهم ما لبثوا في الدنيا غير ساعة ، ومقصدهم في ذلك عدم قيام الحجة عليهم ، وأنهم لم ينظروا حتى يعذر إليهم ، فقال سبحانه:
((يوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون )) (10)
فالساعة الأولى : يوم القيامة .والساعة الثانية : هي الساعة الزمنية التي يعرف بها الوقت ، ويتكون من مجموعها الليل والنهار . وبينهما جناس تام ، حيث اتفق اللفظان في عدد الحروف ، ونوعها ، وترتيبها ، وهيئتها .
وقد قسم البلاغيون الجناس التام إلي قسمين :
-جناس تام مركب .
-وجناس تام غير مركب .
أولا – الجناس التام غير المركب :
وينقسم هو أيضا إلي قسمين : أحدهما مماثل ، والآخر مستوفي .
1- الجناس التام المماثل : " وهو من أعلى أنواع الجناس مرتبة " (11) .وهو أن يتفق ركناه في أنواع الحروف، وعددها ، وترتيبها ، وهيئتها من غير تركيب فيها ، ولا في أحدها ، وأن يكونا اللفظان من نوع واحد ، إما اسمين (مفردين ، أو جمعا ، أو مختلفين ) ، أو فعلين ، أو حرفين . (12)
فمن الجناس التام المماثل بين اسمين في الأسلوب القرآني قوله تعالى :
(( ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة ))
ويقول ضياء الدين بن الأثير : " إنه ليس في القرآن الكريم غير هذه الآية فاعرفها " (13) . وقد جانبه الصواب في هذا الرأي ، ففيه آية أخرى ، هي قوله تعالى ( يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار )) (14) .
أي يكاد سنا برقه من شدته يخطف الأبصار ويذهبها . وأن الله سبحانه وتعالى يتصرف في الليل والنهار ويقلبهما ، فيأخذ من طول هذا في قصر هذا حتى يعتدلا ، ثم يأخذ من هذا في هذا فيطول الذي كان قصيرا ، ويقصر الذي كان طويلا ، والله هو المتصرف في ذلك بأمره وقهره وعزته وعلمه .
- فالأبصار الأولى : جمع بصر ، وهو حاسة الرؤيا .
- والأبصار الثانية : جمع بصر ، وهو العلم ، أي لذوي القلوب .
* ونذكر من أمثلة الجناس التام المماثل بين اسمين في الأسلوب النبوي ، قول الحبيب محمد (ص) لما نازع الصحابة جرير بن عبد الله يوم أحد أيهم يقبض زمام ناقة الرسول (ص) ، فقال صلوات الله وسلامه عليه :
((خَلُّوا بين جَرير والجرير )).
-فجرير الأولى : هو ذلك الصحابي الجليل .
-وجرير الثانية : (المعرف بالألف واللام ) تعني زمام الناقة .
* · ونذكر أيضا من أمثلته في القريض قول الشاعر :
عبّـاس عبّـاسٌ إذا احتدم الوغى
والفضل فضلٌ والربيعُ ربيعُ
** أما الجناس التام المماثل بين فعلين : فإننا لانكاد نعثر في القرآن الكريم والحديث النبوى على مثال لهذا النوع من الجناس ،. ونذكر من ذلك فى غيرهما قولك لصاحبك : (( تمسك بقراءة القرآن ، النار لا تمسك )) . فوقع الجناس هنا بين الفعل ( تمسَّك ) أي إلزم وأحرص ، وبين (تمسك ) الثانية أي لا تلمسك ولا تصيبك النار .
* · ومن ذلك - أيضا – قولك لمن تحب : (( لو أنك شعرت بنار حبي ، لشعرت )) .
فالجناس التام المماثل هنا بين الفعل ( شعرت ) الأولى ، وهي بمعنى (أحسست ) من الإحساس والشعور ؛ وبين الفعل ( شعرت ) الثانية ، وهي بمعنى ( نظمت الشعر ) .
* أما الجناس التام المماثل بين حرفين : فهو يقع كثيرا في آيات القرآن الكريم ، ونذكر من ذلك قوله تعالى يخبر عن أصحاب الشمال ، وما ينالهم من عذاب في الآخرة :
(( ثم إنكم أيها الضالون المكذبون ، لآكلون من شجر من زقوم ))(15).
- فالجناس هنا وقع بين ( من ) الأولى : " وهي لابتداء الغاية ، وبين (من) الثانية لبيان الشجر وتفسيره " (16) .
* ومنه –أيضا- قوله تعالى : (( وينـزِّلُ مِـنَ السماء مِن جبال فيها من بَردٍ )) –ف (من ) الأولى لابتداء الغاية ، أي ابتداء الإنزال من السماء ، والثانية للتبعيض ؛ أي بعض جبال منها ، والثالثة لبيان الجنس ، لأن الجبال تكون بردا وغير برد )) (18) .
* · ومنه أيضا قوله تعالى ، يخبر عن حال المؤمين وما أعد لهم في الآخرة من جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار : (( أولئك لهم جنَّاتُ عدنٍ تجري من تحتهمُ الأنهارُ يحلونَ فيها مِن أَساورَ مِن ذهبٍ..))(21) .
- فمن الأولى لابتداء الغاية ، والثانية : لبيان الجنس ، أو زائدة ، بدليل قوله : ( وَحُلُّوا أَساورَ ) (22) .
- ومن الثالثة : لبيان الجنس أو التبعيض . (23) .
* · ونذكر أيضا من الجناس التام المماثل بين حرفين في غير الأسلوب القرآني ، قولك لمن تحب( بالله لا تبكي أمامي ، فإن قلبي بعينيك)).
- فالباء الأولى فى ( بـالله ) هي باء القسم .والباء الثانية في ( بـعينيك ) هي باء الظرفية .
(1) الجناس التام المستوفَـي (بفتح الفاء ) :وهو أن يتفق اللفظان المتجانسان في أنواع الحروف ، وعددها ، وترتيبها ، وهيئتها من غير تركيب فيها ، ويكونا من نوعين مختلفين ، بأن يكون أحدهما اسما والآخر فعلا أو غير فعل .
*ومن أمثلته في القريض بين فعل واسم ، قول الشاعر أبي تمام : -
ما فات من كـرم الزمان فإنـه
يحيـا لدى يـحيى بن عبد الله
- فيحيا الأولى فعل مضارع بمعنى ( يعيش ) . ويحيى الثانية : اسم علم على يحيى بن عبد الله .
* · ومن ذلك قول الشاعر محمد بن كناسة في رثاء ابنه :
وسميته يحيى ليحيا ولم يكن
إلى رد أمر الله فيه سبيل
* · ومنه –أيضا_ قول الشاب الظريف في الهجاء :
لاطال صوب الغوادي ساحتي قطنا
ولا رعى الله من في أرضها قطنا
-( فقطن ) الأولى : اسم مكان لبلدة . (وقطن ) الثانية : فعل ماض بمعنى سكن .
* · ومن الجناس المستوفَى بين فعل وحرف : قولك (( أنَّ الرجلُ أنينًا ، لأنَّـه مريض )) . فـ (أنَّ) الأولى: فعل ماض من الأنين . و (أنَّ) الثانية : حرف نصب .
* · ومنه –أيضا- قول الشاعر :
علا نجمه في عالم الشعر فجأة
على أنه ما زال في الشعر شاديا
- فالجناس المستوفي في البيت بين الفعل ( علا ) بمعنى (ارتفع ) وبين حرف الجر (على) الثانية .
ثانيا – الجناس التام المركب
وهو ما كان أحد لفظيه مفردا ، والآخر مركبا من كلمة وجزء من كلمة أخرى ، أو من كلمتين ، ولهذا النوع ثلاثة أضرب هي :
الضرب الأول – الجناس المرفو : وهو أن يكون أحد لفظيه مفردا ، والآخر مركبا من كلمة ، وجزء من كلمة أخرى . ومن أمثلته في السعر ، قول الحريري :
المكر مهما استطعت لا تأته
لِتَقتَـنَي السـؤددَ والمـكرمة
-فالجناس في البيت بين كلمة ( المكر ) مضافة إليها جزء من الكلمة التي تليها ( مـه ) والمأخوذة من كلمة ( مهما ) في الشطر الأول من البيت ، وبين كلمة واحدة مفردة ، وهي ( المكرمة ) . ويبدو أثر التكلف واضحا على هذا النوع من الجناس ، وقد ندر أن يقع في الشعر أو النثر ، ويسلم من التكلف والتعقيد ، فهو " لا يخلو من تعسف وعقادة في التركيب " (24) . وإنما هو لون من ألوان إثبات قدرة الشاعر على الإتيان به في شعره ، وأنه لا يعجزه شيء من ذلك . لذلك ندر أن يقع في القرآن الكريم ، والسنة النبوية شيء منه .
* الضرب الثاني : الجناس المتشابة: وهو ما تشابه ركناه ( أي الكلمة المفردة والأخرى المركبة ) خطا ولفظا .ومن ذلك قولك مداعبا صديقك : " إذا أَولـم لنـا أحببناه ، سواء أكل معنـا أو لـم " . فالجناس المتشابه هنا بين كلمة ( أولـم ) وهي فعل أمر من الوليمة ، أي صنع لنا طعاما . وبين ( أو) حرف العطف ، مضافة إليه ( لـم ) حرف النصب والجزم ، بمعنى ( أو لـم يأكل معنا ) .
* · ومن ذلك أيضا قول الشاعر :
إذا ملك لم يكن ذا هـبة
فدعه فدولته ذاهـبة
فالجناس المتشابه هنا بين (ذاهبة ) مكون من ( ذا ) بمعنى : صاحب ، و (هبة ) أي عطية . وبين ( ذاهبة ) أي : زائلة .
0الضرب الثالث : الجناس الملفوف : وسمي –أيضا- [بالمفروق] (25) وهو ماتشابه ركناه(أي الكلمة المفردة والأخرى المركبة ) لفظا لا خطاً . ومن أمثلته فى الشعر ،قول الشاعر الشاب الظريف :
أتراك بالهجران حين فتكت في
قلبي علمت بما يجنُّ فتكتفِ
- فالجناس المفروق هنا بين ( فتكت في ) ، وبين ( فتكتفِ) . وهما متشابهان لفظا ومختلفان خط، مع الاختلاف في المعنى .
- ومثله –أيضا- بين ( تهذيبها) و بين (تهذي بها ) في قول الشاعر :
لا تعرضن على الرواة قصيدة
ما لم تكن بالغت في تهذيبها
وإذا عرضت الشعر غير مهذب
عدوه منك وساوسا تهذي بها
* · أو بين كلمة ( النواقيس ) و ( النواى قيسي) في قول آخر :
فقل لنفسك أي الضرب يوجعها
ضرب النواقيس أم ضرب النوى قيسي
- فالنواقيس : جمع ناقوس ، وهو لفظ مفرد ، وقد جانس الشاعر بينه ، وبين مركب من اسم وفعل ، هما ( النوى ) بمعنى : الفراق ، و(قيسى) فعل أمر مسند إلى ياء المخاطبة، من ( قاس يقيس ) . وقد تشابها ركنا الجناس لفظا واختلفا خطا ، واختلفا في المعنى.
*الضرب الرابع : الجناس الملفق : ويكون التركيب في الجزأين معاً .ومن أمثلته في القريض ، قول الشاب الظريف :
عاهدتني أن لا تخون ولنت في
طلبي وفاءك بالعهود ولم تفِ
- فطرفا الجناس في البيت مركب من كلمتين : الأولى-(لمت في ) في عروض البيت ، ومكون من فعل (لمت ) ، وحرف ( فـي ) . والثانية ( ولم تفِ) في ضربه ، ومكون من حرف الجزم (لـم) ، وفعل المضارع المجزوم بها ( تفِ) .
- ومنه قول شرف الدين بن عنين :
خبروها بأنه " ما تصدى "
لسلو عنها ولو " مات صدى "
-ومنه أيضا- قول القاضي عبد الباقي بن أبي حصين :
فلم تضع الأعادي " قدر شاني "
ولا قـالوا فـلان " قد رشاني "
- فطرف الجناس الأول مركب من كلمتين ( قدر) و (شاني ) . والطرف الآخر : مركب من كلمتين ( قد) حرف تحقيق ونصب ، و ( رشاني ) الفعل الماضي المسند له ضمير المتكلم .
الجناس غير التام
ويقال له الجناس الناقص ، والجناس المشبه . وهو ما اختلف فيه ركناه في واحد ،أو أكثر من الشروط الأربعة السابقة التي يجب توافرها في الجناس التام وهي :
(1) نوع الحروف . (2) عددها .
(3) ترتيبها . (4) هيئتها ( حركاتها ) .
وذلك مـع اختلافهما فـي المعنى .
وهو ينقسم وفقا للتعريف السابق إلى أربعة أقسام ؛ تحت كل منها أقسام أخرى كثيرة :
أولا- الاختلاف في هيئة الحروف: وقد قسم البلاغيون هذا القسم الى نوعين :
(1) جناس تحريف . (2) جناس تصحيف .
أولاً : الجناس المحرف: (26) وفيه يختلف طرفا الجناس في حركات الحروف (هيئاتها ) وسكناتها ، مع اتفاقهما في الشروط الثلاثة الأخرى ( عدد الحروف – نوعها – ترتيبها ) سواء كانا من اسمين أو فعلين ، أو فعل ، أو من غير ذلك " (27) .
وقد وقع هذا النوع من الجناس في الأسلوب القرآني وفق ما يتطلبه المعنى ، ولم يكن مقصودا لذاته . ونذكر من أمثلته قوله تعالى ن يخبر عن الأمم الماضية بأنه سبحانه أرسل فيهم منذرين ، ينذرونهم بأس الله ، ويحذرونهم نقمته ممن كفر به وعبد غيره ، وتمادوا في تكذيب رسله فأهلك المكذبين ، ونجى المؤمنين ونصرهم ، فقال :
(( ولقد أرسلنا فيهـم مُنذِرِينَ ، فانظر كيف كان عاقبة الـمُنذَرِينَ )) (28) .فوقع الجناس في هذه الآية بين ( منذرين ) الأولى ، وهي اسم فاعل ( مكسور ما قبل الآخر ). ويقصد بها هنا الفاعلون ، وهم الرسل ( عليهم الصلات والسلام ) . وبين ( منذرين ) الثانية ، وهي اسم مفعول ( مفتوح الذال ) ، وهم المفعولون ، من وقع عليهم الإنذار . فاللفظان مختلفان في حركات الحروف فقط مع توافر الشروط الثلاثة الأخرى .
* · ومن ذلك –أيضا- قوله تعالى ، يخبر أنه سبحانه عاوض من عبادة المؤمنين عن أنفسهم ، وأموالهم إن بذلوها في سبيله بالجنة فقال : (( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون .. )) (29) .
وهذا من فضله وكرمه وإحسانه ، فإنه قبل العوض عما يملكه بما تفضل به على عبيده المطيعين له ، وقوله " يقاتلون في سبيل الله ويقتلون ويقتلون " أي : سواء قَتَلوا أو قُتِلوا أو اجتمع لهم هذا وهذا فقد وجبت لهم الجنة .
- فالجناس المحرف في الآية الكريمة وقع بين ( يقتلون) و ( يقتلون) وهو وقع بين فعلين .
* ومنه –أيضا – قوله تعالى على لسان سيدنا إبراهيم لضيفه ، عندما بشروه بإسحاق (عليه السلام ) رغم كبر سنه وكبر زوجته ، بأنه ليس يقنط ، ولكن يرجوا من الله الولد ، وإن كان قد كبر ، وأسنت امرأته فإنه يعلم من قدرة الله تعالى ورحمته ما هو أبلغ من ذلك فقال : ( ( ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون )) (30)
- فوقع جناس التحريف في هذه الآية بين ( من ) الأولى الاستفهامية ، وبين ( من ) الثانية الجارة . وقد اتفقت فيهما شروط الجناس التام عدا هيئته .
*ومنه أيضا قوله تعالى يذكر قدرته التامة ، وسلطانه العظيم في خلقه أنواع المخلوقات على اختلاف أشكالها ، وألوانها ، وحركاتها ، وسكناتها من ماء واحد ، فقال : (( والله خلق كل دابة مـن ماءٍ فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ، ومـنهم مـن يمشـي علـى أربـع ، يـخلـق الله ما يشاء إن الله عـلى كـل شيء قدير )) (31) .
فالذي يمشي على بطنه كالحية وما شاكلها ،ومن يمشي على رجلين كالإنسان والطير ، ومن يمشي على أربع كالأنعام وسائر الحيوانات ، ولهذا قال تعالى : " يخلق الله ما يشاء " أي بقدرته لأنه ما شاء كان ولم يشأ لم يكن . (32)
وجناس التحريف هنا وقع بين ( مـن ) الأولى في الآية ، وهي حرف جر ، وبين (مـن ) المتكررة في الآية ، وهي نكرة موصوفة المطلقة على من يعقل ، ومن لا يعقل ، لاختلاطها مع من يعقل في صدر الآية ، لأن عموم الآية يشمل العقلاء وغيرهـم ، فغلب على الجمع حكم العاقل . (33)
ومثله -أيضا – قوله تعال: (( وننزل من السماء مـن جبال )) . فالجناس بين (مـن) الأولى ، وهي لابتداء الغاية ، أي ابتداء الإنزال من السماء ، (ومـن ) الثانية للتبعيض ، أي بعض جبال منها .
ونذكر من أمثلة الجناس المحرف في الأسلوب النبوي ، قول الحبيب محمد (ص) : ((اللهم كما حسَّنت خَلقِي فحسن خُلُقِي )) . فالجناس وقع بين ( خَلقِي ) و ( خُلُقِي ) . فالحروف هنا متساوية في اللفظتين ، زفي تركيبهما ، ونوعها ، ولكنها مختلفة في هيئتها
* ومثله أيضا قوله( صلى الله عليه وسلم ) حيث وقع الجناس بين ( صلوا ) و ( صلوا ) في قوله أول ما وصل إلى المدينة المنورة لأصحابه : (( أفشوا السلام ، وصلوا الأرحام ، وصلوا والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام)) .
ثانيا - الجناس المصحف : ومنهم من يسميه جناس الخط ، وهو ما تماثل ركناه خطا واختلفا لفظا . أو بعبارة أخرى هو ما اختلـف فيـه ركناه في ( نقط الحروف ) .
ومن أمثلته في الأسلوب القرآني ، قوله تعالى يخبر عن الأخسرين أعمالا : (( الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا )) (34).
- فالجناس المصحف وقع في الآية الكريمة بين ( يحسنون ) و ( يحسبون ) .
-ومنه - أيضا - قوله تعالى ، على لسان سيدنا إبراهيم ( عليه السلام ) :
(( والذي هو يُطعمني ويسقينِ ، وإذا مرضت فهو يشفين )) (35) .
-أي لا أعبد إلا الله الذي هو رازقي ، بما سخر ، ويسَّر من الأسباب التي تؤدي إلى رزق العباد طعاما وشرابا ، والذي إذا قدَّرَ مرضي ، فمرضت ، فهو الذي يقدر الشفاء ، فأشفى ، ولا يقدر على شفائي أحد غيره ، بما قدره من الأسباب (36) .
-فجناس التصحيف هنا وقع بين ( يسقين ) و (يشفين ) .
-ومن أمثلة ذلك في الأسلوب النبوي ، قول المصطفى ( عليه الصلات والسلام) وقد جانس جناس تصحيف بين ( ارتجلت ) و (ارتحلت ) في قوله: (( .. ألا و أن الدنيا قد ارتحلت مدبرة ، وأن الآخرة قد ارتجلت مقبلة )) .
* ومثله أيضا قوله (ص) : (( عليكم بالأبكار فإنهن أشد حبًّا ، وأقل خِبًّا )) . - فجانس (ص) بين ( حُبًّا ) و ( خِبًّا ) أي خداعا .
* · ومنه -أيضا -قوله (ص) لعلي بن أبي طالب ( كرم اله وجهه ) : (( قصر ثوبك فإنه أنقى ، وأتقى ، وأبقى )) .
* · ومنه أيضا قوله (ص) حين سمع رجلا ينشد علي سبيل الافتخار ، وقيل : سأله عن نسبه ، فقال :
إني امرؤ حميريّ حين تنسبني
لا من ربيعه آبائي ولا مضر
فقال له النبي (ص) : (( ذلك والله ألأم لجدك ، وأقل لحدِك )) .
* · ومنه قول عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه) : (( لو كنت تاجرا ما اخترت غير العطر ، إن فاتني ربحه لم يفتني ريحه )) .(37) .
- فالجناس المصحف هنا وقع بين ( ربحه ) و ( ريحه ) .
ثانيا - الاختلاف في أنواع الحروف
وقد يكون الاختلاف في حروف متقاربة في المخرج ، فيطـلقـون عليـه
( الجناس المضارع ) أو في حروف متباعـدة الـمخارج فيطلقون عليه (الجناس اللاحق ) .
(1) الجناس المضارع : وهو أن يختلف طرفا الجناس في حرف من حروفهما مع التقارب في المخرج بين الحرفين . ومن أمثلته في الأسلوب القرآني ، قوله تعالى ، يخبر عن المشركين بأنهم ينهون الناس عن اتباع الحق ، وتصديـق الـرسول ، والانقياد للقرآن ، ويبتعدون عنه ، فلا ينتفعون ولا يدعون أحدا ينتفع : (( وهم ينهون عنـه ، وينأون عنـه وإن يُهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون )) (38) . وهم بهذا الصنيع لا يهلكون ألا أنفسهم ، ولا يعود وبالهم ألا عليهم وهم لا يشعرون . (39)
- فالجناس في الآية الكريمة وقع بن ( ينهون ) و ( ينأون ) والحرفان الذي وقع بينهما الخلاف ( الهاء )و(الهمزة ) وهما متقاربان في المخرج لأنهما من مخرج(الحلق).
* ومنه - أيضا- قوله تعالى يخبر عن قريش والعرب أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم ، قبل إرسال الرسول إليهم ، لـئـن جاءهم نذير : (( ليكـونـُنَّ أَهـدى مـن إحدى الأمَمِ )) (40) . فالجناس هنا بين ( أهدى ) و ( إحدى).
*ومنه قوله تعالى يقسم بالنجوم تخنس بالنهار ، وتكنس بالليل : (( فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس )) (41) . فالجناس هنا وقع بين ( الخنس ) و ( الكنس ) .
* · من أمثلة الجناس المضارع في الأسلوب النبوي ، قول الحبيب محمد (ص) : (( الخيل معقود ٌ بنواصيها الخير )) .
- فالجناس وقع بين ( الخيل ) ، و (الخير ) . والحرفان اللذان وقع بينهما الخلاف هما : ( اللام ) ، و ( الراء ) هما حرفان متقاربان في المخرج ، لأنهما من الحروف اللثوية .
(2) الجناس اللاحق : وهـو مـا كـان الـحرفـان المختلفان متباعديـن في الـمخـرج . ومن أمثلته في الأسلوب القرآني ، قوله تعالى يتوعد بالويل للهماز بالقول واللماز بالفعل ، الذي يزدري الناس وينتقص بهم ، فيقول :
(( ويـل ٌ لكل همـزةٍ لـمـزةٍ )) (42) .
- فقد وقع الجناس هنا بين ( همزة ) و ( لمزة ) . وهما مختلفان في أنواع الحروف ، والحرفان اللذان وقعا بينهما الخلاف هما ( الهاء ) ، و( اللام ) بينهما تباعد في المخرج فالهاء من مخرج ( الحلق )، واللام من مخرج (الحنك واللسان ) .
* · ومثله قوله تعالى :
(( وإنـه على ذلك لشهيدٌ وإنه لحـبِّ الخـير لشديد )) (43) .
أي أن الإنسان على كنوده لشهيد على نفسه ، ولا يقدر أن يجحد ، لظهور أمره ، وقيل إن الله على كنوده لشهيد على سبيل الوعيد . والكنود : الكفور ، أو العاصي ، أو البخيل . وإنه لحب المال وإثارة الدنيا وطلبها قوي مطيق ، وهو لحب عبادة الله وشكر نعمته ضعيف متقاعس ، تقول : هو شهيد لهذا الأمر وقوي له إذا كان مطيقا له ضابطا أو أراد إنه لحب الخير غير هش منبسط ، ولكنه شديد منقبض .(44)
- فالجناس في الآية الكريمة وقع بين ( شهيد ) و ( شديد ) .
*ومنه - أيضا - قوله تعالى على لسان الملائكة للمكذبين :
(( ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحقِّ وبما كنتم تـمرحون))(45) .
أي هذا الذي أنتم فيه من عذاب ، جزاء على فرحكم في الدنيا بغير الحق ، ومرحكم ، وأشَركم ، وبطركم .
- فالجناس اللاحق في هذه الآية الكريمة وقع بين ( تفرحون ) و (تمرحون ) .
- ومنه أيضا قوله تعلى لحبيبه محمد (ص) : (( فأما اليتيم فلا تنهر ، وأما السائل فلا تنهر )) (46) .
- أي كما كنت يا محمد يتيما فآواك الله فلا تقهر اليتيم أي لا تذله ، وتنهره ، ولكن أحسن إليه ، وتلطف به ، وكما كنت ضالاً فهداك الله ، فلا تنهر السائل في العلم المسترشد .
- فالجناس اللاحق هنا بين ( تقهر ) و ( تنهر ) .
* · ومنه قوله تعالى ينكر على من يبادر إلى إفشاء الأمور قبل تحقيقها ، فيقول : (( وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به .. )) (47) .
فقد روى مسلم في صحيحه 792 " أن عمر بن الخطاب بلغه أن رسول الله (ص) طلق نساءه فجاء من منزله حتى دخل المسجد فوجد الناس يقولون ذلك فلم يصبر حتى أستأذن على النبي (ص) فاستفهمه : أ طلقت نساءك ؟ فقال : لا . فقلت الله أكبر .. فقمت على بـاب المسجـد فناديـت بأعلـى صـوتي لم يطلـق رسـول الله (ص) نسـاءه ، ونزلت هذه الآية . (48)
- و نذكر من الجناس اللاحق في الأسلوب النبوي قول الحبيب المصطفى (ص):
(إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ، ولا ينزع من شيء إلا شانه))
فقد جانس بين ( زانه ) و (شانه ) ، وحرفا الاختلاف ( الزاي ) وهو لثوي أسناني ، والشين وهي ( غارية ) .
* ومنه أيضا قوله صلوات الله و سلامه عليه :
(( بشر خديـجة ( رضي الله عنها ) ببيت في الجنة من قصب ، لا صخب فيه ولا نصب )) .
فالجناس هنا وقع بين ( قصب ) و (نصب ) وحرفا الاختلاف ( القاف ) وهي ( لهوية ) ، والنون ( لثوية ) .
* ومنه أيضا قوله (ص) : ((رب تقبل توبتي ، واغسل حوبتي )) .
- فالجناس اللاحق بين ( توبتي ) و (حوبتي ) . والاختلاف فيهما بين حرفي ( التاء) وهي ( أسنانية ) وبين حرف ( الحاء ) وهي من مخرج ( الحلق ) .
ثالثا- الاختلاف في عدد الحروف
إذا اختلف ركنا الجناس في عدد الحروف بزيادة حرف واحد ، أو أكثر في أحدهما ، سواء في أوله أو وسطه أو آخره سمي هذا اللون من الجناس بـ (الجناس الناقص ) لنقصان أحد اللفظين عن الآخر .
ومن أمثلته في الأسلوب القرآني قوله تعالى :
(( والتفت الساق بالساق ، إلي ربك يومئذ المساق )) . (49)
أي إذا التفت ساقه بساقه ، والتوت عليها عند علز الموت . وعن قتادة : ماتت رجلاه فلا تحملانه ، وقد كان عليهما جوالا ، وقيل شدة فراق الدنيا بشدة إقبال الآخرة على أن الساق مثل في الشدة ، وعن سعيد بن المسيب : هما ساقاه حين تلفان في أكفانه و (المساق) أي يساق إلي الله وإلى حكمه.(50) " وذلك أن الروح ترفع إلى السماوات فيقول الله عز وجل : " ردوا عبدي إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ، ومنها أخرجهم تارة أخرى " كما ورد في حديث البراء الطويل (51) .
- والجناس الناقص في هذه الآيه الكريمة وقع بين ( الساق ) و (المساق ) . فالميم زيادة في اللفظة الثانية عن الأولى .
* · ومنه أيضا قوله تعالى : (( لقد أرسلنا رُسلنا بالبينات )) (52) .بالبينات أي المعجزات ، والحجج والدلائل القاطعة ،. والجناس هنا وقع بين ( أرسلنا ) و (رسلنا )
*ومنه أيضا قوله تعالى : ((إن ربهم بهـم يومئـذ لخبير )) .(53)
أي أن الله سبحانه وتعالى لعالم بجميع ما كانوا يصنعون ، ويعملون ، ويجازيهم عليه أوفر الجزاء ، ولا يظلم مثقال ذرة . والجناس هنا وقع بين ( ربهم ) و ( بهم ) .
* · ومنه أيضا قوله تعالى : (( ..ولكـنا كنا مرسلين )) (54) .
* · ومن الجناس الناقص أيضا قوله تعالى : (( وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قـدر )) (55) .
أي جعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر ، وهو أبلغ من قولك فجرنا عيون الأرض ، فالتقى مياه السماء والأرض ( على أمر قد قدر ) على حال قدرها الله كيف شاء ، وقيل في حال جاءت مقدرة مستوية ، وهي أن قدر ما أنزل من السماء كقدر ما أخرج من الأرض سواء بسواء.(56)
- فالجناس الناقص في الآية السابقة ، بين (قد ) و (قدر ) .
*ونذكر من الجناس الناقص في القريض قول الشاعر أبي تمام :
يمدون من أيد عواص عواصم
تصول بأسياف قواض قواضب
- والجناس هنا بين ( عواص ) جمع عاصية ،من عصاه ،ضربه بالعصا : أي السيف هنا ، و بين ( عواصم ) جمع عاصمه ،من عصمه ، أي حفظه و رعاه ، و (الميم ) هنا زائدة عن اللفظة الأولى . وبين (قواض) جمع قاضية ، من قضى عليه قتله ، و (قواضب ) جمع قاضب ، من قضبه قطعه . و(الباء) هنا زائدة في الثانية عن الأولى .
* · ومن ذلك أيضا قول حسان بن ثابت :
وكنا متى يغز النبي قبيلة
نصل جانبيه بالقنا والقنابل
- فقد جانس بين ( القنا) و ( القنابل ) واحدها قنبلة ، والقنبل ( بفتح القاف ) الجماعة من الناس أو الخيل ما بين الثلاثين إلى الأربعين ونحوه . والزيادة هنا حرفان ( الباء واللام ) في اللفظة الثانية عن الأولى.
رابعا : الاختلاف في التركيب أو الترتيب
وينجم عن هذا الاختلاف نوع من الجناس غير التام يسمى :
الجناس المعكوس : وسمي أيضا جناس ( القلب ) ، وجناس ( التبديل ) ." وهو الذي يشتمل كل واحد من ركنيه على حروف الآخر من غير زيادة ولا نقص ، ويخالف أحدهما الآخر في الترتيب " (57) .
ويمكن أن نقسم هذا الجناس إلى قسمين ، أحدهما - يكون بعكس الحروف أو تبديلها ، أو قلبها . والثاني- يكون بعكس الألفاظ أو تبديلها ، أو قلبها .
(1) الجناس المعكوس بالحروف :
ومثاله في الأسلوب القرآني قوله تعالى : (( .. وكل في فلك يسبحون))(58).
- أي أن الليل والنهار والشمس والقمر كلهم يسبحون أي يدورون في فلك السماء ، كفلكة المغزل ، لا يدور المغزل إلا بها ، ولا تدور إلا به .
- فالجناس المعكوس وقع بين ( كل ف ) وبين ( فلك ) فلو أنك عكست هذا التركيب ، وقرأت من اليسار إلى اليمين في كلمة ( فلك) فإنها ستكون ( كل ف ) .
* · ومن ذلك أيضا قوله تعالى لحبيبه محمد (ص) آمرا له بتعظيمه :
(( وربـك فـكبر )) (59) .
- فالجناس المعكوس هنا وقع بين ( ربك ) ، و ( كبر ) ، وهو جناس قلب وعكس .
* · ومنه أيضا قوله تعالى حكاية عن سيدنا هارون لأخيه موسى ( عليهما أفضل السلام ) :
(( .. إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي )) (60).
- أي راعيت ما أمرتك به حيث استخلفتك فيهم .
- فالجناس في الآية وقع بين ( بين ) و ( بني ) .
* · من الجناس المعكوس بالحروف في الأسلوب النبوي ، قول الحبيب محمد 0ً) :
(( يقال لصاحب القرآن : اقرأ وارق ، ورتل كما كنت ترتل في الدنيا ، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ )) .
- فالجناس المقلوب وقع بين ( أقرأ ) و ( ارق ) .
*ومنه أيضا قوله ( صلوات الله وسلامه عليه ) :
(( اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا ))
- فبين ( عوراتنا ) و (روعاتنا ) جناس قلب جزئي .
* · ومنه أيضا قوله (ص) : (( إن لله تعالى في كل محنة منحة )) . فالجناس هنا وقع بين ( محنه ) و ( محنة ) .
ويقول ابن الأثير : " وهذا النوع من الجناس المعكوس [قصد به عكس الحروف ] نادر الاستعمال ، لأنه قلَّ ما يقع كلمة تقلب حروفها فيجيء معناها صوابا " (61) .
(2) الجناس المعكوس باللفظ: (62)
وهو ما يدل عليه قول الحبيب محمد (ص) :
(( جار الدار ، أحق بدار الجار )) .
- وفي هذا الجناس عكست الألفاظ .
الجناس المطلق
عـدَّ البلاغيون الجناس المطلق من بين الأنواع المختلفة للجناس غير التام ، وسماه السكاكي وغيره المتشابه والمتقارب ، لشدة مشابهته وقربه من المشتق (63). بل إن منهم من يسميه بجناس الاقتضاب ، أو جناس الاشتقاق . وقد عرفه البعض بأنه :هة ما " يجمع ركنيه أصل واحد في اللغة ، ويكون بين اسمين وفعلين واسم وفعل " (64) . وقد نفى ابن حجة الحموي أن يكون الاشتقاق من أنواع الجناس ، وفرق بينه وبين الجناس المطلق فقال : " فإن المشتق غلط فيه جماعة من المؤلفين وعدوه تجنيسا ، وليس الأمر كذلك ، فإن معنى المشتق يرجع إلى أصل واحد ، والمراد من الجناس اختلاف المعنى في ركنيه ، والمطلق كل ركن منه يباين الآخر في المعنى " (65) .
ثم قال : " وأنا أذكر لكل واحد منها شاهدا يزول به الالتباس ، فالمشتق كقوله تعالى : (( قل يا أيها الكافرون ، لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم )) (66) . وقيل : إن ما مصدرية ، أي : لا أعبد عبادتكم ، ولا تعبدون عبادتي ، فعلى كل تقدير ، الجمع راجع إلى العبادة ، والمعني في الاشتقاق راجع إلى أصل واحد "
* · ومنه قوله تعالى : (( ومن شر حاشد إذا حسد )) (67) . وقوله تعالى : (( إذا وقعت الواقعة )) (68) . وقوله تعالى : (( أزفة الآزفة )) (69) . وكقوله تعالى على لسان بلقيس : (( .. وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين )) (70) .
وهو جناس مطلق " لأنه لم يرجع في المعنى إلى أصل واحد ، وهو أعظم شواهد البديعيين على الجناس المطلق " (71) .
-وأرى أن ما يسميه البديعيون بجناس الاشتقاق ، ليس جناسا وإنما يمكن لنا أن نطلق عليه " الملحق بالجناس " لأنه فقد شرط أساسي من شروط الجناس هو " اختلاف المعنى . والمشتق راجع إلى أصل واحد ، فهو ألصق بتسميته بالملحق بالجناس عن أن يكون أحد أنواعه . أما الجناس المطلق فلشدة تشابهه بالمشتق ، يوهم أحد ركنيه ، أن أصلها واحد وليس كذلك ،لقوله تعالى : (( وإن يردك الله بخير فلا راد لفضله )) ( 72) .
- وقوله تعالى : (( ليريه كيـف يـواري سـوأة أخيـه )) ( 73) .
* ومنه ما كتب به إلى المأمون في حق عامل له ، وهو : (( فلان ما ترك فضة إلا فضها ، ولا ذهبا إلا أذهبه ، ولا مالا إلا مال عليه ، ولا فرسا إلا افترسه ، ولا دارا إلا أدارها ملكا ، ولا غلة إلا أغلها ، ولا ضيعة إلا ضيعها ، ولا عقارا إلا عقره ، ولا حالا إلا أحاله ، ولا جليلا إلا أجلاه ، ولا دقيقا إلا دقه )).
-فهذه الأركان هنا شواهد على الجناس المطلق ، ليس فيها ركنان يرجعان إلى أصل واحـد كالمـشتق ، بـل جميـع ما ذكـرناه أسماء أجناس ، وهى محمولة على دم الاشتقاق . (74)
منقول