الاستدلال في القرآن الكريم- مزيج أسلوبين: الخطابة والبرهان وإمتاع العقل والنفس معاً
محمد هادي معرفة
إمتازالقرآن في استدلالاته بالجمع بين اسلوبين متنافيين في شرائطهما، هما:أسلوب الخطابة واسلوب البرهان. ذاك إقناع للعامة بما يتسالمون به منمقبولات مظنونات وهذا إفهام للخاصّة بما يتصادقون عليه من أوّلياتيقينيات..
ومنالممتنع عادةً أن يقوم المتكلّم بإجابة ملتمس كلا الفريقين، ليجمع بينالظن واليقين في خطاب واحد.. الأمر الذي حققه القرآن فعلاً بعجيب بيانهوغريب اسلوبه.
والبرهان:ما تركب من مقدمات يقينية، سواء أكانت ضرورية (بديهية أو فطرية) أم كانتنظرية (منتهية إلى الضروريات). والقضايا الضرورية ستة أنواع:
1- وهيقضايا قياساتها معها. يكفي في الجزم بالحكم مجرّد تصور الطرفين، كقولناالكلّ أعظم من الجزء). أو مع تصوّر الواسطة وحضورها في الذهن، كقولناالأربعة زوج) لأنه ينقسم إلى متساويين.
2- مشاهدات: هي قضايا محسوسة بالحواسّ الظاهرة كإضاءة الشمس.
3- وجدانيات: منشؤها الحسّ الباطني كالإحساس بالخوف والغضب.
4- متواترات: أخبار جماعة يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب والاختلاق.
5- مجربات: يحصل الجزم بالنتيجة علىأثر تكرّر المحسوس.
6- حدسيات:هي سرعة الانتقال من المبادئ إلى المطالب. ويقابلها الفكر، الذي هو حركةالذهن نحو المبادئ ثم رجوعه إلى المطالب، فلا بُدّ فيه من حركتين، علىخلاف الحدس، إذ لا حركة فيه. لأن الحركة تدريجية، والانتقال آني.
أمّا الخطابة فهي ما تركّب من مقدّمات كانت مقبولة معتقداً بها لأمر سماوي أو لمزيد عقل ودين.
ونظيرها الجدل: المتركّب من قضايا مشهورات تقبّلتها العامة وخضعت لها أعرافهم ونسجت عليها طبائعهم، فألفوها وأذعنوا بها إذعاناً.
أو قضايا مسلمات تسلّم بها المخاطبون كأصول مفروضة مسلم بها.
والقرآن الكريم قد استفاد في دلائله من كل هذه الأساليب، وفي الأكثر جمع بينها في خطاب مع العامة يشترك معهم الخواّص.
هذا غاية في القدرة على الإستدلال وإقامة البرهان..
ولنضرب لذلك أمثلة:
1- قالتعالى ـ بصدد نفي آلهة غير الله ـ: (لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا)(الأنبياء: 22). هذه الآية ـ بهذا النمط من الإستدلال ـ في ظاهرها البدائياحتجاج على أساس الخطابة والإقناع، قياساً على العرف المعهود، أن التعددفي مراكز القرار سوف يؤدي إلى فساد الإدارة.. ونظيرها آية أخرى: (ما اتخذالله من ولد وما كان معه من إله، إذن لذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهمعلى بعض، سبحان الله عما يصفون) (المؤمنون: 91).
يقولالعلامة الطباطبائي: وتقرير الحجّة في الآية، انه لو فرض للعالم آلهة فوقالواحد، لكانوا مختلفين ذاتا، متباينين حقيقة. وتباين حقائقهم يقضي بتباينتدبيرهم، فتتفاسد التدابير، وتفسد السماء والأرض..(1).
وهذا النمط من الإستدلال، طريقة عقلانية يتسلمها العرف العام قياساً على ما ألفوه في أعرافهم.
ولكن إلى جنب هذا، فهو استدلال برهاني دقيق، قوامه الضرورة واليقين، وليس مجرّد قياس إقناعي صرف.
ذلكأنّ الآية دلّت العقول على أن تعدّد الآلهة، المستجمعة لصفات الألوهيةالكاملة، يستدعي إما عدم وجود شيء على الإطلاق، وذلك هو فساد الأشياء حالالإيجاد.. أو أنها إذا وجدت وجدت متفاوتة الطابع متنافرة الجنسيات، الأمرالذي يقضي بفسادها، إثر وجودها وعدم إمكان البقاء.
وذلكلأنه لو توجهت إرادتان مستقلتان من إلهين مستقلين ـ في الخلق والتكوين ـإلى شيء واحد، يريد أنّ خلقه وتكوينه .. فهذا مما يجعله ممتنع الوجود،لإمتناع صدور الواحد إلاّ من الواحد، إذ الأثر الواحد لا يصدر إلاّ مماكان واحداً. ولا تتوارد العلتان على معلول واحد أبداً.
وفرض وجوده عن إرادة أحدهما، مع استوائهما في القدرة والإرادة، فرض ممتنع. لأنه ترجيح من غير مرجح، بل ترجح من غير مرجح، وهو مستحيل.
ولوتوجّهت إرادة أحدهما إلى إحداث شيء وأراد الآخر عدم إحداثه! فلو تحققتالإرادتان، كان جمعاً بين النقيضين.. أو غلبت إحداهما الأُخرى، فهذا ينافيالكمال المطلق المفروض في الإلهين.. وإلا فهو ترجيح من غير مرجح.
ولوتوجهت إرادة أحدهما إلى إحداث نظام ومخلوق، والأخر إلى نظام ومخلوق غيره..إذن لذهب كل إله بما خلق .. ولكان هناك نظامان وعالمان مختلفان في الخلقوالنظام، وهذا الإختلاف في البنية والنظام يستدعي عدم التآلف والوئاموالانسجام، وسوف يؤدّي ذلك إلى تصادم وأن يطغى أحدهما على الآخر ولعلابعضهم فوق بعض. الأمر الذي يقضي بالتماحق والتفاسد جميعاً..
وكلأولئك باطل بالمشاهدة، إذ نرى العالم قد وجد غير فاسد، وبقي غير فاسد.ونراه بجميع أجزائه، وعلى اختلاف عناصره، وتفاوت أوضاعه، من علوّ وسفلوخير وشّر، يؤدي وظيفة جسم واحد، تتعاون أعضاؤه مع بعضها البعض، وكل عضويؤدّي وظيفته بانتظام، يؤدي إلى غرض واحد وهدف واحد.. وهذه الوحدةالمتماسكة ـ غير المتنافرة ـ في نظام الأفعال، دليل قاطع على الفاعلالواحد المنظم لها بتدبيره الحكيم، وهو الله ربِّ العالمين.
وهذا هو البرهان القائم على قضايا يقينية في بديهة العقل.
وقال تعالى ـ بصدد نفي المثل ـ: (ليس كمثله شيء) (الشورى: 11).
جاءت الدّعوى مشفوعة ببرهان الامتناع، على طريقة الرّمز إلى كبرى القياس.
ذلكأن (المثل) المضاف إليه تعالى، رمز إلى الكمال المطلق، أي الذي بلغالنهاية في الكمال في جميع أوصافه ونعوته. الذي هو مقتضي الألوهيةوالرّبوبية المطلقة. لأنك إذا حققت معنى الألوهية فقد حققت معنى التقدمعلى كل شيء والمسيطر على كل شيء (فاطر السماوات والأرض)(2). (له مقاليدالسماوات والأرض)(3).
إذنفلو ذهبت تفترض الاثنينية في هذا المجال، وفرضت اثنين يشتركان في هذهالصفات التي هي غايات لجميع الأوصاف والنعوت، فقد نقضت وتناقضت فيافتراضك.. ذلك أنك فرضت من كل منهما تقدماً وتأخراً في نفس الوقت، وإنكلاً منهما مُنشئاً ومنُشأً. ومستعلى ومستعلى عليه.. إذ النقطة النهائيةمن الكمال، لا تحتمل اثنين، لأن النقطة الواحدة لا تنحلّ إلى نقطتين..وإلا فقد أحلت الكمال المطلق إلى كمال مقيد في الطرفين.. إذ تجعل كل واحدمنهما بالإضافة إلى صاحبه ليس سابقاً ولا مستعلياً.. فأنى يكون كل منهماإلهاً.. وللإله المثل الأعلى..؟!.
ويرجع تقرير الإستدلال إلى البيان التالي:
إن الإله هو ما استجمع فيه صفات الكمال وبلغ النهاية في الكمال..
ومثل هذا الوصف (مجمع الكمال) لا يقبل تعدّداً لا خارجاً ولا وهماً.
إذن فلا تعدّد في الآله، وليس له فردان متماثلان.
وهذا من أروع الاستدلال على نفي المثيل.
وكلمة(المثل) هذه، تكون إشارة إلى ما حواه المثيل من صفات وسمّات خاصّة تجعلهأهلاً لهذا النعت (إيجاباً أو سلباً) في القضية المحكوم بها.
مثلاًلو قيل ـ خطاباً لشخصية بارزة ـ: (أنت لا تبخل) كان ذلك دعوى بلا برهان.أما لو قيل له: (مثلك لا يبخل) فقد قرنت الدعوى بحجتها.. إذ تلك خصائصهومميّزاته هي التي لا تدعه أن يبخل، فكأنك قلت: (إنك لا تبخل، لأنّك حاملفي طيّك صفات ونعوتاً تمنعك من البُخل).
وهكذا جاءت الآية الكريمة:
إنمن كان على أوصاف الألوهية الكاملة، فإن هذا الكمال والاستجماع لصفاتالكمال، هو الذي يجعل وجود المثيل له ممتنعاً.. (بالبيان المتقدّم).
وعليه،فليست الكاف زائدة، كما زعم البعض. لأن المثل ـ على مفروض البيان ـ إشارةإلى تلك الصفات والسمات التي تحملها الذات المقدسة.. ولم يكن المراد منالمثل التشبيه، فهو بمنزلة (هو) محضاً.
فكان المعنى: ليس يُشبه مثله تعالى شيء، أي ليس يشبهه في كمال أوصافه ونعوته شيء.
قالالأستاذ درّاز: الآية لا ترمي نفي الشبيه له تعالى فحسب، إذ كان يكفي لذلكأن يقول: (ليس كالله شيء) أو(ليس مثله شيء). بل ترمي وراء ذلك دعم النفيبما يصلح دليلاً على الدّعوى والإنعات إلى وجه حجّة هذا الكلام وطريقبرهانه العقلي. ألا ترى أنّك إذا أردت أن تنفي نقيصة عن إنسان، فقلتفلان لا يكذب) أو (لا يبخل) كان كلامك هذا مجرّد دعوى لا دليل عليها. أماإذا زدت كلمة المثل وقلت: (مثل فلان لا يكذب) أو (لا يبخل) فكأنك دعمتكلامك بحجة وبرهان، إذ من كان على صفاته وشيمه الكريمة لا يكون كذلك. لأنوجود هذه الصفات والنعوت ممّا تمنع الاستفسال إلى رذائل الأخلاق. وهذامنهج حكيم وضع عليه اسلوب كلامه تعالى. وأن مثله تعالى ذا الكبرياءوالعظمة لا يمكن أن يكون له شبيه أو أن الوجود لا يتسع لاثنين من جنسه..(4).
فقدجيء بأحد لفظي التشبيه ركناً في الدّعوى، وبالآخر دعامة لها وبرهاناًعليها. وهذا من جميل الكلام وبديع البيان، ومن الوجيز الوافي.
وقالتعالى ـ بصدد بيان لا نهائية فيوضه عزّت آلاؤه ـ: (ولو أن ما في الأرض منشجرة أقلام والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله) لقمان: 27.
هذهمقارنة بين المحدود واللاّمحدود، وأن المحدود مهما بلغ عدده وتضخم حجمه،فإنه لا يُقاس بغير المحدود .. إذ ذاك ينتهي وهذا لا ينتهي، ولا مناسبةبين ما ينتهي إلى أمد مهما طال أو قصر، وما يمتدّ إلى ما لا نهاية أبداً..
والكلمة ـ في هذه الآية ـ يُراد بها الوجود المفاض بأمره تعالى، المتحقق بقوله: (كن)
قال تعالى: (إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) (يس: 82).
وكلّموجود ـ في عالم الخلق، وهو ما سوى الله ـ فهو كلمته تعالى. كما أطلق علىالمسيح ـ عليه السلام ـ كلمة الله. (وكلمته ألقاها إلى مريم) (النساء:171) (5).
والمعنى:أنه لو جعلت الأشجار أقلاماً والأبحر مداداً، ليكتب بها كلمات الله، لنفدتالأقلام والمداد، قبل أن تنفد كلمات الله، لأنها غير متناهية.. وذلك لأنكلماته تعالى إفاضات، ولا ينتهي فيضه تعالى إلى أمد محدود أبداً..
وقالتعالى ـ ردّا على إحتجاج اليهود ـ: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل اللهقالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحقّ مصدّقاً لما معهم)(البقرة: 91).
امتنعتاليهود من اعتناق الإسلام، بحجة أنهم على طريقة نبيهم موسى عليه السلاموعلى شريعته. ولذلك لا يمكنهم إتخاذ سيرة أخرى والإيمان بشريعة سواها.
هذا اعتذار زعمت اليهود وجاهته في منابذة الإسلام.. وقد فنّد القرآن هذا التذرّع الكاسد والاحتجاج الفاسد.
إذلا منافرة بين الشريعتين ولا منافاة بين الطريقين، والكلّ يهدف مرمىواحداً، ويرمي هدفاً واحداً.. وقد جاء الأنبياء جميعاً لينيروا الدّرب إلىصراط الله المستقيم، صراطاً واحداً وهدفاً واحداً، لا تنافر ولا تنافي ولاتعدّد ولا اختلاف.
والدليلعلى ذلك أن هذا القرآن يصدّق بأنبياء سالفين وبشرائعهم وكتبهم وما بلّغوامن رسالات الله. ولو كان هناك تناف وتنافر لما صحّ هذا التصديق.
وقدجاء هذا التصديق بلفظة (مصدّقاً لما بين يديه) في ثمانية مواضع من القرآن(البقرة: 97. وآل عمران: 3. والمائدة: 47 و48، والأنعام: 92، وفاطر: 31.والأحقاف: 30).
وبلفظة (مصدّقاً لما معهم) في موضعين (البقرة: 89 و101).
وبلفظة (مصدّقاً لما معكم) في أربعة مواضع (البقرة: 41 و91. وآل عمران: 11. والنساء: 47).
ومن ثمّ قال: (إنّ الدّين عند الله الإسلام. وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم..).
(فإن حاجّوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعني..).
(وقلللّذين أوتوا الكتاب والأمّيين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا. وإن تولّوافإنّما عليك البلاغ. والله بصير بالعباد) (آل عمران: 20).
وفي الآية وما يتعقبها نكات وظرف دقيقة:
منها: قوله: (مصدّقاً لما معهم) أو (مصدّقاً لما معكم) ـ في آية أخرى ـ وهذا تنويه بأن المتبقى من التوراة ليس كلها وإنّما هو
بعضها..لكنه لم يقل: (لما بقي من التوراة عندكم) وعبّر بما معكم.. لئلا يتنبّهاليهود إلى ذريعة أخرى لعلّهم يتذرّعون بها.. هو أنّ المنافرة إنما كانتبين القرآن وما ذهب من التّوراة.. فيجادلون الإسلام بهذه الطريقة.. وهيطريقة أخذ ما تسالم الخصم دليلاً عليه..
ولم يقل: (مصدقاً بالتوراة عندكم).. لأنه حينذاك كان اعترافاً بأن الموجود هو تمامها لا بعضها..
فأتىبما لا يمكنهم المخاصمة جدلاً، ولا كان اعترافاً بصدق ما عندهم انه توراةكلّه.. وهذا من دقيق التعبير الذي خصّ به القرآن الكريم..
وأيضاًفي التعقيب بقوله: (فلم تقتلون أنبياء الله ـ 91) نسبة القتل إليهمبالذّات، لأنهم رضوا بفعل آبائهم ومشوا على طريقتهم ولو قال: فلم قتلاباؤكم.. لكان فيه حديث أخذ الجار بذنب الجار.. وكان أشبه بمحاجة الذئب،عدا على جمل صغير، بحجة أنّ أباه قد عكّر الماء عليه في قناة كان يشربمنها.. (6).
إقناع العقل وإمتاع النفس:
ميزةأخرى في احتجاجات القرآن، هو حينما يحاول إخضاع العقل، ببراهينه المتينة،تراه لا يتغافل عن امتاع النفس بلطائف كلامه الظريفة، ورقائق بيانه العذبةالسائغة جامعاً بين أناقة التعبير وفخامة المحتوى، سهلاً سلساً يستلذهالذّوق ويستطيبه الطبع، عذباً فراتاً لذّةً للشاربين.
إنّللنفس الإنسانية جهتين: جهة تفكير يكون مركزه العقل، وجهة إحساس يكونمركزه وجدان الضمير، وحاجة كلّ واحدة منهما غير حاجة أختها، فأمّا إحداهمافإنها تنقّب عن الحقّ لمعرفته أوّلاً، وللعمل به ثانياً.
وأمّا الأخرى فإنها تحاول تسجيل أحاسيسها بما في الأشياء من لذّة وألم، ومتعة وغذاء للنفس.
والبيانالتّام هو الذي يوفّي لك للحاجتين جميعاً، ويطير بنفسك بكلا الجناحين،فيؤتيها حظها من الفائدة العقليّة، إلى جنب إيفائها متعة الوجدان وإشباعغريزتها في عواطف الإحساس.
أمّاالحكماء فإنما يؤدّون إليك ثمار عقولهم غذاًء لعقلك، ولا يهمهم جانباستهواء نفسك ونهم عاطفتك، يقدّمون حقائق المعارف والعلوم، لا يأبهون لمّافيها من جفاف وعري ونبوّ عن الطباع.
وأماالشعراء فانما يسعون الى استثارة وجدانك وتهييج عواطفك وأحاسيسك وإمتاعسمعك وضميرك، فلا يبالون بما صوّروه لك أن يكون غيّاً أو رشداً، وأن يكونحقيقةً أو تخيلاً، فتراهم جادّين وهم هازلون، يستبكون وإن كانوا لا يبكون،ويُطربون وإن كانوا لا يطربون (والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم فيكلّ وادٍ يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون) (7).
وكل ّ إنسان حينما يفكرّ فإنما هو فيلسوف، وكل إنسان حينما يحسّ فإنما هو شاعر..
ولاتتكافأ القوتان: قوّة التفكير وقوّة الوجدان.. وكذا سائر القوى النفسيةعلى سواء .. ولو مالت هذه القوى إلى شيء من التّعادل عند قليل من الناس،فإنها لا تعمل في النفس دفعةً وبنسبة واحدة.. بل متناوبة في حال بعد حال،وكلما تسلطت قوّة اضمحلّت أخرى وكاد ينمحي أثرها.. فالذي ينهمكُ فيالتفكير تتناقص قوّة وجدانه، والذي يسعى وراء لذائذه، عند ذاك تضعف قوّةتفكيره.. وهكذا لا تقصد النفس إلى هاتين الغايتين قصداً واحداً أبداً. (ماجعل الله لرجل من قلبين في جوفه)(.
وكيفتطمح أن يهب لك إنسان مثلك، هاتين الطلبتين على سواء، وهو لم يجمعهما فينفسه على سواء، وما كلام المتكلّم إلا إنعكاس الحالة الغالبة عليه، (وكلّإناء بالذي فيه ينضح). (قل كلّ يعمل على شاكلته)(9) وفاقد الشيء لا يستطيعأن يمنحك به.
هذامقياس يمكنك أن تتبين فيه ما لكلّ لسان وما لكلّ قلم من قوّة غالبة عليه،حينما ينطق وحينما يكتب. فإذا رأيته يتجه إلى حقيقة فرغ له بعدما قضى وطرهممّا مضى .. عرفت بذلك أنه يضرب بوترين، ويتعاقب على نفسه الشعور والتفكيرتعاقب الليل والنهار لا يجتمعان.
وأماأن اسلوباً واحداً يتجه اتجاهاً واحداً، ويستهدف هدفاً واحداً، ويرمي إلىغرض واحد، ولكنه مع ذلك قد جمع لك بين الطريقتين: إقناع عقلك وإمناع نفسكمعاً، وفي آن واحد وفي كلام واحد.. كما يحمل العنصر الواحد من الشجرةالواحدة، أوراقاً وأثماراً، أنواراً وأزهاراً، معاً، أو كما يجري الرّوحفي الجسد والماء في العود الأخضر.. فذلك ما لا تظفر به في كلام بشر علىالإطلاق، ولا هو من سنن الله في النفس الإنسانية.. (ما جعل الله لرجل منقلبين في جوفه) (10).
فمنأين لك بكلام واحد وبيان واحد واسلوب واحد، يفيض عليك من الحقيقةالبرهانيّة والدّلائل العقلانية، بما يرضي أولئك الفلاسفة الحكماء،والمتعمقين النبلاء، ويرضخ بعقولهم الجبارة..
وإلىجانب ذلك ـ وفي نفس الوقت ـ يضفي عليه من المتعة الوجدانية والعذوبةوالحلاوة والطلاوة، ما يسدّنهم هؤلاء الشعراء المرحين وأصحاب الأذواقالرقيقة الفكهين..
ذلكهو الله ربّ العالمين، الذي لا يشغله شأن عن شأن، القادر على أن يخاطبالعقل والقلب معاً بلسان واحد، وأن يمزج الحقّ والجمال جميعاً، يلتقيانولا يبغيان.. فيستخرج منهما اللؤلؤ والمرجان.. ويسقيك من هذا وذاك شراباًطهوراً، عذباً فراتاً، سائغاً لذّةً للشاربين.
هذاهو الذي تجده في كتاب الله الكريم، حيثما توجّهت وأينما تولّيت بوجهك..إنه في فسحة قصصه وأخباره عن الماضين لا ينسى حق العقل من حكم وعبر.. وأنهفي مزدحم براهينه ودلائله، لا يغفل حظّ القلب من رغبة ورهبة وشوق ورجاء..يبث ذلك بوفرة شاملة، في جميع آياته وبيناته، في مطالعها ومقاطعهاوتضاعيفها، الأمر الذي (تقشعرّ منه جلود الذين يخشون ربّهم ثم تلين جلودهموقلوبهم الى ذكر الله)(11). (إنّه لقولُ فصل وما هو بالهزل)(12).(صدق اللهالعلي العظيم)
نقلاً عن موقع التقريب نت.
الهوامش:
(1) الميزان: ج17، ص267ط/ بيروت.
(2) الأنعام: 14.
(3) الزمر: 63.
(4) راجع: النبأ العظيم: ص128.
(5) راجع: الميزان: ج16، ص245.
(6) راجع: النبأ العظيم: ص117.
(7) الشعراء: 224 ـ 226.
( الأحزاب: 4.
(9) الاسراء: 84.
(10) الأحزاب: 4.
(11) الزّمر: 23.
محمد هادي معرفة
إمتازالقرآن في استدلالاته بالجمع بين اسلوبين متنافيين في شرائطهما، هما:أسلوب الخطابة واسلوب البرهان. ذاك إقناع للعامة بما يتسالمون به منمقبولات مظنونات وهذا إفهام للخاصّة بما يتصادقون عليه من أوّلياتيقينيات..
ومنالممتنع عادةً أن يقوم المتكلّم بإجابة ملتمس كلا الفريقين، ليجمع بينالظن واليقين في خطاب واحد.. الأمر الذي حققه القرآن فعلاً بعجيب بيانهوغريب اسلوبه.
والبرهان:ما تركب من مقدمات يقينية، سواء أكانت ضرورية (بديهية أو فطرية) أم كانتنظرية (منتهية إلى الضروريات). والقضايا الضرورية ستة أنواع:
1- وهيقضايا قياساتها معها. يكفي في الجزم بالحكم مجرّد تصور الطرفين، كقولناالكلّ أعظم من الجزء). أو مع تصوّر الواسطة وحضورها في الذهن، كقولناالأربعة زوج) لأنه ينقسم إلى متساويين.
2- مشاهدات: هي قضايا محسوسة بالحواسّ الظاهرة كإضاءة الشمس.
3- وجدانيات: منشؤها الحسّ الباطني كالإحساس بالخوف والغضب.
4- متواترات: أخبار جماعة يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب والاختلاق.
5- مجربات: يحصل الجزم بالنتيجة علىأثر تكرّر المحسوس.
6- حدسيات:هي سرعة الانتقال من المبادئ إلى المطالب. ويقابلها الفكر، الذي هو حركةالذهن نحو المبادئ ثم رجوعه إلى المطالب، فلا بُدّ فيه من حركتين، علىخلاف الحدس، إذ لا حركة فيه. لأن الحركة تدريجية، والانتقال آني.
أمّا الخطابة فهي ما تركّب من مقدّمات كانت مقبولة معتقداً بها لأمر سماوي أو لمزيد عقل ودين.
ونظيرها الجدل: المتركّب من قضايا مشهورات تقبّلتها العامة وخضعت لها أعرافهم ونسجت عليها طبائعهم، فألفوها وأذعنوا بها إذعاناً.
أو قضايا مسلمات تسلّم بها المخاطبون كأصول مفروضة مسلم بها.
والقرآن الكريم قد استفاد في دلائله من كل هذه الأساليب، وفي الأكثر جمع بينها في خطاب مع العامة يشترك معهم الخواّص.
هذا غاية في القدرة على الإستدلال وإقامة البرهان..
ولنضرب لذلك أمثلة:
1- قالتعالى ـ بصدد نفي آلهة غير الله ـ: (لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا)(الأنبياء: 22). هذه الآية ـ بهذا النمط من الإستدلال ـ في ظاهرها البدائياحتجاج على أساس الخطابة والإقناع، قياساً على العرف المعهود، أن التعددفي مراكز القرار سوف يؤدي إلى فساد الإدارة.. ونظيرها آية أخرى: (ما اتخذالله من ولد وما كان معه من إله، إذن لذهب كل إله بما خلق، ولعلا بعضهمعلى بعض، سبحان الله عما يصفون) (المؤمنون: 91).
يقولالعلامة الطباطبائي: وتقرير الحجّة في الآية، انه لو فرض للعالم آلهة فوقالواحد، لكانوا مختلفين ذاتا، متباينين حقيقة. وتباين حقائقهم يقضي بتباينتدبيرهم، فتتفاسد التدابير، وتفسد السماء والأرض..(1).
وهذا النمط من الإستدلال، طريقة عقلانية يتسلمها العرف العام قياساً على ما ألفوه في أعرافهم.
ولكن إلى جنب هذا، فهو استدلال برهاني دقيق، قوامه الضرورة واليقين، وليس مجرّد قياس إقناعي صرف.
ذلكأنّ الآية دلّت العقول على أن تعدّد الآلهة، المستجمعة لصفات الألوهيةالكاملة، يستدعي إما عدم وجود شيء على الإطلاق، وذلك هو فساد الأشياء حالالإيجاد.. أو أنها إذا وجدت وجدت متفاوتة الطابع متنافرة الجنسيات، الأمرالذي يقضي بفسادها، إثر وجودها وعدم إمكان البقاء.
وذلكلأنه لو توجهت إرادتان مستقلتان من إلهين مستقلين ـ في الخلق والتكوين ـإلى شيء واحد، يريد أنّ خلقه وتكوينه .. فهذا مما يجعله ممتنع الوجود،لإمتناع صدور الواحد إلاّ من الواحد، إذ الأثر الواحد لا يصدر إلاّ مماكان واحداً. ولا تتوارد العلتان على معلول واحد أبداً.
وفرض وجوده عن إرادة أحدهما، مع استوائهما في القدرة والإرادة، فرض ممتنع. لأنه ترجيح من غير مرجح، بل ترجح من غير مرجح، وهو مستحيل.
ولوتوجّهت إرادة أحدهما إلى إحداث شيء وأراد الآخر عدم إحداثه! فلو تحققتالإرادتان، كان جمعاً بين النقيضين.. أو غلبت إحداهما الأُخرى، فهذا ينافيالكمال المطلق المفروض في الإلهين.. وإلا فهو ترجيح من غير مرجح.
ولوتوجهت إرادة أحدهما إلى إحداث نظام ومخلوق، والأخر إلى نظام ومخلوق غيره..إذن لذهب كل إله بما خلق .. ولكان هناك نظامان وعالمان مختلفان في الخلقوالنظام، وهذا الإختلاف في البنية والنظام يستدعي عدم التآلف والوئاموالانسجام، وسوف يؤدّي ذلك إلى تصادم وأن يطغى أحدهما على الآخر ولعلابعضهم فوق بعض. الأمر الذي يقضي بالتماحق والتفاسد جميعاً..
وكلأولئك باطل بالمشاهدة، إذ نرى العالم قد وجد غير فاسد، وبقي غير فاسد.ونراه بجميع أجزائه، وعلى اختلاف عناصره، وتفاوت أوضاعه، من علوّ وسفلوخير وشّر، يؤدي وظيفة جسم واحد، تتعاون أعضاؤه مع بعضها البعض، وكل عضويؤدّي وظيفته بانتظام، يؤدي إلى غرض واحد وهدف واحد.. وهذه الوحدةالمتماسكة ـ غير المتنافرة ـ في نظام الأفعال، دليل قاطع على الفاعلالواحد المنظم لها بتدبيره الحكيم، وهو الله ربِّ العالمين.
وهذا هو البرهان القائم على قضايا يقينية في بديهة العقل.
وقال تعالى ـ بصدد نفي المثل ـ: (ليس كمثله شيء) (الشورى: 11).
جاءت الدّعوى مشفوعة ببرهان الامتناع، على طريقة الرّمز إلى كبرى القياس.
ذلكأن (المثل) المضاف إليه تعالى، رمز إلى الكمال المطلق، أي الذي بلغالنهاية في الكمال في جميع أوصافه ونعوته. الذي هو مقتضي الألوهيةوالرّبوبية المطلقة. لأنك إذا حققت معنى الألوهية فقد حققت معنى التقدمعلى كل شيء والمسيطر على كل شيء (فاطر السماوات والأرض)(2). (له مقاليدالسماوات والأرض)(3).
إذنفلو ذهبت تفترض الاثنينية في هذا المجال، وفرضت اثنين يشتركان في هذهالصفات التي هي غايات لجميع الأوصاف والنعوت، فقد نقضت وتناقضت فيافتراضك.. ذلك أنك فرضت من كل منهما تقدماً وتأخراً في نفس الوقت، وإنكلاً منهما مُنشئاً ومنُشأً. ومستعلى ومستعلى عليه.. إذ النقطة النهائيةمن الكمال، لا تحتمل اثنين، لأن النقطة الواحدة لا تنحلّ إلى نقطتين..وإلا فقد أحلت الكمال المطلق إلى كمال مقيد في الطرفين.. إذ تجعل كل واحدمنهما بالإضافة إلى صاحبه ليس سابقاً ولا مستعلياً.. فأنى يكون كل منهماإلهاً.. وللإله المثل الأعلى..؟!.
ويرجع تقرير الإستدلال إلى البيان التالي:
إن الإله هو ما استجمع فيه صفات الكمال وبلغ النهاية في الكمال..
ومثل هذا الوصف (مجمع الكمال) لا يقبل تعدّداً لا خارجاً ولا وهماً.
إذن فلا تعدّد في الآله، وليس له فردان متماثلان.
وهذا من أروع الاستدلال على نفي المثيل.
وكلمة(المثل) هذه، تكون إشارة إلى ما حواه المثيل من صفات وسمّات خاصّة تجعلهأهلاً لهذا النعت (إيجاباً أو سلباً) في القضية المحكوم بها.
مثلاًلو قيل ـ خطاباً لشخصية بارزة ـ: (أنت لا تبخل) كان ذلك دعوى بلا برهان.أما لو قيل له: (مثلك لا يبخل) فقد قرنت الدعوى بحجتها.. إذ تلك خصائصهومميّزاته هي التي لا تدعه أن يبخل، فكأنك قلت: (إنك لا تبخل، لأنّك حاملفي طيّك صفات ونعوتاً تمنعك من البُخل).
وهكذا جاءت الآية الكريمة:
إنمن كان على أوصاف الألوهية الكاملة، فإن هذا الكمال والاستجماع لصفاتالكمال، هو الذي يجعل وجود المثيل له ممتنعاً.. (بالبيان المتقدّم).
وعليه،فليست الكاف زائدة، كما زعم البعض. لأن المثل ـ على مفروض البيان ـ إشارةإلى تلك الصفات والسمات التي تحملها الذات المقدسة.. ولم يكن المراد منالمثل التشبيه، فهو بمنزلة (هو) محضاً.
فكان المعنى: ليس يُشبه مثله تعالى شيء، أي ليس يشبهه في كمال أوصافه ونعوته شيء.
قالالأستاذ درّاز: الآية لا ترمي نفي الشبيه له تعالى فحسب، إذ كان يكفي لذلكأن يقول: (ليس كالله شيء) أو(ليس مثله شيء). بل ترمي وراء ذلك دعم النفيبما يصلح دليلاً على الدّعوى والإنعات إلى وجه حجّة هذا الكلام وطريقبرهانه العقلي. ألا ترى أنّك إذا أردت أن تنفي نقيصة عن إنسان، فقلتفلان لا يكذب) أو (لا يبخل) كان كلامك هذا مجرّد دعوى لا دليل عليها. أماإذا زدت كلمة المثل وقلت: (مثل فلان لا يكذب) أو (لا يبخل) فكأنك دعمتكلامك بحجة وبرهان، إذ من كان على صفاته وشيمه الكريمة لا يكون كذلك. لأنوجود هذه الصفات والنعوت ممّا تمنع الاستفسال إلى رذائل الأخلاق. وهذامنهج حكيم وضع عليه اسلوب كلامه تعالى. وأن مثله تعالى ذا الكبرياءوالعظمة لا يمكن أن يكون له شبيه أو أن الوجود لا يتسع لاثنين من جنسه..(4).
فقدجيء بأحد لفظي التشبيه ركناً في الدّعوى، وبالآخر دعامة لها وبرهاناًعليها. وهذا من جميل الكلام وبديع البيان، ومن الوجيز الوافي.
وقالتعالى ـ بصدد بيان لا نهائية فيوضه عزّت آلاؤه ـ: (ولو أن ما في الأرض منشجرة أقلام والبحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله) لقمان: 27.
هذهمقارنة بين المحدود واللاّمحدود، وأن المحدود مهما بلغ عدده وتضخم حجمه،فإنه لا يُقاس بغير المحدود .. إذ ذاك ينتهي وهذا لا ينتهي، ولا مناسبةبين ما ينتهي إلى أمد مهما طال أو قصر، وما يمتدّ إلى ما لا نهاية أبداً..
والكلمة ـ في هذه الآية ـ يُراد بها الوجود المفاض بأمره تعالى، المتحقق بقوله: (كن)
قال تعالى: (إنّما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون) (يس: 82).
وكلّموجود ـ في عالم الخلق، وهو ما سوى الله ـ فهو كلمته تعالى. كما أطلق علىالمسيح ـ عليه السلام ـ كلمة الله. (وكلمته ألقاها إلى مريم) (النساء:171) (5).
والمعنى:أنه لو جعلت الأشجار أقلاماً والأبحر مداداً، ليكتب بها كلمات الله، لنفدتالأقلام والمداد، قبل أن تنفد كلمات الله، لأنها غير متناهية.. وذلك لأنكلماته تعالى إفاضات، ولا ينتهي فيضه تعالى إلى أمد محدود أبداً..
وقالتعالى ـ ردّا على إحتجاج اليهود ـ: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل اللهقالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحقّ مصدّقاً لما معهم)(البقرة: 91).
امتنعتاليهود من اعتناق الإسلام، بحجة أنهم على طريقة نبيهم موسى عليه السلاموعلى شريعته. ولذلك لا يمكنهم إتخاذ سيرة أخرى والإيمان بشريعة سواها.
هذا اعتذار زعمت اليهود وجاهته في منابذة الإسلام.. وقد فنّد القرآن هذا التذرّع الكاسد والاحتجاج الفاسد.
إذلا منافرة بين الشريعتين ولا منافاة بين الطريقين، والكلّ يهدف مرمىواحداً، ويرمي هدفاً واحداً.. وقد جاء الأنبياء جميعاً لينيروا الدّرب إلىصراط الله المستقيم، صراطاً واحداً وهدفاً واحداً، لا تنافر ولا تنافي ولاتعدّد ولا اختلاف.
والدليلعلى ذلك أن هذا القرآن يصدّق بأنبياء سالفين وبشرائعهم وكتبهم وما بلّغوامن رسالات الله. ولو كان هناك تناف وتنافر لما صحّ هذا التصديق.
وقدجاء هذا التصديق بلفظة (مصدّقاً لما بين يديه) في ثمانية مواضع من القرآن(البقرة: 97. وآل عمران: 3. والمائدة: 47 و48، والأنعام: 92، وفاطر: 31.والأحقاف: 30).
وبلفظة (مصدّقاً لما معهم) في موضعين (البقرة: 89 و101).
وبلفظة (مصدّقاً لما معكم) في أربعة مواضع (البقرة: 41 و91. وآل عمران: 11. والنساء: 47).
ومن ثمّ قال: (إنّ الدّين عند الله الإسلام. وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلاّ من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم..).
(فإن حاجّوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعني..).
(وقلللّذين أوتوا الكتاب والأمّيين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا. وإن تولّوافإنّما عليك البلاغ. والله بصير بالعباد) (آل عمران: 20).
وفي الآية وما يتعقبها نكات وظرف دقيقة:
منها: قوله: (مصدّقاً لما معهم) أو (مصدّقاً لما معكم) ـ في آية أخرى ـ وهذا تنويه بأن المتبقى من التوراة ليس كلها وإنّما هو
بعضها..لكنه لم يقل: (لما بقي من التوراة عندكم) وعبّر بما معكم.. لئلا يتنبّهاليهود إلى ذريعة أخرى لعلّهم يتذرّعون بها.. هو أنّ المنافرة إنما كانتبين القرآن وما ذهب من التّوراة.. فيجادلون الإسلام بهذه الطريقة.. وهيطريقة أخذ ما تسالم الخصم دليلاً عليه..
ولم يقل: (مصدقاً بالتوراة عندكم).. لأنه حينذاك كان اعترافاً بأن الموجود هو تمامها لا بعضها..
فأتىبما لا يمكنهم المخاصمة جدلاً، ولا كان اعترافاً بصدق ما عندهم انه توراةكلّه.. وهذا من دقيق التعبير الذي خصّ به القرآن الكريم..
وأيضاًفي التعقيب بقوله: (فلم تقتلون أنبياء الله ـ 91) نسبة القتل إليهمبالذّات، لأنهم رضوا بفعل آبائهم ومشوا على طريقتهم ولو قال: فلم قتلاباؤكم.. لكان فيه حديث أخذ الجار بذنب الجار.. وكان أشبه بمحاجة الذئب،عدا على جمل صغير، بحجة أنّ أباه قد عكّر الماء عليه في قناة كان يشربمنها.. (6).
إقناع العقل وإمتاع النفس:
ميزةأخرى في احتجاجات القرآن، هو حينما يحاول إخضاع العقل، ببراهينه المتينة،تراه لا يتغافل عن امتاع النفس بلطائف كلامه الظريفة، ورقائق بيانه العذبةالسائغة جامعاً بين أناقة التعبير وفخامة المحتوى، سهلاً سلساً يستلذهالذّوق ويستطيبه الطبع، عذباً فراتاً لذّةً للشاربين.
إنّللنفس الإنسانية جهتين: جهة تفكير يكون مركزه العقل، وجهة إحساس يكونمركزه وجدان الضمير، وحاجة كلّ واحدة منهما غير حاجة أختها، فأمّا إحداهمافإنها تنقّب عن الحقّ لمعرفته أوّلاً، وللعمل به ثانياً.
وأمّا الأخرى فإنها تحاول تسجيل أحاسيسها بما في الأشياء من لذّة وألم، ومتعة وغذاء للنفس.
والبيانالتّام هو الذي يوفّي لك للحاجتين جميعاً، ويطير بنفسك بكلا الجناحين،فيؤتيها حظها من الفائدة العقليّة، إلى جنب إيفائها متعة الوجدان وإشباعغريزتها في عواطف الإحساس.
أمّاالحكماء فإنما يؤدّون إليك ثمار عقولهم غذاًء لعقلك، ولا يهمهم جانباستهواء نفسك ونهم عاطفتك، يقدّمون حقائق المعارف والعلوم، لا يأبهون لمّافيها من جفاف وعري ونبوّ عن الطباع.
وأماالشعراء فانما يسعون الى استثارة وجدانك وتهييج عواطفك وأحاسيسك وإمتاعسمعك وضميرك، فلا يبالون بما صوّروه لك أن يكون غيّاً أو رشداً، وأن يكونحقيقةً أو تخيلاً، فتراهم جادّين وهم هازلون، يستبكون وإن كانوا لا يبكون،ويُطربون وإن كانوا لا يطربون (والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم فيكلّ وادٍ يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون) (7).
وكل ّ إنسان حينما يفكرّ فإنما هو فيلسوف، وكل إنسان حينما يحسّ فإنما هو شاعر..
ولاتتكافأ القوتان: قوّة التفكير وقوّة الوجدان.. وكذا سائر القوى النفسيةعلى سواء .. ولو مالت هذه القوى إلى شيء من التّعادل عند قليل من الناس،فإنها لا تعمل في النفس دفعةً وبنسبة واحدة.. بل متناوبة في حال بعد حال،وكلما تسلطت قوّة اضمحلّت أخرى وكاد ينمحي أثرها.. فالذي ينهمكُ فيالتفكير تتناقص قوّة وجدانه، والذي يسعى وراء لذائذه، عند ذاك تضعف قوّةتفكيره.. وهكذا لا تقصد النفس إلى هاتين الغايتين قصداً واحداً أبداً. (ماجعل الله لرجل من قلبين في جوفه)(.
وكيفتطمح أن يهب لك إنسان مثلك، هاتين الطلبتين على سواء، وهو لم يجمعهما فينفسه على سواء، وما كلام المتكلّم إلا إنعكاس الحالة الغالبة عليه، (وكلّإناء بالذي فيه ينضح). (قل كلّ يعمل على شاكلته)(9) وفاقد الشيء لا يستطيعأن يمنحك به.
هذامقياس يمكنك أن تتبين فيه ما لكلّ لسان وما لكلّ قلم من قوّة غالبة عليه،حينما ينطق وحينما يكتب. فإذا رأيته يتجه إلى حقيقة فرغ له بعدما قضى وطرهممّا مضى .. عرفت بذلك أنه يضرب بوترين، ويتعاقب على نفسه الشعور والتفكيرتعاقب الليل والنهار لا يجتمعان.
وأماأن اسلوباً واحداً يتجه اتجاهاً واحداً، ويستهدف هدفاً واحداً، ويرمي إلىغرض واحد، ولكنه مع ذلك قد جمع لك بين الطريقتين: إقناع عقلك وإمناع نفسكمعاً، وفي آن واحد وفي كلام واحد.. كما يحمل العنصر الواحد من الشجرةالواحدة، أوراقاً وأثماراً، أنواراً وأزهاراً، معاً، أو كما يجري الرّوحفي الجسد والماء في العود الأخضر.. فذلك ما لا تظفر به في كلام بشر علىالإطلاق، ولا هو من سنن الله في النفس الإنسانية.. (ما جعل الله لرجل منقلبين في جوفه) (10).
فمنأين لك بكلام واحد وبيان واحد واسلوب واحد، يفيض عليك من الحقيقةالبرهانيّة والدّلائل العقلانية، بما يرضي أولئك الفلاسفة الحكماء،والمتعمقين النبلاء، ويرضخ بعقولهم الجبارة..
وإلىجانب ذلك ـ وفي نفس الوقت ـ يضفي عليه من المتعة الوجدانية والعذوبةوالحلاوة والطلاوة، ما يسدّنهم هؤلاء الشعراء المرحين وأصحاب الأذواقالرقيقة الفكهين..
ذلكهو الله ربّ العالمين، الذي لا يشغله شأن عن شأن، القادر على أن يخاطبالعقل والقلب معاً بلسان واحد، وأن يمزج الحقّ والجمال جميعاً، يلتقيانولا يبغيان.. فيستخرج منهما اللؤلؤ والمرجان.. ويسقيك من هذا وذاك شراباًطهوراً، عذباً فراتاً، سائغاً لذّةً للشاربين.
هذاهو الذي تجده في كتاب الله الكريم، حيثما توجّهت وأينما تولّيت بوجهك..إنه في فسحة قصصه وأخباره عن الماضين لا ينسى حق العقل من حكم وعبر.. وأنهفي مزدحم براهينه ودلائله، لا يغفل حظّ القلب من رغبة ورهبة وشوق ورجاء..يبث ذلك بوفرة شاملة، في جميع آياته وبيناته، في مطالعها ومقاطعهاوتضاعيفها، الأمر الذي (تقشعرّ منه جلود الذين يخشون ربّهم ثم تلين جلودهموقلوبهم الى ذكر الله)(11). (إنّه لقولُ فصل وما هو بالهزل)(12).(صدق اللهالعلي العظيم)
نقلاً عن موقع التقريب نت.
الهوامش:
(1) الميزان: ج17، ص267ط/ بيروت.
(2) الأنعام: 14.
(3) الزمر: 63.
(4) راجع: النبأ العظيم: ص128.
(5) راجع: الميزان: ج16، ص245.
(6) راجع: النبأ العظيم: ص117.
(7) الشعراء: 224 ـ 226.
( الأحزاب: 4.
(9) الاسراء: 84.
(10) الأحزاب: 4.
(11) الزّمر: 23.
(12) الطارق: