منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    العدول في القرآن الكريم 2

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    العدول في القرآن الكريم   2 Empty العدول في القرآن الكريم 2

    مُساهمة   السبت مايو 01, 2010 6:42 am

    أفعال تفيد التجدد في البكاء والمناجاة والشكوى، وانها توحي بالاستمرار الشعوري لهذا الحدث او هو يوميء الى ما يصاحب التجدد من حالات وجداني. فالفعل المضارع يعطي الموقع الوجداني للظاهرة المتجددة ومن ثم فهو ينقلنا من البكاء والمناجاة الى العزلة النفسية والغربة والانفراد([81]).

    العدول عن النظام الإعرابي :

    ولإتمام دراستنا الاسلوبية في هذا الفصل، أتناول بعض النصوص القرآنية التي يبدو فيها العدول عن قواعد النحو المألوفة واضحاً، في ضوء المنهج الذي التزمناه والذي يعني بنظام اللغة العربية.

    إن التطبيق الاسلوبي ينبغي ان يبنى على جوهر العربية وأسرار نظامها، ذلك إنّ نظامها هو اسلوبها الذي يميزها عن سائر اللغات الأخرى. ومن غير ربط التحليل الاسلوبي بالنظام الكلي للعربية، تعاني الدراسة الاسلوبية وتطبيقها على النصّ القرآني نقصاً كبيراً، لا تتوصل الى نتائج علمية مستقيمة تتناسب مع أساليب العربية وطبيعتها المختلفة عن أنظمة اللغات الغربية وآدابها التي وضعت لها المناهج الاسلوبية الحديثة دراسةً وتحليلاً وتطبيقاً.

    إنّ نظام النصوص العربية جزء من دلالاتها وإنّ العدول جزء من هذا النظام، نحاول كشفه، وفي ضوء الاسلوبية العربية الإسلامية للوقوف على أسرار العدول ودلالاته الثانية.

    ولسنا ملزمين بمتابعة الأعمال السابقة والقراءات الاسلوبية السابقة وتقليدها، عربية كانت او غربية، ولا نسعى الى أن يكون تطبيقنا الاسلوبي نسخة معدّله منها، ولا إلى جعل المصطلحات الحديثة المترجمة او المستحدثة هدفاً ولا نتخذ المناهج الوافدة في تحليل النصّ القرآني المقدّس، او دراسة إعجاز القرآن دراسة غربية ملفقة لا ترى خصوصية لكلام الله تعالى كما فعل ذلك بعض الدارسين([82]) فهي إن صلحت لتحليل الشعر والقصة والأنواع الأدبية الأخرى، لا تصلح لدراسة النصّ القرآني إلاّ إكراهاً.

    وكذلك توزيع الدراسة على مستويات لغوية أربع هي: المستوى الصوتي والمستوى الصرفي والتركيبي والدلالي، فضلاً عن التصويري او البياني، التي لا تكاد دراسة اسلوبية معاصرة او لغوية تخلو منها([83]).

    ناهيك عن سعة الاسلوبية وعدم استقرارها وكثرة مناهجها ونظرياتها وتطفلها على علوم مختلفة، وعدم الاتفاق على تعريف محدد لها.

    لا نعني عدم صلاحية تطبيق الدرس الاسلوبي على العدول في النص القرآني قال د. محمد الدجيلي: "إن تطبيق النظرية الإنسانية على النصّ القرآني ليس إخلالاً بحرمة القرآن، وإنما إضافة بعض موارد الكمال القرآني الى النظرية الإنسانية من مبدأ أن النصّ القرآني) لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ((سورة فصلت:42)، إما النظرية الإنسانية فمثقلة بالباطل، وقسم منها يدور في فلك الخيال، أما النصّ القرآني فواقع دائماً"([84]).

    وليس الاسلوبية تشترط أن يكون منهج الأطروحة تقليداً أو نسخة من التطبيقات السابقة، فنعقد مباحث لعلم المعاني وخروج الدلالة الى المعاني المجازية أو التنغيم والتكرير اللفظي والصوتي والجناس والفاصلة، والعاطفة والخيال والموسيقى الداخلية والخارجية والمحسنات اللفظية والمعنوية والمجالات الدلالية للسور كالجهاد والتشريع والتقابل والتماثل وغير ذلك([85]).

    فضلاً عن عدم اتفاقهم على معيار محدد للعدول عن القياس، الذي هو يختلف في دراستنا عن انزياح كوهن وغيره وقد توسعوا به حتى عدّوا الشعر والاسلوبية او الاسلوب كلها انزياحاً وانحرافاً او انتهاكاً للمألوف عن الدلالة لا التركيب.

    إنّ مناهج الاسلوبية متعددة وفهمها يختلف بحسب هذه المناهج لكنها تتفق على استنباط الدلالات الإيحائية من النص ومكوناته. ومنهجنا يتصل بالاسلوبية من حيث استنباط الدلالات من نظام العربية والعدول الذي يحدث في ضوء هذا النظام نفسه (والجديد) الذي يمكن ان نقدمه الى ذلك وهو يتصل بموضوع الاسلوبية كونها تعنى بالدلالات غير المباشرة، الدلالات الثانية او الأسرار البيانية التي يؤديها نظام العربية.

    فقد تحدّث البلاغيون عن حسن نظم العبارة القرآنية وجمال اسلوبها ودقة اختيار ألفاظها وملائمتها للمعنى وسبكها في تسلسل منطقي على وفق نظام متماسك، وموقعها وشكل بنيتها والأصوات الموحية بدلالة بنية اللفظ والتركيب بحيث لا نجد بديلاً عنها في دقة التعبير و الاحاطة بالمعنى والمعاني المجازية التي تخرج إليها، وما تناوله البلاغيون في علوم المعاني والبيان والبديع، وعلماء الإعجاز في حسن اسلوب القرآن ونظمه المتناسق: اصواتاً وبنى وتراكيب([86]). وأعجبهم ذلك حتى عدّوه وجه الإعجاز القرآني.

    إنما سببه (المشابهة) التي يبني عليها نظام اللغة العربية في مستوياتها: الصرفية والنحوية والبلاغية والدلالية وغيرها، كلها تنساق في ضوء نظام واحد هو تعليق الأصوات و الحروف والألفاظ والتراكيب والدلالات بعضها برقاب بعض وتحمل بعضها على بعض، في المستوى اللغوي الواحد من العربية، وفي المستويات بعضها على بعض، نظام واحد مطّرد لأداء المعنى القرآني المطلق الذي لا اختلاف فيه، الثابت كونه يحوي المتغيرات الزمانية والمكانية، فهو كالمعادلات الرياضية الثابتة وان تغيرت الأعداد داخلها بحسب المتغيرات.

    هذا النظام هو المعيار الذي نقيس عليه العدول في الاسلوب القرآني، وليس الأصل والفرع لدى القدامى، او اللغة النفعية والإبداعية لدى المعاصرين الغربيين، او نظرية تضافر القرائن لدى بعض الدارسين كما مرّ بنا.

    سأتناول في هذا المبحث خرق النظام الإعرابي في النصّ القرآني بالتحليل الاسلوبي والنحوي في ضوء نظام العربية مستنبطاً دلالات فنية وملامح اسلوبية. والنظام الإعرابي احد الأنظمة التي تعضد أنظمة العربية الأخرى، النظام الصرفي والنظام النحوي والنظام البلاغي كما مرّ بنا.

    وفي النصّ القرآني كثير من نحو هذا، بعضه لم يشر إليه القدامى في تناولهم اسلوب القرآن وإعجازه إلاّ ما ورد عرضاً في التفاسير ولاسيما النحوية واللغوية منها.

    وأقدم ما نسب الى بعض الصحابة (رضي الله عنهم) أنّهم قالوا: " إنّا نجد في القرآن لحناً وستقيمه الغرب بألسنتها" ونسبوا الى سعيد بن جبير، (رضي الله عنه)انه قال: "في القرآن أربعة أحرف لحنSmile وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ((سورة المائدة: 69)) وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً ((سورة النساء: 162) و) وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ((سورة البقرة: 177) و) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ( (سورة طـه:63)، وعن عائشة وابن عباس (رضي الله عنهما) قالا: انه من عمل الكتاب([87]) وقد ردّ الزمخشري بقوله: "إنما كتبها الكاتب وهو ناعس، وهذا ونحوه مما لا يصدق في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكيف يخفى هذا حتى يبقى ثابتاً بين دفتي الإمام، وكان مستقلباً في أيدي أولئك الأعلام المحتاطين في دين الله... هذه والله فرية ما فيها مرية"([88]).

    وقد أشاروا الى هذه الشواهد الأربعة ومثلها في القرآن الكريم كثير. وللحن دلالات كثيرة ليس بالضرورة الخطأ النحوي أو اللغوي([89]) فضلاً عن مكانة من نسبوا إليهم هذا القول في الإسلام الكبيرة، ومن يرجع الى التفاسير ولاسيما النحوية يجد كثرة الخلاف والآراء المتقاطعة في توجيه هذه النصوص وغيرها.

    فقد ذكر أبو حيان عشرات الآراء النحوية والتعليلات في سبب صرف (مصراً) في قوله تعالىSmile اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ((سورة البقرة: 61)، منها: انه مصرٌ من الأمصار غير معين، وقيل هو من إطلاق النكرة ويراد بها المعين، وقيل (مصر) المنونة هي الاسم العلم. وقيل لخفته كما صرف (هند و دعد) وفيهما العلمية والتأنيث لسكون وسطه، او بنزع الخافض، او صرف لأنه ذهب باللفظ مذهب المكان([90])، او فسّروه بالإتباع والحمل على الجوار، وحسن التخلص والاستطراد وغير ذلك من الآراء التي تدل على اضطراب في المنهج الذي تناولوا فيه العدول عن القياس النحوي في النصّ القرآني.

    الأسلوبيون يعدّون ذلك وغيره: خرقاً وانتهاكاً وانزياحاً وانحراقاً عن مقاييس اللغة، وقوة ضاغطة على حساسية القارئ، وحدة المفاجأة عليه ومنبهات اسلوبية([91]).

    ويرون: كلما كان الانزياح او الانحراف بعيداً كان أعلى بلاغة وأكثر عاطفة وإثارة وإبداعا وفناً.

    وهذا ردّ على طعن بعض المستشرقين المتحاملين غير المنصفين في النص القرآني الذين اتخذوا من العدول في لغته هدفاً لطعنهم وتشكيكهم بإعجاز القرآن كما مرّ بنا. وهو ردّ علمي من خلال أقوال اللغويين الغربيين أنفسهم وليس ردّاً عاطفياً انفعالياً كردّ بعض المسلمين([92]).

    يرى تمام حسان انه يجوز الترخّص في الإعراب بعدم مراعاته، وذلك للوصول بالرخصة الى غرض اسلوبي عدولي ما... وعلل ذلك بأنه يمكن خرق الإعراب لتضافر قرائن بيان المعنى زائدة عن المطلوب أحياناً فإذا زاد الإعراب عن مطالب بيان المعنى كما في (خرق الثوبُ المسمارَ) ونحوه أمكن الترخص في الإعراب، وقولهم: (هذا جحرُ ضبٍ خربٍ)([93]).

    وهي شواهد محددة اجترها النحاة في كتب النحو واللغة والبلاغة مشكوك في نسبتها، تختلف عن خرق الإعراب الوارد في النصّ القرآني وأغراضه الدلالية الدقيقة والجمالية.

    وقال في بعض الشواهد السابقة: نحو الترخص في (والمقيمين الصلاة): "تحفُّ به المرفوعات من أمامه وورائه والعلاقة بينه وبين هذه المرفوعات علاقة العطف بقرينة الواو. وإذا إتّضح العطف بقرينة غير الإعراب أمكن الترخص في الإعراب كما نراه واضحاً هنا"([94]).

    إن فكرة أمن اللبس غير كافية لتفسير خرق الإعراب في النصّ القرآني، ذلك بعضه ورد في آيات مشكلة المعنى اختلف فيها المفسرون تتقاطع مع شروط الدكتور تمام حسان للرخصة في أي قرينة، لا يتوقف عليها المعنى او أمن اللبس ومنها قرينة الإعراب.

    وقد أخذ فكرة أمن اللبس من النحاة الذين قيّدوا قواعدهم بأمن اللبس واشترطوه لصحتها وعدّوه أصلاً أساساً في وضع القواعد، فأوجبوا البقاء على الأصل في القاعدة النحوية إذا خشي اللبس وجواز الخروج عنه إذا أمن اللبس([95]). وهي فكرة منطقية تخالف واقع اللغة ونظامها الذي يسمح بهذا الخرق من خلال حمل الكلام بعضه على بعض او يبدو خرقاً بحسب المعيار النحوي التقليدي –)لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً ( (سورة النساء:162)، فقد ذهب بعضهم الى أن (المقيمين) نصِبت عطفاً على المعنى و لا أرى ذلك. وإنما هو اسلوب النصب على المدح وسمّوه قطع التابع عن متبوعه، ويجوز الرفع على الابتداء، والنصب بأعني او امدح او أذم بحسب المعنى. وقالوا يجوز عند النعوت إذا طالت ان يعترضوا بينها بالمدح او الذم([96]). وكذلك عند العطف وقد ورد هذا الاسلوب في النص القرآني في غير التوابع ومن غير إطالة، كقوله تعالىSmile وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ((سورة المسد:4) نصب (حمالة) على الشتم والذم وهو ضرب من الإيجاز.

    قال سيبويه : "هذا باب يجري من الشتم مجرى التعظيم وما أشبهه. تقول (أتاني زيدٌ الفاسق الخبيث... وزعم الخليل انه يقول: مررت به المسكين على البدل وفيه معنى التوهم، وان شئت رفعت (المسكين هو)" وعلى هذا يجوز في التوابع أكثرها. (وقال): "واعلم انه ليس كل موضع يجوز فيه التعظيم ولا كل صفة يحسن أن يعظم بها"([97]).

    وقد ردّ القاضي عبد الجبار من طعن في (والمقيمين الصلاة) بقوله: "جوابنا ان بعضهم قال هو نسق على ما التي في قوله (بها انزل إليك) فكأنه قال: أنهم يؤمنون بما انزل إليك وبالمقيمين الصلاة.

    وقيل أيضاً كأنه قال بما انزل إليك وما انزل من قبلك وبالملائكة المقيمين الصلاة. وقيل: كأنه قال: ويؤمنون بالمقيمين الصلاة. وقيل: كأنه قال و باقام الصلاة. وقيل: لما قال الكلام نصب المقيمين على وجه المدح([98]).

    وزعم الخليل: ان نصب هذا على انك لم ترد أن تحدِّث الناس ولا من تخاطب بأمر جهلوه،ولكنهم قد علموا من ذلك ما قد علمت، فجعله ثناء وتعظيماً ونصبه على الفعل كأنه قال: اذكر أهل ذاك، واذكر المقيمين، ولكنه فِعل لا يسبقه إظهاره"([99]).

    وقد يكون ذلك للتنبيه والتوكيد والاهتمام ولاسيما انه ورد في معرض ذكر الإيمان بالكتاب الكريم (بما انزل إليك) ونجد مثل هذا العدول يرد في مواضع ذكر الإيمان بالكتاب وبآياته وبالمتشابه والمحكم.

    - قال تعالىSmile وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ((سورة آل عمران: 7)، فكلما يذكر المتشابه يرد مشكل في الإعراب يتبعه أشكال دلالي وفي الآية الكريمة ورد الأشكال بوظيفة الواو بين العطف والاستئناف([100]). وكأنه تلميح الى أن التشابه في القرآن إنما يقع بسبب اللغة.

    إنّ لمواضع العدول دلالة أيضا تحتاج الى دراسة ففي أول سورة النساء وأخرها يكثر العدول عن القياس النحوي، ويكاد ينعدم في وسطها (150) آية تقريباً أي ان العدول يرد في الغالب في المتشابه أكثر منه في آيات الأحكام ذلك إنّ آيات الأحكام تحتاج الى وضوح وقد يدل ذلك على وضوح الشريعة الإسلامية واستمرارها أما الآيات المتشابه فيكثر فيها العدول لدلالات خفية دقيقة الله اعلم بها وفي ذلك ملمح اسلوبي يربط بين العدول في تركيب الآية وبين دلالتها العامة.

    - ومن الآيات مشكلة الإعراب التي تتقاطع مع قواعد النحو فكانت مسألة خلافية بين البصريين والكوفيين هي: (العطف على اسم إنّ قبل تمام الخبر) في قوله تعالىSmile إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( (سورة المائدة:69)، برفع (الصابئون) وهو معطوف على اسم (إنّ) المنصوب وقد وردت في آيات أخرى تتفق مع قواعد النحو.

    - قال تعالىSmile إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ((سورة البقرة:62).

    - وقوله تعالىSmile إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ( (سورة الحج:17).

    وقد أدلى النحاة فيها بدلاءٍ مختلفة. فالبصريون قالوا: محمول على التأخير ومرفوع بالابتداء، والمعنى: (إنّ الذين آمنوا والذين هادوا مَنْ آمنَ منهم بالله...والصابئون والنصارى كذلك).

    والكوفيون أجازوا العطف على موضع (إنّ) واسمها وهو (الابتداء) قبل تمام الخبر وهذا رأي الكسائي ومن تبعه من الكوفيين خلافاً للبصريين. ومهما كان توجيه النحاة وخلافهم فالمعنى واضح، وقد استشهد بالآية الدكتور حلمي خليل للغموض (الأقل وضوحاً) لكنه لم يؤدِ الى غموض المعنى، وقد فسّر الفراء عدم وقوع اللبس مع مخالفته الإعراب بأن الاسم الموصول (الذين) صرف على جهة واحدة في رفعه ونصبه وخفضه. وهو يقصد بذلك انه مبني فلما كان إعرابه واحداً جاز رفع (الصابئين)([101])، فدلالات الآية واضحة إلا إنّ العدول فيها أضاف دلالة بلاغية كان على الكوفيين والبصريين العناية بها أكثر من عنايتهم بالصنعة النحوية وتأويلها بالحمل على الموضع.

    ومنه تأويلهم جزم (أكنْ) في قوله تعالىSmile لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ((سورة المنافقون: 10) بـ "أنه معطوف على موضع الفاء من (فأصّدق)، فلما دخلت الفاء عملت في نصب (فأصدق) وبقيت (أكنْ) على حكمها"([102]).

    إنّ قضية العدول عن القياس النحوي إمّا أن تؤدي الى لبس وغموض أو لا تؤدي ولكن في كلا الحالين يؤدي العدول معنىً ثانياً بلاغياً وملمحاً اسلوبياً أو منبهاً واستجابة ودعوة الى التدبر فيه، ليس بالضرورة أن يتفق عليه المفسرون أو البلاغيون فتتعدد دلالاتها بحسب ذائقة المفسّر او البلاغي وموهبته الفنية ذلك أن المعنى الثاني معنى فني بلاغي جمالي متفلت عن المعيارية ([103])، وهو الذي يقصدون به بقولهم (المعنى الحركي) كما مرّ بنا لدى بعض المعاصرين، وبقول القدامى بأن القرآن حمّال أوجه.

    ومما اختلفوا فيه كثيراً قوله تعالىSmile فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى* قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى ((سورة طه: 62- 63} قُرأت (إنّ)، الذي لحّنها بعضهم([104]) لكنها لم تؤدِ الى لبس او غموض على الرغم من مخالفتها القياس النحوي قالوا: رفع (هذان) مع (إنّ) مخففة وهذا مبتدأ، وساحران خبر واللام فارقة.

    ويجوز أن يكون رفع (هذان) بالألف جرى مجرى من يعامل المثنى بالألف في حالات الرفع والنصب والجر([105]). يقولون:

    إنّ أباها وأبا أباها

    قد بلغا في المجد غايتاها

    قال السيوطي: "(إنّ واسمها) أي إنّ القصة وهذان مبتدأ خبره لساحران والجملة خبر إنّ([106]).

    قال ابو عبيدة: يزيدون وينقصون في الكتاب واللفظ صحيح وذكر مثله عيسى بن عمر([107]). لكن العدول هنا في دخول اللام على الخبر وليس في (إنْ) كما ذهبوا لأن اللام تدخل على خبر (إنّ) ولا تدخل بعد (إنْ) النافية. ونظام العربية يسمح بحمل إنْ على إنّ للتعبير عن معنى بلاغي.

    و إن تفسير بعض ظواهر العدول في النصّ القرآني باختلاف لهجات العرب يفقد الدلالات الدقيقة الاعجازية للعدول، وتجعل الدراسة البلاغية الاسلوبية للنصّ القرآني متعذرة ذلك أنها تتوخى المعنى من مكونات النصّ ولاسيما العدول الذي يشير دائماً الى دلالات بلاغية، لذلك كان منهج دراستنا أن ننأى عن خلط المستويات اللغوية بالنصّ القرآني، ولاسيما ان بعض الدارسين المعاصرين يرى اللهجات تجعل اللغة العربية غير منسجمة (ملفقة)([108]) مما يؤثر في نظامها ألاستعمالي.

    ومن تفسيراتهم للعدول عن القياس النحوي معالجته في ضوء التأثير الصوتي كالإتباع والحمل على الجوار، ومثلوا له بشواهد قليلة أهمها: (هذا جحرُ ضبٍّ خربٍ)([109])، وخرجوا قوله تعالى منهSmile يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ((سورة المائدة: 6)، بفتح (أرجلَكم) في النصّ القرآني وخفضها في بعض القراءات وهي مسألة فقهية خلافية([110]).

    قال السيوطي: "من قال انه مجرور على الجوار، لا يجوز لأن الجر على الجوار في نفسه ضعيف شاذ لم يرد منه إلاّ أحرف يسيرة والصواب انه معطوف على (برؤسكم) على ان المراد به مسح الخف"([111])، وسماه الزركشي: مشاكلة اللفظ للفظ([112]).

    وهو من باب (الإتباع) وهو باب واسع فسّروا به بعض الخروج عن القياس: الصرفي والتركيبي لتأثير الأصوات والكلمات بعضها في بعض بحيث يخرج عن القياس إذا امن اللبس، او لفوائد لغوية وصوتية، نحو قولهم: هنأني ومرأني والأصل أمرأني.

    ومنها رعاية الفاصلة وهو: "إتباع حركة حركة أخرى في كلمتين متجاورتين في الكلمة الواحدة"([113]) ككسر الجيم لإتباع الأخرى، في قولهم: (لا سمعت له حساً ولا جِرْساً) وإذا أفردت قلتَ جَرساً بالفتح.

    وقولهم (ساغب لاغب) و (خراب يباب) و (قسيم وسيم)... ومنه إتباع الكلمة في التنوين لكلمة أخرى منونة صحبتها، كقوله تعالىSmile إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالاً وَسَعِيراً ((سورة الانسان 4)، وقد مرّ بنا أنهم أجازوا خرق القياس النحوي رعاية للفاصلة او للمشكلة اللفظية وقد كثرت هذه الظاهرة في اسلوب السور المكية.

    وقد سمّاه البديعيون بـ (المحاذاة) وهي: أن يؤتى باللفظ على وزن لفظ آخر لأجل انضمامه إليه وان كان لا يجوز ذلك لو استعمل منفرداً كقولهم: أتيته الغدايا والعشايا، وتعساً له ونكساً وإنما هو بالضم وإنما فتح للازدواج([114]) ولكن هل له دلالة او هو تأثير صوتي شكلي حسب أعني الذي ورد مثله في النصّ القرآني لابدّ انه يحوي معنىّ ثانياً يستنبطه الاسلوبيون بذائقتهم الفنية.

    وانكر السيرافي وابن جني الحمل على الجوار، وفي ذلك خلافات وأراء كثيرة([115])، والى هذا دعا عباس حسن([116])، ولاسيما إن أقدم النصوص حول الحمل على الجوار لا تؤيد وقوعه، فقد عدّه الخليل غلطاً من بعض العرب. وقال سيبويه: "ومما جرى نعتاً على غير وجه الكلام: (هذا جحرُ ضبٍّ خربٍ)، فالوجه الرفع، وهو كلام اكثر العرب وأفصحهم وهو القياس. لأن الخرب نعت الجُحر والجحر رفع.

    ولكن بعض العرب يجرّه، وليس بنعت للضبّ. ولكنه نعت للذي أضيف الى (الضبّ) فجروه لأنه نكرة كالضب وسكنه في موضع يقيم فيه نعت الضبّ ولأنه صار هو والضب بمنزلة اسم واحد. ألا ترى انك تقول: (هذا حبّ رمّان)([117]).

    لقد وردت في النصّ القرآني شواهد كثيرة خرجت عن القياس النحوي سمّاها البلاغيون (أساليب) ومجازات وطرائق. ويبدو أنّ اصطلاح الاسلوب وأساليب أطلقت في الغالب لدى القدامى والمعاصرين على الظواهر غير القياسية، أو ما يخرج عن قواعد النحو كقولهم اسلوب العدول. وهم لا يقولون اسلوب الفاعل او اسلوب المفعول به وغير ذلك من الأبواب النحوية المطّردة.

    لكنهم يقولون: اسلوب النفي واسلوب التوكيد والشرط والنداء وغير ذلك، وإن لم يطرّد ذلك ولفظة (اسلوب) متعددة الدلالة قديماً وحديثاً، ولدى الغربيين ومن تبعهم من المعاصرين العرب. إلا إن دلالته على العدول أوضح واصحّ تفريقاً بين اللغة المطرّدة واللغة الصحيحة غير المطرّدة فالتضمين مثلاً اسلوب يراد به وجهاً ومعنىً بلاغياً دقيقاً مرتبطاً بالذائقة الفنية. وسنذكر عدداً من الشواهد محاولين استنباط دلالاتها البلاغية في ضوء النظام التركيبي العربية.

    قال تعالى:

    -) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ( (سورة البقرة:177)، في الآية الكريمة شاهدان:

    الأول: نصب اسم ليس: (البرَّ)

    قرأها أكثر القراء السبعة بالرفع على أنها اسم (ليس)([118])، وقد لاحظنا أنّ العدول عن القياس النحوي في النص القرآني قرأ بالوجه الذي يتفق مع القياس النحوي بالقراءات المختلفة، وإنْ كنا لم نستشهد بالقراءات لأنّ منهجنا استبعد القراءات وغيرها من المستويات اللغوية غير النصّ القرآني (الإمام)، لكتا ننبه هتا الى ان الشواهد القرآنية الكثيرة التي سنتناولها قد قُرأت بالوجه الذي يوافق القواعد النحوية في القراءات المختلفة.

    ويبدو كانت القراءات احد التوجيهات للعدول في لغة القرآن وكأنها تصحيح للعدول بحسب الوجه النحوي لاعتقاد بعض القراء إن ذلك من عمل الكتاب.

    أو يخرجونه على انه لهجة من لهجات القبائل العربية كقولهم في الآية الكريمة: (إنْ هذان لساحران) وغيرها.

    أو يلجؤون إلى التأويل والتقدير من حذف وتقديم وتأخير وغيرها، او لم يشيروا الى العدول في أثناء تفاسيرهم كالزمخشري الذي لم يتناول كثيراً من العدول على الرغم من ان العدول من اهتمام البلاغي وكان الزمخشري في تفسيره (الكشاف) بلاغياً، أكثر اهتماماً بالمعنى من الصنعة النحوية فهو لم يعالج نصب (البرَّ) وكذلك في أكثر الشواهد التي سنذكرها([119]). وكانت معالجته للعدول – في الغالب – على انه قُرء بقراءات توافق القياس النحوي.

    قال ابو حيان : " من قرأ بنصب (البر) جعله خبر ليس و(أن تولوا) في موضع الاسم 0 والوجه أن يلي المرفوع لأنها بمنزلة الفعل المتعدي وهذه القراءة من وجه اولى وهو أن

    جعل فيها اسم ليس: (أن تولوا). وجعل الخبر (البّر)، وأن وصلتها أقوى في التعريف من المعرّف بالألف واللام، وقراءة الجمهور أولى من وجه، وهو: ان توسط خبر ليس بينها وبين اسمها قليل " ([120]).

    وأضاف ابن عرفة وجهاً آخر هو أن "التولية معلومة والبّر مجهول أي ليست التولية برّاً"([121]). وقال ابن عاشور: "يكثر في كلام العرب تقديم الخبر على الاسم في باب كان وأخواتها إذا كان احد معمولي هذا الباب مركباً من ان المصدرية وفعلها، كان المتكلم بالخيار..."([122]).

    فقد لجأوا إلى التأويل لتستقيم الصنعة النحوية، فقدروا ترتيباً جديداً للتركيب لا يحتمله المعنى، أكره النصّ عليه، وقالوا بعلة واهية لهذا الترتيب هو (أن وصلتها) أقوى في التعريف من المعرّف بأل.

    أما في ضوء نظام العربية الذي يبنى على (المشابهة وتعلق الكلام بعضه برقاب بعض) فإن (البّر) بالنصب على أن (ليس) محمولة على فعل ينصب الاسم بعده كأن ألمشبهه بالفعل او إحدى أخواتها والجامع بينهما (نسخ الجملة بعدهما) ولهذا الحمل دلالة ثانية أضافها الى الدلالة الأولى للتركيب او توسع بالمعنى أداه التوسع في التركيب في ضوء نظام ألمشابهه الذي تبنى عليه العربية بكل مستوياتها. فهي عملية تشبيه يمكن توضيحها بالآتي:

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 07, 2024 9:11 am