اضواء - أحمد شوقي والصراع البلاغي للحضارات - الدهشة في مملكة شعرية مترامية - ناظم عودة
المواد التالفة : كيف يبني أحمد شوقي قصيدته؟ ذلك هو السؤال البسيط الذي ترغب هذه الدراسة في الإجابة عنه. لكن الإجابة ليست ببساطة التساؤل، فثمة أدوات ومواد، يُجهِد الشاعر نفسه في جمعها لإنشاء العمل الشعري. غير أنّ القارئ لا يلحظ عملية الجمع والتحضير، بل يلحظ العمارة الشعرية وقد بسطت أطرافها علي الورق. وعندما كان القارئ يحيا في عصر الإنشاد الشفاهي، فإنّ هندسة القصيدة كانت تتمثل تمثلاً متخيلاً في ذهنه.قفْ بروما وشاهدِ الأمرَ واشْهدْ
أنَّ للمُلكِ مالكاً سُبحانَــهْ
دولةٌ في الثري وأنقاضُ مُلْـكٍ
هَدَمَ الدهرُ في العلا بنيانَــهُ
مزقتْ تاجَهُ الخطوبُ وألقـتْ
في الترابِ الذي أري صولجانَه
طللٌ عند دمنةٍ عنــد رسـمٍ
ككتابٍ محا البِلي عنوانَــهْ
إنّ المواد اللغوية والأسلوبية التي يتلفها الشاعر، والمواد التي يُبقي عليها، تُعَدُّ إرشيفاً سيكولوجياً، مفعماً بالإشارات، ولا يمكن الاستغناء عنه مطلقاً. لقد كانت الدراسات الشعرية لا تملّ من الخوض في مسائل جدّ معقدة في الشكل والأسلوب واللغة والبلاغة والدلالة والإيقاع، وإلي ما هنالك من عناصر ظاهرة في شكل القصيدة. لكن البحث عن أثر ذي معني في المواد التالفة لم يكن ليحظي بالعناية ذاتها من لدن الدارسين التقليديين. بعكس الدراسات الحديثة، التي باتت تقف بريبة أمام تلك المواد، في محاولة للبحث عن المركز الحقيقي للنصّ.
موجهات خارجية
في قصيدة (رومة) يكشف أحمد شوقي النقاب عن بعض هذه المواد، ولا يعني ذلك أنّ هذه القصيدة وحدها التي تنطوي علي تلك المواد المحفزّة علي النظم، أو ما يمكن أن نطلق عليه (التاريخ المنسي) لنشأة القصيدة، وإنما لكل واحدة تاريخها المنسي. بوسعنا أن نصف أحمد شوقي نفسه بأنه مملكة شعرية مترامية الأطراف، لها إهراماتها البلاغية، وأجراسها التي لا تكفّ عن الإنشاد في حضن الطبيعة والتاريخ. ولأنه كذلك أراد أن يعلن علي رؤوس الأشهاد أن (الشعر ابن أبوين: التاريخ والطبيعة) (ص 230 الشوقيات، ج1 ـ مكتبة التربية ــ بيروت ــ 1994). وعندما نطق أحمد شوقي بهذه الفرضية فإنه أدلي بها في سياق رسالة شخصية أرسلها إلي صديقه المؤرخ (إسماعيل بك رأفت)، بعد أن طاف في بلاد الروم وأبصر ما فيها من آثار ومآثر. كما يصرّح في رسالته أيضاً عن باعثٍ آخر علي نظم هذه القصيدة، فقال موجهاً كلامه إلي صديقه المؤرخ: فوقفت أتأمل ذا الجدار وذا الجدار، وأنشد ذلك القصر وتلك الدار، إلي أن ثار الشعر... فنظمت، وكأني بها في يديك تقرأ (ص 230). ولكن علينا أن لا نطمئن كثيراً إلي ما يقوله أحمد شوقي، فبواعث النظم المضمرة تحوط نفسها بحجب ليست شفافة في أحيان كثيرة، تختبئ عيون الشعر خلف تلك الحجب، وتختبئ مقاصد الشاعر الحقيقية أيضاً في المكان نفسه. فالقضية إجمالاً، ليست نظم قصيدة بالنسبة لأحمد شوقي، بل تدوين مواقفه مما وقعت عيناه عليه من آثار تاريخية.
تأويلات شرقية
يعطي أحمد شوقي أربعة تفسيرات لما جري لامبراطورية الرومان، لكنّ هذه التفسيرات لا تستند إلي حجة عقلية، وإنما تخضع لعوامل ثقافية ودينية وزمانية وسياسية لا تقترن اقتراناً مباشراً بانهيار هذه الامبراطورية. ولأنّ هذا الشاعر من الشرق، والقصيدة عن الغرب، فإنه ينقل إلي هؤلاء القوم حكمة الشرق في تفسير الوقائع التاريخية الكبري؛ حكمة الشرق الموروثة التي تري أنّ قويً غيبية تكمن وراء ذلك، وأحمد شوقي الشرقي المسلم، يري أنّ تلك القوي ما هي إلا المشيئة الإلهية. لو كان الغرب يفسّر حدثاً شرقياً كبيراً، فمن المؤكد أنه لا يميل إلا إلي حجة مادية وعقلانية وموثوقة بوثيقة، تدعم التفسير. لعلّ أحمد شوقي يرغب في مناكدة الغرب، نكايةً بموقف حضاري غربي من الشرق عموماً، كأنه يرجّح الرأي الذي يري أنّ الأيام دول، وهو رأي ومعتقد شرقي إسلامي لاشكّ في ذلك، وما سُنَّة التغيير إلا سُنَّة إلهية. ولذلك فإنّ أحمد شوقي، لا ينقل خبراً، بل يقرّر حالاً، ويطلب من القارئ أن يؤمن به. وتعضيداً لهذا الطلب الشرقي الذي يوجّه إلي قارئ غربي بالضرورة، فإنّ أحمد شوقي يضاعف في جملته الشعرية التي يفتتح بها قصيدته الأساليبَ الشرقية في الخطاب الشعري: قِفْ (عادةُ الشعراء الجاهليين في استيقاف الصحب)، اشهدْ (الشهادة الركن الأساسي للتعبّد والإيمان)، المُلْكِيَّة الإلهية للمُلْك (قلِ اللهمَّ مَلِكَ المُلْكِ، تُؤتي المُلكَ مَن تشاءُ وتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تشاءُ وتُعِزُّ مَن تشاءُ وتُذلُّ مَن تشاءُ بيدِكَ الخيرُ إنكَ علي كلِّ شيءٍ قديرٌ/آل عمران/26)، كلمة التنزيه الإسلامية (سبحانه). وهكذا، فالتفسير، كما يبدو مما قلت آنفاً، هو وجهة النظر الإسلامية الشرقية لانهيار مُلكٍ، ونشوء مُلك آخر مكانه. ويتبين من خلال قصيدة أحمد شوقي، أنه استدرك علي ما قاله في البيت الأول، فأضاف تفسيراً (زمانياً) لكي يلج إلي القارئ الغربي المفترض من مدخل ثقافته الراسخة، ويُقنِعه بأنّ الوجود له دورة لابد أن تُستكمل، وهكذا فإنّ هذا التغيير الذي حدث للمُلك الروماني هو من فعل الطبيعة، وبذلك يضمن أحمد شوقي الشاعر الشرقي، الذي قضّي في بلاد الغرب شطراً من حياته، قناعةَ القارئ الغربي ويرضي فضوله الثقافي. بل يرضي نزعة شائعة في الغرب، تفسّر الأشياء بما فيها الدين والإله تفسيراً طبيعياً. بَيْد أنّ عين أحمد شوقي لم تفارق صديقه (المؤرخ) فأراد أن يرضيه هو الآخر، ومادام هذا الصديق مؤرخاً فإنّ تفسير الانهيار بحجة الخطوب، تلك الكلمة الجامعة لأنواع الحوادث التاريخية من حروب وكوارث وانتكاسات، هو التفسير الأكثر وجاهةً. هذا ما عبّر عنه البيت الثالث من القصيدة، ولكن بنوع من التشفّي الحضاري لدولة كان لها صولات وجولات علي تخوم البلاد العربية والإسلامية. كان هذا المعني يصوغه أحمد شوقي صوغاً بلاغياً عالياً، لأنه انتبه مرة أخري، فوجد نفسه واقعاً أسيراً للسرد التاريخي، فانتفض للشعر علي حساب خصمه اللدود النثر، الذي ينتعش في السرد، بل هو عنصر مميّز له عن الشعر. كان أحمد شوقي يجد في الاستعارة (مزّقت، أَلْقَتْ) وفي المجاز (تاجه، صولجانه) فرصة مناسبة لتمريغ مجد الامبراطورية الرومانية في تراب الزمن: مَزَّقتْ تاجَهُ الخطوبُ وألقـتْ في الترابِ الذي أري صولجانَه وعندما نصل إلي البيت الرابع، سنكون أمام حالٍ غريبة فعلاً، كيف نفسّر انهيار الامبراطورية الرومانية، الشهيرة بالعمران ذي الطراز الروماني الذي يندر أن نجد مكاناً في العالم يخلو منه، تفسيراً طللياً؟. المُلك الروماني الشاهق بعمرانه، والحياة الجاهلية التي تخلو من أي عمران سوي الخيام والدمن التي تُضرب حول محيطها، والبئر المهجورة، والأثافي المتروكة، ومواقد النار المنطفئة. لكنّ أحمد شوقي يصرّ علي نقل صورة الانهيار عبر تلك الصورة التي كان يحلو للشعراء الجاهليين أن يصوّروا بها أماكن صباهم، وموطن ذكرياتهم، وعرصات عزهم. هذه الصورة الطللية التي دار حولها جدل واسع في الثقافة العربية، مطيع بن إياس وبشار بن برد وأبو نواس من طرف، ومسلم بن الوليد وأبو تمام والبحتري والمتنبي ومن شايعهم في ذلك من طرف آخر. وكان هذا جدلاً في الحداثة الشعرية والاجتماعية والفكرية في ذلك الزمان. وفي نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، أراد عدد من الشعراء المصريين (الذين أُطلق عليهم مصطلح الشعراء الإحيائيين) أن يرجعوا إلي ميراث القصيدة العربية التقليدية في اللغة والأسلوب ووسائل بناء المعني والموضوع، فكان احمد شوقي يؤطر قصائده بهذا اللون من الأسلوب التقليدي. إذن، نحن بإزاء تفسيره لانهيار الامبراطورية الرومانية أمام تفسير منتزع من الذاكرة الثقافية، وربما احتار أحمد شوقي في إتمام فكرة التفسير فاغترف من الميراث الجاهلي الذي يستقرّ في ذاكرته خير استقرار. لو أراد قارئ غربي أو روماني أن يقرأ أسباب انهيار امبراطورية الرومان، لوقف في حيرة من أمره حيال هذه الصورة الغريبة حقاً. فإذا ما نَقَلَت له الترجمة (الأطلال) بـ (الآثار) فكيف ستنقل له (دمنة) و(رسم)؟. حسناً، سوف تُتَرْجَم له الكلمات ترجمة حرفية، ولكن كيف بالعُرف الذي دأب عليه الشعراء الجاهليون بوصف اندراس حضارتهم بكتاب مسطور فوق الأرض، ويد البلي من أمطار ورياح تمحوه باستمرار؟. هذه صورة صحراوية ذات مرجعية ثقافية معينة، فإذا نقلنا المعني الحرفي، كيف سننقل السياق الثقافي؟. كلمة (البلي) في الثقافة العربية القديمة، تقترن بـ (الحكمة الوجودية)، ولو قمنا بجرد للنصوص النثرية والشعرية التي اقترنت بها هذه الكلمة، لوضعنا أيدينا علي كتاب كامل يمكن تسميته بكتاب (البلي) يتناثر بين كتب التاريخ والأدب والمغازي والتفسير والبلدان والأمثال والمعاجم والسِّيَر وغيرها من الكتب العربية الاخري. هناك بيتان لمحمد بن أحمد بن قادم، يطلب فيهما من امرئ مجهول أن يقف علي ربع مجهول هو الآخر، ويبكي كما هو شائع في أحوال وقوف العرب علي ديارهم المندرسة. لكنّ هذه الصورة التي بني محمد بن قادم عليها قصيدته، تتواتر في الشعر العربي القديم السابق علي هذا الشاعر وهو أحد موالي بني هاشم، قال:
قفْ بربعِ البلي وربعِ الهمومِ
واسْفحِ الدمعَ فيهِ سفحَ الغيومِ
غيَّرتْ آيـَهُ صروفُ الليالي
ومحاها الغمـامُ محوَ الرقيـمِ
ويغترف أحمد شوقي من هذين البيتين المعني الذي يؤسس عليه فكرته الأساسية عن انهيار امبراطورية الرومان، فكأنه يريد أن يزهو بمقدرة الثقافة العربية علي تفسير هذا الحدث الجلل، حتي وإنْ كانت الفكرة تعود للعصر الجاهلي، والمأخوذة من شفاه شعراء لم يعيشوا في كنف المدنية، كما هو الحال عند لبيد بن ربيعة العامري في معلقته الشهيرة، وكما عند ذي الرمة في بيته الشهير:
ألا يا اسْلَمي يا دارَ ميَّ علي البلي
ولا زال منهلاً بجرعائِكِ القطْرُ
ونظراً لسعة هذا الكتاب المفترض، ماذا نُقِلَ، إذن، من السياق الدلالي المقترن بهذه الكلمة؟. يبدو، أولاً، أنّ أحمد شوقي ينهج نهج الشعراء العباسيين في جعل قصيدته أعرابيةَ المبني والمعني، ليعيد الثقة للقارئ العربي الذي اهتزت من جرّاء الشعر الذي نُظِم في العصور المتأخرة (التي يطلق عليها أيضاً المصطلح المجازي: العصور المظلمة)، وكان شعراً ينحو نحوَ اللعب والإكثار من التزاويق البديعية المملّة أحياناً. والشعراء الإحيائيون، كالبارودي وحافظ إبراهيم وأحمد شوقي، كانت هذه المسألة من صلب سعيهم إلي تحديث الشعرية العربية في ذلك الوقت، وإلي تجديد الذائقة الشعرية لدي القارئ العربي. لكنّ هذه القضية التي تخصّ التطوّر الجمالي للقصيدة العربية، كيف يتمّ نقل سياقها إلي القارئ الغربي المفترض، أو حتي القارئ العربي المعاصر، الذي بات يفسّر الأشياء تفسيراً يقترب من التفسير المادي؟. إذن، هذه القصيدة لا تبدو يسيرة الكشف عمّا في باطنها من نزاعات شتي. قصيدة إشكالية، تفترض أكثر من قارئ: القارئ الحقيقي (إسماعيل بك رأفت)، والقارئ الغربي المفترض (موضوع القصيدة يتعلق بالتاريخ الغربي)، والقارئ الجمالي (الذي يفترض أحمد شوقي أنه ينتظر منه ذلك التحديث)، والقارئ الخاص بأحمد شوقي نفسه الذي اعتاد علي تلقّي شعره في فن الحكمة. البيت الرابع من القصيدة يصوّر،إذن، المفارقة الغريبة بين حضارتين: الحضارة الصحراوية التي تندر فيها الكتابة والكتب، فدأبت علي تشبيه المكان الممحو برسوم الكتاب التي محتها الأمطار والرياح المتعاقبة، والحضارة الرومانية التي اشتهرت بكثرة نقوشها وكتاباتها علي أعمدتها وحيطان عمارتها، ولم تستعمل ذلك التشبيه قط. وإذا كان التشبيه يروق للصحراويين، فمن المؤكد أنه لا يروق للذين عاشوا في أكناف المدينة والتمدن. غير أنّ أحمد شوقي، يريد أنّ يفسّر الحضارة والمدنية بعناصر الطبيعة والبدائية، كأنه ينتصر للتفسيرات الثانية علي التفسيرات الأولي. ويقدّم لقارئه فلسفة في التاريخ تستند إلي الفكر الغيبي، أكثر من استنادها إلي الفكر الواقعي.
المواد التالفة : كيف يبني أحمد شوقي قصيدته؟ ذلك هو السؤال البسيط الذي ترغب هذه الدراسة في الإجابة عنه. لكن الإجابة ليست ببساطة التساؤل، فثمة أدوات ومواد، يُجهِد الشاعر نفسه في جمعها لإنشاء العمل الشعري. غير أنّ القارئ لا يلحظ عملية الجمع والتحضير، بل يلحظ العمارة الشعرية وقد بسطت أطرافها علي الورق. وعندما كان القارئ يحيا في عصر الإنشاد الشفاهي، فإنّ هندسة القصيدة كانت تتمثل تمثلاً متخيلاً في ذهنه.قفْ بروما وشاهدِ الأمرَ واشْهدْ
أنَّ للمُلكِ مالكاً سُبحانَــهْ
دولةٌ في الثري وأنقاضُ مُلْـكٍ
هَدَمَ الدهرُ في العلا بنيانَــهُ
مزقتْ تاجَهُ الخطوبُ وألقـتْ
في الترابِ الذي أري صولجانَه
طللٌ عند دمنةٍ عنــد رسـمٍ
ككتابٍ محا البِلي عنوانَــهْ
إنّ المواد اللغوية والأسلوبية التي يتلفها الشاعر، والمواد التي يُبقي عليها، تُعَدُّ إرشيفاً سيكولوجياً، مفعماً بالإشارات، ولا يمكن الاستغناء عنه مطلقاً. لقد كانت الدراسات الشعرية لا تملّ من الخوض في مسائل جدّ معقدة في الشكل والأسلوب واللغة والبلاغة والدلالة والإيقاع، وإلي ما هنالك من عناصر ظاهرة في شكل القصيدة. لكن البحث عن أثر ذي معني في المواد التالفة لم يكن ليحظي بالعناية ذاتها من لدن الدارسين التقليديين. بعكس الدراسات الحديثة، التي باتت تقف بريبة أمام تلك المواد، في محاولة للبحث عن المركز الحقيقي للنصّ.
موجهات خارجية
في قصيدة (رومة) يكشف أحمد شوقي النقاب عن بعض هذه المواد، ولا يعني ذلك أنّ هذه القصيدة وحدها التي تنطوي علي تلك المواد المحفزّة علي النظم، أو ما يمكن أن نطلق عليه (التاريخ المنسي) لنشأة القصيدة، وإنما لكل واحدة تاريخها المنسي. بوسعنا أن نصف أحمد شوقي نفسه بأنه مملكة شعرية مترامية الأطراف، لها إهراماتها البلاغية، وأجراسها التي لا تكفّ عن الإنشاد في حضن الطبيعة والتاريخ. ولأنه كذلك أراد أن يعلن علي رؤوس الأشهاد أن (الشعر ابن أبوين: التاريخ والطبيعة) (ص 230 الشوقيات، ج1 ـ مكتبة التربية ــ بيروت ــ 1994). وعندما نطق أحمد شوقي بهذه الفرضية فإنه أدلي بها في سياق رسالة شخصية أرسلها إلي صديقه المؤرخ (إسماعيل بك رأفت)، بعد أن طاف في بلاد الروم وأبصر ما فيها من آثار ومآثر. كما يصرّح في رسالته أيضاً عن باعثٍ آخر علي نظم هذه القصيدة، فقال موجهاً كلامه إلي صديقه المؤرخ: فوقفت أتأمل ذا الجدار وذا الجدار، وأنشد ذلك القصر وتلك الدار، إلي أن ثار الشعر... فنظمت، وكأني بها في يديك تقرأ (ص 230). ولكن علينا أن لا نطمئن كثيراً إلي ما يقوله أحمد شوقي، فبواعث النظم المضمرة تحوط نفسها بحجب ليست شفافة في أحيان كثيرة، تختبئ عيون الشعر خلف تلك الحجب، وتختبئ مقاصد الشاعر الحقيقية أيضاً في المكان نفسه. فالقضية إجمالاً، ليست نظم قصيدة بالنسبة لأحمد شوقي، بل تدوين مواقفه مما وقعت عيناه عليه من آثار تاريخية.
تأويلات شرقية
يعطي أحمد شوقي أربعة تفسيرات لما جري لامبراطورية الرومان، لكنّ هذه التفسيرات لا تستند إلي حجة عقلية، وإنما تخضع لعوامل ثقافية ودينية وزمانية وسياسية لا تقترن اقتراناً مباشراً بانهيار هذه الامبراطورية. ولأنّ هذا الشاعر من الشرق، والقصيدة عن الغرب، فإنه ينقل إلي هؤلاء القوم حكمة الشرق في تفسير الوقائع التاريخية الكبري؛ حكمة الشرق الموروثة التي تري أنّ قويً غيبية تكمن وراء ذلك، وأحمد شوقي الشرقي المسلم، يري أنّ تلك القوي ما هي إلا المشيئة الإلهية. لو كان الغرب يفسّر حدثاً شرقياً كبيراً، فمن المؤكد أنه لا يميل إلا إلي حجة مادية وعقلانية وموثوقة بوثيقة، تدعم التفسير. لعلّ أحمد شوقي يرغب في مناكدة الغرب، نكايةً بموقف حضاري غربي من الشرق عموماً، كأنه يرجّح الرأي الذي يري أنّ الأيام دول، وهو رأي ومعتقد شرقي إسلامي لاشكّ في ذلك، وما سُنَّة التغيير إلا سُنَّة إلهية. ولذلك فإنّ أحمد شوقي، لا ينقل خبراً، بل يقرّر حالاً، ويطلب من القارئ أن يؤمن به. وتعضيداً لهذا الطلب الشرقي الذي يوجّه إلي قارئ غربي بالضرورة، فإنّ أحمد شوقي يضاعف في جملته الشعرية التي يفتتح بها قصيدته الأساليبَ الشرقية في الخطاب الشعري: قِفْ (عادةُ الشعراء الجاهليين في استيقاف الصحب)، اشهدْ (الشهادة الركن الأساسي للتعبّد والإيمان)، المُلْكِيَّة الإلهية للمُلْك (قلِ اللهمَّ مَلِكَ المُلْكِ، تُؤتي المُلكَ مَن تشاءُ وتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تشاءُ وتُعِزُّ مَن تشاءُ وتُذلُّ مَن تشاءُ بيدِكَ الخيرُ إنكَ علي كلِّ شيءٍ قديرٌ/آل عمران/26)، كلمة التنزيه الإسلامية (سبحانه). وهكذا، فالتفسير، كما يبدو مما قلت آنفاً، هو وجهة النظر الإسلامية الشرقية لانهيار مُلكٍ، ونشوء مُلك آخر مكانه. ويتبين من خلال قصيدة أحمد شوقي، أنه استدرك علي ما قاله في البيت الأول، فأضاف تفسيراً (زمانياً) لكي يلج إلي القارئ الغربي المفترض من مدخل ثقافته الراسخة، ويُقنِعه بأنّ الوجود له دورة لابد أن تُستكمل، وهكذا فإنّ هذا التغيير الذي حدث للمُلك الروماني هو من فعل الطبيعة، وبذلك يضمن أحمد شوقي الشاعر الشرقي، الذي قضّي في بلاد الغرب شطراً من حياته، قناعةَ القارئ الغربي ويرضي فضوله الثقافي. بل يرضي نزعة شائعة في الغرب، تفسّر الأشياء بما فيها الدين والإله تفسيراً طبيعياً. بَيْد أنّ عين أحمد شوقي لم تفارق صديقه (المؤرخ) فأراد أن يرضيه هو الآخر، ومادام هذا الصديق مؤرخاً فإنّ تفسير الانهيار بحجة الخطوب، تلك الكلمة الجامعة لأنواع الحوادث التاريخية من حروب وكوارث وانتكاسات، هو التفسير الأكثر وجاهةً. هذا ما عبّر عنه البيت الثالث من القصيدة، ولكن بنوع من التشفّي الحضاري لدولة كان لها صولات وجولات علي تخوم البلاد العربية والإسلامية. كان هذا المعني يصوغه أحمد شوقي صوغاً بلاغياً عالياً، لأنه انتبه مرة أخري، فوجد نفسه واقعاً أسيراً للسرد التاريخي، فانتفض للشعر علي حساب خصمه اللدود النثر، الذي ينتعش في السرد، بل هو عنصر مميّز له عن الشعر. كان أحمد شوقي يجد في الاستعارة (مزّقت، أَلْقَتْ) وفي المجاز (تاجه، صولجانه) فرصة مناسبة لتمريغ مجد الامبراطورية الرومانية في تراب الزمن: مَزَّقتْ تاجَهُ الخطوبُ وألقـتْ في الترابِ الذي أري صولجانَه وعندما نصل إلي البيت الرابع، سنكون أمام حالٍ غريبة فعلاً، كيف نفسّر انهيار الامبراطورية الرومانية، الشهيرة بالعمران ذي الطراز الروماني الذي يندر أن نجد مكاناً في العالم يخلو منه، تفسيراً طللياً؟. المُلك الروماني الشاهق بعمرانه، والحياة الجاهلية التي تخلو من أي عمران سوي الخيام والدمن التي تُضرب حول محيطها، والبئر المهجورة، والأثافي المتروكة، ومواقد النار المنطفئة. لكنّ أحمد شوقي يصرّ علي نقل صورة الانهيار عبر تلك الصورة التي كان يحلو للشعراء الجاهليين أن يصوّروا بها أماكن صباهم، وموطن ذكرياتهم، وعرصات عزهم. هذه الصورة الطللية التي دار حولها جدل واسع في الثقافة العربية، مطيع بن إياس وبشار بن برد وأبو نواس من طرف، ومسلم بن الوليد وأبو تمام والبحتري والمتنبي ومن شايعهم في ذلك من طرف آخر. وكان هذا جدلاً في الحداثة الشعرية والاجتماعية والفكرية في ذلك الزمان. وفي نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، أراد عدد من الشعراء المصريين (الذين أُطلق عليهم مصطلح الشعراء الإحيائيين) أن يرجعوا إلي ميراث القصيدة العربية التقليدية في اللغة والأسلوب ووسائل بناء المعني والموضوع، فكان احمد شوقي يؤطر قصائده بهذا اللون من الأسلوب التقليدي. إذن، نحن بإزاء تفسيره لانهيار الامبراطورية الرومانية أمام تفسير منتزع من الذاكرة الثقافية، وربما احتار أحمد شوقي في إتمام فكرة التفسير فاغترف من الميراث الجاهلي الذي يستقرّ في ذاكرته خير استقرار. لو أراد قارئ غربي أو روماني أن يقرأ أسباب انهيار امبراطورية الرومان، لوقف في حيرة من أمره حيال هذه الصورة الغريبة حقاً. فإذا ما نَقَلَت له الترجمة (الأطلال) بـ (الآثار) فكيف ستنقل له (دمنة) و(رسم)؟. حسناً، سوف تُتَرْجَم له الكلمات ترجمة حرفية، ولكن كيف بالعُرف الذي دأب عليه الشعراء الجاهليون بوصف اندراس حضارتهم بكتاب مسطور فوق الأرض، ويد البلي من أمطار ورياح تمحوه باستمرار؟. هذه صورة صحراوية ذات مرجعية ثقافية معينة، فإذا نقلنا المعني الحرفي، كيف سننقل السياق الثقافي؟. كلمة (البلي) في الثقافة العربية القديمة، تقترن بـ (الحكمة الوجودية)، ولو قمنا بجرد للنصوص النثرية والشعرية التي اقترنت بها هذه الكلمة، لوضعنا أيدينا علي كتاب كامل يمكن تسميته بكتاب (البلي) يتناثر بين كتب التاريخ والأدب والمغازي والتفسير والبلدان والأمثال والمعاجم والسِّيَر وغيرها من الكتب العربية الاخري. هناك بيتان لمحمد بن أحمد بن قادم، يطلب فيهما من امرئ مجهول أن يقف علي ربع مجهول هو الآخر، ويبكي كما هو شائع في أحوال وقوف العرب علي ديارهم المندرسة. لكنّ هذه الصورة التي بني محمد بن قادم عليها قصيدته، تتواتر في الشعر العربي القديم السابق علي هذا الشاعر وهو أحد موالي بني هاشم، قال:
قفْ بربعِ البلي وربعِ الهمومِ
واسْفحِ الدمعَ فيهِ سفحَ الغيومِ
غيَّرتْ آيـَهُ صروفُ الليالي
ومحاها الغمـامُ محوَ الرقيـمِ
ويغترف أحمد شوقي من هذين البيتين المعني الذي يؤسس عليه فكرته الأساسية عن انهيار امبراطورية الرومان، فكأنه يريد أن يزهو بمقدرة الثقافة العربية علي تفسير هذا الحدث الجلل، حتي وإنْ كانت الفكرة تعود للعصر الجاهلي، والمأخوذة من شفاه شعراء لم يعيشوا في كنف المدنية، كما هو الحال عند لبيد بن ربيعة العامري في معلقته الشهيرة، وكما عند ذي الرمة في بيته الشهير:
ألا يا اسْلَمي يا دارَ ميَّ علي البلي
ولا زال منهلاً بجرعائِكِ القطْرُ
ونظراً لسعة هذا الكتاب المفترض، ماذا نُقِلَ، إذن، من السياق الدلالي المقترن بهذه الكلمة؟. يبدو، أولاً، أنّ أحمد شوقي ينهج نهج الشعراء العباسيين في جعل قصيدته أعرابيةَ المبني والمعني، ليعيد الثقة للقارئ العربي الذي اهتزت من جرّاء الشعر الذي نُظِم في العصور المتأخرة (التي يطلق عليها أيضاً المصطلح المجازي: العصور المظلمة)، وكان شعراً ينحو نحوَ اللعب والإكثار من التزاويق البديعية المملّة أحياناً. والشعراء الإحيائيون، كالبارودي وحافظ إبراهيم وأحمد شوقي، كانت هذه المسألة من صلب سعيهم إلي تحديث الشعرية العربية في ذلك الوقت، وإلي تجديد الذائقة الشعرية لدي القارئ العربي. لكنّ هذه القضية التي تخصّ التطوّر الجمالي للقصيدة العربية، كيف يتمّ نقل سياقها إلي القارئ الغربي المفترض، أو حتي القارئ العربي المعاصر، الذي بات يفسّر الأشياء تفسيراً يقترب من التفسير المادي؟. إذن، هذه القصيدة لا تبدو يسيرة الكشف عمّا في باطنها من نزاعات شتي. قصيدة إشكالية، تفترض أكثر من قارئ: القارئ الحقيقي (إسماعيل بك رأفت)، والقارئ الغربي المفترض (موضوع القصيدة يتعلق بالتاريخ الغربي)، والقارئ الجمالي (الذي يفترض أحمد شوقي أنه ينتظر منه ذلك التحديث)، والقارئ الخاص بأحمد شوقي نفسه الذي اعتاد علي تلقّي شعره في فن الحكمة. البيت الرابع من القصيدة يصوّر،إذن، المفارقة الغريبة بين حضارتين: الحضارة الصحراوية التي تندر فيها الكتابة والكتب، فدأبت علي تشبيه المكان الممحو برسوم الكتاب التي محتها الأمطار والرياح المتعاقبة، والحضارة الرومانية التي اشتهرت بكثرة نقوشها وكتاباتها علي أعمدتها وحيطان عمارتها، ولم تستعمل ذلك التشبيه قط. وإذا كان التشبيه يروق للصحراويين، فمن المؤكد أنه لا يروق للذين عاشوا في أكناف المدينة والتمدن. غير أنّ أحمد شوقي، يريد أنّ يفسّر الحضارة والمدنية بعناصر الطبيعة والبدائية، كأنه ينتصر للتفسيرات الثانية علي التفسيرات الأولي. ويقدّم لقارئه فلسفة في التاريخ تستند إلي الفكر الغيبي، أكثر من استنادها إلي الفكر الواقعي.