شعرية التناص بين الموروث والآني قراءة في “أندلسيات” بشرى البستاني.. د. نوار عبد النافع الدباغ
ملخص البحث : يبدو ( النص القديم ) مكوناً رئيساً ( للنص الجديد )
ذلك ان الجديد لا ينشأ من لا شيء وإنما يتغذى جنينياً بدم غيره إذ تتداخل
فيه مكونات أدبية وثقافية متنوعة ، وهذا ما ظهر جلياً في شعر بشرى البستاني
التي استدعت جوانب الثقافة العربية كلها وأذابتها في نصها الجديد بفاعلية
دلالية وشعرية فائقة صيرت القراءة عملية أخذ وعطاء : أخذ من النص وعطاء له
من المخزون الأدبي والثقافي للقارئ. مدخل الى مفهوم الشعرية والتناص : تكمن
أهمية الشعرية في ثرائها ومرونتها التي أهّلتها لاحتواء ما لا يحصر من
المفاهيم اذ انسحبت من فضائها الخاص الى فضاءات متعددة أخرى كونها الوظيفة
الجمالية للغة التي تجعل من الكلام شعراً . وقد ميّز النقاد القدماء بين
نوعين من المعاني هما ( المعاني العقم ) التي يصفها الحاتمي بأنها أبكار
مبتدعة ، وتوصف بأنها مخترعة لم يسبق قائلها احد ، وأن توليدها عسير على
الآخرين(1) ، وهي بذلك تنتمي الى الخطاب أحادي القيمة – والنوع الثاني (
المعاني المولدة ) أي ان يستخرج الشاعر معنى من معنى شاعر تقدمه او يزيد
فيه زيادة (2) – ونحن نرى مع باختين ان كل إنسان يعيش داخل مجتمع يكون نصف
ما يتلفظ به على الأقل من كلام الآخرين(3) ، وهذا ما تفرضه طبيعة علاقة
الإنسان بمجتمعه وبالآخرين فلا مناص من تبادل التأثير والتأثر بين هذين
الطرفين ، وللشاعر خصوصية تميزه عن الإنسان العادي فهو يستقي مادته من فكره
ومن مخزونه الثقافي الذي احتوته الذاكرة عبر مراحل زمنية متعاقبة . واذا
كان شومسكي قد قال ببنيتين : سطحية وعميقة ، فإن كرستيفا تفضّل مصطلحين
مقتبسين من المصطلحات الروسية هما : النص الظاهر والنص الموّلد – فهو ما
يتولد عن النص الظاهر ، وهو خارج الزمانية والشخصية ، إنه ليس بنية وانما
بنينة ، وليس ملفوظاً وانما تلفظ ، وليس دالاً وانما جمع الدوال النهائي(4)
، وهي تسمي تعدد الدلالات ( تدليلاً ) والتدليل عندها يختلف عن الدلالة
بوصفه عملية تتخلص من خلالها ( ذات ) النص من ( الأنا ) الى منطق آخر يتم
فيه تحاور المعنى وتحطيمه ، فكل نص هو تشرب وتحويل لنصوص أخرى (5) . وتاريخ
شعرنا العربي يبين ان التجديد لا يكون بالتخلي عن العبارات التراثية
والصور التقليدية ومالها من ارتباط بمصادرها الثقافية لأنها قديمة ، بل
يكون في إيجاد الإمكانات الجديدة في الثقافة الشعرية وإعادة صياغة المعطيات
القديمة بجسارة واقتدار من غير ان يكون في ذلك عائق في طريق التطور (6) ،
والتراث يتغلغل في نسغ الحياة ليمدها بالقوة العاملة على النهوض والتجديد
والمواجهة والتصدي في آن معاً ، اما جوانب هذا التراث ومصادره فهي متعددة
ومتشعبة ، فهناك المعطيات الشعبية والشعائرية ، وهناك المعطيات الأسطورية
والتاريخية ، وهناك المعطيات الدينية بما فيها من مذاهب وأفكار وطرائق
سلوكية ، ثم هناك المعارف العامة والخبرات التي تنسب الى زمن مضى دون
غيره(7) . ويتميز تراثنا العربي بثروته ووفرة الجوانب المضيئة فيه ، ولعل
هذا هو السبب في شيوع التناصات التراثية لدى الشعراء فضلاً عن تقنعهم بقناع
الشخصيات التراثية البارزة والفاعلة عبر الحقب الزمنية الماضية . ويلح
مرتاض على ان أشكال التناص معظمها غير مرئي ولا مباشر وهذا راجع الى مفهومه
للتناص الذي لا يتجاوز التناص بطريقة المكونات غير الواعية والتي يصعب
تحديدها في دقة وتثبت ، فالتناص عنده تضمين بغير تنصيص ( ، إلا ان هناك
قسماً من التناص يكون فيه المبدع واعياً لما يستحضر من نصوص وما يصوغ من
معطيات ثقافية وما يذكر من أعلام . وهذا القسم وإن خفي أحياناً لسبب او
لآخر فإنه لدى التدقيق ينبئك بأنه جزء من نص غائب او معطى من قصة او حكاية
او إشارة الى قضية او إيقاع شعري لقصيدة لها حضورها لدى الجمهور او غير ذلك
من أشكال الإظهار المقصودة . والتناص نوعان : داخلي وخارجي ، فالتناص
الداخلي هو حوار يتجلى في توالد النص وتناسله ، وتناقش فيه الكلمات
المفاتيح او المحاور والجمل والمنطلقات والأهداف والحوارات المباشرة وغير
المباشرة . اما التناص الخارجي فهو حوار بين نص ونصوص أخرى متعددة المصادر
والوظائف والمستويات بحيث يبدو النص حواراً بين النص وكاتبه وما يحمله
الكاتب من خبرات سابقة ، وبين النص ومتلقيه وما يملكه المتلقي من ثقافات
سابقة (9) . التناص التاريخي : والنص قيد البحث قد حوى الكثير من أنواع
التناص مستثمراً معظم آلياته وقد بدأ بتناص تاريخي في العنوان ( أندلسيات
لجروج العراق ) فهو استحضار لمأساة الأندلس رمزاً للفقدان والضياع مع سحبها
على ما يحصل في العراق الآن وما سيؤول اليه الحال فيما سيأتي فهل ستكون
هذه الجروح محفورة في ذاكرة الزمن كما هي جروح الأندلس ؟ هذا ما يشي به
العنوان في تكثيف دلالي مميز وفي لغة مشحونة بكل مرجعيات المدن التاريخية :
دبابات القتل تدور بغداد 0000 سمرقند 0000 غرناطة تتنهد — قلب الليل ينزف
أندلساً أخرى وفلسطين تطلع من عين غزال — غرناطة تعدو في قمصان الليل
يلاحقها الذئب التتري تصل البصرة يوقفها الأمريكي على السلك الشائك تزحف في
ذي قار بين جذور النخل الممتدة من أوتار الحزن بسومر حتى قلب النار وعراق
الأروقة الجذلى ينزف في الأغلال وهكذا يتناص العنوان مع متنه مع توالي
الاستحضارات ففي كل جزء من النص استحضار لجزء من التاريخ في اختزال وتكثيف
لمآسي الماضي وفي تراكيب محملة بالأسى والأسف : وأجثو عند خزائن بغداد
وآشور امسك قلبي من وجع التفاح عناقيد النخل على الأعواد فالنص يستحضر
حضارة آشور بأهميتها التاريخية وبعلاقتها بالاحتلال وسقوط بغداد فيما بعد
بيد المحتل ، مع حضور مفردة ( التفاح ) بما يكتنفها من دلالات الخطيئة
والندم اللذين يجسدهما النص بوجود عناقيد النخل على المشانق والنخل يعد
رمزاً للعراق مما يوحي بشنق العراق ، وتتحد في النص شخصيتان هما هولاكو
والأمريكي : ثانية يوغل هولاكو في قمصان المدن التعبى ثانية يقطع هولاكو
شريان الحبر الأسود هولاكو يترصدني يقطع رأسي يودعه في صندوق مقفل يرميه في
البحر يدور البحر اللعبة ترتد على نحر البارجة الأمريكية تتحرر من قلبي
لغتي أطلقها نحو الصفصاف وابكي 000 ازدحمت التناصات في المقطع وتلونت لتصبغ
صورة المشهد بألوان الحزن الموجعة ، فالأمريكي وهولاكو قد تماهيا إذ
اشتركا في التدمير والتحطيم ، تدمير المدن العزلاء التعبى التي أنهكها
الحصار واستنزف قوتها ، وفي قطع شريان الحبر الأسود والثروة بأنواعها مادية
ومعنوية تراثية وحاضرة ، وفي قتل العقل العراقي بأبشع صور الحرب ومحاربته
خوفاً من إبداعه ، مع استحضار لقصة النبي موسى عليه السلام ( يرميه في
البحر 000 يدور البحر ) كما نجد تضمينا لدعاء المؤمنين أمام القهر والظلم
اللذين يقعان عليهم ( اللهم اجعل كيدهم في نحورهم ) مع استيحاء حزن شجر
الصفصاف الذي يرمز للأمن والاستقرار . قبور بني العباس أتعبها زحف العربات
على قلب الأرض الآباء يخفون الطلقات بصدر العذراوات ضفائرهن على الرمل
يخضبها الدم وجع في أعينهن عراقي دمع وجل مما كان وما سوف يكون هل قلت :
الموت علم السيمياء خجل من ضوضاء الموتى يمارس النص تبادلاً مرجعياً مع
التاريخ العربي باستحضاره دولة بني العباس بما فيها من قوة وعزّ ووجاهة مع
تناص ضمني احتواه المقطع الأول مع الشاعر العباسي أبي العلاء المعري : خفف
الوطء ما أظن أديم هذي الأرض إلا من هذه الأجساد سر إن استطعت في الهواء
رويداً لا اختيالاً على رفات العباد ثم يتحول النص الى تناص مع القيم
والأعراف الجاهلية من قتل البنات خوفاً عليهن من العار ووأدهن حال ولادتهن ،
وثمة عرف عربي قديم في قص ظفائر النساء عند الحزن وعند الجلل من الخطوب ،
وفي آخر المقطع يظهر لنا تناص جديد مع النقد الأدبي فالسيمياء وعلاماته
الاختزالية بصمتها وفاعليتها خجلى من ضوضاء الموتى الذين يفترض فيهم السكون
خجلاً وهذه مفارقة تضاف الى مفارقات النص المريرة ايحاءً بغرابة ما يحدث .
رذاذ الموت ينثال على قمم الصخر وفي الوديان شمع يذبل خلف ستائر بغداد
نسمات الحزن على أشجار الليمون نبوخذنصر والخلفاء بجلال يبكون بصمت الليل
يمتص النص تاريخ العرب مستعرضاً مراحله بين نبوخذنصر والخلفاء الذين بنوا
المجد وأثثوا الحضارة العربية معطياتها وانجازاتها كلها ، وهم الآن يبكون
ولكن بجلال وصمت وليل فحين ينثال رذاذ الموت تصطبغ الحياة بالقتامة ويذبل
الشمع ويغلق الحزن النسمات التي تداعب أشجار العراق . ولكن مع التكثيف
الدرامي لمأساة النص تلوح تباشير أمل من خلال مقاومة المأساة بالحب ،
فأجنحة التفاح تشي بالخلود وتسقط الألواح على المائدة الظمأى لتكسر
القوانين السائدة كلها مع دخول البريق الأخضر وعطر الحبيب . يتحول اليأس
الى امل بخروج المحتل وعودة النخيل الى شموخه الأولي في استباق وتأمل لأمل
مرجو يسعى النص الى تنفيذه وتحققه . منكفيء مثل حصان مهجور جرحي تلفحه
الشمس العربية ينخره الدود بيكاسو يرسم جرنيكا أخرى يرسم بغداد طريحة أقدام
الغوغاء والحرية عود يعزفه القزم الموؤود ألواح متاحف بغداد بكف الريح
والثور الآشوري الباسم مرتعب غادر مرتبكاً وبكى في أركان المتحف والمنعطفات
كانت قيثارات سومر تعزف لحن الحزن الحصان العربي رمز الأصالة والعراقة
اختص به العرب دون سواهم أظهره النص في حالة انكفاء وجمود وكأنه ميت تأكله
الديدان وتحرقه الشمس العربية في صورة الجرح العربي الذي يماثل الحصان
العربي المنكفيء في تجسيد مؤلم للموقف العربي المخزي أمام ما يحدث في
العراق ، ثم يظهر الرسام العالمي بيكاسو يرسم لوحته ( جرنيكا ) في تناص مع
الحرب الأهلية الاسبانية ومماثلتها بالحرب الأهلية في العراق ، ويرسم بغداد
تحت أقدام المخربين والغوغاء في تناص مع الغزو المغولي الذي اجتاح المدينة
ودمّر حضارتها وتاريخها العريق . يوحي النص بتناص فريد مع الفنون الأخرى
في تداخل أجناسي منوّع : مع الموسيقى ( الحرية عود ) فالعود آلة عربية
عريقة لا يمكن ان يعزف فيها القزم الأمريكي ، مع التراث ( ألواح متاحف
بغداد ) فالحضارة السومرية حضارة ألواح تميزت وعرفت بها ، مع فن النحت (
الثور الآشوري ) الذي صار رمزاً للعراق وحضارته في تشكيله الأسطوري ، مع
التاريخ ( قيثارات سومر ) في تداخل موسيقي تراثي للثقافة العراقية السومرية
فالنص يستحضر الحضارة كلها ويستلهمها لإنقاذ الحاضر من السقوط في الهاوية .
بغداد اللوعات العبرات الطعنات ظهرك ينزف ثانية مفتاحك في جيب الأمريكي
يخضبه الدم يا ويلي قمر الحلم صار وسادة وعظام الأطفال وقود التناص في
المقطع بين المرة الأولى التي أعطى فيها الوزير العلقمي مفتاح بغداد للتتر
وهذه المرة الثانية التي يعطى فيها مفتاح بغداد ولكن للأمريكي والحالان
يُجسدان خيانة وكارثة دموية جعلت البشر وقوداً لنار اندلعت ولن تخمد مع
التركيز على حالة الغدر ( ظهرك ينزف ) ( مفتاحك 000 يخضبه الدم ) فالطعن في
الظهر لا يأتي إلا من جبان غادر يسفك الدماء ليصل الى غايته . التناص
الديني والصوفي : كما تلوح في النص تناصات دينية وصوفية متنوعة إذ بدأ النص
باستشراق صوفي يتكرر فيما بعد على شكل تساؤلات لا إجابة لها : تسألني
الأسلحة العزلاء عن السرّ وأسألها عن نبض الفجر ثم يظهر التناص مع قصة
النبي يوسف عليه السلام فيما رأته جوليا كرستيفا من امتصاص النص السابق
وتحويله الى نص لاحق مع تكثيف واجترار لمحمول النص السابق (10) . الكابوس
يعاودني اشهق من قاع الجب وابحث عن سيارة أهلي يتشرب في التناص النص اللاحق
معاني وأفكار النصوص السابقة ويستقي منها فتكون بمثابة المواد الخام التي
يصنعها او يصنع منها ما يريد او يقوم بتحويرها باتجاه المقصدية التي يهدف
اليها (11) ، اذ يتحول التناص في النص الى القرآن الكريم في قوله تعالى ”
لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك
الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون ” (12) . أسأل غصنين ينامان على صدري
عن سر الجبل الصامت في قلب الصحراء ظفائر المرأة تسأل عن صمت الجبل العربي
في صحراء العرب ، ترى هل سيظل صامتاً ؟ مع اليأس من هذا الصمت يتحول النص
الى الوجد الصوفي بما فيه من نقاء البللور وصفائه : أرقى درجات الوجد مغمضة
العينين وامسك برق البللور ويتناص المقطع مع الحديث النبوي الشريف :
دبابات الغزو تدور فوق الدبابة قبر رسول الله يصيح غثاء السيل الليل في
المقطع تناص مع الحديث النبوي الشريف ( ستتداعى عليكم الأمم كما تتداعى
الأكلة على قصعتها ، قالوا : او من قلة يا رسول الله ؟ قال : بل انتم كثير
كغثاء السيل إنما أصاب قلوبكم الوهن ، قيل : وما الوهن ؟ قال : حب الدنيا
وكراهة الموت ) . فالتناص هنا ينهض بالآخر الى استنهاض الهمة ومقاومة من
دنّس قبر الرسول بالاستهانة بالحياة والرغبة في الموت شرفاً ودفاعاً عن
مقدسات فقدت حرمتها في زمن يفقد فيه كل شيء قيمته وقداسته ، وهذا ما أراده
الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في حديثه من التنبيه والتحذير والحث على
مجاهدة الكافر الباغي . دقات الساعة تنهض من خصر خريف من كهف صار سريراً
للموت يقترب النص في محموله الدلالي من قصة أهل الكهف في تباطؤ دقات الساعة
وتوقف الزمن ، فكأن الكهف يتحول من حاضنة حياة الى حاضنة موت مع استدعاء
فصل الخريف بما يحمله من دوال الموت والاصفرار والفناء . تدهمني عيناك
وتعطيني السرّ اقطف من ومضتها العطر 000 إشارة صوفية فيها إحالة على المطلع
، فالسؤال عن السر يلح في النص وكأن السّر لغز لا حل له إلا لدى العارفين
بأسرار الملكوت ” وسر السرّ مالا إطلاع عليه لغير الحق وعند القوم على موجب
مواصفاتهم ومقتضى أصولهم ، السّر ألطف من الروح والروح اشرف من القلب
ويقولون الأسرار معتقة من رق الأخبار من الآثار والأخبار الاطلال ، ويطلق
لفظ السرّ على ما يكون مصوناً مكتوماً بين العبد والحق سبحانه في الأحوال ،
وعليه يحمل قول من قال : أسرارنا بكر لم يفتضها وهم واهم ، ويقولون صدور
الأحرار قبور الأسرار ، وقالوا لو عرف زرّي سرّي لطرحته ” (13) . دبابات
الغزو تدور يلوث ثوبي نفث الدبابات تثقب روحي عين الأمريكي الرافل بالزبد
في الآية الكريمة ” فأما الزبد فيذهب جفاءً ” (14) ، وفي اللغة : زبد الماء
: طفاوته وقذاه (15) والتداخل النصي هنا جاء في قصدية جلية ليحمل معه كل
ما تحمله اللفظة من ايحاء وتلميح الى خواء الأمريكي أمام حضارة عمرها آلاف
السنين . قبور الشهداء تنهض في الفجر وتهبط للنهر يمام اخضر يتبعها ويحفّ
بها النرجس ينثال عليها الطلّ الأخضر باسقة أحزان الشجر الباذخ طلع الحزن
نصنيد تبكي الأرض من الحمى00 ” والنخل باسقات لها طلع نضيد ” (16) تداخلت
الآية الكريمة مع النص في مشهد درامي لقبور الشهداء وأرواحهم المتمثلة
باليمام الأخضر والطل الأخضر ، لكن النخل الباذخ وطلحه النضيد حزين والأرض
تبكي من حمى الاحتلال الذي زرع القتل والدمار في هذه الأرض الحية ، تتصارع
في النص ثنائية الحياة / الموت فاللون الأخضر رمز للحياة والشجر الباذخ
واليمام والطل والطلع كلها رموز حياة تغلف قبور الشهداء وهنا نجد تناصاً
ضمنياً مع الآية الكريمة ” ولا تحسبن الذي قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل
أحياء عند ربهم يرزقون ” (17) . يعاود قميص يوسف الظهور وهو رمز للحياة
التي تصارع الموت والقتل :- قميص حبيبي في أعلى الدبابة أعدو خلف عبير
العرق المتصبب من كتفيه وراء عناقيد الرطب المصلوب على عينيه حبيبي يركض
خلف رواق اخضر خلف شتاء صهوته الحب وصبوته الطير الواكن في العش حبيبي يحمل
وسط عويل الريح أوراد الأرض وحكمة ربان مجروح يبدو التداخل النصي بين النص
وبين قصة النبي يوسف عليه السلام بدلالة القميص الذي القي على يعقوب عليه
السلام فارتد بصيرا مع توظيف فني لدلالة العرق المتصبب من الكتفين ” ولما
فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف ” (18) وكلاهما يحمل دلالة الحياة
والأمل ، ويسترجع النص رمز العراق ( النخيل ، الرطب ) في عيون الحبيب الذي
عمل على عاتقه مهمة تحقيق الأمل وجلب النصر في القضاء على العدو وتحرير
الأرض من الاستلاب ليتحقق الأمان ( الطير الواكن في العش ) فعلى الرغم من
عويل الريح لابد من هامش للأمل والأمان . وقد تواترت في النص مفردة ( قميص )
في معظم مقاطعه مما يلفت النظر الى دلالتها القرآنية فقد وردت في القرآن
الكريم في ست آيات فقط : 1- ” وجاءوا على قميصه بدم كذب ” 2- ” واستبقا
الباب وقدّت قميصه من دبر ” 3- ” إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من
الكاذبين ” 4- ” وإن كان قميصه قد دبر فكذبت وهو من الصادقين ” 5- ” فلما
رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن ” 6- ” اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على
وجه أبي يأت بصيرا ” (19) ومن الجلي ان مفردة ( القميص ) في الآيات
السابقة قد حملت معنى واحداً هو إحقاق الحق ودحض الباطل وهذا ما يتناغم مع
محمول النص الدلالي في توظيفه لقصة يوسف وقميصه . ظهور آخر للقصص القرآني
وظهور جديد لقصة النبي يونس ( عليه السلام ) وحوته :- الموج يقتحم القافلة
السوداء فتمطرها الغيمة أحراشاً يستلقي الحوت على الضفة التعبي ويغيم
الياقوت 00 لأن الياقوت احمر بلون الدم فغيابه يعني عودة الحياة مثلما عادت
الحياة الى النبي يونس ( عليه السلام ) حين التقمه الحوت ، فالرغبة في
الحياة والبقاء تقهر الموت وتنتصر على مراحل العذاب التي تفرضها الحالة ما
دام الخلاص في الآخر سيكون فاصلاً بين متناقضين فينتصر الخير على الشر
وتزدهر الحياة . الخلجان / تجمع أردية الريح من المنعطفات وتعطي الفجر
كلمات تزحف من حرق الباء الى دال الوجد والنقطة يأسرها وجع الغزلان عود على
الصوفية في تناص مصطلحي مع ( باء ) الحب و ( دال ) الوجد و ( نقطة )
الثبات واللانهاية التي يحدها الوجع – وجع الغزلان – وهو ارتقاء روحي يرتفع
وينفلت من أسر المادة والعقل . التناص المتنوع نوع ثالث من التناص مختلف
عن التناص التاريخي والتناص الصوفي والديني هو التناص الشعري الذي جعل النص
يستحضر شعراء من عصور متنوعة أولهم المتنبي – الشاعر القومي – الذي عشق
عروبته وانتماءه وها هو يشعل أشجار الكوفة – المدينة العراقية التي ولد في
حي من أحيائها ، أشجارها تشتعل وأقمارها تسقط في الجب ونجومها تنشج ، تحولت
الكوفة من مركز سياسي وثقافي وديني الى خراب ، ويستثمر النص المثل العربي (
ويل للمغلوب من الغالب ) في تركيب مقلوب مصوراً الأمور التي تجري في خلاف
ما يجب وومض لما سيكون حين ينتفض المغلوب ليثأر ممن غلبه ظلماً واستباح
حرمات إنسانيته ووطنه وأهله ، وانقلاب الأشياء الى ضدها مما يستدعي حقاً
البكاء والنشيج : المتنبي يشعل أشجار الكوفة والاقمارْ / تسقط في قاع الجب
نجوم تنشج في زاوية البستان وسائد بنت السلطانِ يخضبها الدم يا ويل الغالب
من مغلوبيه —– أبو تمام ينشر بائيته الكرخ ، الدبابات صدقت في كتب العرافات
انكسرت مقل العذراوات ابو تمام – الشاعر العباسي – الذي رافق الخليفة
المعتصم في حروبه ضد الاعتداءات الخارجية ووثق فتح عمورية في بائيته
العظيمة ، والتناص هنا ليس مع الشاعر ابي تمام فقط بل مع ابن زريق البغدادي
في حوارية بين الشاعرين على ضفاف الكرخ ، وتناص آخر مع العرافات التي نصحت
المعتصم ألا يغزو لكنه لبى نداء المرأة الهاشمية التي صرخت وامعتصماه فقال
لبيك ثم غزا مدينة الاسكندر وانتزع باباً من أبوابها نقله الى بغداد وسماه
( باب العامة ) ، وكأن النص يريد الحضارة العربية شاهداً على الاعتداءات
لرفض هذا الواقع ، فالازدهار العباسي كان أصلاً من أصول الحضارة وهو مليء
برموز النصر على الأعاجم . السياب يشكل رأساً ينزف منه الحلم ويخطط حوريات
تعدو بين النخل وتشعل في أذيال النخل النار السياب يمزق أغنية الأمطار وآب
مندهش من رمل يتأمل أحذية الجند الأمريكية كيف تصير قواقع كيف يصير عراق
الأبنوس خرائط في كف تطويه وتنشره بأسم الحرية تهوي الأبراج التمثال يغادر
شط العرب البصرة تجرح معصمها كي لا تغفو في زاوية الخندق والسياب يرفع فوق
شناشيل الحزن جراح وفيقة تتبعه الأشجار 000 يتداخل النص مع أكثر من شاعر :
المتنبي ، وابي تمام ، والسياب ، واللافت انهم جميعاً عراقيون – ابو تمام
وان كان دمشقي النشأة إلا انه مات ودفن في العراق – ولكل منهم قضيته التي
حمل عبئها طيلة حياته ، فالسياب ينزف الحلم لأنه ارتبط بأحلام لم يحقق أياً
منها وارتبط بالنهر بشط العرب بالخلجان بالخليج العربي وهو يعزف قصائده (
أغنية الى آب ) و ( غريب على الخليج ) و( أنشودة المطر ) فالنص يستحضر
السياب ليريه ما يحدث في عراق الأبنوس والخصب ليغادر تمثاله شط العرب وتجرح
البصرة معصمها حزناً على الم العراق وجرحه النازف ، مأساة السياب تهون حين
بكى العراق وهو منفي في الكويت لكن مأساة الشاعر العراقي الآن انه يبكي
العراق وهو منفي في عراقه . يدخل التناص في حيز مغاير فهو تناص داخلي
للشاعرة مع قصيدة أخرى في ديوانها ( مخاطبات حواء ) في بحث مستمر عن قمر
يأتي بالأمل والبشر ليلون الحياة بلون الفرح والتفاؤل : وأطراف ربيع مقفل
يبحث عن قمر للفلوات —– ويلوح لنا تناص داخلي بين مقطعين في النص نفسه :
غبار الطلقات الخلب يوجع قلب الأرض يتكيء الزيتون على ورد الشيح ويبكي 000
وفي مقطع آخر : قال الجبل الباذخ للوردة ضمّيني واجتاحهما السيل 000 يبدو
التناص الدلالي بين المقطعين في ان الزيتون يتكيء على الشيح مع قوة الزيتون
وضعف الشيح وضآلة الثاني قياساً الى الأول ، والحال ذاتها في المقطع
الثاني مع مفارقة ساخرة تفرز حالة الجبل بعظمته وكبره يطلب من الوردة
الصغيرة ان تحضنه وتضمه . مفارقة مريرة تكتظ فيها كل دلالات الأسى . وهكذا
نجد أندلسيات لجروح العراق قد تناصت مع الثقافة العربية محتوية فروعها كلها
: الموروث والأسطورة والتاريخ والدين والشعر والفن والسياسة في تركيب فني
محكم وجمالية فائقة حققت شعريتها وأثرت محمولها الفكري بما أثار الهزة التي
عدّها ياكبسون شرطاً أساساً يجعل من الشعر شعراً . الهوامــش : 1. حلية
المحاضرة في صناعة الشعر ، محمد بن الحسن الحاتمي ، تحقيق جعفر الكناني ،
دار الرشيد ، بغداد ، 1979م : 2/43 . 2. العمدة في محاسن الشعر وآدابه ،
ابن رشيق القيرواني ، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ، دار الجيل ، بيروت
1972م : 1/263 . 3. الخطاب الروائي ، ميخائيل باختين ، ترجمة محمد برادة ،
الرباط 1987م : 94 . 4. النص الغائب – تجليات التناص في الشعر العربي –
محمد عزام ، منشورات اتحاد الكتاب ، دمشق ، 2001م : 22 . 5. المصدر نفسه :
23-25 . 6. العربية الفصحى المعاصرة ، احمد محمد قدور ، الدار العربية
للكتاب ، تونس 1991م : 403 . 7. اللسانيات وآفاق الدرس اللغوي ، احمد محمد
قدور ، دار الفكر المعاصر ، بيروت ، دمشق ، 2001م : 113 . 8. في نظرية النص
الأدبي ، عبد الملك مرتاض ، مجلة الموقف الأدبي ، دمشق ، العدد (201) لسنة
1988م : 56-58 . 9. النص الغائب : 30-36 . 10. المصدر نفسه : 37 . 11.
التناص في شعر العصر الأموي ، بدران عبد الحسين البياتي ، أطروحة دكتوراه
مقدمة الى كلية الآداب / جامعة الموصل 1996م : 39 . 12. سورة الحشر : 20 .
13. الرسالة القشيرية للإمام القشيري ، دار السلام ، القاهرة 2003م : 55 .
14. سورة الرعد / الآية 17 . 15. لسان العرب لابن منظور ، يوسف الخياط ،
دار لسان العرب ، بيروت ، 2/6 . 16. سورة ق / الآية 10 . 17. سورة آل عمران
/ الآية 196 . 18. سورة يوسف / الآية 94 . 19. سورة يوسف / الآيات :
18-26-27-28-93 .