منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    الشعر المنثور والنثر الشعري

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    الشعر المنثور والنثر الشعري Empty الشعر المنثور والنثر الشعري

    مُساهمة   الأحد مارس 21, 2010 2:40 pm


    الشعر المنثور والنثر الشعري:

    يعرف أمين الريحاني "الشعر المنثور" بالقول : (هو آخر ما توصل اليه الارتقاء الشعري عند الافرنج وبالاخص عند الأمريكيين أو الانجليز، فملتون وشكسبير أطلقا الشعر الانجليزي من قيود العروض كالأوزان الاصطلاحية والابحرة العرفية . على أن لهذا الشعر المطلق وزنا جديدا مخصوصا وقد تجيء القصيدة فيه من أبحر عديدة متنوعة . ووالت ويتمان هو مخترع هز الطريقة وحامل لوائها، وقد انضم تحت لوائه بعد موته كثير من شعراء أوروبا العصريين المتخلقين بأخلاقه الديموقراطية المتشيعين لفلسفته الأمريكية ) (20).

    ينطوي هذا التعريف على كثير من الحقائق تضيء كثيرا من جوانب المسألة الاصطلاحية التي نحن بصددها. "فالشعر المنثور" تسرب الى الرقعة الشعرية العربية من نافذة أمريكية مع مي وجبران والريحاني، ما يعني أن التقسيم الاستعماري للعالم العربي له دوره المباشر في تفعيل الغموض وتصارع الأشكال والرؤى في الشعر العربي الحديث ، ونحن سنرى لاحقا أن "قصيدة النثر" ستدخل الشعر العربي، تنظيرا، من نافذة فرنسية ويستفاد، ثانيا من هذا التعريف أن الريحاني وصحبه كانوا منشغلين بفكرة النهوض . وهم يعيشون في أمريكا ، فرأوا في العروض العربي عرقلة أمام النهوض الشعري. وكلمتا (ارتقاء) و(قيود) في نص التعريف يفسران مدى انشغال أمين بفكرة التقدم التي كانت انشغالا ثقافيا عربيا يومئذ، فقد دعا خليل مطران الى تحرر الشعر العربي شريطة أن يبقى شرقيا وعربيا ، ودعا بول شحادة الى تقليد الشعر الأوروبي والتخلي كلية عن القافية لأن ذلك يجعل النظم سهلا ويمكن الشاعر من التعبير بطلاقة أكبر كما دعا عبدالفتاح فرحات الى تحرير الشعر من الوزن والقافية حتى يتسع للملحمة وحتى يساير النهضة الغربية (21).

    يستشف من خلال هذه الدعوات وغيرها كثير جدا، مدى انهمام الفكر والنقد العربيين بالآخر، وبفكرة التوفيق (التلفيق ) التي لا تلائم البتة الابداع الأدبي لأن هذا الأخير لا تنفع فيه الحلول الوسطى ، والابداع ليس تعديلا في بنية أدبية سابقة ، حذفا واضافة ، وانما هو خلق جديد واعادة تشكيل ، الشي ء الذي يبرر هشاشة هذا الشعر ولاشعريته ، في الغالب ، وهو ما يتم السكوت عنه ، في معظم الأحيان تحت ذريعة التقدم وزحزحة الثابت والبحث عن أشكال أكثر ملاءمة ومرونة . يقول الأب لويس شيخو:"... على أننا كثيرا ما لقينا في هذا الشعر المنثور قشرة مزرقة ليس تحتها لباب وربما قفز صاحبها من معنى لطيف الى قول بذيء سخيف أو كرر الالفاظ دون جدوى بل بتعسف ظاهر، ومن هذا الشكل كثير من المروجين للشعر المنثور من مصنفات الريحاني وجبران وتبعتهما فلا تكاد تجد في كتاباتهم شيئا مما تصبو اليه النفس في الشعر الموزون الحر من رقة وشعور وتأثير"(22).

    وفكرة التقدم هذه إضاءة لما أوردناه سابقا عن كون أسماء الأشكال الشعرية في الأدب العربي الحديث ذات أبعاد حضارية وسياسية أكثر منها أدبية ونستشف من تعريف الريحاني كذلك الهاجس الشكلي الخارجي المتحكم في الدرس النقدي العربي يومئذ ، وهو هاجس يرى في كل نص لا يخضع للوزن والقافية شعرا منثورا، والدليل ورود اسم والت ويتمان ككاتب شعر منثور في حين أنه كتب الشعر الحر وهو من رواده الأوائل . وهذا الهاجس الشكلي سنراه لاحقا عند الحديث عن "قصيدة النثر " حيث أعتبر ويتمان ، في النقد العربي رائد هذه القصيدة لمجرد خروجه عن حدود الصرامة الوزنية والايقاعية للشعر الأمريكي السائد قبله .

    إلا أن المهم في تعريف أمين الريحاني هو ايراده لما يميز الشعر المنثور عن الشعر التقليدي، وهو محاولة الخروج عن الوزن العروضي الواحد، والقافية المتكررة بالاستفادة من مزج البخور وتنويع القافية .

    ويبقى الاشكال الأكبر هو هذا المتمثل في الفروقات بين الشعر المنثور والنثر الشعري. إن الباحث ليجد صعوبة في تعليل الخلط المذهل الذي يمزج بين الشكلين آنا، ويفصل بينهما آنا. في الشعر المنثور يأتي الشعر موصوفا وما النثر سوى صفة ، وفي النثر الشعري يحدث العكس . فهل كتابات جبران نثر ذو ميولات شعرية ، وكتابات الريحاني شعر أخرج مخرج نثر؟ لم تسعفنا الدراسات الشعرية العربية بحل لهذا الاشكال يقول أنيس المقدسي : (لابد من التمييز بين النثر الشعري والشعر المنثور، فالأول أسلوب من أساليب النثر تغلب فيه الروح الشعرية من قوة في العاطفة وبعد في الخيال ، وايقاع في التركيب وتوافر على المجاز، وقد عرف بذلك كثيرون في مقدمتهم جبران خليل جبران حتى صاروا يقولون الطريقة الجبرانية (....) على أن الشعر المنثور غير هذا النثر الخيالي وانما هو محاولة جديدة قام بها البعض محاكاة للشعر الافرنجي. وهمن فتحوا هذا الباب أمين الريحاني فإن في الجزء الثاني من ريحانياته عشر قطع وفي الجزء الرابع ثلاث عشرة قطعة تلمس فيها جميعها هذه النزعة الى النظم الحر من قيود الأبحر العروضية المعروفة ) (23).

    قد يكون هذا التعريف أقرب الى الافتراض السابق حول كون النثر الشعري نثرا أولا، والشعر المنثور شعرا أولا. لكن يصعب ، عمليا، الاهتداء الى ما يجعل جبران مختلفا عن الريحاني، ما دام الهاجس عندهما، معا، واحدا وهو البحث عن أشكال جديدة . وليس البحث عما يجمع بينهما بأقل صعوبة ، لأن معرفة التشابه ، هنا معناها معرفة الاختلاف .

    ولعل هذا هو ما جعل الدرس النقدي العربي حول الشعر يجمع بين الاسمين آنا، ويفرق بينهما آنا، والجمع بينهما أكثر ورودا، لأن النظر اليهما تم من خلال ما يجمع بينهما أي ما اختلقا فيه عن شعر النهضة العربية بنائيا ورؤيويا من غير دخول في التفاصيل .

    فإذا نحن تأملنا كتابات جبران وجدناها تملأ الصفحة كأي نثر عادي، وتميل الى السرد في أغلبها، ويغلب عليها طابع القص الذي عادة ما ينتهي بحكمة ذات لبوس تنبؤي ديني، ولا تخرج عن مألوف البلاغة العربية ، لكنها في ذات الآن كتابات دينامية سرعان ما تجذب القاريء اليها بقيمها المغايرة ، وبتماسك أحداثها وتماديها ، وبجرها العاطفي وبعودتها الى الينابيع الأول للحياة مخاطبة النفس الانسانية بلغة رخوة مهمومة داعية الى انسان جديد يسمو على سقطات الحياة الانسانية الواهنة ، مؤسسة بذلك إيقاعا نابعا من الفكر أولا ومن اللغة ثانيا.

    ليسرع في النثر الشعري ما قد يوحي بايلاء أهمية للغة لفظا وتركيبا، ما يفسر سيادة الخبر، والاحالة على العالم الخارجي والتفاضي عن جمالية اللغة الى جمالية الفكر حيث يطفى المدلول على الدال . لكن يجب الا ننخدع بتواري الهاجس اللغوي الذي كانت تفسره التقفية والوزن والتشطير والمظهر الخارجي للقصيدة ، فالنشر الشعري حتى وان لحان يذهب بالفكرة بعيدا حتى نهاياتها، وعبر أسطر عدة بحثا عن سلاسة أكبر وتراص

    أكبر، فإنه في ذات الآن ، عكس النثر الخطابي يكسر ويرج الجملة قصد الحصول على قطيعة . يمنحها الايقاع دينامية بسريانه الخفي(24). بين هذا الايهام الشكلي الذي يوحي بكون النثر الشعري نثرا، وبين الايقاع الخفي الهاجع فيه ترقد أسئلة جوهرية قد تكون الاجابة عنها اقترابا ودنوا من الارتجاج العنيف الذي شهده جسد اللغة الابداعية العربية ودفع بالمسألة الاجناسية الى الامام وفتح باب قضية الشكل على مصراعيه ، وأثار استراتيجية القراءة . انه نثر قد نجد فيه ملامح من الشعر التفعيلي الموزون، ومن الشعر الحر الخالي من الوزن والقافية ، ومن قصيدة النثر الخالية من التفاصيل والوزن والقافية وتنامي الحدث لكنه رغم ذلك ، يبقى محتفظا بسمته التي تجعله قريبا من النثر وانما منح صفة الشعرية لأنه مخالف للنثر السابق عليه في الزمن وعن النثر المحايث له كذلك .

    الدراسات التي تناولت النثر الشعري سادها قلق تحديد الشعرية فيه ، وهي التي (الدراسات ) انطلقت من كون هذه النصوص نصوصا شعرية لانثوية ، فانتجت خطابا نقديا زاد من تعقيد المسألة ، في (دمعة وابتسامة ) وهو الكتاب الذي فجر قضية النثر الشعري، أكثر من غيره ، لم يتناول قط بأدوات نقدية كفيلة بوضعه إما في خانة النثر أو في خانة الشعر ، وانما مورس عليه تحليل برو كستي يستعين بكلام يقول كل شيء ولا يقول أي شيء كتب عنه ميخائيل نعيمة :".. ينفث فيه نتفا فياضة من قلبه ، وشرارات وهاجة من فكره ، وألوانا مواجة من خياله ، وينثرها بقلم ناعم ، صادق ، سخي، يحاول في الكثير من نبراته محاكاة مزامير داوود ونشيد سليمان وسفر أيوب ومراثي أرميا (25)..".

    وهذا القلق يأتي بدرجة أقل عند تناول الشعر المنثور ، لأن هذا الأخير ظل محتفظا بكثير من مواصفات البيت العربي.

    الشعر المرسل :

    أما الشعر المرسل فيوصف به عادة ما كتبه أحمد باكثير في مصر، كأول من ابتدع هذا الشكل بعد اطلاعه على نماذج منه في الشعر الانجليزي يعرفه س - موريه بالقول :

    "الشعر المرسل في الانجليزية يتكون من أبيات غير مقفاة من الوزن الايامبي ذي التفعيلات الخمس ، ويستخدم أساسا للشعر الملحمي والدرامي، وثمة تميز واضح بين هذا وبين المزدوج المقفى الذي هو دائما مكون من الأبيات الثنائية المتساويه المقفاة "(26)

    الشعر المرسل تخلى عن القافية فيما بقي موزونا ولهذا فهو شعر أولا ومرسل ثانيا . هاجس الشكل الخارجي الذي تحكم في صياغة المصطلح الشعري العربي الحديث . إن البحث عن شعرية نص باللجوء الى مقارنته بنص آخر يجعل ، ضمنيا المعالم الخارجية للنص مكونا أساسيا لشعرية النص ، وهذا عين الخطل .

    ولقد رأينا أن النثر الشعري نثر أولا، وشر ثانيا، في حين أن الشعر المنثور شعر أولا ونثر ثانيا . الشعر المرسل ، نتيجة أقرب الى الشعر المنثور منه الى النثر الشعري ، وما الفرق الا في كون الأول تخلى عن القافية طية واحتفظ بالوزن ، في حين تتخلل القافية الثاني والوزن .

    هكذا نظر الى الأشكال نظرة خارجية بختة فألصقت بها أسماء تبعا للشكل الذي تأخذه على بياض الورق أولا، وتبعا لحضور الوزن والقافية وهما المحددان الخارجيان للشعر في النقد السائد حينئذ، وتم تأجيل الأسئلة الصبة التي تمس شعرية هذه النصوص بعيدا عن الوعي النهضوي السائد.

    ويتضح هذا من الفروقات الجوهرية الكامنة بين الشعر المرسل الانجليزي والشعر المرسل العربي.

    فالشعراء الانجليز اعتمدوا الكلام اليومي في كتابتهم للشعر المرسل في حين عارض الشاعر العربي في مطلع القرن لفة زمانه ويومه واغترف من لغة التراث والشاعر الانجليزي إذ يتخلى عن القافية فإنما ليعوضها بمجموعة أبيات طيعة يمتد معناها ويتواصل في سيرورة إيقاعية متدفقة ، ستخلا في ذلك أنواعا شتى من التضمين إذ لا ينهي، عادة المخي بنهاية البيت ، بل ينهيه وسط السطر الشعري فتبرز إمكانيات أكثر للنبر والتنغيم والتوازي الصوتي والتكرار (27).

    أما في الشعر العربي فقد ظل (الشعر المرسل ) محتفظا باستقلال البيت وبنظام التشطير ما جعله غاية لا وسيلة وجعله أبعد من أن يعكس دينامية الخيال وتوتر الذات ، ومجرد محاولة للتخلي عن هو امة البيت التقليدي لكن من غير رج للعملية الشعرية من أساسها من هنا تبقى التجربة مجرد خدوش بسيطة على وجه القصيدة العربية حتى وان فسر الشعراء صنيعهم بوجود الشعر المرسل في التراث العربي مستشهدين بـ"إعجازالقران " للباقلاني، و "الموشح " للمرزباني (28).

    إن هذا الخروج المحتشم عن قوانين البيت العربي الذي مارسه الكتاب العرب في مطلع هذا القرن ، يفسر النظرية القبلية الى أعمالهم ، وكون هذه الأعمال توكيدا لفعل النهوض لا توكيدا لفعل الشعر، وهذا ما جعل محاولاتهم لم تزحزح بما فيه الكفاية صلادة هذا البيت . وتبقى تجربة جبران خليل جبران العمل الأكثر ثورية لأنها تجربة رأت الى العملية الابداعية بعيدا عن ثنائية الشعر/ النثر، ولم تسع فقط ، الى إلحاق تغيير بسيط ببنية البيت وانما استعانت بنبض الذات وايقاع النفس فجاء عمله مقدمة ضرورية للاختراق الأجناسي الذي سيكبر بعده وهو ما سيصل الكتابة العربية بما كانت الرمزية قد دشنته منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

    الشعر الحر:

    وكما حدث للشعر المنثور وللنثر الشعري، فإن مصطلح "الشعر الحر" سيكتنفه الكثير من الغموض الناتج عن عدم التدقيق والاسراع في إلصاق الأسماء بالأشكال الأدبية تحت تأثير الانبهار بالمغامرة الخروجية التي ما انفكت دائرتها تتسع خاصة منذ القصائد التفعيلية الأولى القادمة من العراق . هذا الانبهار بالشكل الخارجي للنصوص الجديدة هو ما جعل نازك الملائكة تدرج الشعر التفعيلي تحت تسمية "الشعر الحر" التي أخذتها من الانجليزية ((Free Verseوالتي تعني الشعر الخالي من الوزن والقافية والذي قد تأتي بعض القصائد فيه مزيجا من بحور عدة لكن بطريقة عفوية . وواضح أن الروح العاطفية الهجومية الشديدة التي كتب بها "ظاهرة الشعر المعاصر" هو ما جعل فازن الملائكة تصف الشعر التفعيلي بالحرية ، وهي الحرية التي استكثرتها عليه فيما بعد، داعية اياه للرجوع الى العروض العربي. ويصل الخلط بين المصطلحين لدرجة استعمالهما بمعنى واحد، فهي ترى أن شعر التفعيلة يشبه الشر الحر لأنهما معا حطما استقلالية البيت العربي، وخرجا عن قانون تساوي الأسطر، ونبذا القافية وأتيا بشعر مرسل . تتحدث ، على سبيل المثال لا الحصر عن "الشعر الحر الموزون ":

    "وما يهمنا في هذا الموضوع ، أن نثرهم هذا الذي يقدمونه للقراء باسم الشعر الحر قد أحدث كثيرا من الالتباس في أذهان القراء غير المختصين فأصبحوا يخلطون بينه وبين الشعر الحر الموزون الذي يبدو ظاهريا وكأنه مثله ، وخيل اليهم نتيجة لذلك أن الشر الحر نثر اعتيادي لا وزن له"(29)

    زاد هذا الغموض ترسيخا أن بعض الشعراء والنقاد قبل نازك منحوا مصطلح "الشعر الحر" مرادفات كثيرة كما فعل أحمد زكي أبو شادي، وهو من الأوائل الذين دعوا الى إدخال هذا النوع الشعري الى الأدب العربي، حيث يسميه النظم الحر و"الشعر المرسل الحر" يقول في مقدمته لقصيدة الفنان ".

    "وفي القصيدة التالية مثل لهذا الشعر المرسل مقترنا بنوع آخر يسمى بالشعر الحر (Free Vel-se) حيث لا يكتفي الشاعر بإطلاق القافية بل يجيز مزج البخور حسب مناسبات التأثير"(30).

    إن الجمع بين "الشعر الحر الموزون " و"الشعر الحر" عند نازك الملائكة وبين "الشعر المرسى" و "الشعر الحر"، عند أبي شادي يعكس مدى القلق الاصطلاحي الذي ساد الممارسة النقدية والشعرية العربية الحديثة .

    يعرفه جبرا ابراهيم جبرا بالقول :

    "الشعر الحر، ترجمة حرفية لمصطلح غربي هو (Free Verse) بالانجليزية (Vers Libre)بالفرنسية . وقد أطلقوه على شعر خال من الوزن والقافية كليهما. إنه الشعر الذي كتبه والت ويتمان ، وتلاه فيه شعراء كثيرون في أدب أمم محيرة فكتاب الشعر الحر بين شعراء العرب اليوم ، هم أمثال محمد الماغوط وتوفيق صايغ وكاتب هذه الكلمات ، في حين أن "قصيدة النثر" هي "القصيدة " التي يكون قوامها نثرا متوصلا في فقرات كفقرات أي نثر عادي"(31).

    يحظى هذا التعريف بأهمية كبرى لاعتبارات شتى. فهو أولا وضع يده على مكمن الداء بالاشارة الى أن الشعر الحر تخل عن الوزن والقافية معا، ومن هنا وسم بالحرية ، وليس لأن الشاعر منح حرية الخلط بين التشكيلات الوزنية ، والخلط بين الوحدات المتساوية شكلا، ووقع في أخطاء التدوير وتلاعب بالقافية مهملا إياها في كثير من الأحيان كما ترى نازك الملائكة (32). ثم إنه (التعريف ) وضع شعر والت ويتمان في مكانه الحقيقي، أي الشعر الحر. لقد دأب النقد العربي الحديث على القول إن الشاعر الأمريكي هو مبتدع "قصيدة النثر"، كما أسلفنا ويكفي أن نشير الى ما جره عليه شعره في أمريكا ، من ويلات وصلت الى حد المطالبة بحرمانه من الجنسية الأمريكية و...والسبب هو وضوح شعره والوضوح خاصية من خاصيات الشعر الحر "الذي تخلى عن الوزن والقافية ، واعتمد الصورة أكثر، فيما عانى قراء "قصيدة النثر" من "غموضها" و"مجانيتها".

    وهذا التعريف أخيرا، وضع بعض الأسماء الشعرية العربية في مكانها الحقيقي، إذ طالما اعتبر محمد الماغوط وتوفيق صايغ شاعري "قصيدة النثر" بل نظر الى الماغوط كمؤسس لها من خلال النماذج التي قرأ هام في "خميس شعر"، وضمها بعد ذلك "حزن في ضوء القمر" (33).

    تعريف جبرا ، الذي نراه التعريف الصحيح والعلمي، نعثر على ما يطابقه تماما في "شعر" فقد كتبت المجلة في زاوية "أخبار وقضايا" ترد على نازك الملائكة التي اعتبرت "حزن في ضوء القمر" قصائد نثرية في هين أنه "شعر حر" ذاهبة الى أن نازك الملائكة تفهم الشعر الحر كما تكتبه هي. وترى المجلة أن هناك ثلاثة أنواع من الشعر في الأدب العربي الحديث :

    - شعر الوزن ويضم شعر التفعيلة .

    - الشعر الحر وهو المجرد من الوزن والقافية مع الحفاظ على نسق البيت.

    - قصيدة النثر (34).

    لن نقف عند الخصائص الشعرية للشعر الحر ولا عند التمويهات الشكلية التي تخفي داخل نصوص من هذا الشكل قصائد نثر حقيقية لم يستطع الشكل الخارجي إخفاءها، وهي ملاحظة تنسحب حتى على النصوص التي ألحقت بالنثر الشعري وهي قصائد نثر، والعكس .

    فالتمايزات جمة والفروق واسعة بين شاعر وشاعر، وبين نصوص الشاعر الواحد حتى. شعر جبرا ابراهيم جبرا المتشبع بالتصوف المسيحي الانجلوسكسوني ، ليس هو شعر محمد الماغوط الذي اكتفى بالاطلاع على الشعر الغربي من خلال الترجمات ، وهما معا مختلفان عن توفيق صايغ المتمثل لأسلوب الكتاب المقدس .

    قصيدة النثر:

    سترث "قصيدة النثر " أو بالأحرى الخطاب النقدي حول "قصيدة النثر" هذا الخلط المفاهيمي والتشابك الاصطلاحي ، وسيحول ذلك كما سنرى دون قراءة هذا النص حتى الآن ، قراءة شعرية بعيدا عن الأهواء والحسابات ، كما سيحول وهذا هو الأدهى دون معرفة الشكل معرفة حقة ". يقول سركون بولى، وهو الذي أعتبر من أبرز أساء قصيدة النثر العربية ، منذ الستينات : (نحن حين نقول قصيدة النثر فهذا تعبير خاطيء لأن قصيدة النثر في الشعر الأوروبي هي شي ء آخر وفي الشعر العربي عندما نقول قصيدة النثر نتحدث عن قصيدة مقطعة ، وهي مجرد تسمية خاطئة . وأنا أسمي هذا الشعر الذي أكتبه بالشعر الحر كما كان يكتبه ايليوت وأردن وكما يكتبه شعراء كثيرون في العالم الآن ، واذا كنت تسميها قصيدة النثر فأنت تبدي جهلك لأن قصيدة النثر هي التي كان يكتبها بودلير ورامبو ومالا رميه وتعرف 'Prose Poem) )أي قصيدة غير مقطعه ) (35) .. لا يخلو هذا التعريف من وهم الشكل الخارجي الذي وقعت فيه معظم التعريفات التي صاحبت تنامي الأشكال في الشعر العربي الحديث ، لكنه لا يخلو من جهة ثانية من قلق كبير وحيرة تجاه مصطلح "قصيدة النثر" وهذا ما يهمنا ، هنا أكثر.

    ما عبر عنه سركون بولص يزيد من تعقيد مسؤولية الباحث الذي يسعى الى الاقتراب من إيقاع قصيدة النثر العربية ويجعل إعادة النظر في المسلمات ضروريا.

    قد يكون من بين الأسباب المباشرة التي استدعت هذه الضبابية المفاهيمية أن كل جيل من أجيال الشعر العربي، منذ النهضة ، يبدأ من نقطة الصفر (اضطرارا أو عنادا) (36).

    فلقد جعلت الصدمة الحضارية كل ما يرد من الغرب من أشكال أدبية حديثا وجديدا، والحق أنه ليس جديدا إلا على الثقافة العربية (37 ). ونحن نرى أن هذا التسابق عل الأشكال الشعرية دال على يأس وخيبة وليس على حيوية وفاعلية . يمكن أن نستدل على ذلك بكون سنة 1947 التي ظهرت فيها القصائد التفعيلية الأولى هي ذاتها السنة التي أصدر فيها جورج حنين بمساعدة رمسيس يرنان مجلة اختارا لها اسما مثيرا هو (حصة الرمل ) (La paet du sabl)جاء في تقديمها : (هذا الكراس (....) في وقت يبدو فيه الانتماء نفسه ليس أكثر بكثير من شكل من أشكال القنوط ) (38). وما هي الا سنوات قليلة حتى صدرت "شعر" التي أعادت كل الأسئلة الى بداياتها.

    يتجلى العناد في طبيعة الخطاب النقدي الموازي الذي ظهر أصلا مع مجلة "شعر" ، وهو خطاب سجالي تبشيري يرى في السابق عليه من الشعر تكرارا ورتابة لاغير ، ويرى في الذي يدعو اليه خلاصا للشعر والذات معا. المتأمل للانتاج الشعري الذي رافق هذا الخطاب سيلاحظ المسافة بين المأمول والمنجز. ويسهل على الانسان هنا ، أن يستشف كون القبول الذي تلتاه الأشكال الجديدة من طرف قلة تعرف كيف ترفع صوتها عاليا ليس قبولا شعريا، جماليا بالضرورة بل قبول أت من الرفض الذي ترمز اليه هذه الأشكال ، فإضافة الى كون قصيدة النثر ضربا من الغنائية المجنحة المثقلة بالضجر من الحياة والغارقة في عالم قدري لا يملك الشاعر فيه إلا الانسياق وراء قوة تلهو به كيفما تشاء، فإن "الفوضى" الشكلية التي لا تستقر ولا تهدأ منحت الشاعر القاريء متنفسا يعكس من خلاله موقفا ضبابيا من واقعية العام والخاص . ولقد سكت النقد العربي حتى في أروع نماذجه ، عن تفسير هذه الحرية التي خمتها الأشكال الجديدة للشاعر وتبيان ماهيتها وابراز الامتيازات التي خولها له التخلي عن البيت التقليدي وكيف تعمل في النص وتصنع شعريته (وهنا مربط الفرس ) ، وحتى ان فعلت ، فإنما بدافع التمجيد والاشادة لا بدافع التساؤل والتقصي.
    الحيرة تجاه قصيدة النشر ليست عربية فقط ، بل عرفتها الشعريات العالمية وان كان بحدة أقل ، نظرا لاختلاف الظروف الحضارية والثقافية لقد نظر الى قصيدة النثر باعتبارها جنسا أدبيا يتأبى عن كل تحديد ونظر الى محاولة التقعيد له عملا مجانيا محكوما بالاخفاق .

    يتبع
    __________________
    تتنزهُ في ربوعي رابعة
    ابتسام السيد غير متصل
    ابتسام السيد
    عرض الملف الشخصي العام
    البحث عن المزيد من المشاركات بواسطة ابتسام السيد
    قديم 12-02-2010, 11:13 AM #7
    ابتسام السيد
    مطـــــــــــرية

    صورة عضوية ابتسام السيد

    تاريخ الانضمام: Sep 2008
    محل السكن: ليبيا
    المشاركات: 3,118
    ابتسام السيد is on a distinguished road

    افتراضي
    فكيف نقبض على (شكل) جاء ليخرق القواعد ويعلن العصيان على السلف وكيف نبحث عن لم في جمالية جنس أدبي يصعب تحديد قوانينه قبليا، فهو يحاول ، جاهدا الانفلات من كل تحديد وثبوت ، والا يخضع لمفاهيم جمالية ونقدية ، متحرك باستمرار زئبقي ما ينفقك في كل مرة يسفه مفهوم "البنية " ويضع كل محاوله للتنظير له في مأزق ! (39).

    لقد وجد (النقد) العربي حول "قصيدة النثر" وهو، في أغلبيته ، انطباعي متسرع ، في مثل هذه الادعاءات متنفسا ومهربا من السؤال الأس : شعرية "قصيدة النثر" رغم كون النص "الجديد" ضد "النظام " و "التعقلن " و"المفهومية " ورغم كونه يجعل الابداع "مستمرا" متخذا "اللاتكرارية " والتجريب هدفا" (40) ، فإن له (النص الجديد) شكلا ينهض على تهشيم الأشكال كلها،. من هذه الجدلية بين تهشيم الأشكال لبناء (شكل لا شكل له !) سينبثق شكل قصيدة النثر ، يصعب بناء على ما سبق التسليم بكون قصيدة النثر تجسيدا واضحا للصراع بين حرية النثر وقوة الشعر التنظيمية ، بين فوضى الهدم وفنية البناء الجمالي وبين الرغبة في هجر اللغة وضرورة الاستعانة بها (41) لأن "قصيدة النثر" إما أن تكون شعرا أو لا

    تكون ، وهي ليست مخيرة بين الفوضى والتنظيم وبين الهدم والبناء وبين اللغة واللالغة إذ لا مناص لها من التنظيم والبناء واللغة ، أي من قانون يسري عليها، وان كانت حرة فإن حريتها لا تختلف في شيء عن الحرية التي ينهض عليها النص الأدبي كيفما كان . من هنا تتحول (اللا قاعدة ) التي أريد لقصيدة النثر أن توسم بها الى (قاعدة )، أي أن الأحكام الجزافية والتنظيرات الرعناء التي رافقتها تعبير عن قلق وليست تعبيرا عن خصائص معينة لها. شكل النص الشعري ليس هو هيئته على الورقة ، وانما الطريقة التي يفرض علينا إيقاعه أن نقرأ بها، فلقد احتفظ امرؤ القيس وأبو تمام والمتنبي بأهميتهم الشعرية رغم أن الشكل الشعري لديهم (الشكل الظاهر - الخارجي) لا يختلف في شيء عن (شكل ) مئات القصائد الفاشلة التي لم يكتب لها البقاء والاستمرار . فبدل البحث عن شكل موجود ، خاضع لرؤية قبلية لتحديده ، سنبحث عن (شكل ) خفي لتحديده ، وبدل أن نسأل : ما هذا الشكل الجديد الذي رسخته قصيدة النثر؟ نسأل : ما هذا الشكل الذي تسعي قصيدة النثر الى ترسيخه ؟ أو : ما هذا الشكل الذي تحاول قصيدة النثر الانفلات منه ؟ سيقودنا إيقاع النص الى تحديد شكل لقصيدة النثر ، لأن تميزها عن أنواع الشعر الأخرى ليس تميزا شكليا خارجيا، وانما هو تميز إيقاعي. ستكف هذه القصيدة ، إذن عن أن تكون عصية على القبض ، وسيكف النقد عن الاكتفاء بالقول إنها تعبر عن الحزن والتوتر والوحشيه (42) او ان فيها نوعا من "التشابك الواقعي والحلمي، وتداخل الأزمنة ، وشاعرية اللغة والرؤية ، والتباس الأسئلة ، وكسر النمطيه وتفتيت الشخوص والأحداث (43) ... أو إنها "نثر جميل " أو "عطاء جميل " أو "نثر رائع "(44) أو أنها (اكتشاف للشعر في الجزئي واليومي والعادي وغير المدهش ). (45). فقصيدة النثر مهما كانت غنائية وعنيفة فإنها مضطرة ، حتى تكون شعرا، لأن تجد إيقاعها ولأن تؤسس تقنيتها الصارمة والمحددة وأن تبحث عن شكل مهما يكن ، فإنه ليس فوضويا ولا زئبقيا بل هو بناء فني وسيرورة إيقاعية وهذا ما يجعل اتهام قصيدة النثر بالسقوط المبكر في "التنميط " نوعا من العداء المجاني لها، (46) لأن عملية الاستهلاك الجمالية ليست هى عملية التأمل العلمية ، والاستمتاع بالنص ليس هو معرفه النص ، (47) والمطلوب الان عربيا، هو الانتقال من الاستهلاك الى التأمل أو الجمع بينهما معا.

    يجب التأكيد على كون قصيدة النثر لا تبتعد كثيرا عن الروح الايقاعية للشعر العربي في عمومه ، وان كانت الزمنية الكبرى، كما يسميها باختين ، قد فرضت اختلافا شكليا خارجيا عن الشكل الشعري التقليدي الموروث ، وبالتالي فإن قصيدة النثر ليست أرقي ما وصل اليه الشعر العربي، كما يحلو لكثير من الشعراء والنقاد القول ، بل هي امكانية إيقاعية ضمن إمكانيات أخرى تمنحها اللغة العربية للشاعر ، أما النواة الايقاعية فهي النواة ذاتها ، رغم أن استراتيجيات القراءة والتلقي والتناول سيلحقها تغير.

    فالصبغة الخطية الكرونولوجية التي للأشكال في الأدب العربي الحديث ، إنما تفسرها معضلة الذات والآخر وأسئلة النهضة . والتقدم ، كما أسلفنا، في حين أن قصيدة النثر والنثر الشعري والشعر الحر، شهدت في الآداب الغربية (الفرنسية خاصة ) نوعا من تبادل الأدوار والأقنعة جعلت قصيدة النثر والنثر الشعري مهادا للشعر الحر عند المدرسة الرمزية مثلا(48) ورأى فيها غوستاف كاهن (Gustave Kahn) مجرد جسر للانتقال من التقليد العروضي الى عالم الشعر الحر نافيا أن تكون جنسا أو نوعا (49)، ويكتب (Dornis) في 1912: لقد أدركنا بسرعة أن البحث عن نثر إيقاعي لا يمكن أن يكون سوى طريق نقطعه لكن من غير مخرج (50).

    لا يمكن الاحاطة بالدلالات الخفية لهذا المصطلح إلا اذا تم ربطه بالتعريف العام الذي أعطي للشعر في التراث العربي باعتباره (الكلام الموزون المقفى...) فغير خاف أن مصطلح "قصيدة النثر" يجعل بوعي، أو بغير وعي، من الوزن شرطا أساسيا لكل شعر ويجعل النثر عكس الوزن (51) ما يعني، في النهاية ان النثر هو الكلام الخالي من الوزن ، وهو ما يصعب تأييده لسببين اثنين :

    - ان الوزن ليس هو الشرط الأساسي في الشعر. فشعرية النص تخلق وزن النص ، ولا يخلق الوزن بالضرورة شعرية النص .

    - ان الوزن ليس عكس النثر، وحتى إذا سلمنا بكون الوزن هو الشعر فإن الشعر ليس عكس النثر ، والا حدث لنا ما حدث للسيد جوردان .

    يتبع
    __________________
    تتنزهُ في ربوعي رابعة
    ابتسام السيد غير متصل
    ابتسام السيد
    عرض الملف الشخصي العام
    البحث عن المزيد من المشاركات بواسطة ابتسام السيد
    قديم 12-02-2010, 11:13 AM #8
    ابتسام السيد
    مطـــــــــــرية

    صورة عضوية ابتسام السيد

    تاريخ الانضمام: Sep 2008
    محل السكن: ليبيا
    المشاركات: 3,118
    ابتسام السيد is on a distinguished road

    افتراضي
    لقد نبه ياكوبسون في "قضايا الشعرية " الى ضرورة الانتباه لكون البحث في الشعرية بحثا في التزامني والتعاقبي معا. فالحوض في الشعرية المعا هوة يستلزم بالضرورة ، استحضار الشعرية القديمة ، لأن النص القديم ، تنظيرا وانجازا، يفعل في النص الجديد ويتحكم في تحديد بنيته لحما أن في كل حقبة أشكالا محافظة وأشكالا تجديدية ويجب أخذهما معا بالاعتبار لا الانسياق وراء التغيرات فقط (52).

    نلحظ في المتابعات العربية لقصيدة النثر كثيرا من الاطمئنان لكون هذه القصيدة ثورة جذرية وخرقا للمألوف والسائد والموروث ، كأن الشعر انطلق ضعيفا وكلما تقدم في الزمن صار أقوى. تناول كهذا يعمد الى منهج الموازنة والمقارنة الذي يفضي للمفاضلة ، فتكون شعرية النص هي الغائبة ، إننا نرى أن الشعر يظل محتفظا بجوهر ما ، ببنية ما، وأن الذي يتغير بين الحقبة والحقبة ، هو العرضي كأنما يبحث الشعر عن شيء أضاعه مخترقا الأزمنة كلها وكلما يئس في العثور على ضألته اتخذ هيئة أخرى مغايرة للسابقة ، لكنه يظل هو هو، شعرا ذا هدف واحد هو أن يكون شعرا.

    يصعب إذن القول إن الوزن قيد خارجي قبلي ارتأت قصيدة النثر ازالته لكونه يشكل عائقا أمام رغبات الذات والمعنى! بل هو (الوزن ) حاضر في الشعر لأنه جزء من جوهره الذي لا يفنى، أما المتغير فهو الشكل الخارجي للنص . هكذا تكون مهمة الباحث في قصيدة النثر صعبة لأنه مطالب بالقبض على البنية الايقاعية لنص ذي (شكل ) جديد تخلى عن معطيات ومؤشرات ألفتها الذائقة العربية وجعلتها المكون الأساسي للشعر.

    تقول نازك الملائكة : (ويفتح القاريء تلك الكتب متوهما انه سيجد فيها قصائد مثل القصائد، فيها الوزن والايقاع والقافية ، غير أنه لا يجد من ذلك شيئا وإنما يطالعه في الكتاب نثر اعتيادي مما يقرأ في كتب النثر ، وسرعان ما يلاحظ أن الكتاب خلو من أي أثر للشعر ، فليس فيه لا بيت ولا شطر(53).

    ليس في قصيدة النثر بيت ولا شطر .. وهذه هي المعضلة التي جعلت النقد السائد يتناولها باعتبارها قصيدة لا يوجد بيت فيها ولا شطر ، أي يقارنها بالسابق عليها من شعر فيسكت عن إيقاعها.

    ويبدو أن رغبة القلة القليلة من أقطاب "شعر" لم تتحقق . لقد كانت النية ، في البدء هي البحث عن اللغة الشعرية الجديدة لهذا النص وعن كيفية مقاربته الأشياء والحياة ، أي أن الجدة والحداثة ليستا في الوزن ولا في النثر، وانما في طريقة الشعرنة ، ويبدو أن الدرس الشعري ما يزال عند هذه النقطة (54).

    فإذا قيل إن مادة قصيدة النثر هي النثر ، غير أن غديتها هي الشعر وأن النثر فيها يصير شعرا فيتميز بذلك عن النثر العادي وما كلمة (نثر) التي ألحقت بالشعر فيه سوى لتبيان منشئها (55) فإن هذا التفسير الذي يعني أن النثر يتضمن ، بالضرورة شعرا ، بل شعرا قويا يفوق شعرية النظم ، قد يكون عكس ما يبدو، محسوبا على قصيدة النشر لا لها. إن الأخذ بهذه الفكرة وهي وجيهة تفترض إمكانية إخلاء النثر من العناصر غير الشعرية حتى يستقيم النص ويصير شعريا، لكن النص الشعري يكون كذلك منذ البدء. وكل تعديل يلحق النص النثري يبقيه نصا نثريا ليس إلا. هناك عقلية نهضوية وضعانية في الحقل النقدي العربي الحديث رأت الى الأشكال كتطور متعاقب . وهي عقلية تحول دون الانفراد بالنص لمساءلة شعريته لأنها ترى في الشكل نقطة أو محطة ضمن محطات كثر، ومن ثمة تنبري لوصف أوجه التشابه والاختلاف . يتحدث حاتم المكر عن قصيدة النثر فيرى فيها مجرد نتيجة لتمرينات سابقة : (وقد كانت تتويجا لسلسلة من الخاشات على سطح البنى الشعرية السائدة فالشعر المقطعي والمنثور والحر وسراها ليست الا محاولات جزئية بإزاء ما اقترحته قصيدة النثر من مفارقة للصيغ السائدة ) (56) . ثم يرى فيها نهاية لممهدات عدة كالشعر المترجم والمزج بين البحور العروضية وتقنية التدوير وفنية النثر والكلام اليومي الدارج (57).

    يختزن هذا التعليل ،وهو مشترك بين جل الأصوات النقدية تعريفا للشعر لا يقل عن التعريف المأثور الذي يربط الشعر بالوزن ، وهو ما سعى منظرو قصيدة النثر ، أنفسهم لاثبات خطله ، ومن هنا الاستسهال الذي أصاب قصيدة النثر وجعلنا نعتبر جل الكتابات القديمة التي فيها نفحات أو تأملات شعرية "قصائد نثر" وهو، من جهة ثانية ما جعل كل ما يكتب الأن بعيدا عن الوزن والقافية قصائد نثر، حتى كثر الشعراء وقل الشعر! لقد غدا اللامتناسق واللاشعوري والهذيان والضعف اللغوي شروطا شعرية ، ويتحمل النقد المسؤولية العظمي في كل ذلك لأنه برر ما يحدث بدل أن يحاكمه .

    يقول بروتون (ما من شيء أصعب هذه الأيام من أن يكون الانسان شاعر قصيدة نثر) (58) ويضيف "إذا كان الشعر هو كتاب حكاية لا متجانسة وبلا خاتمة وتسطير صيحات ثورية وكتابة جمل من غير تتمات فمن لا يقدر إذن أن يكون شاعرا (59)"

    ويبدو اقتراح تسميتها "قصيدة دلالية " لكونها تستعيض عن الجانب الصوتي بالجانب الدلالي ، ولكون الجانب المعنوي فيها أبرز وأظهر، اقتراحا يزيد الطين بلة لأن المعنى وحده لا يصنع القصيدة ولأن المعنى في الشعر لا ينقل الا من خلال اللغة ، أي من خلال الصوت .

    هذا افتراض صاحب ميلاد الأشكال الشعرية الجديدة عند الشعريات طها وهو ما أشار اليه فيكتور فيكو، في فرنسا سنة 1822 بالقول ان الشعر لم يعد يقطن شكل الأفكار بل الأفكار ذاتها(60) .

    مرة أخرى أتاح تواري القافية بتكرارها الصوتي البارز لمثل هذه الأفكار أن تنمو ، كما أتاح للتفسير الاجتماعي للشكل أن يأخذ الصدارة ، هكذا يرى أنسي الحاج في زوال القافية (هل زالت ؟!)ا استجابة لدواعي العصر الذي يملك إنسانه إحساسا متغايرا (61)، كما يرى يوسف الخال في صخب الحياة المعاصرة سببا لاختفاتها (62).

    تفسيرات كهذه لا تفيد الشعرية في شيء إذ هي في النهاية تفسير غامض بغامض ، فما الذي يمنعنا من القول إن صخب الحياة الواهنة يتطلب قافية تحد من سيلان النص الشعري وتحول دون أن يصير الشعر بدوره ، صخبا؟ إن معنى الخطاب هو الذي يحدد شكله وما هم بعد ذلك أكتبه الشاعر بيتا أم مقطعا أم نثرا؟ والخطاب لا مفر له من الصوت .

    يتبع

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 21, 2024 4:46 am