هكذا يتحول الاسم، بشكل ساخر، إلى معول لهدم كيان الدبيش واستئصال وجوده، بدل أن يكون عنصر تأكيد الوجود والهوية "باختصار لم يوجد دبيش في مصر كله أو على ظهر الكرة الأرضية"[44] إن الدبيش ليس إلا مزحة ثقيلة أريد بها إلهاء الدولة عن استقبال الضيف الكبير.
وعليه لم يعد الاسم علامة تدل على شخصية موجودة بقدر ما عاد معولا يحطمها وينسفها نسفا من العالم كله.
لقد استطاعت الرواية أن تسرب الشك إلى القارئ في وجود الدبيش فعلا معتمدة في ذلك على الاسم لتحقيق تلك الغاية.
غير أن الرواية إمعانا في خلق الالتباس والغموض لدى القارئ، تفتح الباب أمام إمكانية أخرى وهي أن الدبيش موجود فعلا، إذ تظهر في البداية على أنه رجل عادي يطلب المعونة "لقد صرنا- إذا- أمام إمكانيتين: أولا، أن الدبيش لم يكن له وجود، وثانيا، أنه يملك وجودا، لكننا صرنا في الحقيقة إزاء ثلاث إمكانيات للتفسير في هذه الرواية، والتقريران يمثلان إمكانيتين منها، أما الإمكانية الثالثة فتتمثل في أن الدبيش هو أصلا- كما قادنا النص إلى تصوره في بداية الرواية –رجل عادي يريد المعونة، وأن التقريرين كذبتان بيروقراطيتان لا يصدقهما الموظفون أنفسهم، وقد يستطيع القارئ أن يفضل تفسيرا من التفسيرات لأسباب تخصه شخصيا، ولكن الرواية لا تقدم أساسا لليقين في هذا التفضيل"[45].
واضح أن عملية إثبات شخصية الدبيش أو نفيها، حضورها أو غيابها يضفي نوعا من الغموض والالتباس لدى القارئ، الذي سيصاب بالدوخة في تقرير حقيقة الشخصية، إذ إنه ما إن يثبت رجله فوق أرض صلبة حتى تميد به مزلزلة رسوخه… إن السخرية تنبع من هذه الدوخة الحاصلة بين التأكيد والنفي، بين أن يكون أو لا يكون: "فبدلا من أن تكون الأسماء أداة لتحديد الشخصية ووصف طبيعتها، تصبح الأسماء المحور المركزي لعملية زلزلة اليقين، بدلا من أن يثبت الاسم الشخصية، يشيع الغموض حول طبيعتها، وأحيانا حول وجودها"[46]
ولن يكون حال زوجته وأبنائه بأفضل منه، إذ أن أسماءهم هي الأخرى ستكون إحدى الأدوات الناسفة لوجودهم يقول التقرير: "وتلك التي تدعى أنها زوجته اسمها صدفة، وأي حياة تخلو من الصدف…"[47]. هكذا يصبح الاسم، الذي هو علامة تمثل شخصية حاملها، أداة لتحطيم الاسم وبالتالي تحطيم الشخصية نفسمها.
أسـماء الأمـاكن:
ما لاحظناه في لعبة أسماء الشخصيات سنجد له شبيها، وإن بشكل مختلف، في أسماء الأماكن التي لا تثبت إلا لتنسف وجودها بعد ذلك، غير أن طريقة تقديمها يثبت أن ما يدور فيها من أحداث ووقائع يدل على أنها حقيقية. إن قرية الضهرية هي المكان الذي شهد ولادة يوسف القعيد الروائي الحقيقي، لا المثبت داخل النص.
وما يثير الانتباه في طريقة استعمال أسماء الأماكن الواردة في العمل الروائي هو تلك اللعبة الاشتقاقية التي يقوم بها المؤلف، قصد توليد دلالات ساخرة لها معان تصب في السياق العام للرواية.
إن المؤلف يبحث في المعاني الاشتقاقية للأماكن الواردة في الرواية ويكشف بعض إيحاءاتها الدلالية، وتعليلاتها الساخرة.
فالضهرية قد بناها الظاهر بيبرس " في إحدى جولاته في بر مصر، ومازال أنين صدفة يطن في أذني كبكاء قديم عمره آلاف السنين، فيه الكثير من التعاسات، ليست مصادفة أن تسمى قريتنا بهذا الاسم"[48] أما عن التوفيقية فتقول الرواية: " التوفيقية التي تقع فيها النقطة الثابتة، حملت اسم الخديوي توفيق"[49] وأتياي البارود "المركز، يقال إن محمود سامي البارودي كان أحد أبنائها، ويقولون أيضا في التاريخ المروي شفاهة والذي لم يدونه أحد. أن المدينة بنيت في مكان للبارود في ثورة عرابي"[50].
مما يشير إلى حقيقة كون المنطقة التي يكتب عنها رواياته: "مليئة بجميع تناقضات أيامنا، عاصمة المنطقة اسمهادمنهور، أهل بلدي يقولون أنه حدث في مصر القديمة في القرن العشرين قبل الميلاد في الربع الأخير منه، أن طغى أحد الفراعنة وانتشر السوء في أيامه، وازداد الأغنياء غنى والفقراء فقرا. وبعدت المسافة بين الطرفين، أوصل التذمر الناس إلى ثورة دموية، كان الدم فيها أنهارا يسبح فيها الثوار سميت:
الدم نهور وحرفت مع الزمان إلى دمنهور"[51].
نجد في هذه النماذج اعتماد القعيد على التاريخ المدون والتاريخ الشفهي، التاريخ المستخرج من بطون الكتب، والتاريخ المستخرج من أفواه الناس، لتعليل الأسماء السابقة. هذا إضافة إلى تضمن تلك النماذج تحريضا جليا لأبناء دمنهور للخروج على واقعهم بالرفض. فمن خلال القاموس الموظف في تلك النماذج نجد أن الواقع السابق الضارب في أعماق التاريخ هو نفسه الواقع الحالي، الأمر الذي يتطلب تغييره بالتحرك، هكذا نجد عبارات من مثل: أنين قديم عمره آلاف السنين، التعاسات، الطغيان انتشار السوء، عبارات ترمي إلى إبراز واقع مرير ساحق للفقراء الذين ازداد فقرهم في مقابل الأغنياء الذين ازداد غناهم. غير أن ذلك الواقع أفرز تذمرا تحول إلى ثورة دموية، أيام الفرعون الطاغي وثورة عرابي في بداية القرن الماضي، وعليه لكي يتم التغلب على تلك التناقضات الصارخة في أيامنا هذه لابد من إشهار السيف.
سخرية المؤلف-السارد من أعضاء السلطة:
إذا كانت السخرية قد طالت أسماء بعض الشخصيات، والأماكن، فإن المؤلف-السارد سيعمل على رمي الشخصيات البيروقراطية، بسهام سخريته، بالعمل على إظهار لا انسجامها ولا انسجام خطابها، أليست السخرية هي رغبة في تفكيك الانسجام الذي تعمل المؤسسة على إبزار وجوده؟.
لهذا نجد المؤلف-السارد يعمد إلى السخرية سلاحا للمحاسبة قصد إظهار التناقضات وكشف الكذب والمغالطات… عن طريق الدبيش الذي سيقوم بكشف المستور ! .
الدبيش يكشف تناقض المؤسسة:
في يوم ما، وفي لحظة زمنية معينة، سيقوم إنسان ضعيف - يظن أنه شاطر وذكي، بالبحث عن وسيلة لقلب قوة السلطة ضد نفسها. بسبب كونه غير قادر: على مواجهتها لأن الأمر مستحيل، وعلى انتقادها لأن الأمر غير ذي جدوى، إنه لم يتساءل إن كان العدل ينبغي أن يكون قويا لأن الأمر طوباوي- بدفع السلطة، من خلال قوتها نفسها، إلى أن تتناقض، وأن تظهر ذاتها بشكلها غير العادل، بطريقة سلمية ودون عنف، وقد كانت السخرية المعول الذي سيعتمد عليه من أجل فضح هذا اللاعدل وتعرية العنف الممارس ضد الضعاف.
باتفاق الأطراف الثلاثة على توزيع المعونة على النساء الحوامل فقط، يكون الطبيب قد نجح في إظهار ذكائه، لأنه حقق بهذا الاقتراح الإبقاء على المعونة بين يدي الطبقة المتسلطة، لكن غضب السلطة على الدبيش لم يكن إلا بسبب قيام هذا الأخير بكشف غبائها، إن السخرية هنا تتبع من التناقض الذي تحقق بفعل حصول الدبيش على المساعدة. لقد ظهر أن القول ليس هو الفعل، فالسلطة تدعي أنها ستعمل على حصر المساعدة على من يستحقها، وقد وضعت شروطا دقيقة حتى تسير المعونة إلى جهتها دون عراقيل ودون احتجاج، لكن الدبيش لجأ إلى الحيلة محققا بذلك انتصارا على هاته السلطة، معريا، بذلك، لاعدلها، وفي الوقت نفسه غباءها الأمر الذي استوجب إنزال العقاب به على فعله.
لقد وقف المؤلف-السارد موقف الساخر من تصرفات الأطراف المشكلة للسلطة، بإظهار تهافتها وتهافت خطابها، حيث إنه اعتمد على المفارقات اللغوية والمرجعية لتوليد الضحك من قوة لا عادلة تزرع البغضاء والأحقاد في النفوس.
تهافت رئيس مجلس القرية وتهافت خطابه:
يمكن اعتبار شخصية رئيس مجلس القرية من أكثر الشخصيات تعرضا لسهام سخرية المؤلف-السارد، كيف ذلك؟:
لنتوقف عند المقتطف المأخوذ من تقرير الطبيب والذي يخبرنا فيه أنه "في مساء يوم الجمعة السابع من يونيو سنة 1974، وردت إلى مجلس القرية كميات من الدقيق والجبن والسمن واللبن الجاف من معونة الولايات المتحدة الأمريكية للشعوب المتخلفة أو الفقيرة…"[52]
إننا نصادف في هذا المقتطف سخرية استرجاعية تتمثل في قول مجلس القرية،بأن المعونة مخصصة للشعوب المتخلفة أو الفقيرة، الجملة لوحدها لا تحقق هذا البعد الساخر إلا حين تقف عند جملة لاحقة تشير إلى أن مصر ليست دولة فقيرة أو متخلفة، وبالتالي فإن المعونة ليست مساعدة بقدر ما هي هبة، والرسول، صلى الله عليه وسلم، قد قبل الهبة، فلا بأس من أن تكون من نصيب الطبقة التي تدرك أهمية الدولة العظمى المانحة، وإشارتها من وراء تلك الهبة، أليس في ذلك تناقض في مواقف الرئيس؟ أليس في ذلك ما يسقط مصداقيته؟ ثم ألم تكن المعونة، بما هي وسيلة لتحقيق الحياة، وراء مقتل الدبيش؟ !
كما أن المقتطف ذاته يتضمن سخرية أخرى مريرة، وإظهارها يتطلب تفكيكا خارج لساني، يرتبط الامر بالرئيس الأمريكي نيكسون، حيث يشير إليه التقرير برجل السلام العالمي، والحقيقة أن مثل هذه الإشارة تفجر في المتلقي ضحكا حد البكاء، إذ كيف يمكن لأنسان ولغ في دم الفيتناميين بكل الأسلحة المحظورة وغير المحظورة أن يكون رجل سلام؟، أليس ذلك سخرية حين تحرف الألفاظ، وتسحب على من لا يستحقها. هذا فضلا عن أن هذا الرئيس تلاحقه مؤسسات بلاده نتيجة فضائحه، فما كان من مصر الرسمية إلا أن فتحت له ذراعيها واستقبلته استقبال الأبطال !.
إن المؤلف-السارد، والذي يمتلك معرفة ضافية بالأحداث والشخصيات… لا يني يتدخل لكشف العورات وتتبع الهنات، حينما يخبرنا، عن طريق الهوامش، بتناقضات رئيس مجلس القرية، ففي الوقت الذي يدعي فيه هذا الأخير، تلميحا، إلى حضوره بمقر عمله، من أجل إيجاد أفضل السبل لتوزيع المعونة، يطلعنا المؤلف-السارد بأن رئيس مجلس القرية كان بعيدا عن مقر عمله، وكان يمكن أن يمر الأمر دون لفت الانتباه لو تعلق الغياب بمهمة إدارية، لكن المؤلف-السارد يدفع بالفضح إلى حدود بعيدة حينما يطلعنا على سبب غياب رئيس مجلس القرية عن مقر عمله. إنه نزوة القلب، فقد كان إلى جوار حبيبة القلب على الكورنيش أثناء وصول المعونة، إن المفارقة المضحكة تبرز من خلال التناقض الموجود بين المظهر والحقيقة، فالرئيس يدعي شيئا ويخفي الحقيقة.
ويلاحق المؤلف-السارد الظواهر المتناقضة والمفارقات الساخرة. فحين تصل المعونة يتم بعث سيارة الإسعاف لإحضار رئيس القرية، فإذا كان دور سيارة الإسعاف* هو الإنقاذ فإن حقيقتها غير ذلك، فما تقوم به من أدوار يناقض ما خصصت له، فهي أولا: تذهب وتأتي بالرئيس وكأنها أصبحت سيارة خصوصية.
ثانيا: إنها تقوم بحمل دفاتر الطبيب.
ثالثا: إنها السيارة التي ذهبت بالدبيش إلى المركز من أجل اعتقاله، وبهذا تصبح سيارة شرطة دورها هو حرمان الأشخاص من حريتهم، بل من حياتهم، بدل أن تكون عنصرا مساعدا على إنقاذ أرواح الناس !
وحين يخبرنا المؤلف-السارد بأن رئيس مجلس القرية بالإسكندرية صحبة حبيبة القلب التي يهواها بحرقة، يطلعنا، في الوقت ذاته، بأن هاته الحبيبة تصغره سنا، مما يكشف عن مفارقة في السن بين "العاشقين"، يتولد عنها حب جارف من طرف الرئيس وبرودة من طرف المعشوقة.
وسيلاحق المؤلف-السارد الرئيس بسخريته اللاذغة من خلال العبارة التالية "ركب السيارة مع نور العين، أوصلها إلى المنزل، وبعد نزهة قصيرة في شوارع الإسكندرية، وبعد وداع مؤثر من جانب رئيس القرية فقط، حضر إلى البلد"[53].
إن لفظة "فقط" تشير بما فيه الكفاية إلى السخرية المسلطة عليه من طرف المؤلف-السارد: سخرية تتولد من المفارقة الصارخة بين الحرارة من طرف العاشق والبرودة من طرف المعشوقة، إنه وهم الحب !.
إن لفظة "فقط"، أيضا، تحضر حادة كالسنان تهوي بقوتها الساخرة على حلم الرئيس فتفتته، إضافة إلى كون رئيس القرية يدرك تماما أن ابتعاده عن حبيبة القلب قد يكون خطيرا انطلاقا من المثل القائل "البعيد عن العين بعيد عن القلب" والتواجد بجوار الحبيب نوع من الحفاظ على شجرة الحب"[54].
إن هذا "التواجد" بجانب المحبوبة كان على حساب القرية المعطلة مصالحها. وإمعانا في السخرية من شخصية رئيس القرية، ونكاية بطموحاته غير المشروعة، سيتابع المؤلف-السارد، من خلال تعليقاته على هامش خطاب الرئيس، باستعمال عبارات لغوية ساخرة في دلالاتها، من ذلك العـبارة التي تقطر نقدا: "حرارة وضخامة الاستقبال قد تركله أعلى مما يتصور"[55].
قد تبدو العبارة، للوهلة الأولى، عادية، غير أن حضور فعل "تركل" يزلزل ذلك الارتياح ويربك التلقي، لأن الفعل الذي استعمله المؤلف-السارد لم يكن بقصد إبراز الدلالة الجادة للارتقاء، وإنما للسخرية من تلك الأحلام التي تراود الرئيس في الارتقاء، دون كفاءات.
إن "تركل" لا تحضر بكامل سخريتها إلا إذا استحضرنا العضو الذي تلقى الركل، إنه طبعا، المؤخرة، وجلي أن الضرب في هذا المكان بالذات، لا يشير إلى الحفاظ على الكرامة، وإنما يدل على الحط منها، إن اللذة التي قد يستشعرها الرئيس والمؤدية به إلى الأعلى، لن تكون إلا ركلة مهينة. وبذلك نحصل على المقابلة التالية:
الأعلى ≠ الأسفل
فالوهم يجعل الرئيس يتصور أنه واصل إلى الأعلى، في حين أن الواقع هو الإذلال، لأن المنطقة التي تحس بالركلة توحي بذلك، بل تؤكده. والإذلال حط من الكرامة والحط من الكرامة هو وضع الشخص في الأسفل والأدنى.
وعليه، نجد أن الاستعمال اللغوي الحاضر في هذا الحيز يقوم بتتبع عورات الرئيس لإبراز تفاهته وهشاشته، رغم القوة التي يسعى إلى الظهور بها، كما أن الخطاب الذي يصوغه رغم ما يبدو عليه من قوة وانسجام وتناسق، حيث الاعتماد على السرد الكرونولوجي للأحداث والوقائع، وعلى المنطق في الصياغة، هو خطاب متهافت وغير منطقي، بفضل التناقضات التي يشتمل عليها، وبفضل تدخلات المؤلف-السارد الذي يقوم بفضحه.
غير أن السخرية لا تقتصر على البناء اللغوي المستعمل في خطاب الرئيس والذي تفضحه تعليقات المؤلف-السارد، وإنما يسير إلى أبعد من ذلك، إلى حيث المفارقات في مواقفه، ففي الوقت الذي يظهر نفسه أمام معشوقته بمظهر الذي لا يمكن أن يتحقق في القرية شيء دونه، مما يؤكد على أنه شخصية مهمة في دواليب الدولة، حيث يدعي "أن الاستدعاء يتصل بشكل مباشر بزيارة الرئيس نيكسون للإسكندرية، ومروره بقرية الضهرية، وأن الاستدعاء أتى من جهات عليا وأنهم في الناحية كلها لا يتصرفون في أية مشكلة بدونه"[56] تأتي الأحداث لتبين صبيانية تصرفاته التي ولدت الضحك لدى سكان القرية. فقد شاهدوا حماقات رئيسهم بفعل فائض الرغبة والحماس اللذين أبداهما أثناء مرور القطار بشكل كاد يودي بحياته لولا أولاد الحلال. ورغم ذلك لم يتوقف القطار لتتبخر الأحلام ويحل الخجل الذي لم يستطع مداراته إلا بالحصول على إجازة طويلة سيقضيها بالإسكندرية، وإجازته المفتوحة هي تعطيل لمصالح الناس.
نحصل، إذن، على مقابلة مفارقة بين:
الجد الذي أظهره أمام المعشوقة والتفاهة التي ظهر بها أثناء الاستقبال. تناقضات ساخرة، ستظهر بجلاء عندما تقوم باسترجاع العنصر الذي يقف وراء الحماس الزائد الذي أبداه الرئيس أثناء الاستقبال، إنه ذلك الوعد الذي قدمه زائر الليل، بقدرته على إيقاف قطار الزائر المهم، وبذلك تتحقق أحلامه الكبرى.
وبهذا الشكل، تصبح السخرية ذات سمك دلالي، فالرئيس ما هو إلا ساذج ومتهور لا يستحق المنصب الذي هو فيه، لقد ضاعت أحلامه ونفوذه وهيبته.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فالرئيس سيبقى مصرا على حلمه رغم اكتشاف الخدعة التي وقع فيها، بسبب ذلك الحلم الذي أخبره به المتدين حينما رأى أن رئيس القرية سيتبوأ مرتبة عليا، لم يلبث الحلم أن أصبح معمما حيث رآه جميع موظفي مجلس القرية*.
إنه لشيء مثير للانتباه أن نلاحظ اندفاع رئيس القرية، وهو الذكي الفطن الذي استطاع فك الكثير من الصعوبات، نحو الموت، ظانا أن الوعود التي تلقاها من الضيف الغامض حقيقة. هكذا نحصل على المفارقة التالية: اللص المسروق.
إنه لص لأنه استطاع سرقة المعونة، بمساعدة زملائه، وهو المسروق لأنه مكن الضيف الغريب من ماله وسقط في فخه. إن رئيس القرية، إذن خادع/مخدوع وتلك قمة السخرية ! ! !.
على أن الأمر لا يقتصر على ما سبق، لأن السخرية ستتسع أكثر لتشمل في جبتها كل رؤساء القرى الذين زارهم الضيف الغامض ووعدهم بالوعد نفسه.
يمكن أن نقول إنها سخرية معممة، ذلك أن المؤلف-السارد، من خلال الهوامش، قام بكشف الأسرار وفضحها، رغم حرص الشخصيات الضحايا على السرية والكتمان، مستعملا في ذلك عبارة لغوية دالة، سبق تحليل شبيه لها وهي: "أن يضربه الحظ لفوق"[57]
بعد أن علم الجميع بأنهم كانوا ضحايا، وهم الجلادون، تحول الأمر نكتة سخيفة مبكية ومضحكة معا.
وإمعانا في النكاية بهؤلاء، يخبرنا المؤلف-السارد بأن كل واحد من الضحايا، بسبب ما ركبه من أمل: "أوهم كل منهم نفسه بكذب الآخرين، أوتو همهم زيارة منتصف الليل له وحده، ومازالت في قيعان النفس مساحات للمنى والأحلام"[58].
إنه لأمر ساخر حين تجتمع المتنافرات، وتسود المتناقضات بين الظاهر والباطن، بين الحقيقي والمفتعل.
استعلاء الطبيب:
يعد الطبيب الشخصية التي وقفت وراء الصراع الذي قسم القرية إلى قسمين: قسم قوي متسلط ومستغل، وقسم ضعيف ومستكين، ذلك أن الطبيب هو الذي تفتقت ذهنيته عن الحل الأمثل الذي ستوزع بواسطته المعونة، إن الحيلة التي نبعت من ذهنه الوقاد تقول إن المعونة يجب أن تكون من نصيب الحوامل، وخاصة اللواتي هن في شهرهن التاسع، فإذا ما بقي شيء يوزع على من هن في شهرهن الثامن وهكذا نزولا. وقد كان الهدف من مثل هذا الإجراء هو رهن مستقبل مصر، من جهة، وحصوله على مكافأة خاصة له وحده، من جهة ثانية.
واضح أن الطبيب تراوده أحلام الترقي التي راودت رئيس مجلس القرية حتى لو كان الأمر على حساب الآخرين، بل على حساب مستقبل مصر كلها.
غير أن الذكاء الذي أبان عنه الطبيب يخفي في طياته غباء، سيعلن عنه الدبيش باكتشاف السر في الحصول على المعونة، واستغلاله. وبهاته الطريقة يكون قد أظهر المخفي. إذ لم يخطر ببال الطبيب، وهو الذي استعرض كل المشاكل التي يمكن أن تحدث وسعى إلى تجنبها باهتدائه، حسب زعمه، إلى الحل الأمثل، الأمر الذي جعلنا نحصل على المفارقة التالية:
الذكاء = الغباء
لم يكن الطبيب ليرضى بما وقع حين علم بأمر الخدعة المضادة، حيث يتوجه إلى بيت الدبيش لانتزاع المعونة، إذ بهذه الطريقة سيتمكن من استرداد ذكائه ومحو ما سطره الدبيش، لكن أين تظهر السخرية في مثل هذا العمل؟
إن إبراز البعد الساخر في هذا الموقف يتطلب تفكيكا خارج- لساني، وذلك عن طريق استحضار حدث مماثل" لكنه متناقض الدلالة مع ما ورد في الرواية فما هو هذا الحدث؟.
إنه قصة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه،والأسرة الفقيرة، هذا الخليفة الذي كان يتفقد شؤون رعيته، فعلم بخبر المرأة التي تطبخ لأبنائها، قصد إسكات جوعهم، الماء والحصى، فما كان منه إلا أن حمل إليها الطعام لتطبخه للأبناء الجياع، ولم يبرح المكان إلا بعد أن ذهب الجوع عن البطون الفارغة، وعلا البشر الوجوه البائسة.
أما الطبيب فعوض أن يعمل بمثل ما قام به عمر، سار في الاتجاه المخالف، إذ ذهب إلى البيت وانتزع الطعام، وترك الأفواه فارغة والبطون جائعة والحسرة على الوجوه بادية. من خلال الحديثين، يمكن رسم الآتي:
الصورة في الماضي الصورة في الحاضر
الأفعال
التفقد
اللامبلاة
الإطعام
التجويع
إدخال الفرحة
إحلال اليأس
تحمل المسؤولية
التهرب من المسؤولية
النتيجة
تحقيق العدل
تحقيق الجور
فهل تسعى مثل هاته الإشارة إلى القول إن الزمن الماضي أكثر إشراقا من الحاضر، على اعتبار أنه حاز العدل وحققه، في حين أن الزمن الحاضر لم يحز إلا الأنانية وإقامة الجور؟.
قد يكون هذا حاضرا، كما أنه يمكن أن يكون نتيجة "نزوة" القارئ، الذي حصل في ذهنه مثل هذه القراءة، حيث اعتبر أن التناص الساخر هو بين فترتين: قديمة تحقق فيها العدل بين الناس، وحديثة ساد فيها الجور بين الناس.
وتزداد السخرية حدة لما نعلم أن الطبيب، الذي تتمثل وظيفته في إنقاذ حياة الناس، يقوم بحرمان العباد من حقهم في الحياة، وبذلك يكون قد خان قسمه الذي سطره "أبوقراط".
ولتكتمل الصورة الساخرة الدالة على انحراف المسؤولين عن مسؤولياتهم وتخليهم عنها، يقدم المؤلف-السارد صورة العراك بين أعوان السلطة الراغبين في انتزاع المعونة وبين صدفة زوجة الدبيش، التي تقاوم فعل الانتزاع باستماتة.
مشهد مسرحي صامت، يجسد الصراع القوي بين قوى ظالمة قاهرة، وقوى أنهكها الجوع والطوى، قوى تملك الكثير وتريد المزيد من الاغتناء، وقوى لا ترغب إلا في ما يضمن لها رمق العيش والبقاء.
يقول الطبيب في تقريره الذي أنجزه بعد لأي مبئرا تلك اللحظة التي تمتاز بسخريتها العميقة "فهمت الفلاحة قصدنا، رمت نفسها على الخرق، أمسكت بها، تمكن الخفير القومرجي والموظف بعد جهد من انتزاعها منها بالقوة. الغريب أن هذه المخلوقة الضعيفة أبدت مقاومة لا تتناسب مع حالتها الصحية التي بدت أقرب إلى فقر الدم والضعف العام وفقدان الشهية، وهي أعراض حالة سوء تغذية، أتممنا ضبط المطلوب بنجاح مذهل. لم تتكلم الفلاحة، فتحت فمها من الدهشة وخرج منه هواء، لا يشكل أي صوت"[59].
فالمقتطف يشير بشكل ساخر إلى ذلك الصراع بين طرفين حول شيء تافه يلمح إليه بكلمة "الخرق"، والواضح أن الخرق لا قيمة لها، مما يؤكد الطابع السطحي والتافه للصراع. فالأطراف المتصارعة غير متساوية، حيث نجد في طرف ثلاثة رجال وفي طرف آخر امرأة. وهو ما يدعو إلى الضحك، ويزداد ذلك قوة حينما نعلم أن المرأة قاومت بشراسة عملية الانتزاع. غير أننا نصادف طرفا ثالثا يقوم بدور المراقبة وتبئير الصراع ونقله إلينا بنوع من اللذة، إنه لا يتدخل، وكأنه طرف محايد، لكننا نعلم، ضرورة، على أنه هو العنصر المحرك للصراع، والذي يشعر بلذة حين يعبر عن نهاية الصراع بالنجاح المذهل، وهو يعلم في قرارة نفسه أن الصراع تافه وموضوعه أتفه، ومواجهة امرأة من أجل ما لا قيمة له شيء مذل ومخز، ومع ذلك فإنه يداري كل هذا بادعاء الانتصار!.
يقوم الطبيب بتشخيص حالة الطرف الثاني في الصراع، وهو المرأة، بأنها تحمل أمارات دالة على سوء التغذية، وبالرغم من أن الصراع كان حول الطعام، وأن الطرف المحرك له طبيب، يكمن دوره في الكشف عن المرضى وتشخيص المرض وإعطاء الوصفة الملائمة. فإن المرأة تحرم، عنوة، من عنصر أساسي وهو التغذية، مما يدل على أن هذا السلوك يعتبر قمة اللاعدل، وسيقوم الدبيش بالإعلان عن هذا اللاعدل من خلال المثال الذي ضربه وهو "حاميها حراميها"[60].
إن التعرية والفضح اللذين قاما بهما الدبيش سيدفعان الطرف المدان إلى دفع الاتهام بالمبالغة في الطغيان رغبة في إخفاء الحقائق، ومعلوم أن الهجوم أفضل طريقة للدفاع، حيث سيهدد الطبيب الدبيش من أجل إسكاته بالقول: "اللي عملته تزوير وسرقة واختلاس ونهب للمال العام في الدولة وعدوان على حقوق الآخرين، لابـد من محاكمتك…"[61].
إن قراءة الاتهام بقلب المعنى، وذلك بتحويل ضمير المخاطب إلى ضمير المتكلم الجمع، سيجعل الجملة مستقيمة وذات معنى، لأن الدبيش لم يقم بما اتهم به، ولكن الطبيب وجماعته هم الذين يصح نعتهم بذلك. إن السخرية هي في القيام بالفعل وإخفائه، ورمي الآخرين به قصد اتهامهم ومحاكمتهم، ألا يعبر ذلك عن قمة اللاعدل؟.
غير أن استراتيجية المؤلف-السارد تبقى هي الفضح، فضح ما تسعى الأطراف القوية إلى إخفائه، فحين يخبرنا الطبيب بأنه أكمل التوزيع بالشكل السليم، يعلن المؤلف-السارد أن تقرير الطبيب أهمل الكثير من الحقائق، مشيرا بشكل ساخر إلى أن هذا لم يكن سهوا، وإنما كان متعمدا. وعليه، فإن التوزيع لم يتم إطلاقا بسبب ما حدث من فوضى بعد الاعتداء.
إن السخرية، إذا، لا تستتر على النقص وتداريه، بل إنها تفضح الاعوجاج وترغمه على الظهور بصراحة وخشونة لكي ينفجر ويعترف صاحبه. وفي ذلك خسارته.
فالفضح كآلية من آليات إنتاج السخرية يبغي الإبحار في عاهات الإنسان ونزواته ومتاهاته الشخصية… لدفعه إلى اكتشاف مفارقاته، ومن ثم التخلي عن خيلائه، وبذلك فهو يخدم السخرية بما هي كسر لانتفاخ الأنا.
إن الطبيب، كما بقية الشخصيات المشكلة للثالوث المتسلط، تنظر إلى نفسها باعتزاز، وإلى الآخرين بخيلاء، الأمر الذي يحدو بها إلى التطرف في نظراتها، حيث تجد الآخرين مجرد كائنات لا تستحق الشفقة لأنها "أشـباه الآدميين وأنصاف الحيوانات"[62].
إن انتفاخ هذه الذات بهذا الشكل هو ما دفع المؤلف-السارد إلى تتبع عوراتها قصد اكتشاف عيوبها ومفارقاتها، ودفعها إلى الاعتراف بذلك، ومن ثم عودتها إلى وضعها الصحيح.
فمثل هاته الشخصية لا يمكنها أن تحقق العدل وتجعله مشاعا بين الناس، إنها حين تدعي سعيها إلى القيام به تقوم بالإجهاز عليه، لأن حضوره هو ضياع لمصالحها، وتلك مفارقة عجيبة بين ادعاء الشخصية الميل إلى العدل، وسعيها الحثيث إلى اجتثاثه، فحين يخبرنا الطبيب بقوله: "راعيت حتى الساعات والدقائق في ترتيب الحالات تفاديا لوقوع ظلم على أحد من الأهالي"[63]. فإنه يكشف أن دقته هاته التي يبغي من ورائها إحقاق الحق، لم تكن إلا طريقة دقيقة من أجل إبعاد كل من لا يتوفر على صفة القربى. إنه إزهاق للحق لا إحقاق له، ثم إن ما سيأتي من كلام يكشف، بما لا يدع مجالا للشك، التناقض الحاصل بين الظاهـر والباطن، بين المصرح به والمضمر، فما يظهر من كلام الطبيب هو الرغبة في تجنب الظلم، لكن باطنه هو إقراره.
إن سجل الحوامل القديم سيتم محوه وكتابته وفق إرادة الطبيب، ولكثرة المحو والتدوين سيتم استبداله بآخر جديد، بسبب تآكل الأول من كثرة المسح والكشط بمشارط كسر الحقن !. إن جدلية التدوين والمحو ناتجة عن الرغبة في قصر المعونة على المقربين وعلى أقرب المقربين لا غير، وقد أخذ منه ذلك وقتا طويلا…
لكن، إذا كان ذكاء الطبيب يسعفه في تحقيق ما يريد، فإن المؤلف-السارد سيقوم بفضح خطته باستعمال ترسانة من الكلمات لمناوشة الخطاب الرسمي الذي يجسده الطبيب، وذلك حين يقول ساخرا: "أحيا زماننا يقينا في الضهرية، بأن أولاد الذوات لا يكذبون وأنه لا يتعاطى شرور عالمنا سوى السفلة الدكتور من أكابر الناس ولكن نصف كلامه كذب"[64].
إن الاستعمال اللغوي: "لا يكذبون- يكذب" هو دليل صارخ عل سخرية المؤلف-السارد من الطبيب، وإظهاره بمظهر المنافق الكذاب، واضعا إياه، بالنتيجة،في الدرك الأسفل حين كان يعتقد أنه من الطبقة العليا.
وإذا كانت الجدلية الموجودة بين لا يكذبون- يكذب ترمي إلى التنقيص من شخصية الطبيب، فإن المعادلة المنطقية المعتمدة تميل بكامل سخريتها إلى الطعن في صدقية الطبقة العليا، وتضعها موضع تساؤل، كيف ذلك؟.
اعتمادا على قول المؤلف-السارد نحصل على المعادلة التالية:
أولاد الذوات لا يكذبون القاعدة العامة
الدكتور من أولاد الذوات
الدكتور لا يكذب النتيجة
لكن الحقيقة التي يلمح إليها المؤلف-السارد هي كالتالي:
أولاد الذوات لا يكذبون
الدكتور من أولاد الذوات
الدكتور نصف كلامه كذب
الدكتور إنسان كاذب
أولاد الذوات يكذبون نقيض القاعدة العامة، إبطال لها.
القاعدة الأولى تعمم الصدق على أولاد الذوات، لتأتي النتيجة بعكس المقدمة، حيث تقوم بنسفها من أساسها مؤكدة على أن الكذب خاصية أولاد الذوات بامتياز. والطبيب واحد منهم، إذ في الوقت الذي يتم فيه الاعتقاد بأن هذه الطبقة بمعزل عن مرض الكذب، تأتي الجملة الموالية لوضعها موضع تساؤل، لتكون النتيجة هي نسف ما تم بناؤه في البداية، وليكون البناء المنطقي هادفا لا إلى بناء النتيجة وفق القاعدة العامة، كما هو معروف، ولكن لاستخلاص نتيجة ساخرة مضادة.
يتابع المؤلف-السارد فضح الطبيب، مبرزا مفارقاته، فنشاطه الذي أبداه في العمل، ما هو إلا نتيجة قرب افتتاح عيادته التي حصل عليها بالنفاق والنصب على العائلة الغنية التي تريد مصاهرته.
إن تضخم ذات الطبيب ستصور له نفسه على أنه قادر على فعل كل شيء. يقول المؤلف-السارد، مشيرا إلى هذه المسألة: "وعندما أتت حكاية المعونة وجدها فرصة لكي يعرف أهل البلد من هو الدكتور وإلى أي مدى يستطيع أن يمنـح وأن يمنع"[65].
إن السخرية، في هذا القول، نابعة من الجناس المولد للضحك، فيمنح ويمنع تشتملان على وزن واحد، وزمن واحد وحروف تكاد تكون متشابهة حد التماثل، إن الاختلاف موجود فقط في حرف الحاء الذي يتميز عن حرف العين، وإن كانت طريقة رسمهما تكاد تكون متشابهة، أما الدلالة فتؤكد على أن الدكتور بلغ من انتفاخ ذاته درجة بدأ يعتقد فيها أنه الواهب الأوحد للعطاء ومنعه، لأنه بيده الأمر كله !
إضافة إلى السخرية المتأتية من الجناس، تنبع سخرية أخرى استرجاعية حيث إن القارئ لما يصل إلى عبارة "يمنح ويمنع" يسترجع أن المعونة هي من أمريكا، وأن الطبيب ليس له إلا فضل التوزيع، فكيف يمكن أن يكون الواهب، وهو الذي وهبت له؟ كيف يمكن له أن يتصرف بمثل هذا الاستعلاء، وما هو إلى مجرد تابع؟ إن المؤلف-السارد يقوم برسم صورة كاريكاتورية للطبيب قصد إبراز ما تختزنه هاته الشخصية من مفارقات فاضحة، وتناقضات صارخة، ترمي، في المحصلة النهائية، إلى تقزيمها بدل تلك العملقة التي تريد أن تظهر بها، لأنها دمية في يد القوة العظمى لتحقيق مصالحها.
كما أن هاته الشخصية، لكتابة تقريرها الملفق والوهمي، تقوم بتعطيل القسم الصحي بأكمله لمدة يوم كامل، مدعية أنها في مهمة رسمية لا تقبل التأجيل، إذ عدا السخرية المتآتية مما سبق تنبع أخرى، حين نعلم أن التقرير كانت الغاية منه توريط الدبيش لا غير.
لقد تصيد المؤلف-السارد هذا الحدث قصد تعريته بلغة شفافة تقطر سخرية حيث قال: "حضر الموظف ومعه الأوراق، جلس وأمامه منضدة صغيرة في الشرفة واستمتع بمنظر أوراق شجرة التوت، وبالهواء المشبع برائحة الماء والخضرة والأرض المروية حديثا، وقف الطبيب ساندا جسمه لسور الشرفة في بيجاما تكشف عن جمال ورقي ملابسه الداخلية، أخذ يملي تقريره على الموظف الذي كان مبهورا بالموقف كله"[66]
إن المتمعن في بعض العبارات الواردة في المقتطف السابق، لا شك أنه سيستنتج ما تختزنه من سخرية، يعمد المؤلف-السارد من خلالها إلى تعرية الطبيب وإظهاره على حقيقته.
قد يبدو الوصف، للوهلة الأولى، رغبة في إظهار مكانة الطبيب الرفيعة، المكان الذي يطل منه، المنظر الذي يراه، الملابس الداخلية… والتي تسعى إلى الإبهار، كما حدث للموظف، إلا أن ترصيف بعض الجمل، وقراءة بعضها بالتصحيف، يمنحها بعدا آخر غير الذي يوحي به الوصف. فعبارة أوراق شجرة التوت تشير إلى الدلالة العامة والشائعة لهاته الأوراق وهي تغطية العري، وواضح أن أوراق شجرة التوت لا تغطي العري، لكن توهم بأنها تقوم بذلك، فضلا عن أن العبارة المسكوكة التي تقول: "تتساقط عنه (…) كأوراق التوت" تفيد أن هاته الأوراق تلمح إلى العري حين يراد منها أن تغطيه، وما يعضد هذه الدلالة، دلالة العري، حضور جملة "تكشف" والتي هي جلية في دلالتها، واضحة في معناها، لتأتي عبارة "ملابسه الداخلية" مؤكدة ما سبق. وغير خاف أن ظهور الملابس الداخلية هو كشف لجزء حميمي من جسم الإنسان، لتكتمل الصورة، صورة العري، بكلمة رقي". وقد أضيفت إليها الواو، فإذا نحن قرأناها بشكل تصحيفي، نحصل على "ورقي"، لتصبح الملابس الداخلية ورقية، كأوراق التوت التي تتساقط مظهرة العري في أجلى بهائه، وبالتالي ينفضح أمر الطبيب وتهاويه إلى الأسفل، ألا يسند جسمه لسور الشرفة؟ والشرفة عالية، والسور قد يتهاوى في أية لحظة؟ !
إن السخرية تنهض من المفارقة الحاضرة بشكل كثيف بين الظاهر الباطن، بين المظهر والكينونة.
الضــابــط:
لم يكن الطبيب وحده الذي ركبه الغرور، فالضابط، أيضا، له نصيب منه حين أخبر زملاءه بأن النجوم التي تزين كتفيه قادرة على حمل الكرة الأرضية كلها[67]، مؤكدا بذلك أنه كفيل بإبعاد التهمة عنهم، اعتماد ا على المثل القائل "إن الدم لا يمكن أن يصبح ماء"[68]، فما يربط بينهم أقوى من القرابة والنسب والمصالح المشتركة، والنظرة الواحدة لكل أمور العالم.
بناء عليه "سلم الضابط نشرة عن هروب العامل الزراعي للعسكري، كلفه بعمل اللازم حسب المتبع، حاول العسكري أن يوضح أنه المسؤول رسميا عن هروب المتهم الذي لم يهرب، طمأن الضابط:
-الحكاية تمثيل في تمثيل، وبشكل غير رسمي، ثم أننا مسؤولون عن الحكاية ذي قبلك"[69].
تتغذى السخرية من التضاد الحاضر في هذا المقتطف، والنابع من تكرار كلمة واحدة لا تفرق بينها إلا أداة النفي "لم" فاصلة بينهما من حيث المعنى. هكذا نحصل، في الآن ذاته، على الإثبات والنفي. الهارب الذي لم يهرب، فكيف يمكن أن يكون الأمر كذلك؟
إذا كان الأمر ساخرا، حيث تجتمع المتناقضات وتتآلف، فما مرد ذلك إلا لكونه تمثيلا في تمثيل، إنها مسرحية هزلية، حيث أطراف الصراع معروفة، والخطوط مرسومة بدقة، والأدوار واضحة جلية لا يمكن تغييرها.
ولأن الامر تمثيل في تمثيل، فإن الضابط قد اتخذ جلد البهلوان[70]، والمعروف أن البهلوان شخصية مضحكة مبكية في ذات الوقت، إنها تقوم بالضحك سرا حين تكون صحبة رفاقها، ومبكية حين تمارس تسلطها أمام الملأ، ميزتها، إذن، اللعب على الحبلين متى تطلب الأمر ذلك، حبل الجد وحبل الهزل.
فحين يظهر الضابط بملابسه الرسمية يكون جسمه متصلبا* لأنه يرغب في إبراز عين الحكومة الحمراء، وحين يكون في جلسة حميمية، مع أصدقاء العمر، تنفرج أساريره وتعلو الضحكة وجهه، إن الضحك لا يكون إلا بين المتساوين فقط.
إن فعل حضور التمثيل، في عمل الضابط، يسقط القناع ليظهر الوجه الحقيقي للسلطة، والمتمثل في هدم العدل الذي يدعي تحقيقه، فالضابط في تحرياته يدعي الوصول إلى الحقيقة على اعتبار أن "العدل أساس الملك"، معتمدا في مسعاه هذا على إحضار كتاب الله ليحلف عليه الشهود، هكذا يبني الضابط عمله مستندا على الدين والأمثال لإظهار جدية مسعاه في البحث عن الحقيقة وتحقيق أساس الملك، لكن السخرية الاسترجاعية تقوم بتفويض ذلك المسعى لأنها تبرز عورته، وتظهر زيفه، أليس الأمر تمثيلا في تمثيل؟ ! فهل يعقل أن يكون البحث عن العدل تمثيلا؟ هل يجتمع الجد والهزل في مثل هذه النازلة؟ ألا يقوم الهزل بإبطال مفعول الجد؟
تقدم لنا الصفحات الممتدة من 54 إلى 58 مشهدا مفعما بالسخرية، يدفع في الاتجاه الذي سبق تأكيده، وهو التمثيل- مع ما يحمله ذلك من دلالات انتفاء العدل والاستقامة.
الموضوع: التحقيق في اعتداء العامل الزراعي من جهة وهروبه من جهة أخرى.
الشخصيات: الضابط وكاتبه، رئيس القرية، الشهود.
المكان: الضهرية مع إشارات إلى التوفيقية.
الزمان: الاثنين وليلة الثلاثاء وصباحه.
إضافة إلى الإرشادات المسرحية التي تحدد حركات وسكنات الشخصيات وطريقة تحركها وتموقعها.
يخبرنا المشهد المسرحي بأن هناك تحقيقا جاريا في واقعة الدبيش، وقد تم إحضار الشهود للإدلاء بأقوالهم بغية الوصول إلى الحقيقة.
الأمر، إذن، لا غبار عليه، لكن ترصيف بعض الجمل والمواقف يدفع إلى إدراك أن الموقف كله هو محاولة إخفاء الحقيقة بالمبالغة في إظهار العدل. إن هناك نية مبيتة في افتعال تقرير يطرح مسؤولية مقتل الدبيش بعيدا عن ممثلي السلطة، وتكييف الواقعة على أنها فرار سجين خطير من السجن، مع ضرورة القبض عليه. هل هناك جثة؟ إن الجسم المادي يبقى غائبا، وغيابه ينفي مقتله إذا، لم يبق إلا اعتباره هاربا من السلطة !
إن العبارة الصغيرة التي أوردها المؤلف-السارد في صميم المشهد وهي "سرعته الغريبة" في التحقيق أثارت تساؤلاتهم"[71] تؤكد بجلاء أن التحقيق مطبوخ لا يهدف إلى إظهار الحق وإحقاقه، لأن السرعة في الإنجاز تناقض التأني المطلوب في مثل هذه المواقف، فضلا عن أنها تشير إلى أن الخطوط العريضة للتحقيق مرسومة سلفا ولم يبق سوى تسجيلها وتدوينها، أي أن الدور مكتوب فلم يبق له إلا أن يتجسد على خشبة المسرح أمام المتفرجين. إضافة إلى أن كلمة "الغريبة" هي علامة استفهام استنكاري لتلك السرعة التي ينجز بها التقرير.
ولا يمكن أن يظهر البعد الساخر لهاته العبارة إلا من خلال استرجاع عبارة سالفة وهي: 'أن التحقيق يتم بهدف الوصول إلى الحقيقة والعدل أساس الملك"[72].
فعن طريقة إقامة مقابلة بين الجملتين يظهر واضحا التنافر الموجود بينهما، تنافر يولد السخرية من العناصر التي تسعى إلى إيهامنا بأنها لا تطلب سوى إحقاق الحق.
إن المؤلف-السارد يشرك المتلقي في سخريته الموجهة لهاته الجهات التي ترغب في أن تسخر منه، بذلك تنقلب سخريتها ضدها، لتصبح في المطاف الأخير ضحية سخريتها.
كما أن الشهود يفقدون تمايزهم انطلاقا من كونهم سيؤدون دورا واحدا ووحيدا تم تحفيظه لهم، وهو إدانة الدبيش بتلفيق تهمة تآمره على الدولة، وسعيه لابتزاز الأغنياء، وتحريض زملائه على حمل السلاح في وجه الدولة وفي وجه من يسعى إلى استقبال الضيف الكبير، مؤكدين في شهادتهم، المتشابهة والمكررة، فكرة المؤامرة المحاكة ضد الدولة المصرية الآمنة. هكذا يتحول الدبيش من إنسان مسالم، كما تؤكد ذلك شهادة زوجته وأصدقائه، إلى مجرم خطير يهدد أمن الدولة في نظر كتاب الشهادة !.
إن هاته الشهادة الجماعية تدفع إلى الاعتقاد بقوتها، لكن هزالها يكمن من خلال الآتي:
-إنها محفوظة، تم نسجها سلفا وقام الشهود بآدائها، وهو ما يؤكد زيفها.
-إن الشهود جميعهم يعملون تحت إمرة رئيس مجلس القرية، البعض منهم طالب لخدمات مجلس القرية، وهو ما ينفي الحياد.
-إن الشهادة الجماعية منافية للقانون.
-إن الشهود لا يربطهم بالدبيش رابط، إضافة إلى أن البعض منهم لم يره في حياته.
-إن تدوين شهادة الشهود جاء من ذاكرة الكاتب المرافق للضابط.
-قيام الضابط بأخذ أختام الشهود على أوراق بيضاء، سيتم ملؤها فيما بعد.
جميع الإشارات السالفة تؤكد أن الشهادة تمثيل في تمثيل، وأن الشهود ما هم سوى كراكيز تحركهم آياد خفية.
تأتي بداية الشهادة مدعمة للبعد التمثيلي حيث تقول الجماعة كورالا: نبدأ كلامنا بالبكاء على عصر الناس الطيبين اللي راح"[73].
البداية هي محاكاة ساخرة لبدايات الحكايات القديمة ولحكايات الحلقة التي يتم افتتاحها به: "نبدأ كلامنا بالصلاة على النبي المختار…"
فإذا كانت البداية الثانية تستمد قوتها من المقدس، فإن البداية الأولى تلبس لباس الحزن من خلال فعل البكاء على زمن ولى وانقضى.
إن انزياح البداية الأولى عن الاستهلال المعروف ما هو إلا رغبة في تأكيد التحول السلبي الذي وسم عصرنا الحاضر، فهي تبرز أن هناك تغيرا غير إيجابي قد طرأ يستوجب البكاء، يتمثل في انصرام زمن جميل عرف بالطيبوبة وحلول زمن قبيح عرف بالمكر.
إن ما قام به الدبيش من اختراق الحدود وتجاوز المنع دليل على أن الناس الطيبين لم يعودوا موجودين لأن الطيبوبة تتطلب احترام التراتبية والاستسلام لها، أما الآن فإن العين تعلو على الحاجب !
إذا كانت البداية تدعو إلى البكاء على زمن الناس الطيبين الذي راح، فإنما لتؤكد على ضرورة عودته، لأن ذلك يحقق العدالة الحقة وهي بـقاء الحاجب فوق العين، بقاء يجب احترامه وعدم خرقه.
غير أن البكاء يمكن تعويضه بالضحك، من خلال الإبقاء على كلمة الطيبين لأنها تحمل دلالة السذاجة. وبذلك يتحقق المعنى الحقيقي لذلك الاستهلال الجديد.
إن الطيبوبة، إذن، قرينة السذاجة، والساذج يمكن الضحك عليه بسرعة، لأنه مغفل، ومن يقوم بآداء دور الضاحك هو الماكر. وعليه نحصل على مقابلة ساخرة تجمع الطيب بالماكر: الطيب ≠ الماكر، وهي مقابلة تستثير فينا المخزون القصصي الذي راكمناه منذ طفولتنا والمتمثل في الثعلب والحمامة، حيث يكون الثعلب هو الماكر الذي يحصل على ما يريد، والحمامة هي الساذجة التي تذهب ضحية مكر الثعلب.
وطبيعي أن الماكر لا يمكنه تحقيق العدل، إذ أن مسعاه الحقيقي هو الإيقاع بالمغفلين ونجاحه في آداء دوره يحقق له الفرحة المعبر عنها بالضحك (الضحك على الذقون) في مقابل البكاء الذي يؤديه الساذج بما هو ضحية.
وبما أن عصرنا هذا يسوده الماكرون، فلابد من أن يسيدوا، أيضا، ضحكهم، هكذا تتم المحاكاة الساخرة من تلك البدايات التقليدية للحلقة والحكايات الشعبية التي تؤبد لحظة المقدس وتعلن انتصار الحق ما دام أنه صوت الشعب. لتأتي البداية الثانية منزاحة عنها قصد تأسيس المدنس، الطامح إلى نشر الجور، لأنه صوت السلطة.
فالمقدس يدعو إلى القسطاط وكذلك طموح الشعب، أما المدنس فيدعو إلى تحقيق الجور والظلم لأنه صوت السلطة، وتلك مسحة ساخرة من مسؤولي اللحظة الراهنة الذين انحرفوا عن وظيفتهم لتحقيق المصالح الذاتية الضيقة على حساب المصلحة العامة.
وقد ظهر ذلك جليا من خلال سحنات كل فريق، فالفقراء أيديهم خشنة مشققة بسبب كثرة الأعمال الشاقة، تبدو عليهم أمارات سوء التغذية، مقابل الجلود الناعمة للأكابر، الدالة على الراحة ورغد العيش.
وفي نهاية المشهد المسرحي يخبرنا الكاتب، وهو يحدث الضابط على أن الأمر لا يستحق مثل هذا الاهتمام، حيث قام بعقد مقارنة بين أمخاخ أولاد الناس والدبيش الحشرة، مما يولد، بذلك، مفارقة مضحكة تتجلى في التالي:
الاهتمام الكبير الموضوع الحقير
الموضوعات الكبيرة التــفاهة
مما يؤكد على أن إيلاء الموضوع كل هذه الأهمية ما هو إلا رغبة في إخفاء الحقيقة لا رغبة في تجليتها، فالمظاهر القوية تخلب الأبصار وتبعدها عن الموضوع الحقيقي. وذلك ما يسعى إليه التحقيق، ألم يقل الضابط "أحنا هنا بنقضي وقت"[74]
إن الهدف من وراء هذه المسرحية هو تزجية الوقت فقط من أجل التسلية. كما أن المقارنة التي عقدها الكاتب تقيم فصلا بين الأعلى والأسفل.
أمخاخ أولاد الناس الدبيش الحشرة
الأعلى الأسفل.
حيث يتم إيلاء الأعلى (الحاجب) كل الاحترام، لأنه يستمد ذلك من مكانته السامية، وإيلاء الأسفل (العين) كل الاحتقار، لأنها تحيل على الجانب السفلي للجسم، إنه نوع من الاحتفال بالجانب الأسمى للجسم على حساب جانبه الأسفل.
خلاصة:
- يتشكل الخطاب التاريخي في رواية "يحدث في مصر الآن" من خلال ورود إشارات وعلامات لغوية ترد أثناء السرد أو العرض أو على لسان الشخصيات، وعبر هذه المؤشرات، عامة، يمكن وضع أحداث هذه الرواية في سياق تاريخي مرجعي ينقلنا من المجال العام المجرد إلى فترة زمنية محددة من تاريخ مصر المعاصر، إنها فترة ما بعد حرب أكتوبر 1973.
فالرواية بإحالتها على الواقع التاريخي تقترب من الرواية التسجيلية، لكن ما هي نسبة حضور البعد التسجيلي في الرواية؟ وما هو الدور الوظيفي الذي يقوم به الخطاب التاريخي في تشكيل هذا البعد؟
إن قارئ الرواية يدرك أنه أمام نص تخييلي يفصح عنه ورود كلمة "رواية" في متنه. وهذا التعاقد يجعله على وعي بلعبة السرد وقيمة الخطاب التاريخي الذي يشكل بناءه الجمالي. ولعل هذا الوعي الذي عند المتلقي هو الذي يجعله على معرفة بأن وظيفة الخطاب التاريخي ليست وظيفة مرجعية تحيل على واقع فعلي، بل إنها تستمد من الواقع تلك الأحداث قصد تحقيق مقروئيتها، وإخراج الأحداث الروائية المتخيلة من طابعها التجريدي رابطة إياها بالحياة اليومية محققة بذلك عنصر التواصل مع القارئ الذي يشارك المؤلف في معرفته بتلك الأحداث المستلهمة من الواقع. إنه مسعى يروم الإيهام بالواقع لأن القارئ يقتنع، وقد تلمس تلك الأحداث التي له سابق معرفة بها، بوقوع أحداث الرواية المتخيلة فعلا، وأنها جرت حقيقة.
- إن الرواية وهي تقوم بذلك الفعل تعتمد على المظهر التسجيلي التقريري في التعبير الفني، وهو مظهر أملاه ذلك الارتباط بالواقع الخارجي المعبر عنه، فضلا عن أنه "انعكاس لدعوتها السياسية الفاضحة الرافضة التحريضية المباشرة"[75].
- وبالرغم من حرص الرواية على تسجيل الواقع ورصد أحداثه، فإنها آنزاحت عن المحاكاة. معوضة إياها بمبدإ الإبداع المؤكد للتعدد والإختلاف، محققة بذلك شعرنة الواقعي، ناقلة إياه من الإنغلاق والأحادية إلى الإنفتاح والتعدد، وهو ما يعني أن الواقع لم يعد أحادي البعد قابلا للفهم والإختزال.
- قيام الرواية بالكشف عن إواليات اشتغال كتابتها، داعية المتلقي إلى الوقوف على سيرورتها واحتمالية تأويل النص الروائي. فالأساسي في هذا العمل، فضلا عن أهمية ما نرويه، هو الإنشغال بكيفية ما نرويه الذي ارتقى إلى مصاف الحكاية نفسها، إنها بذلك تعلن قطيعة (نسبية) مع مبدإ التماثل أو التصوير « La représentation » الذي يتحكم في علاقة الرواية بالواقع، وتؤسس ما يمكن وصفه ب "التصوير الذاتي" L'autoreprésentation "[76].
تضمين الرواية للبعد البوليسي سعيا وراء تأكيد اللانظام، خارقة بذلك المبدأ الذي ترومه الرواية البوليسية والهادف إلى إعادة النظام المفقود. وهي بهذا الإنزياح تحقق شعريتها الخاصة.
- ع
وعليه لم يعد الاسم علامة تدل على شخصية موجودة بقدر ما عاد معولا يحطمها وينسفها نسفا من العالم كله.
لقد استطاعت الرواية أن تسرب الشك إلى القارئ في وجود الدبيش فعلا معتمدة في ذلك على الاسم لتحقيق تلك الغاية.
غير أن الرواية إمعانا في خلق الالتباس والغموض لدى القارئ، تفتح الباب أمام إمكانية أخرى وهي أن الدبيش موجود فعلا، إذ تظهر في البداية على أنه رجل عادي يطلب المعونة "لقد صرنا- إذا- أمام إمكانيتين: أولا، أن الدبيش لم يكن له وجود، وثانيا، أنه يملك وجودا، لكننا صرنا في الحقيقة إزاء ثلاث إمكانيات للتفسير في هذه الرواية، والتقريران يمثلان إمكانيتين منها، أما الإمكانية الثالثة فتتمثل في أن الدبيش هو أصلا- كما قادنا النص إلى تصوره في بداية الرواية –رجل عادي يريد المعونة، وأن التقريرين كذبتان بيروقراطيتان لا يصدقهما الموظفون أنفسهم، وقد يستطيع القارئ أن يفضل تفسيرا من التفسيرات لأسباب تخصه شخصيا، ولكن الرواية لا تقدم أساسا لليقين في هذا التفضيل"[45].
واضح أن عملية إثبات شخصية الدبيش أو نفيها، حضورها أو غيابها يضفي نوعا من الغموض والالتباس لدى القارئ، الذي سيصاب بالدوخة في تقرير حقيقة الشخصية، إذ إنه ما إن يثبت رجله فوق أرض صلبة حتى تميد به مزلزلة رسوخه… إن السخرية تنبع من هذه الدوخة الحاصلة بين التأكيد والنفي، بين أن يكون أو لا يكون: "فبدلا من أن تكون الأسماء أداة لتحديد الشخصية ووصف طبيعتها، تصبح الأسماء المحور المركزي لعملية زلزلة اليقين، بدلا من أن يثبت الاسم الشخصية، يشيع الغموض حول طبيعتها، وأحيانا حول وجودها"[46]
ولن يكون حال زوجته وأبنائه بأفضل منه، إذ أن أسماءهم هي الأخرى ستكون إحدى الأدوات الناسفة لوجودهم يقول التقرير: "وتلك التي تدعى أنها زوجته اسمها صدفة، وأي حياة تخلو من الصدف…"[47]. هكذا يصبح الاسم، الذي هو علامة تمثل شخصية حاملها، أداة لتحطيم الاسم وبالتالي تحطيم الشخصية نفسمها.
أسـماء الأمـاكن:
ما لاحظناه في لعبة أسماء الشخصيات سنجد له شبيها، وإن بشكل مختلف، في أسماء الأماكن التي لا تثبت إلا لتنسف وجودها بعد ذلك، غير أن طريقة تقديمها يثبت أن ما يدور فيها من أحداث ووقائع يدل على أنها حقيقية. إن قرية الضهرية هي المكان الذي شهد ولادة يوسف القعيد الروائي الحقيقي، لا المثبت داخل النص.
وما يثير الانتباه في طريقة استعمال أسماء الأماكن الواردة في العمل الروائي هو تلك اللعبة الاشتقاقية التي يقوم بها المؤلف، قصد توليد دلالات ساخرة لها معان تصب في السياق العام للرواية.
إن المؤلف يبحث في المعاني الاشتقاقية للأماكن الواردة في الرواية ويكشف بعض إيحاءاتها الدلالية، وتعليلاتها الساخرة.
فالضهرية قد بناها الظاهر بيبرس " في إحدى جولاته في بر مصر، ومازال أنين صدفة يطن في أذني كبكاء قديم عمره آلاف السنين، فيه الكثير من التعاسات، ليست مصادفة أن تسمى قريتنا بهذا الاسم"[48] أما عن التوفيقية فتقول الرواية: " التوفيقية التي تقع فيها النقطة الثابتة، حملت اسم الخديوي توفيق"[49] وأتياي البارود "المركز، يقال إن محمود سامي البارودي كان أحد أبنائها، ويقولون أيضا في التاريخ المروي شفاهة والذي لم يدونه أحد. أن المدينة بنيت في مكان للبارود في ثورة عرابي"[50].
مما يشير إلى حقيقة كون المنطقة التي يكتب عنها رواياته: "مليئة بجميع تناقضات أيامنا، عاصمة المنطقة اسمهادمنهور، أهل بلدي يقولون أنه حدث في مصر القديمة في القرن العشرين قبل الميلاد في الربع الأخير منه، أن طغى أحد الفراعنة وانتشر السوء في أيامه، وازداد الأغنياء غنى والفقراء فقرا. وبعدت المسافة بين الطرفين، أوصل التذمر الناس إلى ثورة دموية، كان الدم فيها أنهارا يسبح فيها الثوار سميت:
الدم نهور وحرفت مع الزمان إلى دمنهور"[51].
نجد في هذه النماذج اعتماد القعيد على التاريخ المدون والتاريخ الشفهي، التاريخ المستخرج من بطون الكتب، والتاريخ المستخرج من أفواه الناس، لتعليل الأسماء السابقة. هذا إضافة إلى تضمن تلك النماذج تحريضا جليا لأبناء دمنهور للخروج على واقعهم بالرفض. فمن خلال القاموس الموظف في تلك النماذج نجد أن الواقع السابق الضارب في أعماق التاريخ هو نفسه الواقع الحالي، الأمر الذي يتطلب تغييره بالتحرك، هكذا نجد عبارات من مثل: أنين قديم عمره آلاف السنين، التعاسات، الطغيان انتشار السوء، عبارات ترمي إلى إبراز واقع مرير ساحق للفقراء الذين ازداد فقرهم في مقابل الأغنياء الذين ازداد غناهم. غير أن ذلك الواقع أفرز تذمرا تحول إلى ثورة دموية، أيام الفرعون الطاغي وثورة عرابي في بداية القرن الماضي، وعليه لكي يتم التغلب على تلك التناقضات الصارخة في أيامنا هذه لابد من إشهار السيف.
سخرية المؤلف-السارد من أعضاء السلطة:
إذا كانت السخرية قد طالت أسماء بعض الشخصيات، والأماكن، فإن المؤلف-السارد سيعمل على رمي الشخصيات البيروقراطية، بسهام سخريته، بالعمل على إظهار لا انسجامها ولا انسجام خطابها، أليست السخرية هي رغبة في تفكيك الانسجام الذي تعمل المؤسسة على إبزار وجوده؟.
لهذا نجد المؤلف-السارد يعمد إلى السخرية سلاحا للمحاسبة قصد إظهار التناقضات وكشف الكذب والمغالطات… عن طريق الدبيش الذي سيقوم بكشف المستور ! .
الدبيش يكشف تناقض المؤسسة:
في يوم ما، وفي لحظة زمنية معينة، سيقوم إنسان ضعيف - يظن أنه شاطر وذكي، بالبحث عن وسيلة لقلب قوة السلطة ضد نفسها. بسبب كونه غير قادر: على مواجهتها لأن الأمر مستحيل، وعلى انتقادها لأن الأمر غير ذي جدوى، إنه لم يتساءل إن كان العدل ينبغي أن يكون قويا لأن الأمر طوباوي- بدفع السلطة، من خلال قوتها نفسها، إلى أن تتناقض، وأن تظهر ذاتها بشكلها غير العادل، بطريقة سلمية ودون عنف، وقد كانت السخرية المعول الذي سيعتمد عليه من أجل فضح هذا اللاعدل وتعرية العنف الممارس ضد الضعاف.
باتفاق الأطراف الثلاثة على توزيع المعونة على النساء الحوامل فقط، يكون الطبيب قد نجح في إظهار ذكائه، لأنه حقق بهذا الاقتراح الإبقاء على المعونة بين يدي الطبقة المتسلطة، لكن غضب السلطة على الدبيش لم يكن إلا بسبب قيام هذا الأخير بكشف غبائها، إن السخرية هنا تتبع من التناقض الذي تحقق بفعل حصول الدبيش على المساعدة. لقد ظهر أن القول ليس هو الفعل، فالسلطة تدعي أنها ستعمل على حصر المساعدة على من يستحقها، وقد وضعت شروطا دقيقة حتى تسير المعونة إلى جهتها دون عراقيل ودون احتجاج، لكن الدبيش لجأ إلى الحيلة محققا بذلك انتصارا على هاته السلطة، معريا، بذلك، لاعدلها، وفي الوقت نفسه غباءها الأمر الذي استوجب إنزال العقاب به على فعله.
لقد وقف المؤلف-السارد موقف الساخر من تصرفات الأطراف المشكلة للسلطة، بإظهار تهافتها وتهافت خطابها، حيث إنه اعتمد على المفارقات اللغوية والمرجعية لتوليد الضحك من قوة لا عادلة تزرع البغضاء والأحقاد في النفوس.
تهافت رئيس مجلس القرية وتهافت خطابه:
يمكن اعتبار شخصية رئيس مجلس القرية من أكثر الشخصيات تعرضا لسهام سخرية المؤلف-السارد، كيف ذلك؟:
لنتوقف عند المقتطف المأخوذ من تقرير الطبيب والذي يخبرنا فيه أنه "في مساء يوم الجمعة السابع من يونيو سنة 1974، وردت إلى مجلس القرية كميات من الدقيق والجبن والسمن واللبن الجاف من معونة الولايات المتحدة الأمريكية للشعوب المتخلفة أو الفقيرة…"[52]
إننا نصادف في هذا المقتطف سخرية استرجاعية تتمثل في قول مجلس القرية،بأن المعونة مخصصة للشعوب المتخلفة أو الفقيرة، الجملة لوحدها لا تحقق هذا البعد الساخر إلا حين تقف عند جملة لاحقة تشير إلى أن مصر ليست دولة فقيرة أو متخلفة، وبالتالي فإن المعونة ليست مساعدة بقدر ما هي هبة، والرسول، صلى الله عليه وسلم، قد قبل الهبة، فلا بأس من أن تكون من نصيب الطبقة التي تدرك أهمية الدولة العظمى المانحة، وإشارتها من وراء تلك الهبة، أليس في ذلك تناقض في مواقف الرئيس؟ أليس في ذلك ما يسقط مصداقيته؟ ثم ألم تكن المعونة، بما هي وسيلة لتحقيق الحياة، وراء مقتل الدبيش؟ !
كما أن المقتطف ذاته يتضمن سخرية أخرى مريرة، وإظهارها يتطلب تفكيكا خارج لساني، يرتبط الامر بالرئيس الأمريكي نيكسون، حيث يشير إليه التقرير برجل السلام العالمي، والحقيقة أن مثل هذه الإشارة تفجر في المتلقي ضحكا حد البكاء، إذ كيف يمكن لأنسان ولغ في دم الفيتناميين بكل الأسلحة المحظورة وغير المحظورة أن يكون رجل سلام؟، أليس ذلك سخرية حين تحرف الألفاظ، وتسحب على من لا يستحقها. هذا فضلا عن أن هذا الرئيس تلاحقه مؤسسات بلاده نتيجة فضائحه، فما كان من مصر الرسمية إلا أن فتحت له ذراعيها واستقبلته استقبال الأبطال !.
إن المؤلف-السارد، والذي يمتلك معرفة ضافية بالأحداث والشخصيات… لا يني يتدخل لكشف العورات وتتبع الهنات، حينما يخبرنا، عن طريق الهوامش، بتناقضات رئيس مجلس القرية، ففي الوقت الذي يدعي فيه هذا الأخير، تلميحا، إلى حضوره بمقر عمله، من أجل إيجاد أفضل السبل لتوزيع المعونة، يطلعنا المؤلف-السارد بأن رئيس مجلس القرية كان بعيدا عن مقر عمله، وكان يمكن أن يمر الأمر دون لفت الانتباه لو تعلق الغياب بمهمة إدارية، لكن المؤلف-السارد يدفع بالفضح إلى حدود بعيدة حينما يطلعنا على سبب غياب رئيس مجلس القرية عن مقر عمله. إنه نزوة القلب، فقد كان إلى جوار حبيبة القلب على الكورنيش أثناء وصول المعونة، إن المفارقة المضحكة تبرز من خلال التناقض الموجود بين المظهر والحقيقة، فالرئيس يدعي شيئا ويخفي الحقيقة.
ويلاحق المؤلف-السارد الظواهر المتناقضة والمفارقات الساخرة. فحين تصل المعونة يتم بعث سيارة الإسعاف لإحضار رئيس القرية، فإذا كان دور سيارة الإسعاف* هو الإنقاذ فإن حقيقتها غير ذلك، فما تقوم به من أدوار يناقض ما خصصت له، فهي أولا: تذهب وتأتي بالرئيس وكأنها أصبحت سيارة خصوصية.
ثانيا: إنها تقوم بحمل دفاتر الطبيب.
ثالثا: إنها السيارة التي ذهبت بالدبيش إلى المركز من أجل اعتقاله، وبهذا تصبح سيارة شرطة دورها هو حرمان الأشخاص من حريتهم، بل من حياتهم، بدل أن تكون عنصرا مساعدا على إنقاذ أرواح الناس !
وحين يخبرنا المؤلف-السارد بأن رئيس مجلس القرية بالإسكندرية صحبة حبيبة القلب التي يهواها بحرقة، يطلعنا، في الوقت ذاته، بأن هاته الحبيبة تصغره سنا، مما يكشف عن مفارقة في السن بين "العاشقين"، يتولد عنها حب جارف من طرف الرئيس وبرودة من طرف المعشوقة.
وسيلاحق المؤلف-السارد الرئيس بسخريته اللاذغة من خلال العبارة التالية "ركب السيارة مع نور العين، أوصلها إلى المنزل، وبعد نزهة قصيرة في شوارع الإسكندرية، وبعد وداع مؤثر من جانب رئيس القرية فقط، حضر إلى البلد"[53].
إن لفظة "فقط" تشير بما فيه الكفاية إلى السخرية المسلطة عليه من طرف المؤلف-السارد: سخرية تتولد من المفارقة الصارخة بين الحرارة من طرف العاشق والبرودة من طرف المعشوقة، إنه وهم الحب !.
إن لفظة "فقط"، أيضا، تحضر حادة كالسنان تهوي بقوتها الساخرة على حلم الرئيس فتفتته، إضافة إلى كون رئيس القرية يدرك تماما أن ابتعاده عن حبيبة القلب قد يكون خطيرا انطلاقا من المثل القائل "البعيد عن العين بعيد عن القلب" والتواجد بجوار الحبيب نوع من الحفاظ على شجرة الحب"[54].
إن هذا "التواجد" بجانب المحبوبة كان على حساب القرية المعطلة مصالحها. وإمعانا في السخرية من شخصية رئيس القرية، ونكاية بطموحاته غير المشروعة، سيتابع المؤلف-السارد، من خلال تعليقاته على هامش خطاب الرئيس، باستعمال عبارات لغوية ساخرة في دلالاتها، من ذلك العـبارة التي تقطر نقدا: "حرارة وضخامة الاستقبال قد تركله أعلى مما يتصور"[55].
قد تبدو العبارة، للوهلة الأولى، عادية، غير أن حضور فعل "تركل" يزلزل ذلك الارتياح ويربك التلقي، لأن الفعل الذي استعمله المؤلف-السارد لم يكن بقصد إبراز الدلالة الجادة للارتقاء، وإنما للسخرية من تلك الأحلام التي تراود الرئيس في الارتقاء، دون كفاءات.
إن "تركل" لا تحضر بكامل سخريتها إلا إذا استحضرنا العضو الذي تلقى الركل، إنه طبعا، المؤخرة، وجلي أن الضرب في هذا المكان بالذات، لا يشير إلى الحفاظ على الكرامة، وإنما يدل على الحط منها، إن اللذة التي قد يستشعرها الرئيس والمؤدية به إلى الأعلى، لن تكون إلا ركلة مهينة. وبذلك نحصل على المقابلة التالية:
الأعلى ≠ الأسفل
فالوهم يجعل الرئيس يتصور أنه واصل إلى الأعلى، في حين أن الواقع هو الإذلال، لأن المنطقة التي تحس بالركلة توحي بذلك، بل تؤكده. والإذلال حط من الكرامة والحط من الكرامة هو وضع الشخص في الأسفل والأدنى.
وعليه، نجد أن الاستعمال اللغوي الحاضر في هذا الحيز يقوم بتتبع عورات الرئيس لإبراز تفاهته وهشاشته، رغم القوة التي يسعى إلى الظهور بها، كما أن الخطاب الذي يصوغه رغم ما يبدو عليه من قوة وانسجام وتناسق، حيث الاعتماد على السرد الكرونولوجي للأحداث والوقائع، وعلى المنطق في الصياغة، هو خطاب متهافت وغير منطقي، بفضل التناقضات التي يشتمل عليها، وبفضل تدخلات المؤلف-السارد الذي يقوم بفضحه.
غير أن السخرية لا تقتصر على البناء اللغوي المستعمل في خطاب الرئيس والذي تفضحه تعليقات المؤلف-السارد، وإنما يسير إلى أبعد من ذلك، إلى حيث المفارقات في مواقفه، ففي الوقت الذي يظهر نفسه أمام معشوقته بمظهر الذي لا يمكن أن يتحقق في القرية شيء دونه، مما يؤكد على أنه شخصية مهمة في دواليب الدولة، حيث يدعي "أن الاستدعاء يتصل بشكل مباشر بزيارة الرئيس نيكسون للإسكندرية، ومروره بقرية الضهرية، وأن الاستدعاء أتى من جهات عليا وأنهم في الناحية كلها لا يتصرفون في أية مشكلة بدونه"[56] تأتي الأحداث لتبين صبيانية تصرفاته التي ولدت الضحك لدى سكان القرية. فقد شاهدوا حماقات رئيسهم بفعل فائض الرغبة والحماس اللذين أبداهما أثناء مرور القطار بشكل كاد يودي بحياته لولا أولاد الحلال. ورغم ذلك لم يتوقف القطار لتتبخر الأحلام ويحل الخجل الذي لم يستطع مداراته إلا بالحصول على إجازة طويلة سيقضيها بالإسكندرية، وإجازته المفتوحة هي تعطيل لمصالح الناس.
نحصل، إذن، على مقابلة مفارقة بين:
الجد الذي أظهره أمام المعشوقة والتفاهة التي ظهر بها أثناء الاستقبال. تناقضات ساخرة، ستظهر بجلاء عندما تقوم باسترجاع العنصر الذي يقف وراء الحماس الزائد الذي أبداه الرئيس أثناء الاستقبال، إنه ذلك الوعد الذي قدمه زائر الليل، بقدرته على إيقاف قطار الزائر المهم، وبذلك تتحقق أحلامه الكبرى.
وبهذا الشكل، تصبح السخرية ذات سمك دلالي، فالرئيس ما هو إلا ساذج ومتهور لا يستحق المنصب الذي هو فيه، لقد ضاعت أحلامه ونفوذه وهيبته.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فالرئيس سيبقى مصرا على حلمه رغم اكتشاف الخدعة التي وقع فيها، بسبب ذلك الحلم الذي أخبره به المتدين حينما رأى أن رئيس القرية سيتبوأ مرتبة عليا، لم يلبث الحلم أن أصبح معمما حيث رآه جميع موظفي مجلس القرية*.
إنه لشيء مثير للانتباه أن نلاحظ اندفاع رئيس القرية، وهو الذكي الفطن الذي استطاع فك الكثير من الصعوبات، نحو الموت، ظانا أن الوعود التي تلقاها من الضيف الغامض حقيقة. هكذا نحصل على المفارقة التالية: اللص المسروق.
إنه لص لأنه استطاع سرقة المعونة، بمساعدة زملائه، وهو المسروق لأنه مكن الضيف الغريب من ماله وسقط في فخه. إن رئيس القرية، إذن خادع/مخدوع وتلك قمة السخرية ! ! !.
على أن الأمر لا يقتصر على ما سبق، لأن السخرية ستتسع أكثر لتشمل في جبتها كل رؤساء القرى الذين زارهم الضيف الغامض ووعدهم بالوعد نفسه.
يمكن أن نقول إنها سخرية معممة، ذلك أن المؤلف-السارد، من خلال الهوامش، قام بكشف الأسرار وفضحها، رغم حرص الشخصيات الضحايا على السرية والكتمان، مستعملا في ذلك عبارة لغوية دالة، سبق تحليل شبيه لها وهي: "أن يضربه الحظ لفوق"[57]
بعد أن علم الجميع بأنهم كانوا ضحايا، وهم الجلادون، تحول الأمر نكتة سخيفة مبكية ومضحكة معا.
وإمعانا في النكاية بهؤلاء، يخبرنا المؤلف-السارد بأن كل واحد من الضحايا، بسبب ما ركبه من أمل: "أوهم كل منهم نفسه بكذب الآخرين، أوتو همهم زيارة منتصف الليل له وحده، ومازالت في قيعان النفس مساحات للمنى والأحلام"[58].
إنه لأمر ساخر حين تجتمع المتنافرات، وتسود المتناقضات بين الظاهر والباطن، بين الحقيقي والمفتعل.
استعلاء الطبيب:
يعد الطبيب الشخصية التي وقفت وراء الصراع الذي قسم القرية إلى قسمين: قسم قوي متسلط ومستغل، وقسم ضعيف ومستكين، ذلك أن الطبيب هو الذي تفتقت ذهنيته عن الحل الأمثل الذي ستوزع بواسطته المعونة، إن الحيلة التي نبعت من ذهنه الوقاد تقول إن المعونة يجب أن تكون من نصيب الحوامل، وخاصة اللواتي هن في شهرهن التاسع، فإذا ما بقي شيء يوزع على من هن في شهرهن الثامن وهكذا نزولا. وقد كان الهدف من مثل هذا الإجراء هو رهن مستقبل مصر، من جهة، وحصوله على مكافأة خاصة له وحده، من جهة ثانية.
واضح أن الطبيب تراوده أحلام الترقي التي راودت رئيس مجلس القرية حتى لو كان الأمر على حساب الآخرين، بل على حساب مستقبل مصر كلها.
غير أن الذكاء الذي أبان عنه الطبيب يخفي في طياته غباء، سيعلن عنه الدبيش باكتشاف السر في الحصول على المعونة، واستغلاله. وبهاته الطريقة يكون قد أظهر المخفي. إذ لم يخطر ببال الطبيب، وهو الذي استعرض كل المشاكل التي يمكن أن تحدث وسعى إلى تجنبها باهتدائه، حسب زعمه، إلى الحل الأمثل، الأمر الذي جعلنا نحصل على المفارقة التالية:
الذكاء = الغباء
لم يكن الطبيب ليرضى بما وقع حين علم بأمر الخدعة المضادة، حيث يتوجه إلى بيت الدبيش لانتزاع المعونة، إذ بهذه الطريقة سيتمكن من استرداد ذكائه ومحو ما سطره الدبيش، لكن أين تظهر السخرية في مثل هذا العمل؟
إن إبراز البعد الساخر في هذا الموقف يتطلب تفكيكا خارج- لساني، وذلك عن طريق استحضار حدث مماثل" لكنه متناقض الدلالة مع ما ورد في الرواية فما هو هذا الحدث؟.
إنه قصة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه،والأسرة الفقيرة، هذا الخليفة الذي كان يتفقد شؤون رعيته، فعلم بخبر المرأة التي تطبخ لأبنائها، قصد إسكات جوعهم، الماء والحصى، فما كان منه إلا أن حمل إليها الطعام لتطبخه للأبناء الجياع، ولم يبرح المكان إلا بعد أن ذهب الجوع عن البطون الفارغة، وعلا البشر الوجوه البائسة.
أما الطبيب فعوض أن يعمل بمثل ما قام به عمر، سار في الاتجاه المخالف، إذ ذهب إلى البيت وانتزع الطعام، وترك الأفواه فارغة والبطون جائعة والحسرة على الوجوه بادية. من خلال الحديثين، يمكن رسم الآتي:
الصورة في الماضي الصورة في الحاضر
الأفعال
التفقد
اللامبلاة
الإطعام
التجويع
إدخال الفرحة
إحلال اليأس
تحمل المسؤولية
التهرب من المسؤولية
النتيجة
تحقيق العدل
تحقيق الجور
فهل تسعى مثل هاته الإشارة إلى القول إن الزمن الماضي أكثر إشراقا من الحاضر، على اعتبار أنه حاز العدل وحققه، في حين أن الزمن الحاضر لم يحز إلا الأنانية وإقامة الجور؟.
قد يكون هذا حاضرا، كما أنه يمكن أن يكون نتيجة "نزوة" القارئ، الذي حصل في ذهنه مثل هذه القراءة، حيث اعتبر أن التناص الساخر هو بين فترتين: قديمة تحقق فيها العدل بين الناس، وحديثة ساد فيها الجور بين الناس.
وتزداد السخرية حدة لما نعلم أن الطبيب، الذي تتمثل وظيفته في إنقاذ حياة الناس، يقوم بحرمان العباد من حقهم في الحياة، وبذلك يكون قد خان قسمه الذي سطره "أبوقراط".
ولتكتمل الصورة الساخرة الدالة على انحراف المسؤولين عن مسؤولياتهم وتخليهم عنها، يقدم المؤلف-السارد صورة العراك بين أعوان السلطة الراغبين في انتزاع المعونة وبين صدفة زوجة الدبيش، التي تقاوم فعل الانتزاع باستماتة.
مشهد مسرحي صامت، يجسد الصراع القوي بين قوى ظالمة قاهرة، وقوى أنهكها الجوع والطوى، قوى تملك الكثير وتريد المزيد من الاغتناء، وقوى لا ترغب إلا في ما يضمن لها رمق العيش والبقاء.
يقول الطبيب في تقريره الذي أنجزه بعد لأي مبئرا تلك اللحظة التي تمتاز بسخريتها العميقة "فهمت الفلاحة قصدنا، رمت نفسها على الخرق، أمسكت بها، تمكن الخفير القومرجي والموظف بعد جهد من انتزاعها منها بالقوة. الغريب أن هذه المخلوقة الضعيفة أبدت مقاومة لا تتناسب مع حالتها الصحية التي بدت أقرب إلى فقر الدم والضعف العام وفقدان الشهية، وهي أعراض حالة سوء تغذية، أتممنا ضبط المطلوب بنجاح مذهل. لم تتكلم الفلاحة، فتحت فمها من الدهشة وخرج منه هواء، لا يشكل أي صوت"[59].
فالمقتطف يشير بشكل ساخر إلى ذلك الصراع بين طرفين حول شيء تافه يلمح إليه بكلمة "الخرق"، والواضح أن الخرق لا قيمة لها، مما يؤكد الطابع السطحي والتافه للصراع. فالأطراف المتصارعة غير متساوية، حيث نجد في طرف ثلاثة رجال وفي طرف آخر امرأة. وهو ما يدعو إلى الضحك، ويزداد ذلك قوة حينما نعلم أن المرأة قاومت بشراسة عملية الانتزاع. غير أننا نصادف طرفا ثالثا يقوم بدور المراقبة وتبئير الصراع ونقله إلينا بنوع من اللذة، إنه لا يتدخل، وكأنه طرف محايد، لكننا نعلم، ضرورة، على أنه هو العنصر المحرك للصراع، والذي يشعر بلذة حين يعبر عن نهاية الصراع بالنجاح المذهل، وهو يعلم في قرارة نفسه أن الصراع تافه وموضوعه أتفه، ومواجهة امرأة من أجل ما لا قيمة له شيء مذل ومخز، ومع ذلك فإنه يداري كل هذا بادعاء الانتصار!.
يقوم الطبيب بتشخيص حالة الطرف الثاني في الصراع، وهو المرأة، بأنها تحمل أمارات دالة على سوء التغذية، وبالرغم من أن الصراع كان حول الطعام، وأن الطرف المحرك له طبيب، يكمن دوره في الكشف عن المرضى وتشخيص المرض وإعطاء الوصفة الملائمة. فإن المرأة تحرم، عنوة، من عنصر أساسي وهو التغذية، مما يدل على أن هذا السلوك يعتبر قمة اللاعدل، وسيقوم الدبيش بالإعلان عن هذا اللاعدل من خلال المثال الذي ضربه وهو "حاميها حراميها"[60].
إن التعرية والفضح اللذين قاما بهما الدبيش سيدفعان الطرف المدان إلى دفع الاتهام بالمبالغة في الطغيان رغبة في إخفاء الحقائق، ومعلوم أن الهجوم أفضل طريقة للدفاع، حيث سيهدد الطبيب الدبيش من أجل إسكاته بالقول: "اللي عملته تزوير وسرقة واختلاس ونهب للمال العام في الدولة وعدوان على حقوق الآخرين، لابـد من محاكمتك…"[61].
إن قراءة الاتهام بقلب المعنى، وذلك بتحويل ضمير المخاطب إلى ضمير المتكلم الجمع، سيجعل الجملة مستقيمة وذات معنى، لأن الدبيش لم يقم بما اتهم به، ولكن الطبيب وجماعته هم الذين يصح نعتهم بذلك. إن السخرية هي في القيام بالفعل وإخفائه، ورمي الآخرين به قصد اتهامهم ومحاكمتهم، ألا يعبر ذلك عن قمة اللاعدل؟.
غير أن استراتيجية المؤلف-السارد تبقى هي الفضح، فضح ما تسعى الأطراف القوية إلى إخفائه، فحين يخبرنا الطبيب بأنه أكمل التوزيع بالشكل السليم، يعلن المؤلف-السارد أن تقرير الطبيب أهمل الكثير من الحقائق، مشيرا بشكل ساخر إلى أن هذا لم يكن سهوا، وإنما كان متعمدا. وعليه، فإن التوزيع لم يتم إطلاقا بسبب ما حدث من فوضى بعد الاعتداء.
إن السخرية، إذا، لا تستتر على النقص وتداريه، بل إنها تفضح الاعوجاج وترغمه على الظهور بصراحة وخشونة لكي ينفجر ويعترف صاحبه. وفي ذلك خسارته.
فالفضح كآلية من آليات إنتاج السخرية يبغي الإبحار في عاهات الإنسان ونزواته ومتاهاته الشخصية… لدفعه إلى اكتشاف مفارقاته، ومن ثم التخلي عن خيلائه، وبذلك فهو يخدم السخرية بما هي كسر لانتفاخ الأنا.
إن الطبيب، كما بقية الشخصيات المشكلة للثالوث المتسلط، تنظر إلى نفسها باعتزاز، وإلى الآخرين بخيلاء، الأمر الذي يحدو بها إلى التطرف في نظراتها، حيث تجد الآخرين مجرد كائنات لا تستحق الشفقة لأنها "أشـباه الآدميين وأنصاف الحيوانات"[62].
إن انتفاخ هذه الذات بهذا الشكل هو ما دفع المؤلف-السارد إلى تتبع عوراتها قصد اكتشاف عيوبها ومفارقاتها، ودفعها إلى الاعتراف بذلك، ومن ثم عودتها إلى وضعها الصحيح.
فمثل هاته الشخصية لا يمكنها أن تحقق العدل وتجعله مشاعا بين الناس، إنها حين تدعي سعيها إلى القيام به تقوم بالإجهاز عليه، لأن حضوره هو ضياع لمصالحها، وتلك مفارقة عجيبة بين ادعاء الشخصية الميل إلى العدل، وسعيها الحثيث إلى اجتثاثه، فحين يخبرنا الطبيب بقوله: "راعيت حتى الساعات والدقائق في ترتيب الحالات تفاديا لوقوع ظلم على أحد من الأهالي"[63]. فإنه يكشف أن دقته هاته التي يبغي من ورائها إحقاق الحق، لم تكن إلا طريقة دقيقة من أجل إبعاد كل من لا يتوفر على صفة القربى. إنه إزهاق للحق لا إحقاق له، ثم إن ما سيأتي من كلام يكشف، بما لا يدع مجالا للشك، التناقض الحاصل بين الظاهـر والباطن، بين المصرح به والمضمر، فما يظهر من كلام الطبيب هو الرغبة في تجنب الظلم، لكن باطنه هو إقراره.
إن سجل الحوامل القديم سيتم محوه وكتابته وفق إرادة الطبيب، ولكثرة المحو والتدوين سيتم استبداله بآخر جديد، بسبب تآكل الأول من كثرة المسح والكشط بمشارط كسر الحقن !. إن جدلية التدوين والمحو ناتجة عن الرغبة في قصر المعونة على المقربين وعلى أقرب المقربين لا غير، وقد أخذ منه ذلك وقتا طويلا…
لكن، إذا كان ذكاء الطبيب يسعفه في تحقيق ما يريد، فإن المؤلف-السارد سيقوم بفضح خطته باستعمال ترسانة من الكلمات لمناوشة الخطاب الرسمي الذي يجسده الطبيب، وذلك حين يقول ساخرا: "أحيا زماننا يقينا في الضهرية، بأن أولاد الذوات لا يكذبون وأنه لا يتعاطى شرور عالمنا سوى السفلة الدكتور من أكابر الناس ولكن نصف كلامه كذب"[64].
إن الاستعمال اللغوي: "لا يكذبون- يكذب" هو دليل صارخ عل سخرية المؤلف-السارد من الطبيب، وإظهاره بمظهر المنافق الكذاب، واضعا إياه، بالنتيجة،في الدرك الأسفل حين كان يعتقد أنه من الطبقة العليا.
وإذا كانت الجدلية الموجودة بين لا يكذبون- يكذب ترمي إلى التنقيص من شخصية الطبيب، فإن المعادلة المنطقية المعتمدة تميل بكامل سخريتها إلى الطعن في صدقية الطبقة العليا، وتضعها موضع تساؤل، كيف ذلك؟.
اعتمادا على قول المؤلف-السارد نحصل على المعادلة التالية:
أولاد الذوات لا يكذبون القاعدة العامة
الدكتور من أولاد الذوات
الدكتور لا يكذب النتيجة
لكن الحقيقة التي يلمح إليها المؤلف-السارد هي كالتالي:
أولاد الذوات لا يكذبون
الدكتور من أولاد الذوات
الدكتور نصف كلامه كذب
الدكتور إنسان كاذب
أولاد الذوات يكذبون نقيض القاعدة العامة، إبطال لها.
القاعدة الأولى تعمم الصدق على أولاد الذوات، لتأتي النتيجة بعكس المقدمة، حيث تقوم بنسفها من أساسها مؤكدة على أن الكذب خاصية أولاد الذوات بامتياز. والطبيب واحد منهم، إذ في الوقت الذي يتم فيه الاعتقاد بأن هذه الطبقة بمعزل عن مرض الكذب، تأتي الجملة الموالية لوضعها موضع تساؤل، لتكون النتيجة هي نسف ما تم بناؤه في البداية، وليكون البناء المنطقي هادفا لا إلى بناء النتيجة وفق القاعدة العامة، كما هو معروف، ولكن لاستخلاص نتيجة ساخرة مضادة.
يتابع المؤلف-السارد فضح الطبيب، مبرزا مفارقاته، فنشاطه الذي أبداه في العمل، ما هو إلا نتيجة قرب افتتاح عيادته التي حصل عليها بالنفاق والنصب على العائلة الغنية التي تريد مصاهرته.
إن تضخم ذات الطبيب ستصور له نفسه على أنه قادر على فعل كل شيء. يقول المؤلف-السارد، مشيرا إلى هذه المسألة: "وعندما أتت حكاية المعونة وجدها فرصة لكي يعرف أهل البلد من هو الدكتور وإلى أي مدى يستطيع أن يمنـح وأن يمنع"[65].
إن السخرية، في هذا القول، نابعة من الجناس المولد للضحك، فيمنح ويمنع تشتملان على وزن واحد، وزمن واحد وحروف تكاد تكون متشابهة حد التماثل، إن الاختلاف موجود فقط في حرف الحاء الذي يتميز عن حرف العين، وإن كانت طريقة رسمهما تكاد تكون متشابهة، أما الدلالة فتؤكد على أن الدكتور بلغ من انتفاخ ذاته درجة بدأ يعتقد فيها أنه الواهب الأوحد للعطاء ومنعه، لأنه بيده الأمر كله !
إضافة إلى السخرية المتأتية من الجناس، تنبع سخرية أخرى استرجاعية حيث إن القارئ لما يصل إلى عبارة "يمنح ويمنع" يسترجع أن المعونة هي من أمريكا، وأن الطبيب ليس له إلا فضل التوزيع، فكيف يمكن أن يكون الواهب، وهو الذي وهبت له؟ كيف يمكن له أن يتصرف بمثل هذا الاستعلاء، وما هو إلى مجرد تابع؟ إن المؤلف-السارد يقوم برسم صورة كاريكاتورية للطبيب قصد إبراز ما تختزنه هاته الشخصية من مفارقات فاضحة، وتناقضات صارخة، ترمي، في المحصلة النهائية، إلى تقزيمها بدل تلك العملقة التي تريد أن تظهر بها، لأنها دمية في يد القوة العظمى لتحقيق مصالحها.
كما أن هاته الشخصية، لكتابة تقريرها الملفق والوهمي، تقوم بتعطيل القسم الصحي بأكمله لمدة يوم كامل، مدعية أنها في مهمة رسمية لا تقبل التأجيل، إذ عدا السخرية المتآتية مما سبق تنبع أخرى، حين نعلم أن التقرير كانت الغاية منه توريط الدبيش لا غير.
لقد تصيد المؤلف-السارد هذا الحدث قصد تعريته بلغة شفافة تقطر سخرية حيث قال: "حضر الموظف ومعه الأوراق، جلس وأمامه منضدة صغيرة في الشرفة واستمتع بمنظر أوراق شجرة التوت، وبالهواء المشبع برائحة الماء والخضرة والأرض المروية حديثا، وقف الطبيب ساندا جسمه لسور الشرفة في بيجاما تكشف عن جمال ورقي ملابسه الداخلية، أخذ يملي تقريره على الموظف الذي كان مبهورا بالموقف كله"[66]
إن المتمعن في بعض العبارات الواردة في المقتطف السابق، لا شك أنه سيستنتج ما تختزنه من سخرية، يعمد المؤلف-السارد من خلالها إلى تعرية الطبيب وإظهاره على حقيقته.
قد يبدو الوصف، للوهلة الأولى، رغبة في إظهار مكانة الطبيب الرفيعة، المكان الذي يطل منه، المنظر الذي يراه، الملابس الداخلية… والتي تسعى إلى الإبهار، كما حدث للموظف، إلا أن ترصيف بعض الجمل، وقراءة بعضها بالتصحيف، يمنحها بعدا آخر غير الذي يوحي به الوصف. فعبارة أوراق شجرة التوت تشير إلى الدلالة العامة والشائعة لهاته الأوراق وهي تغطية العري، وواضح أن أوراق شجرة التوت لا تغطي العري، لكن توهم بأنها تقوم بذلك، فضلا عن أن العبارة المسكوكة التي تقول: "تتساقط عنه (…) كأوراق التوت" تفيد أن هاته الأوراق تلمح إلى العري حين يراد منها أن تغطيه، وما يعضد هذه الدلالة، دلالة العري، حضور جملة "تكشف" والتي هي جلية في دلالتها، واضحة في معناها، لتأتي عبارة "ملابسه الداخلية" مؤكدة ما سبق. وغير خاف أن ظهور الملابس الداخلية هو كشف لجزء حميمي من جسم الإنسان، لتكتمل الصورة، صورة العري، بكلمة رقي". وقد أضيفت إليها الواو، فإذا نحن قرأناها بشكل تصحيفي، نحصل على "ورقي"، لتصبح الملابس الداخلية ورقية، كأوراق التوت التي تتساقط مظهرة العري في أجلى بهائه، وبالتالي ينفضح أمر الطبيب وتهاويه إلى الأسفل، ألا يسند جسمه لسور الشرفة؟ والشرفة عالية، والسور قد يتهاوى في أية لحظة؟ !
إن السخرية تنهض من المفارقة الحاضرة بشكل كثيف بين الظاهر الباطن، بين المظهر والكينونة.
الضــابــط:
لم يكن الطبيب وحده الذي ركبه الغرور، فالضابط، أيضا، له نصيب منه حين أخبر زملاءه بأن النجوم التي تزين كتفيه قادرة على حمل الكرة الأرضية كلها[67]، مؤكدا بذلك أنه كفيل بإبعاد التهمة عنهم، اعتماد ا على المثل القائل "إن الدم لا يمكن أن يصبح ماء"[68]، فما يربط بينهم أقوى من القرابة والنسب والمصالح المشتركة، والنظرة الواحدة لكل أمور العالم.
بناء عليه "سلم الضابط نشرة عن هروب العامل الزراعي للعسكري، كلفه بعمل اللازم حسب المتبع، حاول العسكري أن يوضح أنه المسؤول رسميا عن هروب المتهم الذي لم يهرب، طمأن الضابط:
-الحكاية تمثيل في تمثيل، وبشكل غير رسمي، ثم أننا مسؤولون عن الحكاية ذي قبلك"[69].
تتغذى السخرية من التضاد الحاضر في هذا المقتطف، والنابع من تكرار كلمة واحدة لا تفرق بينها إلا أداة النفي "لم" فاصلة بينهما من حيث المعنى. هكذا نحصل، في الآن ذاته، على الإثبات والنفي. الهارب الذي لم يهرب، فكيف يمكن أن يكون الأمر كذلك؟
إذا كان الأمر ساخرا، حيث تجتمع المتناقضات وتتآلف، فما مرد ذلك إلا لكونه تمثيلا في تمثيل، إنها مسرحية هزلية، حيث أطراف الصراع معروفة، والخطوط مرسومة بدقة، والأدوار واضحة جلية لا يمكن تغييرها.
ولأن الامر تمثيل في تمثيل، فإن الضابط قد اتخذ جلد البهلوان[70]، والمعروف أن البهلوان شخصية مضحكة مبكية في ذات الوقت، إنها تقوم بالضحك سرا حين تكون صحبة رفاقها، ومبكية حين تمارس تسلطها أمام الملأ، ميزتها، إذن، اللعب على الحبلين متى تطلب الأمر ذلك، حبل الجد وحبل الهزل.
فحين يظهر الضابط بملابسه الرسمية يكون جسمه متصلبا* لأنه يرغب في إبراز عين الحكومة الحمراء، وحين يكون في جلسة حميمية، مع أصدقاء العمر، تنفرج أساريره وتعلو الضحكة وجهه، إن الضحك لا يكون إلا بين المتساوين فقط.
إن فعل حضور التمثيل، في عمل الضابط، يسقط القناع ليظهر الوجه الحقيقي للسلطة، والمتمثل في هدم العدل الذي يدعي تحقيقه، فالضابط في تحرياته يدعي الوصول إلى الحقيقة على اعتبار أن "العدل أساس الملك"، معتمدا في مسعاه هذا على إحضار كتاب الله ليحلف عليه الشهود، هكذا يبني الضابط عمله مستندا على الدين والأمثال لإظهار جدية مسعاه في البحث عن الحقيقة وتحقيق أساس الملك، لكن السخرية الاسترجاعية تقوم بتفويض ذلك المسعى لأنها تبرز عورته، وتظهر زيفه، أليس الأمر تمثيلا في تمثيل؟ ! فهل يعقل أن يكون البحث عن العدل تمثيلا؟ هل يجتمع الجد والهزل في مثل هذه النازلة؟ ألا يقوم الهزل بإبطال مفعول الجد؟
تقدم لنا الصفحات الممتدة من 54 إلى 58 مشهدا مفعما بالسخرية، يدفع في الاتجاه الذي سبق تأكيده، وهو التمثيل- مع ما يحمله ذلك من دلالات انتفاء العدل والاستقامة.
الموضوع: التحقيق في اعتداء العامل الزراعي من جهة وهروبه من جهة أخرى.
الشخصيات: الضابط وكاتبه، رئيس القرية، الشهود.
المكان: الضهرية مع إشارات إلى التوفيقية.
الزمان: الاثنين وليلة الثلاثاء وصباحه.
إضافة إلى الإرشادات المسرحية التي تحدد حركات وسكنات الشخصيات وطريقة تحركها وتموقعها.
يخبرنا المشهد المسرحي بأن هناك تحقيقا جاريا في واقعة الدبيش، وقد تم إحضار الشهود للإدلاء بأقوالهم بغية الوصول إلى الحقيقة.
الأمر، إذن، لا غبار عليه، لكن ترصيف بعض الجمل والمواقف يدفع إلى إدراك أن الموقف كله هو محاولة إخفاء الحقيقة بالمبالغة في إظهار العدل. إن هناك نية مبيتة في افتعال تقرير يطرح مسؤولية مقتل الدبيش بعيدا عن ممثلي السلطة، وتكييف الواقعة على أنها فرار سجين خطير من السجن، مع ضرورة القبض عليه. هل هناك جثة؟ إن الجسم المادي يبقى غائبا، وغيابه ينفي مقتله إذا، لم يبق إلا اعتباره هاربا من السلطة !
إن العبارة الصغيرة التي أوردها المؤلف-السارد في صميم المشهد وهي "سرعته الغريبة" في التحقيق أثارت تساؤلاتهم"[71] تؤكد بجلاء أن التحقيق مطبوخ لا يهدف إلى إظهار الحق وإحقاقه، لأن السرعة في الإنجاز تناقض التأني المطلوب في مثل هذه المواقف، فضلا عن أنها تشير إلى أن الخطوط العريضة للتحقيق مرسومة سلفا ولم يبق سوى تسجيلها وتدوينها، أي أن الدور مكتوب فلم يبق له إلا أن يتجسد على خشبة المسرح أمام المتفرجين. إضافة إلى أن كلمة "الغريبة" هي علامة استفهام استنكاري لتلك السرعة التي ينجز بها التقرير.
ولا يمكن أن يظهر البعد الساخر لهاته العبارة إلا من خلال استرجاع عبارة سالفة وهي: 'أن التحقيق يتم بهدف الوصول إلى الحقيقة والعدل أساس الملك"[72].
فعن طريقة إقامة مقابلة بين الجملتين يظهر واضحا التنافر الموجود بينهما، تنافر يولد السخرية من العناصر التي تسعى إلى إيهامنا بأنها لا تطلب سوى إحقاق الحق.
إن المؤلف-السارد يشرك المتلقي في سخريته الموجهة لهاته الجهات التي ترغب في أن تسخر منه، بذلك تنقلب سخريتها ضدها، لتصبح في المطاف الأخير ضحية سخريتها.
كما أن الشهود يفقدون تمايزهم انطلاقا من كونهم سيؤدون دورا واحدا ووحيدا تم تحفيظه لهم، وهو إدانة الدبيش بتلفيق تهمة تآمره على الدولة، وسعيه لابتزاز الأغنياء، وتحريض زملائه على حمل السلاح في وجه الدولة وفي وجه من يسعى إلى استقبال الضيف الكبير، مؤكدين في شهادتهم، المتشابهة والمكررة، فكرة المؤامرة المحاكة ضد الدولة المصرية الآمنة. هكذا يتحول الدبيش من إنسان مسالم، كما تؤكد ذلك شهادة زوجته وأصدقائه، إلى مجرم خطير يهدد أمن الدولة في نظر كتاب الشهادة !.
إن هاته الشهادة الجماعية تدفع إلى الاعتقاد بقوتها، لكن هزالها يكمن من خلال الآتي:
-إنها محفوظة، تم نسجها سلفا وقام الشهود بآدائها، وهو ما يؤكد زيفها.
-إن الشهود جميعهم يعملون تحت إمرة رئيس مجلس القرية، البعض منهم طالب لخدمات مجلس القرية، وهو ما ينفي الحياد.
-إن الشهادة الجماعية منافية للقانون.
-إن الشهود لا يربطهم بالدبيش رابط، إضافة إلى أن البعض منهم لم يره في حياته.
-إن تدوين شهادة الشهود جاء من ذاكرة الكاتب المرافق للضابط.
-قيام الضابط بأخذ أختام الشهود على أوراق بيضاء، سيتم ملؤها فيما بعد.
جميع الإشارات السالفة تؤكد أن الشهادة تمثيل في تمثيل، وأن الشهود ما هم سوى كراكيز تحركهم آياد خفية.
تأتي بداية الشهادة مدعمة للبعد التمثيلي حيث تقول الجماعة كورالا: نبدأ كلامنا بالبكاء على عصر الناس الطيبين اللي راح"[73].
البداية هي محاكاة ساخرة لبدايات الحكايات القديمة ولحكايات الحلقة التي يتم افتتاحها به: "نبدأ كلامنا بالصلاة على النبي المختار…"
فإذا كانت البداية الثانية تستمد قوتها من المقدس، فإن البداية الأولى تلبس لباس الحزن من خلال فعل البكاء على زمن ولى وانقضى.
إن انزياح البداية الأولى عن الاستهلال المعروف ما هو إلا رغبة في تأكيد التحول السلبي الذي وسم عصرنا الحاضر، فهي تبرز أن هناك تغيرا غير إيجابي قد طرأ يستوجب البكاء، يتمثل في انصرام زمن جميل عرف بالطيبوبة وحلول زمن قبيح عرف بالمكر.
إن ما قام به الدبيش من اختراق الحدود وتجاوز المنع دليل على أن الناس الطيبين لم يعودوا موجودين لأن الطيبوبة تتطلب احترام التراتبية والاستسلام لها، أما الآن فإن العين تعلو على الحاجب !
إذا كانت البداية تدعو إلى البكاء على زمن الناس الطيبين الذي راح، فإنما لتؤكد على ضرورة عودته، لأن ذلك يحقق العدالة الحقة وهي بـقاء الحاجب فوق العين، بقاء يجب احترامه وعدم خرقه.
غير أن البكاء يمكن تعويضه بالضحك، من خلال الإبقاء على كلمة الطيبين لأنها تحمل دلالة السذاجة. وبذلك يتحقق المعنى الحقيقي لذلك الاستهلال الجديد.
إن الطيبوبة، إذن، قرينة السذاجة، والساذج يمكن الضحك عليه بسرعة، لأنه مغفل، ومن يقوم بآداء دور الضاحك هو الماكر. وعليه نحصل على مقابلة ساخرة تجمع الطيب بالماكر: الطيب ≠ الماكر، وهي مقابلة تستثير فينا المخزون القصصي الذي راكمناه منذ طفولتنا والمتمثل في الثعلب والحمامة، حيث يكون الثعلب هو الماكر الذي يحصل على ما يريد، والحمامة هي الساذجة التي تذهب ضحية مكر الثعلب.
وطبيعي أن الماكر لا يمكنه تحقيق العدل، إذ أن مسعاه الحقيقي هو الإيقاع بالمغفلين ونجاحه في آداء دوره يحقق له الفرحة المعبر عنها بالضحك (الضحك على الذقون) في مقابل البكاء الذي يؤديه الساذج بما هو ضحية.
وبما أن عصرنا هذا يسوده الماكرون، فلابد من أن يسيدوا، أيضا، ضحكهم، هكذا تتم المحاكاة الساخرة من تلك البدايات التقليدية للحلقة والحكايات الشعبية التي تؤبد لحظة المقدس وتعلن انتصار الحق ما دام أنه صوت الشعب. لتأتي البداية الثانية منزاحة عنها قصد تأسيس المدنس، الطامح إلى نشر الجور، لأنه صوت السلطة.
فالمقدس يدعو إلى القسطاط وكذلك طموح الشعب، أما المدنس فيدعو إلى تحقيق الجور والظلم لأنه صوت السلطة، وتلك مسحة ساخرة من مسؤولي اللحظة الراهنة الذين انحرفوا عن وظيفتهم لتحقيق المصالح الذاتية الضيقة على حساب المصلحة العامة.
وقد ظهر ذلك جليا من خلال سحنات كل فريق، فالفقراء أيديهم خشنة مشققة بسبب كثرة الأعمال الشاقة، تبدو عليهم أمارات سوء التغذية، مقابل الجلود الناعمة للأكابر، الدالة على الراحة ورغد العيش.
وفي نهاية المشهد المسرحي يخبرنا الكاتب، وهو يحدث الضابط على أن الأمر لا يستحق مثل هذا الاهتمام، حيث قام بعقد مقارنة بين أمخاخ أولاد الناس والدبيش الحشرة، مما يولد، بذلك، مفارقة مضحكة تتجلى في التالي:
الاهتمام الكبير الموضوع الحقير
الموضوعات الكبيرة التــفاهة
مما يؤكد على أن إيلاء الموضوع كل هذه الأهمية ما هو إلا رغبة في إخفاء الحقيقة لا رغبة في تجليتها، فالمظاهر القوية تخلب الأبصار وتبعدها عن الموضوع الحقيقي. وذلك ما يسعى إليه التحقيق، ألم يقل الضابط "أحنا هنا بنقضي وقت"[74]
إن الهدف من وراء هذه المسرحية هو تزجية الوقت فقط من أجل التسلية. كما أن المقارنة التي عقدها الكاتب تقيم فصلا بين الأعلى والأسفل.
أمخاخ أولاد الناس الدبيش الحشرة
الأعلى الأسفل.
حيث يتم إيلاء الأعلى (الحاجب) كل الاحترام، لأنه يستمد ذلك من مكانته السامية، وإيلاء الأسفل (العين) كل الاحتقار، لأنها تحيل على الجانب السفلي للجسم، إنه نوع من الاحتفال بالجانب الأسمى للجسم على حساب جانبه الأسفل.
خلاصة:
- يتشكل الخطاب التاريخي في رواية "يحدث في مصر الآن" من خلال ورود إشارات وعلامات لغوية ترد أثناء السرد أو العرض أو على لسان الشخصيات، وعبر هذه المؤشرات، عامة، يمكن وضع أحداث هذه الرواية في سياق تاريخي مرجعي ينقلنا من المجال العام المجرد إلى فترة زمنية محددة من تاريخ مصر المعاصر، إنها فترة ما بعد حرب أكتوبر 1973.
فالرواية بإحالتها على الواقع التاريخي تقترب من الرواية التسجيلية، لكن ما هي نسبة حضور البعد التسجيلي في الرواية؟ وما هو الدور الوظيفي الذي يقوم به الخطاب التاريخي في تشكيل هذا البعد؟
إن قارئ الرواية يدرك أنه أمام نص تخييلي يفصح عنه ورود كلمة "رواية" في متنه. وهذا التعاقد يجعله على وعي بلعبة السرد وقيمة الخطاب التاريخي الذي يشكل بناءه الجمالي. ولعل هذا الوعي الذي عند المتلقي هو الذي يجعله على معرفة بأن وظيفة الخطاب التاريخي ليست وظيفة مرجعية تحيل على واقع فعلي، بل إنها تستمد من الواقع تلك الأحداث قصد تحقيق مقروئيتها، وإخراج الأحداث الروائية المتخيلة من طابعها التجريدي رابطة إياها بالحياة اليومية محققة بذلك عنصر التواصل مع القارئ الذي يشارك المؤلف في معرفته بتلك الأحداث المستلهمة من الواقع. إنه مسعى يروم الإيهام بالواقع لأن القارئ يقتنع، وقد تلمس تلك الأحداث التي له سابق معرفة بها، بوقوع أحداث الرواية المتخيلة فعلا، وأنها جرت حقيقة.
- إن الرواية وهي تقوم بذلك الفعل تعتمد على المظهر التسجيلي التقريري في التعبير الفني، وهو مظهر أملاه ذلك الارتباط بالواقع الخارجي المعبر عنه، فضلا عن أنه "انعكاس لدعوتها السياسية الفاضحة الرافضة التحريضية المباشرة"[75].
- وبالرغم من حرص الرواية على تسجيل الواقع ورصد أحداثه، فإنها آنزاحت عن المحاكاة. معوضة إياها بمبدإ الإبداع المؤكد للتعدد والإختلاف، محققة بذلك شعرنة الواقعي، ناقلة إياه من الإنغلاق والأحادية إلى الإنفتاح والتعدد، وهو ما يعني أن الواقع لم يعد أحادي البعد قابلا للفهم والإختزال.
- قيام الرواية بالكشف عن إواليات اشتغال كتابتها، داعية المتلقي إلى الوقوف على سيرورتها واحتمالية تأويل النص الروائي. فالأساسي في هذا العمل، فضلا عن أهمية ما نرويه، هو الإنشغال بكيفية ما نرويه الذي ارتقى إلى مصاف الحكاية نفسها، إنها بذلك تعلن قطيعة (نسبية) مع مبدإ التماثل أو التصوير « La représentation » الذي يتحكم في علاقة الرواية بالواقع، وتؤسس ما يمكن وصفه ب "التصوير الذاتي" L'autoreprésentation "[76].
تضمين الرواية للبعد البوليسي سعيا وراء تأكيد اللانظام، خارقة بذلك المبدأ الذي ترومه الرواية البوليسية والهادف إلى إعادة النظام المفقود. وهي بهذا الإنزياح تحقق شعريتها الخاصة.
- ع