قراءة في فكر ابن جني من خلال ( الخصائص ) على ضوء علم اللغة الحديث ـــ محمد وليد حافظ
ناشر الموضوع : hamidradiمعاينة / إخفاء الوجوه الضاحكة
قراءة في فكر ابن جنّي من خلال ((الخصائص)) على ضوء علم اللغة الحديث ـــ محمد وليد حافظ
ينتميابن جني مثل معظم اللغويين الكبار في تاريخنا، سيبويه والفراء والفارسيوالزمخشري وغيرهم إلى المعتزلة، وهم الجماعة المعروفة بتحكيم العقل؛فالاعتزال "منهج في البحث والتجربة والاستدلال العقلي"(1). "وقد كانت ثقةالمعتزلة كبيرة بالعقل لا يحدها إلا احترام أوامر الشرع؛ فكل مسألة منمسائلهم يعرضونها على العقل؛ فما قبل أقرّوه، وما لم يقبل رفضوه"(2).
وجعلتههذه الأرضية الفكرية وتمثله لتراث سابقيه يلح على جعل اللغة علماً. وإليهيمكن أن ننسب باطمئنان وضع القاعدة اللغوية المطَّردة الشاملة التي لايطعن فيها طاعن، فهو بهذا ذو عقل شمولي متميز، خطّ لمن بعده أسس البحثاللغوي وأساليبه.
ألَّفابن جني كتاب الخصائص ليبحث النظام العام للغة منطلقاً من تمثله لآراءأستاذه أبي علي الفارسي القائمة على دراسة اللغة دراسة بنيوية وظيفية،فشرح عموميات اللغة في مستهل الخصائص، كالفرق بين القول والكلام، ومعنىالنحو والإعراب والبناء. وتطرق إلى أصل اللغة؛ أوحي هي أم اصطلاح، ولميجزم بواحدة منهما، وقبل بنظرية ثالثة هي نظرية الأصل الطبيعي. ولم يتوقفطويلاً عند هذا الموضوع ما دام لا يغير شيئاً من حقيقة القوانين اللغوية.وأوضح أن هدفه تأسيس أصول للنحو على غرار أصول الفقه ورفع العلل النحويةالتي كانت مضرب المثل في الضعف إلى مرتبة العلل الكلامية؛ فخطط أسلوبالبحث العلمي، وطريقة وضع القواعد الشاملة. وأكد أن للغة قوانين تحافظعليها، وأفرد أبواباً كثيرة للقياس الذي يتزعم مدرسته إلى جانب دراساتصوتية تصب هي الأخرى في مجرى النظام العام للغة.
بوأهالأستاذ أحمد أمين زعامة مدرسة القياس(3). ورآه الأستاذ سعيد الأفغانيأعلى علماء العربية كعباً في جميع عصورها، وأغوصهم عامة على أسرار علمالعربية، والاهتداء إلى النظريات العامة فيها. ونسب إليه ابتداع نظريةالاشتقاق الأكبر، وتأسيس فقه اللغة، وإمارة علم التصريف بلا منازع(4)وكذلك أقر الأستاذ محمد علي النجار محقق الخصائص بنبوغه في الصرف، وسعةدرايته وروايته وفضله على المتأخرين(5). ونسب إليه الدكتور شوقي ضيف وضعالقوانين الكلية في التصريف(6).
وهاجمه،وسائر النحاة المعتزلة، كثيرون بتهمة اضطراب الرؤية اللغوية نتيجة لإقحامالمنطق في النحو. وعلق أبو علي الفارسي نفسه على مزج أحد النحاة المعتزلةفي عصره، وهو الرماني، النحو بالمنطق قائلاً: "إن كان النحو ما يقولهالرماني فليس معنا منه شيء، وإن كان ما نقوله نحن فليس معه منه شيء"(7).
ولتلمس موقع الرجل بين هذه الإطراءات والاتهامات، ولبيان مدى نجاحه في محاولته، لا بد من العودة إلى شيء من علم اللغة العام.
يعودتاريخ علم اللغة العام إلى بدايات القرن العشرين، عندما أعلن عالم اللغةماييه عام 1906: "إن التاريخ لن يكون بالنسبة للغوي غاية بل وسيلة"(مشيراً بذلك إلى أن جهود علماء اللغة في القرن التاسع عشر وما قبله انصبتعلى الأبحاث التاريخية والمقارنة، وعلى إثبات القرابة بين اللغات: ولاسيما بعد اكتشاف اللغة السنسكريتية، وردة الفعل العنيفة ضد قواعد بوررويال. وفي العام نفسه بدأ عالم اللغة الشهير سوسور في جامعة جنيفمحاضراته في "علم اللغة العام" فأسس عملياً هذا العلم.
"وهكذاأدار علم اللغة ظهره للدراسات المقارنة التاريخية، وأكد إمكان إخضاع كلحالة من اللغة إلى دراسة سكونية متزامنة بغض النظر عن التطور الذي تعد هذهالحالة امتداداً له؛ وبناء على هذا المفهوم طرح سوسور التمييز بين"التطورية" التي هي دراسة التغيرات عبر الزمن، و"التزامن" الذي هو دراسةحالات محدودة من اللغة في فترة محدودة من التطور. فانقسم علم اللغة إلىفرعين: علم لغة تعاقبي أو تطوري (Une linguistique diachronique ouévolutive) وعلم لغة تزامني أو سكوني (Une linguistique synchronique oustatique) وتنضم الطريقتان التزامنية والتعاقبية موضحة إحداهما الأخرى"(9)وينطبق هذا التقسيم السوسوري على اختصاص ابن جني بالدراسة التطورية للغة،واختصاص الإمام الجرجاني بالدراسة التزامنية لها في دلائل الإعجاز. وتنضمالدراستان في مدرسة واحدة يطلق عليها اسم مدرسة أبي علي الفارسي.
لماذا علم اللغة العام؟ وما مدى إسهام ابن جني فيه ما دام عمله لا يتعدى حدود اللغة العربية؟
"إذاكان هناك علم لغة عام فلأنه يمكن صياغة مبادئ تنطبق انطباقاً عاماً علىوظيفة اللغات وتطورها وعملها؛ وهذا هو مفهوم علم اللغة العام أو الكلي(Panchronique) مقابل علم اللغة الخاص (Idiochronique) الذي هو دراسةسكونية أو تطورية للغات خاصة"(10).
"ويرتبطعلم اللغة العام بعلم اللغة الخاص بلغة ما، كالعربية، لأنه يقوم على ما هوعام ومشترك بين اللغات جميعها؛ كما أن علم اللغة الخاص يستفيد بدوره منالنتائج التي يتوصل إليها علم اللغة العام بتطبيقها على اللغة التي يختصبدراستها"(11).
"ولذلكفإن لعلم اللغة العام في المرحلة الأولى، قبل مرحلة البحث عن القوانينالعامة مهمة وصفية؛ فمن مجموع الدراسات الخاصة المنفذة على اللغاتالمختلفة تستخلص تعليمات ذات طابع عام عن نماذج الأنظمة المتحققة فياللغات"(12).
ترتبط الخصائص العامة للغة بحقيقتين كبيرتين:
1-كل لغة هي نظام إشارات.
2-كل لغة تتجلى في إطار اجتماعي يحدد انتظام عملها وتطورها.
تعرّفالإشارة اللغوية بأنها "الكل المحصل من ضم دال ومدلول" ويرتبط الدالبالصورة السمعية، والمدلول بالتصور أو المعنى المجرد، وتمثل ظاهرة التلفظوظاهرة الإصغاء الجانب الفيزيويوجي- النفسي؛ أما موضوع علم اللغة فهوالجانب النفسي الصرف، أي التلازم بين الفكرة والصيغة. وقد شبه سوسورالعلاقة بين الدال والمدلول بوجهي الورقة الواحدة؛ فكما أن من المحال تصورورقة بوجه واحد، فمن المحال تصور دال بدون مدلول؛ والعكس صحيح. وإذا انعدمالتلازم بين الدال والمدلول كان لدينا تعاقب صوتي لا يصح أن نعده إشارةلسانية، فتعاقب (ك ت ب) أو (ك ب ت) يعطي إشارة لسانية؛ أما تعاقب (ت ب ك)فلا يعطي إشارة لسانية. والعلاقة بين الصيغة اللفظية وما تحيل إليه هذهالصيغة هي علاقة اعتباطية (Arbitraire) موضوعة بالاتفاق أو التواطؤ(Convention) فليست الإشارة اللسانية من قبيل الرمز بمعناه المحدد لأننالا نستطيع التصرف بالرموز كما نشاء؛ فنحن نرمز إلى العدالة مثلاً بالسيفأو الميزان، أو بهما معاً؛ ولكن لا نرمز إليها بكتاب أو مصباح. أماالإشارة اللسانية فإنها لا تتقيد بمثل هذه الرموز، فالإشارة اللسانية إلى(الطويل) تساوي الإشارة إلى (القصير).
صيغمصطلح الاعتباطية في الفرنسية من (Arbitre) التي تعني الحاكم المستبد أوالسيد المطلق. وفي العربية من فعل (اعتبط)، ومعناه القتل ظلماً، أو ذبحالذبيحة سمينة فتية لا علة فيها. وعلى هذا يلتقي المصطلحان عند فكرة الظلموالتعسف. ومن الجدير بالذكر أن اللغويين العرب القدامى استعملوا هذاالمصطلح بمعنى اللاسببية(13). أما سوسور فقد شعر بأن المصطلح الفرنسي لايعبر تمام التعبير عن العلاقة بين الإشارة اللسانية والشيء الخارجي،فاستخدم مصطلحاً أوضح وهو (Immotivé)، أي اللاسببية، أو دون علاقة طبيعية.وبدهي أنه تستثنى من هذه العلاقة الاعتباطية الألفاظ التي لها "ارتباططبيعي بالأشياء كالخرير والزقزقة، والألفاظ ذات الدلالات النفسية، مثل(أف) و(آه)، وهي محدودة في كل لغة.
أوضحابن جني أن الاعتباط أحد أسس اختيار الأصول الثلاثية في اللغة العربية،وهي أصول الأغلبية العظمى، قائلاً: "اعلم أن واضع اللغة لما أراد صوغهاوترتيب أحوالها هجم بفكره على جميعها، ورأى بعين تصوره وجوه جملهاوتفاصيلها، وعلم أنه لا بد من رفض ما شنع تالفه منها، نحو (هع) و(قج)..فنفاه عن نفسه، ولم يمرره بشيء من لفظه، وعلم أن ما طال وأمل بكثرة حروفهلا يمكن فيه من التصرف ما أمكن في أعدل الأصول وأخفها وهو الثلاثي... فلماكان الأمر كذلك اقتضت الصورة رفض البعض واستعمال البعض، وكانت الأصولومواد الكلم معرضة لهم، وعارضة أنفسها على تخيرهم، جرت لذلك عندهم مجرىمال ملقى بين يدي صاحبه، وقد أجمع انفاق بعضه دون بعضه، فميز رديئهوزائفه، فنفاه البتة، كما نفوا عنهم تركيب ما قبح تأليفه. ثم ضرب بيده إلىما أطف له من عرض جيده، فتناوله للحاجة إليه، وترك البعض لأنه لم يرداستعمال جميع ما بين يديه منه لما قدمنا ذكره، وهو يرى أنه لو أخذ ما تركمكان أخذ ما أخذ لأغنى عن صاحبه، ولأدى في الحاجة إليه تأديته؛ ألا ترىأنهم لو استعملوا (لجع) مكان (نجع) لقام مقامه وأغنى مغناه)(14).
يكشف النص السابق تصور ابن جني مراحل وضع ألفاظ اللغة على النحو التالي:
1-رفض ما شنع تآلفه من الأصوات، وغالباً ما تكون- حسبما يشرح في مكان آخر من الخصائص- الأصوات التي لها مخرج واحد، مثل (هع).
2-الابتعاد، لا الرفض المطلق، عن الأصول الطويلة، أي عن الرباعي والخماسي.
3-الانتقاء من بين الأصول الثلاثية، لأنه لا يمكن استيعاب كل هذه الأصول. ويتعلق هذا الانتقاء بقانون آخر سنتعرض له في حينه.
4-لا مقياس في هذا الانتقاء إلا مقياس الاعتباط.
ومنمظاهر الاعتباطية التي تخرج عن ساحة البحث، والتي ساقها ابن جني فيالخصائص ظاهرة عدل بعض الكلمات دون بعضها الآخر؛ يقول في الباب الذياستقينا منه النص السابق "فقد نجد في اللغة أشياء كثيرة غير محصاة، ولامحصلة، ولا نعرف لها سبباً، ولا نجد إلى الإحاطة بعللها مذهباً؛ فمن ذلكإهمال ما أهمل، وليس في القياس ما يدعو إلى إهماله، ومنه أنهم عدلوا(فُعَلا) عن (فاعل) في أحرف محفوظة، وهي ثُعَل وزُحَل وعُمَر... وما يقلتعداده، ولم يعدلوا في نحو مالِك وحاتِم وخالد، وغير ذلك، ولسنا نعرفسبباً أوجب هذا العدل في هذه الأسماء التي أريناكها دون غيرها"(15).
ومنمظاهر الاعتباطية التي لها علاقة باجتماعية الظاهرة اللغوية أوثق منعلاقتها باعتباطية الإشارة اللغوية ظاهرة الاستغناء، إنما تعنينا منها هناالكيفية التي تم بها الاستغناء؛ فلماذا استغني عن ماضي (ذَرْ) و(دَعْ) ولميستغن عن الماضي (وثب) إذا جرت هذه الظاهرة على الأفعال المبدوءة بالواو،ومثل هذا التساؤل في الاستغناء بجمع القلة عن جمع الكثرة أو العكس.
إن الخوض في المظهرين الأخيرين، العدل والاستغناء يتطلب الكثير من الحذر، وأعتقد أنهما يحتاجان إلى بحث تاريخي تطوري.
ومظهررابع للاعتباطية، وهو التصادفات الواقعة في اللغة أو ما يسميه ابن جني"تلاقي اللغة" ويستشهد له باسمي العلم (سلمان) و(سلمى): "ألا ترى أنفَعْلان الذي يقاوده فَعْلى إنما بابه الصفة كغضبان وغضبى وعطشان وعطشى؛وليس سلمان وسلمى بصفتين ولا نكرتين، وإنما سلمان من سلمى كقحطان من ليلى.غير أنهما كانا من لفظ واحد فتلاقيا في عُرض اللغة من غير قصد لجمعهما،ولا إيثار لتقاودهما"(16).
ويتطلبالحديث عن اجتماعية الظاهرة اللغوية التقديم بأصل الكلام الإنساني.ونستطيع إجمال النظريات التي ظهرت لتفسير أصل الكلام الإنساني فيالاتجاهات التالية:
1-النظريات الطبيعية التي نسبت أصل الكلام إلى تقليد أصوات الطبيعة.
2-النظرياتالأنثروبولوجية التي نسبته إلى العلاقة الرمزية المتبادلة بين وقع المصدرالصوتي ومعناه، أو إلى الأصوات المرافقة لجهد عضلي...
3-النظريات الفلسفية التي نسبته إلى العقل الإنساني المتمتع بغريزة خاصة زوّد بها جميع أفراد الجنس البشري.
4-النظريات اللاهوتية التي عدَّت اللغة هبة من الله.
وقدوقعت النظريات السابقة في خطأ إهمال العامل الاجتماعي في نشوء الكلام.وهذا ما أدركته وتداركته كلتا المدرستين اللغويتين المنبثقتين في القرنالعشرين، وهما البنيوية في الغرب، والمدرسة اللغوية السوفييتية.
أمامدرسة الفارسي فقد أدركت هذا منذ مئات السنين، يقول الإمام الجرجاني: "فإنالناس إنما يكلم بعضهم بعضاً ليعرف السامع غرض المتكلم ومقصوده"(17) ويؤكدعلى أن المفردات لم توضع لتعرف معانيها بأنفسها، وإنما ليضم بعضها إلىبعض، فيعرف ما بينها من فوائد، أي أن نشأة الكلمة المفردة ارتبطت بنشأةالكلام، ولم تقتصر مهمة الكلمات المفردة منذ نشأتها على التسمية، بل كانتمهمتها الإخبار أي الوظيفة الأساسية للغة هي كونها أداة اتصال بين الناس.
وينتميالإمام الجرجاني بهذا إلى مدرسة الفارسي، يقول ابن جني في (باب في هذهاللغة، أفي وقت واحد وضعت أم تلاحق تابع منها بفارط): "اعلم أن أبا عليرحمه الله كان يذهب إلى أن هذه اللغة- أعني ما سبق منها ثم ما لحق بهبعده- إنما وقع كل صدر منها في زمان واحد. وإن كان تقدم شيء منها علىصاحبه فليس بواجب أن يكون المتقدم على الفعل الاسم، ولا أن يكون المتقدمعلى الحرف الفعل... وإنما يعني القوم بقولهم: "إن الاسم أسبق من الفعل"أنه أقوى في النفس، وأسبق في الاعتقاد من الفعل؛ لا في الزمان؛ أما الزمانفيجوز أن يكونوا عند التواضع قدموا الاسم قبل الفعل، ويجوز أن يكونواقدموا الفعل في الوضع قبل الاسم، وكذلك الحرف. وذلك لأنهم وزنوا حينئذأحوالهم، وعرفوا مصاير أمورهم، فعلموا أنهم محتاجون إلى العبارات عنالمعاني، وأنها لا بد لها من الأسماء والأفعال والحروف؛ فلا عليهم بأيهابدؤوا؛ أبالاسم أم بالفعل أم بالحرف لأنهم أوجبوا على أنفسهم أن يأتوا بهنجُمَع؛ إذ المعاني لا تستغني عن واحد منهن. هذا مذهب أبي علي، وبه كانيأخذ ويفتي"(18).
يؤكدعلم اللغة الحديث بدوره على اجتماعية اللغة، وعلى أنها تتمثل لنا خارجياًكأداة للتواصل بين الناس؛ فهي تظهر في كل مكان حيث يعيش أناس في مجتمع.ولا تمارس لغة دون أن تستخدم وسيلة اتصال. ويعرف اللغة على تنوع أشكالها:الفصيحة، والعامية واللهجات المحلية على أنها "وظيفة إنسانية تستند إلى ضممحتويات الفكرة إلى أصوات منتجة بواسطة الكلام"(19).
وتتوضعاللغة لكونها وسيلة اتصال ضمن مجموعة الأنظمة العلامية المستخدمة للتواصل،مثل أنظمة المرور وطقوس الزواج والوفاة. وعلى هذا وجدت- ولا تزال- لغاتغير منطوقة بجهاز النطق الإنساني مثل نداءات الإنذار، وقرع الطبول فيأفريقية؛ ولكن الأساس هو وجود لغة منطوقة يتكون نظام عملها من بث واستقبالأصوات منتجة بعملية الكلام. وهذه اللغة هي موضوع علم اللغة.
وأدتالحاجة إلى التواصل بين الناس الذين يتكلمون لغات مختلفة؛ لا إلى تعلمإحدى المجموعتين لغة المجموعة الأخرى فحسب، وإنما إلى ظهور لغات خاصة تسمى"لغات الاتصال" تتميز عن اللغات القومية، مثل لغة البدجين (Pidgin)المكونة من عناصر انكليزية وصينية وماليزية، ولغة السابير (Sabir) ذاتالأصول الرومانية، التي كانت تستخدم سابقاً على شواطئ البحر المتوسط(20).
كيف تؤدي اللغة وظيفتها بصفتها أداة اتصال؟
1-يجبأن يكون للغة نظام. يقول ابن جني في معرض حديثه عن الاختلاف بين لغة تميمولغة الحجاز: "هذا الخلاف لقلته ونذارته غير محتفل ولا معيج عليه. وإنماهو شيء من الفروع يسير، فأما الأصول وما عليه العامة والجمهور فلا خلافعليه. وكل واحد محافظ على لغته، لا يخالف شيئاً منها، ولا يوجد عنده تعادمنها؛ فهل ذلك إلا لأنهم يحتاطون ويقتاسون ولا يفرطون ولا يخلطون"(21)و"لو كانت هذه اللغة حشواً مكيلاً وحثواً مهيلاً لكثر خلافها وتعادتأوصافها فجاء عنهم جر الفاعل ورفع المضاف إليه"(22).
إذنما يختلف فيه العرب قليل بالقياس إلى ما يتفقون عليه، ثم إن ما يختلف فيهالعرب قليل بالقياس إلى ما يختلف فيه العلماء؛ وذلك لأن العلماء اختلفوافي الاعتلال لما اتفقت عليه العرب، كما اختلفوا أيضاً فيما اختلفت العربفيه.
ويعود الفضل في اتساق النظام اللغوي في رأي ابن جني إلى القياس.
2-يجبأن يكون هذا النظام قائماً على حاجة الناس إلى اللغة، وعلى استعمالهم لها؛فاللغة ملك الجميع. كما أنه ليس بوسع فرد أو أفراد ابتكار لغة خارج نطاقالمجتمع. ولهذا أخفقت المحاولات التي قام بها في القرن السابع عشر خاصةبعض الفلاسفة مثل ديكارت ولايبنز لوضع لغات اصطناعية.
3-ويجبأن يتصف هذا النظام بالمرونة لتلبية الحاجات المتزايدة من الألفاظ. إنالأساس الوطيد لهذه المرونة هو الاعتباط، ثم القياس. فكيف فهم ابن جنيالعلاقة بين الاستعمال والقياس؟
يمهد ابن جني لشرح هذه العلاقة بتقسيم كلام العرب إلى أربعة أضرب:
1-مطردفي القياس والاستعمال جميعاً؛ وهذا هو الغاية المطلوبة، نحو: (قام زيدٌ)و(مررت بسعيد)؛ يعني رفع الفاعل ونصب المفعول وجر المجرور.
2-مطرد في القياس، شاذ في الاستعمال: وذلك نحو الماضي من (يذر) و(يدع)؛ يعني أن القياس يجيزهما، غير أنهما شاذان في الاستعمال.
3-مطرد في الاستعمال، شاذ في القياس: نحو (استصوب) و(استحوذ). والقياس أن يقال: استصاب واستحاذ، بإعلال العين.
4-شاذفي القياس والاستعمال جميعاً، مثل تتميم (مفعول) فيما عينه واو، نحو (فرسمقوود) و(ثوب مصوون)، والقياس بحذف الواو الثانية منهما.
ثم يشرح العلاقة بين الاستعمال والقياس على النحو التالي:
1-إذاتعارضا، أي اطرد في الاستعمال، وشذ عن القياس أخذت بالأول، أي بالاستعماللأنك تتكلم كلام العرب؛ ولكنه لا يتخذ أصلاً يقاس عليه غيره.
2-إذاشذ في القياس وكثر في الاستعمال أخذت بما كثر في الاستعمال؛ وإن لم ينتهقياسه إلى ما انتهى إليه استعماله، أي وإن لم تكن قوته في القياس على قدرقوته في الاستعمال. والعربي قد يتكلم اللغة وغيرها أقوى في القياس عنده.
3-إذا أوصلك القياس إلى شيء، ثم سمعت العرب تنطق غيره فدع ما كنت عليه إلى ما هم عليه.
4-إذاأيد قياسك سماع فأنت مخير فيه؛ فإن صح عندك أن العرب لم تنطق بقياسك كنتعلى ما أجمعوا عليه البتة، وأعددت ما كان قياسك أداك إليه لشاعر مولِّد،أو لساجع، أو لضرورة لأنه على قياسهم.
5-وإذا فشا الشيء في الاستعمال، وقوي في القياس؛ فذلك ما لا غاية وراءه، نحو منقاد اللغة من النصب بحروف النصب والجر بحروف الجر.
6-وأما ضعف الشيء في القياس وقلته في السماع فمرذول مطرح؛ غير أنه قد يجيء منه الشيء إلا أنه قليل.
ويؤكد ابن جني أهمية العامل الاجتماعي في مواضع أخرى من الخصائص على النحو التالي:
1-لايقصد بالاستعمال استعمال فرد أو أفراد، بل الاستعمال الاجتماعي؛ يقول "فانورد عن بعضهم شيء يدفعه كلام العرب، ويأباه القياس لا يقنع في قبوله أنتسمعه من الواحد، ولا من العدة القليلة؛ إلا أن يكثر من ينطق بهمنهم"(23).
2-يحذرابن جني من أن الخطأ إذا تكرر توطد، يقول: "ومنهم- من العرب- من إذا طالتكرر لغة غيره عليه لصقت به. ووجدت في كلامه- يعني أبا علي-: "ألا ترى إلىرسول الله ( وقد قيل: يا نبيء الله، فقال: لست بنبيء الله ولكنني نبيالله. وذلك أنه عليه الصلاة والسلام أنكر الهمز في اسمه، فرده على قائله،لأنه لم يدر بما سماه، فأشفق أن يمسك على ذلك"(24).
3-يجبأن يرتبط القياس بالاستعمال، أي بالواقع الموضوعي، ولا يجوز أن يؤخذبمعناه النظري الصرف أخذاً مطلقاً، ولذا يستنكر وفقاً لهذا الفهم أن يكونقولهم "رفع عقيرته" مشتقاً من (عقر) مثلما أوَّله أبو اسحاق، ويوافق علىأن معنى الصوت في (عقيرته) مأخوذ افتراضاً من أن أحدهم قطعت رجله، فرعرجله المعقورة، وصرخ؛ فقالوا: رفع عقيرته. ثم يقول ابن جني: "ولذلك قالسيبويه في نحو من هذا: أو لأن الأول وصل إليه علم لم يصل إلى الآخر؛ يعنيما نحن عليه من مشاهدة الأحوال والأوائل"(25).
ويلحعلى أن مشاهدة حال المتكلم في أثناء الكلام، أي ربط الكلام بالموقف الذييجري فيه أشد نفعاً للغوي من شعر الفرزدق إذا أخبر به ولم يحضره ينشده.
4-لاتستدرك اللغة كلها قياساً؛ فمنها ما لا بد من إيراده، ونص ألفاظه إذا لميجدوا بداً منها، ولا منصرفاً عنها "ومعاذ الله أن ندعي أن جميع اللغةتستدرك بالأدلة قياساً"(26).
5-وهناك حدود لا مكان التصرف في اللغة لا يمكن تجاوزها، مثل حدود الحذف والفصل والتقديم والتأخير.
ولاشك أن المسموع الذي وصل إلى عصر التدوين من كلام العرب قليل بالنسبة إلىحجم اللغة وإمكاناتها التوليدية. يقول عمر بن الخطاب: "كان الشعر علمالقوم، ولم يكن لهم علم أصح منه. فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب بالجهاد،ولهيت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب فيالأمصار راجعوا رواية الشعر، فلم يؤولوا إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوبفحفظوا أقل ذلك، وذهب عنهم كثيره"(27).
ولايعقل طبعاً أن ترد اللغة الصحيحة كلها عن طريق السماع، ولا يعقل كذلك أنتتجمد اللغة على المسموع؛ فكيف تغتني اللغة وتتجدد؟ وكيف يتأصل الجديد؟
1-لاشك في أن اقتران الاستعمال بالقياس الصحيح يؤصل القياس، بدليل قوله: "إذافشا الشيء في الاستعمال، وقوي في القياس فذلك ما لا غاية وراءه، نحو منقاداللغة"(28).
2-ماقيس على كلام العرب فهو من كلام العرب "ألا ترى أنك لم تسمع أنت ولا غيركاسم كل فاعل ولا مفعول؛ وإنما سمعت البعض منه، فقست عليه غيره، فإذا سمعتقام زيدٌ) أجزت (ظَرُف بشرٌ) و(كرم خالدٌ)"(29).
3-وينطبقهذا على الألفاظ الأعجمية التي تدخل اللغة "قال أبو علي الفارسي: إذا قلتطاب الخشكنان) فهذا من كلام العرب؛ لأنك بإعرابك إياه قد أدخلته كلامالعرب"(30).
يعنيالإعراب إذن إخضاع اللفظة الأعجمية لنظام العربية صوتياً وصرفياً ونحوياً،فاللفظة حين تنتقل من لغتها إلى العربية تغير أصواتها، ويتصرف في وزنهابحيث تندرج في أقرب وزن من أوزان العربية، ويحرك آخرها بحركات الإعراب،ويشتق منها، فيقال: (درهمت الخبازى)، أي صارت كالدراهم، فاشتق من الدرهم،وهو اسم أعجمي. كذلك يدخلون على هذه الألفاظ الدخيلة لام التعريف تشبيهاًلها بأصول كلام العرب، أي النكرات(31).
4-عنطريق التدريج؛ وهو "أن يشبه شيء شيئاً من موضع، فيُمضي حكمه على حكمالأول، ثم يرقى منه إلى غيره"(32). ومن أمثلته قلب الذال دالاً في(ادَّكر)، ثم تدرجوا منه إلى غيره بأن قلبوها دالاً في غير (افتعل)،فقالوا: "الدَّكر). وفي شرح مثال آخر للتدريج يستخدم ابن جني لفظة هامةالمدلول، وهي الاعتياد، يقول: "لاعتيادهم عليها حتى صارت كأنها كانتأصلاً"(33).
5-استعارةاللفظة والاستعمال الطويل لها؛ يعلل ابن جني اجتماع لغتين فصيحتين أو أكثرفي لغة رجل واحد قائلاً: "وقد يجوز أن تكون لغته في الأصل إحداها، ثم إنهاستفاد الأخرى من قبيلة أخرى، وطال عهده بها، وكثر استعماله لها؛ فلحقتلطول المدة، واتصال استعمالها بلغته(34). ويقول في موضع آخر: "ومن العربمن إذا طال تكرر لغة غيره عليه لصقت به، ووجدت في كلامه"(35).
ويلخص علم اللغة الحديث توطد اللفظة بالقوانين التالية(36):
اعتباط × وضع - اصطلاح. أي أنه تم وضع الألفاظ على أساس الاعتباط.
اصطلاح × استعمال - عرف. أي أن الاصطلاح يجب أن يؤيده الاستعمال ليصبح عرفاً.
عرف × تواتر - اطراد.
ويتفقهذا مع مفهوم ابن جني في أن كثرة الاستعمال مع طول المدة تلحق اللفظةباللغة. ويعلل هذا المفهوم عجزنا عن تصحيح الأخطاء الشائعة، وعجز المجامعاللغوية عن فرض مصطلحاتها.
لماذا إصرار ابن جني على أن الاستعمال هو الأصل مع أنه وريث مدرسة القياس البصرية؟
1-اللغةعقد اجتماعي، كما يقول علم اللغة المعاصر، ومؤسسة موضوعية، بمعنى أنها لاتتعلق بإرادة فرد أو أفراد من المجتمع؛ فلا قيمة للغة خارج استعماله.
2-يحد الاستعمال من استطالة القياس، فيحد من اتساع اللغة الناجم عن الإسراف في القياس. ويرجع السبب في هذا إلى:
أ-أنالإمكانات النظرية للغة هائلة. يعلل ابن جني قلة استعمال الأصلين الرباعيوالخماسي قائلاً: "ذلك أن الثلاثي يتركب منه ستة أصول، والرباعي يتركب منهأربعة وعشرون أصلاً... وإذا كان الرباعي مع قربه من الثلاثي إنما استعملالأقل النذر منه فما ظنك بالخماسي؛ ألا ترى أنك لا تجد شيئاً من نحو(سفرجل) قالوا فيه: (سرفجل)، ولا نحو ذلك؛ مع أن تقليبه يبلغ به مائةوعشرين أصلاً؛ ثم لم يستعمل من كل ذلك إلا (سفرجل) وحده"(37).
ثمهناك إمكان تقليب كل أصل ثلاثي من الأصول الستة تسع مرات بتغيير حركةالعين في الماضي والمضارع، وهناك صيغ الزوائد أيضاً. إن هذه الإمكانات إذاأطلقت ستؤدي إلى ما يشبه التضخم الاقتصادي. وتحتفظ اللغة بهذه القدرات إلىحين اللزوم؛ وعلى هذا يطلق على اللغة اللاتينية التي لم تعد تستخدم لغةاتصال مصطلح (En conserve) أي قيد الحفظ، تشبيهاً بالمخزون الغذائي يستجرمنه على قدر الحاجة.
ب-ومادامت اللغة وسيلة اتصال فإنها يجب أن تكون مفهومة من قبل كل الذين يتكلمونبها ليستطيعوا التفاهم عن طريقها، ولتكون عامل توحيد لهم؛ وإلا فقدتوظيفتها الإبلاغية الاجتماعية، وعليه تشبه وظيفة الإبلاغ بالمقود الذييوجه اللغة انتشاراً أو تقليصاً.
3-ينتميابن جني بشكل ما إلى مدرسة البصرة التي أدركت حقيقة هامة، وهي أن اللغةنظام، بمعنى أنه يجب احتواء ما يمكن احتواؤه من كلام العرب ضمن النظاماللغوي، واعتبار ما يقع خارج تلك الحدود شاذاً يحفظ، ولا يقاس عليه، ويكونحسب مفهوم ابن جني منبهة على أصل بابه.
إذاكان الاستعمال قوة ضاغطة على اللغة باتجاه التقليص؛ فما القوة التي تجعلالنظام اللغوي مرناً يستجيب لمتطلبات التواصل من جهة، ولمتطلبات التطور منجهة؟ إنها مرونة القياس ومن مظاهرها في فكر ابن جني:
1-جواز القياس على ما يقل، ورفضه على الأكثر منه إذا كان الأكثر غير قياس.
2-ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب.
3-للإنسانأن يرتجل من المذاهب، ما لم يلو بنص، أو ينتهك حرمة شرع. وليس إجماع أهلالبلدين- يعني البصرة، والكوفة- بحجة عليك إذا لم تخالف المنصوص؛ يقصدحرية الاستنتاج والبحث العلمي.
4-يحملعلى الظاهر، وإن أمكن أن يكون المراد غيره، تسهيلاً للبحث وللغة، ومثالهحمل سيبويه كلمة (سِيْد) على الياء لأنه الظاهر؛ وإن كانت الواو أكثروروداً في هذا الموضع، أي عين الاسم.
5-الاستحسانضرب من الاتساع والتصرف، ومن أمثلته ترك الأخف إلى الأثقل من غير ضرورة،وإلحاق نون التوكيد باسم الفاعل تشبيهاً له بالمضارع، وما خرج منبهة علىأصل بابه، مثل (استحوذ) و(استصوب).
6-إذاانفرد العربي بشيء نظر إلى كلامه؛ فإن كان كلامه فصيحاً قبل منه؛ فقد يكونمن لغة قديمة. إن ابن جني يتجاوز هنا قاعدة الاستعمال الجماعي، ويقبلالاستعمال الفردي لتسهيل احتواء النظام للغة.
7-الحمولوالإضافات والإلحاقات لكثرة هذه اللغة وسعتها وغلبة حاجة أهلها إليهاللتصرف؛ يقول سيبويه: "وليس شيء يضطرون إليه إلا وهم يحاولون بهوجهاً"(38).
8-قبوللغتين أو أكثر "لأن لكل واحد من القومين ضرباً من القياس يؤخذ به، ويخلدإليه، وليس لك أن ترد إحدى اللغتين بصاحبتها"(39)، ومثاله أعمال (ما)وإهمالها.
9-لاتجوز المبالغة في التشكك بكل لهجة أو لغة أو قياس؛ لأن هذا التشكك "يوحشكمن كل لغة صحيحة لأنه يتوجه منه أن تتوقف عن الأخذ بها مخافة أن يكون فيهازيغ حادث لا تعلمه الآن، ويجوز أن تعلمه بعد زمان... وان اتجه هذا انخرطعليك منه ألا تطيب نفساً بلغة؛ وإن كانت فصيحة مستحكمة"(40) وكذلك "لايجوز ترك الحاضر الذي له وجود من القياس لغائب مجوّز ليس عليه دليل"(41).
10-ولابد أن نضيف إلى ما سبق باباً واسعاً في الخصائص سماه المؤلف "شجاعةالعربية" يعني بها الحذف والفصل والتفريق والتقديم والتأخير.
كيفتحافظ اللغة على توازنها بين هاتين القوتين المتعاكستين: قوة التقلصالمتأتية من قيود الاستعمال الاجتماعي، وقوة الانتشار الناتجة عن مرونةالقياس؟
1-لايتغير النظامان الصرفي والنحوي للغة إلا ببطء شديد، وما دام هذان النظامانقادرين على استيعاب الدخيل من الألفاظ، فلا خوف على اللغة.
2-أماالمعاني الجديدة التي يفرضها التطور الحضاري فإن اللغة تتمكن من التعبيرعنها دون اللجوء إلى التوسع المعجمي في غالب الأحيان عن طريق العبورباللفظة من الحقيقة إلى المجاز، وتتحقق كذلك عبر السياقات المختلفة للفظة؛يقول ابن جني عن الحقيقة والمجاز: "الحقيقة ما أقر في الاستعمال على أصلوضعه في اللغة، والمجاز ما كان ضد ذلك. وإنما يقع المجاز ويعدل إليه عنالحقيقة لمعان ثلاثة، وهي الاتساع والتشبيه والتوكيد"(42).
ويقولالدكتور عبد السلام المسدي: "إن العملية التي سماها العرب في وقت ماالمجاز، من فعل جاز، هي عبور باللفظة من حقل دلالي إلى حقل آخر، وكذلكالاستعارة؛ فاللفظة قادرة على التحول الذاتي، أي على أن تتحول دلالتهاضمنياً عبر الزمن. وتشبه هذه العملية عملية الانسلاخ في الكائنات الحية،حيث تجدد اللفظة معناها دون أن تفقد جوهرها"(43).
وتخفف اللغة حملها المعجمي عن طريق الاستغناء، وهو على أنواع:
1-نوع استعمالي؛ حيث تموت اللفظة المهجورة زمناً طويلاً وفقاً للقاعدة نفسها التي تثبت بها اللفظة الجديدة عن طريق الاستعمال.
2-نوع تمنعه قواعد القياس، وهي القواعد التي تسمح في الوقت نفسه بتوسع اللغة، مثل صيغ التعجب والتفضيل من بعض الأفعال.
3-نوعاعتباطي لا ضابط له، كالاستغناء بجمع القلة عن الكثرة أو بالعكس،والاستغناء عن صيغ بعض الأفعال ببعضها الآخر كالاستغناء عن (فقر) و(شد)بصيغتي (افتقر) و(اشتد) والاستغناء عن الأصل المجرد بما استعمل مزيداً؛وهو صدر صالح من اللغة كما يقول ابن جني، نحو (كوكب) و(حوشب) إذ لم يرد فيكلامهم (ككب) ولا (حشب).
وينطويتحت عنوان اجتماعية الظاهرة اللغوية ما يسميه الاستخفاف والاستثقال وحسالمتكلم، يقول في باب (علل العربية أكلامية هي أم فقهية: "قال أبو اسحاق(الزجاج) في رفع الفاعل ونصب المفعول: إنما فعل ذلك للفرق بينهما، ثم سألنفسه فقال: فإن قيل: فهلا عكست الحال، فكانت فرقاً أيضاً؛ قيل: الذي فعلوهأحزم، وذلك أن الفعل لا يكون له أكثر من فاعل واحد، وقد يكون له مفعولاتكثيرة؛ فرفع الفاعل لقلته، ونصب المفعول لكثرته؛ وذلك ليقل في كلامهم مايستثقلون، ويكثر في كلامهم ما يستخفون"(44). ويمثل ابن جني لهذا بثقلالواو الساكنة بعد كسرة في نحو مِوْزان، وثقل الياء الساكنة بعد ضمة فينحو مُيْسر؛ فقلبوا الواو ياء والياء واواً.
ولهذا الحديث أكثر من موضع في الخصائص؛ وإنما أوجز أبرز مظاهره فيما يلي:
1-اختيار الأصل الثلاثي دون الرباعي والخماسي لخفته ولثقلهما.
2-الهروبمن الحركة الثقيلة إلى الخفيفة، مثل تسكين المتحرك في نحو (عضُد- عجُز)وورود معظم الحروف المنفردة على الفتح كألف الاستفهام وواو العطف؛ وما وردمنها مكسوراً إنما كسر لمعنى، مثل لام الأمر. وورود الأحرف المثناة كلهامفتوحة الأول، مثل هَلْ ولَمْ..
3-الإعلالالذي سبقت أمثلته؛ بالإضافة إلى أنه يشبه تقليب الأصول الثلاثية بالإعلال،ويجعل هذا الشبه أحد أسباب النفور من التقليبات الممكنة.
4-اختلاس الحركة، مثل قراءة بعضهم (مالك لا تأمننا على يوسف((45) مختلساً حركة النون.
5-الإشمام،ومعلوم أنه للعين، لا للأذن، وليس هناك حركة البتة، يقول ابن جني: "فإذاقنعوا من الحركة بأن يومئوا إليها بالأدلة التي من عادتها أن تستعمل بهاعن النطق بها من غير أن يُخرجوا إلى حس السمع شيئاً من الحركة... لم يبقوراء ذلك شيء يستدل به على عنايتهم بهذا الأمر (يعني الاستخفاف)"(46).
6-إدراج همزة الوصل.
7-الحذف، سواء بحذف الكلمة كلها، أم بحذف جزء منها.
8-ظاهرة أسماء الشرط والاستفهام التي يسأل بها عن الكثير.
9-الإلحاق بالأفعال من أولها، وبالأسماء من آخرها، وزيادة الألف فقط على الخماسي لخفتها، مثل (قبعثرى) و(ضبغطرى).
وفيعلم اللغة الحديث ما يسمى بقانون المجهود الأدنى(47). يشرحه الدكتور عبدالسلام المسدي على النحو التالي: "تنزع اللغة إلى إبلاغ أكثر عدد منالشحنات الإخبارية، أي أكبر عدد من المعلومات بأقل ما يمكن من الجهدالعضلي، ومن أمثلته في العربية تحول اللغة العربية إلى لهجات والوقوف علىساكن"(48) ويحسن هنا ذكر ملاحظة ثاقبة لابن جني يضيفها إلى حديث الاستخفافوالاستثقال، وهي أن اللغة تنزع أحياناً إلى الأطول والأثقل دفعاً للمللوطلباً للتنوع، كالعدول عن الياء مع خفتها إلى الواو على ثقلها في كلمة(حيوة)، وحقها أن تقلب واوها ياء، وكذلك العدول عن الإعلال مع توفر العلةفي نحو (استصوب) و(استحوذ). ويعلل الدكتور المسدي هذه الظاهرة بأنها وظيفةنفسية واجتماعية للغة، وهي وظيفة تركيز دعائم الاستئناس التي يتكلم بها معالمخاطب"(49).
ونشيرأخيراً إشارة عابرة، لتشعب الموضوع، إلى صنيع آخر لابن جني يصب في التيارنفسه، وهو توجيهه للقراءات الشاذة في كتابه "المحتسب" لأن هذه القراءاتإنما هي لهجات تكلمت بها مجموعات بشرية، قلَّت أو كثرت. وأكمل ابن جنيبهذا صنيع أستاذه أبي علي الفارسي الذي وجه القراءات السبع في كتابه"الحجَّة".
الحواشي:
(1)-في أصول النحو للأستاذ سعيد الأفغاني، ط3، مطبعة جامعة دمشق، ص 91.
(2)-المذاهب الإسلامية، أحمد أبو زهرة، ص 215.
(3)-في أصول النحو، ص 103.
(4)-المصدر السابق، ص 104.
(5)-مقدمة الخصائص، مطبعة دار الهدى، الطبعة الثانية، ص 47.
(6)-المدارس النحوية، د.شوقي ضيف، ص 268.
(7)-في أصول النحو، 137.
(-La linguistique, Jean Perrat. 11 édition, P.96.
(9)-المصدر السابق، ص 99.
(10)-المصدر السابق، ص 100.
[b](11)-"الدورالإيجابي للمتكلمين والمعتزلة في علم اللغة العربية"، محاضرة للدكتور جعفردك الباب. ألقيت في المؤتمر العا
ناشر الموضوع : hamidradiمعاينة / إخفاء الوجوه الضاحكة
قراءة في فكر ابن جنّي من خلال ((الخصائص)) على ضوء علم اللغة الحديث ـــ محمد وليد حافظ
ينتميابن جني مثل معظم اللغويين الكبار في تاريخنا، سيبويه والفراء والفارسيوالزمخشري وغيرهم إلى المعتزلة، وهم الجماعة المعروفة بتحكيم العقل؛فالاعتزال "منهج في البحث والتجربة والاستدلال العقلي"(1). "وقد كانت ثقةالمعتزلة كبيرة بالعقل لا يحدها إلا احترام أوامر الشرع؛ فكل مسألة منمسائلهم يعرضونها على العقل؛ فما قبل أقرّوه، وما لم يقبل رفضوه"(2).
وجعلتههذه الأرضية الفكرية وتمثله لتراث سابقيه يلح على جعل اللغة علماً. وإليهيمكن أن ننسب باطمئنان وضع القاعدة اللغوية المطَّردة الشاملة التي لايطعن فيها طاعن، فهو بهذا ذو عقل شمولي متميز، خطّ لمن بعده أسس البحثاللغوي وأساليبه.
ألَّفابن جني كتاب الخصائص ليبحث النظام العام للغة منطلقاً من تمثله لآراءأستاذه أبي علي الفارسي القائمة على دراسة اللغة دراسة بنيوية وظيفية،فشرح عموميات اللغة في مستهل الخصائص، كالفرق بين القول والكلام، ومعنىالنحو والإعراب والبناء. وتطرق إلى أصل اللغة؛ أوحي هي أم اصطلاح، ولميجزم بواحدة منهما، وقبل بنظرية ثالثة هي نظرية الأصل الطبيعي. ولم يتوقفطويلاً عند هذا الموضوع ما دام لا يغير شيئاً من حقيقة القوانين اللغوية.وأوضح أن هدفه تأسيس أصول للنحو على غرار أصول الفقه ورفع العلل النحويةالتي كانت مضرب المثل في الضعف إلى مرتبة العلل الكلامية؛ فخطط أسلوبالبحث العلمي، وطريقة وضع القواعد الشاملة. وأكد أن للغة قوانين تحافظعليها، وأفرد أبواباً كثيرة للقياس الذي يتزعم مدرسته إلى جانب دراساتصوتية تصب هي الأخرى في مجرى النظام العام للغة.
بوأهالأستاذ أحمد أمين زعامة مدرسة القياس(3). ورآه الأستاذ سعيد الأفغانيأعلى علماء العربية كعباً في جميع عصورها، وأغوصهم عامة على أسرار علمالعربية، والاهتداء إلى النظريات العامة فيها. ونسب إليه ابتداع نظريةالاشتقاق الأكبر، وتأسيس فقه اللغة، وإمارة علم التصريف بلا منازع(4)وكذلك أقر الأستاذ محمد علي النجار محقق الخصائص بنبوغه في الصرف، وسعةدرايته وروايته وفضله على المتأخرين(5). ونسب إليه الدكتور شوقي ضيف وضعالقوانين الكلية في التصريف(6).
وهاجمه،وسائر النحاة المعتزلة، كثيرون بتهمة اضطراب الرؤية اللغوية نتيجة لإقحامالمنطق في النحو. وعلق أبو علي الفارسي نفسه على مزج أحد النحاة المعتزلةفي عصره، وهو الرماني، النحو بالمنطق قائلاً: "إن كان النحو ما يقولهالرماني فليس معنا منه شيء، وإن كان ما نقوله نحن فليس معه منه شيء"(7).
ولتلمس موقع الرجل بين هذه الإطراءات والاتهامات، ولبيان مدى نجاحه في محاولته، لا بد من العودة إلى شيء من علم اللغة العام.
يعودتاريخ علم اللغة العام إلى بدايات القرن العشرين، عندما أعلن عالم اللغةماييه عام 1906: "إن التاريخ لن يكون بالنسبة للغوي غاية بل وسيلة"(مشيراً بذلك إلى أن جهود علماء اللغة في القرن التاسع عشر وما قبله انصبتعلى الأبحاث التاريخية والمقارنة، وعلى إثبات القرابة بين اللغات: ولاسيما بعد اكتشاف اللغة السنسكريتية، وردة الفعل العنيفة ضد قواعد بوررويال. وفي العام نفسه بدأ عالم اللغة الشهير سوسور في جامعة جنيفمحاضراته في "علم اللغة العام" فأسس عملياً هذا العلم.
"وهكذاأدار علم اللغة ظهره للدراسات المقارنة التاريخية، وأكد إمكان إخضاع كلحالة من اللغة إلى دراسة سكونية متزامنة بغض النظر عن التطور الذي تعد هذهالحالة امتداداً له؛ وبناء على هذا المفهوم طرح سوسور التمييز بين"التطورية" التي هي دراسة التغيرات عبر الزمن، و"التزامن" الذي هو دراسةحالات محدودة من اللغة في فترة محدودة من التطور. فانقسم علم اللغة إلىفرعين: علم لغة تعاقبي أو تطوري (Une linguistique diachronique ouévolutive) وعلم لغة تزامني أو سكوني (Une linguistique synchronique oustatique) وتنضم الطريقتان التزامنية والتعاقبية موضحة إحداهما الأخرى"(9)وينطبق هذا التقسيم السوسوري على اختصاص ابن جني بالدراسة التطورية للغة،واختصاص الإمام الجرجاني بالدراسة التزامنية لها في دلائل الإعجاز. وتنضمالدراستان في مدرسة واحدة يطلق عليها اسم مدرسة أبي علي الفارسي.
لماذا علم اللغة العام؟ وما مدى إسهام ابن جني فيه ما دام عمله لا يتعدى حدود اللغة العربية؟
"إذاكان هناك علم لغة عام فلأنه يمكن صياغة مبادئ تنطبق انطباقاً عاماً علىوظيفة اللغات وتطورها وعملها؛ وهذا هو مفهوم علم اللغة العام أو الكلي(Panchronique) مقابل علم اللغة الخاص (Idiochronique) الذي هو دراسةسكونية أو تطورية للغات خاصة"(10).
"ويرتبطعلم اللغة العام بعلم اللغة الخاص بلغة ما، كالعربية، لأنه يقوم على ما هوعام ومشترك بين اللغات جميعها؛ كما أن علم اللغة الخاص يستفيد بدوره منالنتائج التي يتوصل إليها علم اللغة العام بتطبيقها على اللغة التي يختصبدراستها"(11).
"ولذلكفإن لعلم اللغة العام في المرحلة الأولى، قبل مرحلة البحث عن القوانينالعامة مهمة وصفية؛ فمن مجموع الدراسات الخاصة المنفذة على اللغاتالمختلفة تستخلص تعليمات ذات طابع عام عن نماذج الأنظمة المتحققة فياللغات"(12).
ترتبط الخصائص العامة للغة بحقيقتين كبيرتين:
1-كل لغة هي نظام إشارات.
2-كل لغة تتجلى في إطار اجتماعي يحدد انتظام عملها وتطورها.
تعرّفالإشارة اللغوية بأنها "الكل المحصل من ضم دال ومدلول" ويرتبط الدالبالصورة السمعية، والمدلول بالتصور أو المعنى المجرد، وتمثل ظاهرة التلفظوظاهرة الإصغاء الجانب الفيزيويوجي- النفسي؛ أما موضوع علم اللغة فهوالجانب النفسي الصرف، أي التلازم بين الفكرة والصيغة. وقد شبه سوسورالعلاقة بين الدال والمدلول بوجهي الورقة الواحدة؛ فكما أن من المحال تصورورقة بوجه واحد، فمن المحال تصور دال بدون مدلول؛ والعكس صحيح. وإذا انعدمالتلازم بين الدال والمدلول كان لدينا تعاقب صوتي لا يصح أن نعده إشارةلسانية، فتعاقب (ك ت ب) أو (ك ب ت) يعطي إشارة لسانية؛ أما تعاقب (ت ب ك)فلا يعطي إشارة لسانية. والعلاقة بين الصيغة اللفظية وما تحيل إليه هذهالصيغة هي علاقة اعتباطية (Arbitraire) موضوعة بالاتفاق أو التواطؤ(Convention) فليست الإشارة اللسانية من قبيل الرمز بمعناه المحدد لأننالا نستطيع التصرف بالرموز كما نشاء؛ فنحن نرمز إلى العدالة مثلاً بالسيفأو الميزان، أو بهما معاً؛ ولكن لا نرمز إليها بكتاب أو مصباح. أماالإشارة اللسانية فإنها لا تتقيد بمثل هذه الرموز، فالإشارة اللسانية إلى(الطويل) تساوي الإشارة إلى (القصير).
صيغمصطلح الاعتباطية في الفرنسية من (Arbitre) التي تعني الحاكم المستبد أوالسيد المطلق. وفي العربية من فعل (اعتبط)، ومعناه القتل ظلماً، أو ذبحالذبيحة سمينة فتية لا علة فيها. وعلى هذا يلتقي المصطلحان عند فكرة الظلموالتعسف. ومن الجدير بالذكر أن اللغويين العرب القدامى استعملوا هذاالمصطلح بمعنى اللاسببية(13). أما سوسور فقد شعر بأن المصطلح الفرنسي لايعبر تمام التعبير عن العلاقة بين الإشارة اللسانية والشيء الخارجي،فاستخدم مصطلحاً أوضح وهو (Immotivé)، أي اللاسببية، أو دون علاقة طبيعية.وبدهي أنه تستثنى من هذه العلاقة الاعتباطية الألفاظ التي لها "ارتباططبيعي بالأشياء كالخرير والزقزقة، والألفاظ ذات الدلالات النفسية، مثل(أف) و(آه)، وهي محدودة في كل لغة.
أوضحابن جني أن الاعتباط أحد أسس اختيار الأصول الثلاثية في اللغة العربية،وهي أصول الأغلبية العظمى، قائلاً: "اعلم أن واضع اللغة لما أراد صوغهاوترتيب أحوالها هجم بفكره على جميعها، ورأى بعين تصوره وجوه جملهاوتفاصيلها، وعلم أنه لا بد من رفض ما شنع تالفه منها، نحو (هع) و(قج)..فنفاه عن نفسه، ولم يمرره بشيء من لفظه، وعلم أن ما طال وأمل بكثرة حروفهلا يمكن فيه من التصرف ما أمكن في أعدل الأصول وأخفها وهو الثلاثي... فلماكان الأمر كذلك اقتضت الصورة رفض البعض واستعمال البعض، وكانت الأصولومواد الكلم معرضة لهم، وعارضة أنفسها على تخيرهم، جرت لذلك عندهم مجرىمال ملقى بين يدي صاحبه، وقد أجمع انفاق بعضه دون بعضه، فميز رديئهوزائفه، فنفاه البتة، كما نفوا عنهم تركيب ما قبح تأليفه. ثم ضرب بيده إلىما أطف له من عرض جيده، فتناوله للحاجة إليه، وترك البعض لأنه لم يرداستعمال جميع ما بين يديه منه لما قدمنا ذكره، وهو يرى أنه لو أخذ ما تركمكان أخذ ما أخذ لأغنى عن صاحبه، ولأدى في الحاجة إليه تأديته؛ ألا ترىأنهم لو استعملوا (لجع) مكان (نجع) لقام مقامه وأغنى مغناه)(14).
يكشف النص السابق تصور ابن جني مراحل وضع ألفاظ اللغة على النحو التالي:
1-رفض ما شنع تآلفه من الأصوات، وغالباً ما تكون- حسبما يشرح في مكان آخر من الخصائص- الأصوات التي لها مخرج واحد، مثل (هع).
2-الابتعاد، لا الرفض المطلق، عن الأصول الطويلة، أي عن الرباعي والخماسي.
3-الانتقاء من بين الأصول الثلاثية، لأنه لا يمكن استيعاب كل هذه الأصول. ويتعلق هذا الانتقاء بقانون آخر سنتعرض له في حينه.
4-لا مقياس في هذا الانتقاء إلا مقياس الاعتباط.
ومنمظاهر الاعتباطية التي تخرج عن ساحة البحث، والتي ساقها ابن جني فيالخصائص ظاهرة عدل بعض الكلمات دون بعضها الآخر؛ يقول في الباب الذياستقينا منه النص السابق "فقد نجد في اللغة أشياء كثيرة غير محصاة، ولامحصلة، ولا نعرف لها سبباً، ولا نجد إلى الإحاطة بعللها مذهباً؛ فمن ذلكإهمال ما أهمل، وليس في القياس ما يدعو إلى إهماله، ومنه أنهم عدلوا(فُعَلا) عن (فاعل) في أحرف محفوظة، وهي ثُعَل وزُحَل وعُمَر... وما يقلتعداده، ولم يعدلوا في نحو مالِك وحاتِم وخالد، وغير ذلك، ولسنا نعرفسبباً أوجب هذا العدل في هذه الأسماء التي أريناكها دون غيرها"(15).
ومنمظاهر الاعتباطية التي لها علاقة باجتماعية الظاهرة اللغوية أوثق منعلاقتها باعتباطية الإشارة اللغوية ظاهرة الاستغناء، إنما تعنينا منها هناالكيفية التي تم بها الاستغناء؛ فلماذا استغني عن ماضي (ذَرْ) و(دَعْ) ولميستغن عن الماضي (وثب) إذا جرت هذه الظاهرة على الأفعال المبدوءة بالواو،ومثل هذا التساؤل في الاستغناء بجمع القلة عن جمع الكثرة أو العكس.
إن الخوض في المظهرين الأخيرين، العدل والاستغناء يتطلب الكثير من الحذر، وأعتقد أنهما يحتاجان إلى بحث تاريخي تطوري.
ومظهررابع للاعتباطية، وهو التصادفات الواقعة في اللغة أو ما يسميه ابن جني"تلاقي اللغة" ويستشهد له باسمي العلم (سلمان) و(سلمى): "ألا ترى أنفَعْلان الذي يقاوده فَعْلى إنما بابه الصفة كغضبان وغضبى وعطشان وعطشى؛وليس سلمان وسلمى بصفتين ولا نكرتين، وإنما سلمان من سلمى كقحطان من ليلى.غير أنهما كانا من لفظ واحد فتلاقيا في عُرض اللغة من غير قصد لجمعهما،ولا إيثار لتقاودهما"(16).
ويتطلبالحديث عن اجتماعية الظاهرة اللغوية التقديم بأصل الكلام الإنساني.ونستطيع إجمال النظريات التي ظهرت لتفسير أصل الكلام الإنساني فيالاتجاهات التالية:
1-النظريات الطبيعية التي نسبت أصل الكلام إلى تقليد أصوات الطبيعة.
2-النظرياتالأنثروبولوجية التي نسبته إلى العلاقة الرمزية المتبادلة بين وقع المصدرالصوتي ومعناه، أو إلى الأصوات المرافقة لجهد عضلي...
3-النظريات الفلسفية التي نسبته إلى العقل الإنساني المتمتع بغريزة خاصة زوّد بها جميع أفراد الجنس البشري.
4-النظريات اللاهوتية التي عدَّت اللغة هبة من الله.
وقدوقعت النظريات السابقة في خطأ إهمال العامل الاجتماعي في نشوء الكلام.وهذا ما أدركته وتداركته كلتا المدرستين اللغويتين المنبثقتين في القرنالعشرين، وهما البنيوية في الغرب، والمدرسة اللغوية السوفييتية.
أمامدرسة الفارسي فقد أدركت هذا منذ مئات السنين، يقول الإمام الجرجاني: "فإنالناس إنما يكلم بعضهم بعضاً ليعرف السامع غرض المتكلم ومقصوده"(17) ويؤكدعلى أن المفردات لم توضع لتعرف معانيها بأنفسها، وإنما ليضم بعضها إلىبعض، فيعرف ما بينها من فوائد، أي أن نشأة الكلمة المفردة ارتبطت بنشأةالكلام، ولم تقتصر مهمة الكلمات المفردة منذ نشأتها على التسمية، بل كانتمهمتها الإخبار أي الوظيفة الأساسية للغة هي كونها أداة اتصال بين الناس.
وينتميالإمام الجرجاني بهذا إلى مدرسة الفارسي، يقول ابن جني في (باب في هذهاللغة، أفي وقت واحد وضعت أم تلاحق تابع منها بفارط): "اعلم أن أبا عليرحمه الله كان يذهب إلى أن هذه اللغة- أعني ما سبق منها ثم ما لحق بهبعده- إنما وقع كل صدر منها في زمان واحد. وإن كان تقدم شيء منها علىصاحبه فليس بواجب أن يكون المتقدم على الفعل الاسم، ولا أن يكون المتقدمعلى الحرف الفعل... وإنما يعني القوم بقولهم: "إن الاسم أسبق من الفعل"أنه أقوى في النفس، وأسبق في الاعتقاد من الفعل؛ لا في الزمان؛ أما الزمانفيجوز أن يكونوا عند التواضع قدموا الاسم قبل الفعل، ويجوز أن يكونواقدموا الفعل في الوضع قبل الاسم، وكذلك الحرف. وذلك لأنهم وزنوا حينئذأحوالهم، وعرفوا مصاير أمورهم، فعلموا أنهم محتاجون إلى العبارات عنالمعاني، وأنها لا بد لها من الأسماء والأفعال والحروف؛ فلا عليهم بأيهابدؤوا؛ أبالاسم أم بالفعل أم بالحرف لأنهم أوجبوا على أنفسهم أن يأتوا بهنجُمَع؛ إذ المعاني لا تستغني عن واحد منهن. هذا مذهب أبي علي، وبه كانيأخذ ويفتي"(18).
يؤكدعلم اللغة الحديث بدوره على اجتماعية اللغة، وعلى أنها تتمثل لنا خارجياًكأداة للتواصل بين الناس؛ فهي تظهر في كل مكان حيث يعيش أناس في مجتمع.ولا تمارس لغة دون أن تستخدم وسيلة اتصال. ويعرف اللغة على تنوع أشكالها:الفصيحة، والعامية واللهجات المحلية على أنها "وظيفة إنسانية تستند إلى ضممحتويات الفكرة إلى أصوات منتجة بواسطة الكلام"(19).
وتتوضعاللغة لكونها وسيلة اتصال ضمن مجموعة الأنظمة العلامية المستخدمة للتواصل،مثل أنظمة المرور وطقوس الزواج والوفاة. وعلى هذا وجدت- ولا تزال- لغاتغير منطوقة بجهاز النطق الإنساني مثل نداءات الإنذار، وقرع الطبول فيأفريقية؛ ولكن الأساس هو وجود لغة منطوقة يتكون نظام عملها من بث واستقبالأصوات منتجة بعملية الكلام. وهذه اللغة هي موضوع علم اللغة.
وأدتالحاجة إلى التواصل بين الناس الذين يتكلمون لغات مختلفة؛ لا إلى تعلمإحدى المجموعتين لغة المجموعة الأخرى فحسب، وإنما إلى ظهور لغات خاصة تسمى"لغات الاتصال" تتميز عن اللغات القومية، مثل لغة البدجين (Pidgin)المكونة من عناصر انكليزية وصينية وماليزية، ولغة السابير (Sabir) ذاتالأصول الرومانية، التي كانت تستخدم سابقاً على شواطئ البحر المتوسط(20).
كيف تؤدي اللغة وظيفتها بصفتها أداة اتصال؟
1-يجبأن يكون للغة نظام. يقول ابن جني في معرض حديثه عن الاختلاف بين لغة تميمولغة الحجاز: "هذا الخلاف لقلته ونذارته غير محتفل ولا معيج عليه. وإنماهو شيء من الفروع يسير، فأما الأصول وما عليه العامة والجمهور فلا خلافعليه. وكل واحد محافظ على لغته، لا يخالف شيئاً منها، ولا يوجد عنده تعادمنها؛ فهل ذلك إلا لأنهم يحتاطون ويقتاسون ولا يفرطون ولا يخلطون"(21)و"لو كانت هذه اللغة حشواً مكيلاً وحثواً مهيلاً لكثر خلافها وتعادتأوصافها فجاء عنهم جر الفاعل ورفع المضاف إليه"(22).
إذنما يختلف فيه العرب قليل بالقياس إلى ما يتفقون عليه، ثم إن ما يختلف فيهالعرب قليل بالقياس إلى ما يختلف فيه العلماء؛ وذلك لأن العلماء اختلفوافي الاعتلال لما اتفقت عليه العرب، كما اختلفوا أيضاً فيما اختلفت العربفيه.
ويعود الفضل في اتساق النظام اللغوي في رأي ابن جني إلى القياس.
2-يجبأن يكون هذا النظام قائماً على حاجة الناس إلى اللغة، وعلى استعمالهم لها؛فاللغة ملك الجميع. كما أنه ليس بوسع فرد أو أفراد ابتكار لغة خارج نطاقالمجتمع. ولهذا أخفقت المحاولات التي قام بها في القرن السابع عشر خاصةبعض الفلاسفة مثل ديكارت ولايبنز لوضع لغات اصطناعية.
3-ويجبأن يتصف هذا النظام بالمرونة لتلبية الحاجات المتزايدة من الألفاظ. إنالأساس الوطيد لهذه المرونة هو الاعتباط، ثم القياس. فكيف فهم ابن جنيالعلاقة بين الاستعمال والقياس؟
يمهد ابن جني لشرح هذه العلاقة بتقسيم كلام العرب إلى أربعة أضرب:
1-مطردفي القياس والاستعمال جميعاً؛ وهذا هو الغاية المطلوبة، نحو: (قام زيدٌ)و(مررت بسعيد)؛ يعني رفع الفاعل ونصب المفعول وجر المجرور.
2-مطرد في القياس، شاذ في الاستعمال: وذلك نحو الماضي من (يذر) و(يدع)؛ يعني أن القياس يجيزهما، غير أنهما شاذان في الاستعمال.
3-مطرد في الاستعمال، شاذ في القياس: نحو (استصوب) و(استحوذ). والقياس أن يقال: استصاب واستحاذ، بإعلال العين.
4-شاذفي القياس والاستعمال جميعاً، مثل تتميم (مفعول) فيما عينه واو، نحو (فرسمقوود) و(ثوب مصوون)، والقياس بحذف الواو الثانية منهما.
ثم يشرح العلاقة بين الاستعمال والقياس على النحو التالي:
1-إذاتعارضا، أي اطرد في الاستعمال، وشذ عن القياس أخذت بالأول، أي بالاستعماللأنك تتكلم كلام العرب؛ ولكنه لا يتخذ أصلاً يقاس عليه غيره.
2-إذاشذ في القياس وكثر في الاستعمال أخذت بما كثر في الاستعمال؛ وإن لم ينتهقياسه إلى ما انتهى إليه استعماله، أي وإن لم تكن قوته في القياس على قدرقوته في الاستعمال. والعربي قد يتكلم اللغة وغيرها أقوى في القياس عنده.
3-إذا أوصلك القياس إلى شيء، ثم سمعت العرب تنطق غيره فدع ما كنت عليه إلى ما هم عليه.
4-إذاأيد قياسك سماع فأنت مخير فيه؛ فإن صح عندك أن العرب لم تنطق بقياسك كنتعلى ما أجمعوا عليه البتة، وأعددت ما كان قياسك أداك إليه لشاعر مولِّد،أو لساجع، أو لضرورة لأنه على قياسهم.
5-وإذا فشا الشيء في الاستعمال، وقوي في القياس؛ فذلك ما لا غاية وراءه، نحو منقاد اللغة من النصب بحروف النصب والجر بحروف الجر.
6-وأما ضعف الشيء في القياس وقلته في السماع فمرذول مطرح؛ غير أنه قد يجيء منه الشيء إلا أنه قليل.
ويؤكد ابن جني أهمية العامل الاجتماعي في مواضع أخرى من الخصائص على النحو التالي:
1-لايقصد بالاستعمال استعمال فرد أو أفراد، بل الاستعمال الاجتماعي؛ يقول "فانورد عن بعضهم شيء يدفعه كلام العرب، ويأباه القياس لا يقنع في قبوله أنتسمعه من الواحد، ولا من العدة القليلة؛ إلا أن يكثر من ينطق بهمنهم"(23).
2-يحذرابن جني من أن الخطأ إذا تكرر توطد، يقول: "ومنهم- من العرب- من إذا طالتكرر لغة غيره عليه لصقت به. ووجدت في كلامه- يعني أبا علي-: "ألا ترى إلىرسول الله ( وقد قيل: يا نبيء الله، فقال: لست بنبيء الله ولكنني نبيالله. وذلك أنه عليه الصلاة والسلام أنكر الهمز في اسمه، فرده على قائله،لأنه لم يدر بما سماه، فأشفق أن يمسك على ذلك"(24).
3-يجبأن يرتبط القياس بالاستعمال، أي بالواقع الموضوعي، ولا يجوز أن يؤخذبمعناه النظري الصرف أخذاً مطلقاً، ولذا يستنكر وفقاً لهذا الفهم أن يكونقولهم "رفع عقيرته" مشتقاً من (عقر) مثلما أوَّله أبو اسحاق، ويوافق علىأن معنى الصوت في (عقيرته) مأخوذ افتراضاً من أن أحدهم قطعت رجله، فرعرجله المعقورة، وصرخ؛ فقالوا: رفع عقيرته. ثم يقول ابن جني: "ولذلك قالسيبويه في نحو من هذا: أو لأن الأول وصل إليه علم لم يصل إلى الآخر؛ يعنيما نحن عليه من مشاهدة الأحوال والأوائل"(25).
ويلحعلى أن مشاهدة حال المتكلم في أثناء الكلام، أي ربط الكلام بالموقف الذييجري فيه أشد نفعاً للغوي من شعر الفرزدق إذا أخبر به ولم يحضره ينشده.
4-لاتستدرك اللغة كلها قياساً؛ فمنها ما لا بد من إيراده، ونص ألفاظه إذا لميجدوا بداً منها، ولا منصرفاً عنها "ومعاذ الله أن ندعي أن جميع اللغةتستدرك بالأدلة قياساً"(26).
5-وهناك حدود لا مكان التصرف في اللغة لا يمكن تجاوزها، مثل حدود الحذف والفصل والتقديم والتأخير.
ولاشك أن المسموع الذي وصل إلى عصر التدوين من كلام العرب قليل بالنسبة إلىحجم اللغة وإمكاناتها التوليدية. يقول عمر بن الخطاب: "كان الشعر علمالقوم، ولم يكن لهم علم أصح منه. فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب بالجهاد،ولهيت عن الشعر وروايته، فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح، واطمأنت العرب فيالأمصار راجعوا رواية الشعر، فلم يؤولوا إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوبفحفظوا أقل ذلك، وذهب عنهم كثيره"(27).
ولايعقل طبعاً أن ترد اللغة الصحيحة كلها عن طريق السماع، ولا يعقل كذلك أنتتجمد اللغة على المسموع؛ فكيف تغتني اللغة وتتجدد؟ وكيف يتأصل الجديد؟
1-لاشك في أن اقتران الاستعمال بالقياس الصحيح يؤصل القياس، بدليل قوله: "إذافشا الشيء في الاستعمال، وقوي في القياس فذلك ما لا غاية وراءه، نحو منقاداللغة"(28).
2-ماقيس على كلام العرب فهو من كلام العرب "ألا ترى أنك لم تسمع أنت ولا غيركاسم كل فاعل ولا مفعول؛ وإنما سمعت البعض منه، فقست عليه غيره، فإذا سمعتقام زيدٌ) أجزت (ظَرُف بشرٌ) و(كرم خالدٌ)"(29).
3-وينطبقهذا على الألفاظ الأعجمية التي تدخل اللغة "قال أبو علي الفارسي: إذا قلتطاب الخشكنان) فهذا من كلام العرب؛ لأنك بإعرابك إياه قد أدخلته كلامالعرب"(30).
يعنيالإعراب إذن إخضاع اللفظة الأعجمية لنظام العربية صوتياً وصرفياً ونحوياً،فاللفظة حين تنتقل من لغتها إلى العربية تغير أصواتها، ويتصرف في وزنهابحيث تندرج في أقرب وزن من أوزان العربية، ويحرك آخرها بحركات الإعراب،ويشتق منها، فيقال: (درهمت الخبازى)، أي صارت كالدراهم، فاشتق من الدرهم،وهو اسم أعجمي. كذلك يدخلون على هذه الألفاظ الدخيلة لام التعريف تشبيهاًلها بأصول كلام العرب، أي النكرات(31).
4-عنطريق التدريج؛ وهو "أن يشبه شيء شيئاً من موضع، فيُمضي حكمه على حكمالأول، ثم يرقى منه إلى غيره"(32). ومن أمثلته قلب الذال دالاً في(ادَّكر)، ثم تدرجوا منه إلى غيره بأن قلبوها دالاً في غير (افتعل)،فقالوا: "الدَّكر). وفي شرح مثال آخر للتدريج يستخدم ابن جني لفظة هامةالمدلول، وهي الاعتياد، يقول: "لاعتيادهم عليها حتى صارت كأنها كانتأصلاً"(33).
5-استعارةاللفظة والاستعمال الطويل لها؛ يعلل ابن جني اجتماع لغتين فصيحتين أو أكثرفي لغة رجل واحد قائلاً: "وقد يجوز أن تكون لغته في الأصل إحداها، ثم إنهاستفاد الأخرى من قبيلة أخرى، وطال عهده بها، وكثر استعماله لها؛ فلحقتلطول المدة، واتصال استعمالها بلغته(34). ويقول في موضع آخر: "ومن العربمن إذا طال تكرر لغة غيره عليه لصقت به، ووجدت في كلامه"(35).
ويلخص علم اللغة الحديث توطد اللفظة بالقوانين التالية(36):
اعتباط × وضع - اصطلاح. أي أنه تم وضع الألفاظ على أساس الاعتباط.
اصطلاح × استعمال - عرف. أي أن الاصطلاح يجب أن يؤيده الاستعمال ليصبح عرفاً.
عرف × تواتر - اطراد.
ويتفقهذا مع مفهوم ابن جني في أن كثرة الاستعمال مع طول المدة تلحق اللفظةباللغة. ويعلل هذا المفهوم عجزنا عن تصحيح الأخطاء الشائعة، وعجز المجامعاللغوية عن فرض مصطلحاتها.
لماذا إصرار ابن جني على أن الاستعمال هو الأصل مع أنه وريث مدرسة القياس البصرية؟
1-اللغةعقد اجتماعي، كما يقول علم اللغة المعاصر، ومؤسسة موضوعية، بمعنى أنها لاتتعلق بإرادة فرد أو أفراد من المجتمع؛ فلا قيمة للغة خارج استعماله.
2-يحد الاستعمال من استطالة القياس، فيحد من اتساع اللغة الناجم عن الإسراف في القياس. ويرجع السبب في هذا إلى:
أ-أنالإمكانات النظرية للغة هائلة. يعلل ابن جني قلة استعمال الأصلين الرباعيوالخماسي قائلاً: "ذلك أن الثلاثي يتركب منه ستة أصول، والرباعي يتركب منهأربعة وعشرون أصلاً... وإذا كان الرباعي مع قربه من الثلاثي إنما استعملالأقل النذر منه فما ظنك بالخماسي؛ ألا ترى أنك لا تجد شيئاً من نحو(سفرجل) قالوا فيه: (سرفجل)، ولا نحو ذلك؛ مع أن تقليبه يبلغ به مائةوعشرين أصلاً؛ ثم لم يستعمل من كل ذلك إلا (سفرجل) وحده"(37).
ثمهناك إمكان تقليب كل أصل ثلاثي من الأصول الستة تسع مرات بتغيير حركةالعين في الماضي والمضارع، وهناك صيغ الزوائد أيضاً. إن هذه الإمكانات إذاأطلقت ستؤدي إلى ما يشبه التضخم الاقتصادي. وتحتفظ اللغة بهذه القدرات إلىحين اللزوم؛ وعلى هذا يطلق على اللغة اللاتينية التي لم تعد تستخدم لغةاتصال مصطلح (En conserve) أي قيد الحفظ، تشبيهاً بالمخزون الغذائي يستجرمنه على قدر الحاجة.
ب-ومادامت اللغة وسيلة اتصال فإنها يجب أن تكون مفهومة من قبل كل الذين يتكلمونبها ليستطيعوا التفاهم عن طريقها، ولتكون عامل توحيد لهم؛ وإلا فقدتوظيفتها الإبلاغية الاجتماعية، وعليه تشبه وظيفة الإبلاغ بالمقود الذييوجه اللغة انتشاراً أو تقليصاً.
3-ينتميابن جني بشكل ما إلى مدرسة البصرة التي أدركت حقيقة هامة، وهي أن اللغةنظام، بمعنى أنه يجب احتواء ما يمكن احتواؤه من كلام العرب ضمن النظاماللغوي، واعتبار ما يقع خارج تلك الحدود شاذاً يحفظ، ولا يقاس عليه، ويكونحسب مفهوم ابن جني منبهة على أصل بابه.
إذاكان الاستعمال قوة ضاغطة على اللغة باتجاه التقليص؛ فما القوة التي تجعلالنظام اللغوي مرناً يستجيب لمتطلبات التواصل من جهة، ولمتطلبات التطور منجهة؟ إنها مرونة القياس ومن مظاهرها في فكر ابن جني:
1-جواز القياس على ما يقل، ورفضه على الأكثر منه إذا كان الأكثر غير قياس.
2-ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب.
3-للإنسانأن يرتجل من المذاهب، ما لم يلو بنص، أو ينتهك حرمة شرع. وليس إجماع أهلالبلدين- يعني البصرة، والكوفة- بحجة عليك إذا لم تخالف المنصوص؛ يقصدحرية الاستنتاج والبحث العلمي.
4-يحملعلى الظاهر، وإن أمكن أن يكون المراد غيره، تسهيلاً للبحث وللغة، ومثالهحمل سيبويه كلمة (سِيْد) على الياء لأنه الظاهر؛ وإن كانت الواو أكثروروداً في هذا الموضع، أي عين الاسم.
5-الاستحسانضرب من الاتساع والتصرف، ومن أمثلته ترك الأخف إلى الأثقل من غير ضرورة،وإلحاق نون التوكيد باسم الفاعل تشبيهاً له بالمضارع، وما خرج منبهة علىأصل بابه، مثل (استحوذ) و(استصوب).
6-إذاانفرد العربي بشيء نظر إلى كلامه؛ فإن كان كلامه فصيحاً قبل منه؛ فقد يكونمن لغة قديمة. إن ابن جني يتجاوز هنا قاعدة الاستعمال الجماعي، ويقبلالاستعمال الفردي لتسهيل احتواء النظام للغة.
7-الحمولوالإضافات والإلحاقات لكثرة هذه اللغة وسعتها وغلبة حاجة أهلها إليهاللتصرف؛ يقول سيبويه: "وليس شيء يضطرون إليه إلا وهم يحاولون بهوجهاً"(38).
8-قبوللغتين أو أكثر "لأن لكل واحد من القومين ضرباً من القياس يؤخذ به، ويخلدإليه، وليس لك أن ترد إحدى اللغتين بصاحبتها"(39)، ومثاله أعمال (ما)وإهمالها.
9-لاتجوز المبالغة في التشكك بكل لهجة أو لغة أو قياس؛ لأن هذا التشكك "يوحشكمن كل لغة صحيحة لأنه يتوجه منه أن تتوقف عن الأخذ بها مخافة أن يكون فيهازيغ حادث لا تعلمه الآن، ويجوز أن تعلمه بعد زمان... وان اتجه هذا انخرطعليك منه ألا تطيب نفساً بلغة؛ وإن كانت فصيحة مستحكمة"(40) وكذلك "لايجوز ترك الحاضر الذي له وجود من القياس لغائب مجوّز ليس عليه دليل"(41).
10-ولابد أن نضيف إلى ما سبق باباً واسعاً في الخصائص سماه المؤلف "شجاعةالعربية" يعني بها الحذف والفصل والتفريق والتقديم والتأخير.
كيفتحافظ اللغة على توازنها بين هاتين القوتين المتعاكستين: قوة التقلصالمتأتية من قيود الاستعمال الاجتماعي، وقوة الانتشار الناتجة عن مرونةالقياس؟
1-لايتغير النظامان الصرفي والنحوي للغة إلا ببطء شديد، وما دام هذان النظامانقادرين على استيعاب الدخيل من الألفاظ، فلا خوف على اللغة.
2-أماالمعاني الجديدة التي يفرضها التطور الحضاري فإن اللغة تتمكن من التعبيرعنها دون اللجوء إلى التوسع المعجمي في غالب الأحيان عن طريق العبورباللفظة من الحقيقة إلى المجاز، وتتحقق كذلك عبر السياقات المختلفة للفظة؛يقول ابن جني عن الحقيقة والمجاز: "الحقيقة ما أقر في الاستعمال على أصلوضعه في اللغة، والمجاز ما كان ضد ذلك. وإنما يقع المجاز ويعدل إليه عنالحقيقة لمعان ثلاثة، وهي الاتساع والتشبيه والتوكيد"(42).
ويقولالدكتور عبد السلام المسدي: "إن العملية التي سماها العرب في وقت ماالمجاز، من فعل جاز، هي عبور باللفظة من حقل دلالي إلى حقل آخر، وكذلكالاستعارة؛ فاللفظة قادرة على التحول الذاتي، أي على أن تتحول دلالتهاضمنياً عبر الزمن. وتشبه هذه العملية عملية الانسلاخ في الكائنات الحية،حيث تجدد اللفظة معناها دون أن تفقد جوهرها"(43).
وتخفف اللغة حملها المعجمي عن طريق الاستغناء، وهو على أنواع:
1-نوع استعمالي؛ حيث تموت اللفظة المهجورة زمناً طويلاً وفقاً للقاعدة نفسها التي تثبت بها اللفظة الجديدة عن طريق الاستعمال.
2-نوع تمنعه قواعد القياس، وهي القواعد التي تسمح في الوقت نفسه بتوسع اللغة، مثل صيغ التعجب والتفضيل من بعض الأفعال.
3-نوعاعتباطي لا ضابط له، كالاستغناء بجمع القلة عن الكثرة أو بالعكس،والاستغناء عن صيغ بعض الأفعال ببعضها الآخر كالاستغناء عن (فقر) و(شد)بصيغتي (افتقر) و(اشتد) والاستغناء عن الأصل المجرد بما استعمل مزيداً؛وهو صدر صالح من اللغة كما يقول ابن جني، نحو (كوكب) و(حوشب) إذ لم يرد فيكلامهم (ككب) ولا (حشب).
وينطويتحت عنوان اجتماعية الظاهرة اللغوية ما يسميه الاستخفاف والاستثقال وحسالمتكلم، يقول في باب (علل العربية أكلامية هي أم فقهية: "قال أبو اسحاق(الزجاج) في رفع الفاعل ونصب المفعول: إنما فعل ذلك للفرق بينهما، ثم سألنفسه فقال: فإن قيل: فهلا عكست الحال، فكانت فرقاً أيضاً؛ قيل: الذي فعلوهأحزم، وذلك أن الفعل لا يكون له أكثر من فاعل واحد، وقد يكون له مفعولاتكثيرة؛ فرفع الفاعل لقلته، ونصب المفعول لكثرته؛ وذلك ليقل في كلامهم مايستثقلون، ويكثر في كلامهم ما يستخفون"(44). ويمثل ابن جني لهذا بثقلالواو الساكنة بعد كسرة في نحو مِوْزان، وثقل الياء الساكنة بعد ضمة فينحو مُيْسر؛ فقلبوا الواو ياء والياء واواً.
ولهذا الحديث أكثر من موضع في الخصائص؛ وإنما أوجز أبرز مظاهره فيما يلي:
1-اختيار الأصل الثلاثي دون الرباعي والخماسي لخفته ولثقلهما.
2-الهروبمن الحركة الثقيلة إلى الخفيفة، مثل تسكين المتحرك في نحو (عضُد- عجُز)وورود معظم الحروف المنفردة على الفتح كألف الاستفهام وواو العطف؛ وما وردمنها مكسوراً إنما كسر لمعنى، مثل لام الأمر. وورود الأحرف المثناة كلهامفتوحة الأول، مثل هَلْ ولَمْ..
3-الإعلالالذي سبقت أمثلته؛ بالإضافة إلى أنه يشبه تقليب الأصول الثلاثية بالإعلال،ويجعل هذا الشبه أحد أسباب النفور من التقليبات الممكنة.
4-اختلاس الحركة، مثل قراءة بعضهم (مالك لا تأمننا على يوسف((45) مختلساً حركة النون.
5-الإشمام،ومعلوم أنه للعين، لا للأذن، وليس هناك حركة البتة، يقول ابن جني: "فإذاقنعوا من الحركة بأن يومئوا إليها بالأدلة التي من عادتها أن تستعمل بهاعن النطق بها من غير أن يُخرجوا إلى حس السمع شيئاً من الحركة... لم يبقوراء ذلك شيء يستدل به على عنايتهم بهذا الأمر (يعني الاستخفاف)"(46).
6-إدراج همزة الوصل.
7-الحذف، سواء بحذف الكلمة كلها، أم بحذف جزء منها.
8-ظاهرة أسماء الشرط والاستفهام التي يسأل بها عن الكثير.
9-الإلحاق بالأفعال من أولها، وبالأسماء من آخرها، وزيادة الألف فقط على الخماسي لخفتها، مثل (قبعثرى) و(ضبغطرى).
وفيعلم اللغة الحديث ما يسمى بقانون المجهود الأدنى(47). يشرحه الدكتور عبدالسلام المسدي على النحو التالي: "تنزع اللغة إلى إبلاغ أكثر عدد منالشحنات الإخبارية، أي أكبر عدد من المعلومات بأقل ما يمكن من الجهدالعضلي، ومن أمثلته في العربية تحول اللغة العربية إلى لهجات والوقوف علىساكن"(48) ويحسن هنا ذكر ملاحظة ثاقبة لابن جني يضيفها إلى حديث الاستخفافوالاستثقال، وهي أن اللغة تنزع أحياناً إلى الأطول والأثقل دفعاً للمللوطلباً للتنوع، كالعدول عن الياء مع خفتها إلى الواو على ثقلها في كلمة(حيوة)، وحقها أن تقلب واوها ياء، وكذلك العدول عن الإعلال مع توفر العلةفي نحو (استصوب) و(استحوذ). ويعلل الدكتور المسدي هذه الظاهرة بأنها وظيفةنفسية واجتماعية للغة، وهي وظيفة تركيز دعائم الاستئناس التي يتكلم بها معالمخاطب"(49).
ونشيرأخيراً إشارة عابرة، لتشعب الموضوع، إلى صنيع آخر لابن جني يصب في التيارنفسه، وهو توجيهه للقراءات الشاذة في كتابه "المحتسب" لأن هذه القراءاتإنما هي لهجات تكلمت بها مجموعات بشرية، قلَّت أو كثرت. وأكمل ابن جنيبهذا صنيع أستاذه أبي علي الفارسي الذي وجه القراءات السبع في كتابه"الحجَّة".
الحواشي:
(1)-في أصول النحو للأستاذ سعيد الأفغاني، ط3، مطبعة جامعة دمشق، ص 91.
(2)-المذاهب الإسلامية، أحمد أبو زهرة، ص 215.
(3)-في أصول النحو، ص 103.
(4)-المصدر السابق، ص 104.
(5)-مقدمة الخصائص، مطبعة دار الهدى، الطبعة الثانية، ص 47.
(6)-المدارس النحوية، د.شوقي ضيف، ص 268.
(7)-في أصول النحو، 137.
(-La linguistique, Jean Perrat. 11 édition, P.96.
(9)-المصدر السابق، ص 99.
(10)-المصدر السابق، ص 100.
[b](11)-"الدورالإيجابي للمتكلمين والمعتزلة في علم اللغة العربية"، محاضرة للدكتور جعفردك الباب. ألقيت في المؤتمر العا