البنيوية التكوينية في النقد الأدبي رؤية لوسيان غولدمان/ الجزء الأول
تقدمi هذه الدراسة منهجا نقديا غربيا ترك بصماته في تطبيقات النقد العربي، لذا نرى أهمية العودة إليه من أجل الإحاطة العلمية برؤية مؤسسه، مع أن القارئ قد يجد هكذا موضوع مشبعا درسا، غير أن ما تطمح إليه الدراسة هو قراءة شاملة مبنية على كتابات المؤسس الأول للبنيوية التكوينية، و القراءات العربية لها، و التي ركز البعض منها على جانب دون آخر من النظرية، باستثناء دراسة (جمال شحيد) التي أرادت أن تكون شاملة إلى حد ما، لذلك تأتي هذه الدراسة لتستفيد من هذا و ذاك محاولة الإلمام برؤية (غولدمان) لفائدة القارئ العربي.
و سنبدأ من حيث بدأ (غولدمان)، فقد أسس نظريته على النقد الذي قدمه لأستاذه (لوكاتش)، فلم يحفل كثيرا بالواقعية الاشتراكية أو النقدية، اهتم بكتاب من خارج دائرة اهتمامات أستاذه، و لم يفهم الأدب في العصر الحديث ضمن النظرة الكلاسيكية لعلم الجمال متجاوزا الثنائية التي تتناول دوما الأدب من منظور الواقعية و المثالية. و رأى بأنها لم تعد صالحة على الناقد المتمرس الابتعاد عنها.
و مع ذلك يعود في كثير من الأحايين و هو يبني نظريته إلى أعمال (لوكاتش)، خاصة في تحديد منهجه البنيوى التكويني؛ و بالتحديد الأعمال الأولى”الروح و الأشكال، نظرية الرواية، التاريخ و الوعي الطبقي”، ففيها وجد العناصر الجمالية الثلاثة:
الشكل و البنية و الشمولية، مستبدلا مفهومي الشكل و الشمولية بالبنية الدلالية1.
إن القارئ لجهود (غولدمان) يجد معالم متكاملة لنقد سوسيولوجي، استند في تأسيسه إلى أعمال (لوكاتش) معيدا صياغة أفكاره بنوع من الدقة و الإحكام، إضافة إلى مفاهيم جديدة أعطت مظهرا جديدا لسوسيولوجيا الرواية؛ يتميز بالمرونة في إطار المبادئ الفلسفية الأساسية للمادية.
على هذا الأساس يرى أن الأعمال الأدبية تقوم على أبنية عقلية للجماعات أو الطبقات؛ وليس الفرد فقط، إذ تبنيها هذه الأخيرة و تهدمها باستمرار في عملية تعديل توجه لصورها العقلية الخاصة بالعلم؛ يرفضها الواقع المتغير؛ و تبقى تلك الصور كاملة في شكلها خامات في وعي الطبقات حتى تحظى بكاتب عظيم، يعيد صياغتها في رؤية للعالم متكاملة. و يظهر هذا في كتابه “الإله الخفي” حينما وجد علاقة تربط تراجيديا (راسين) و فلسفة (باسكال) بالحركة الدينية الفرنسية المسماة “جنسينية*Jansenism “2 .
لذلك دعا إلى ضرورة الاهتمام بالحركة المتواصلة من النص إلى المجتمع، و من المجتمع إلى النص، دليلا على مدى تأثير المجتمع في تكوين العمل الإبداعي؛ فكان من الواجب تناول إي عمل باعتباره نتاج المجتمع؛ و تشكل هذه العلاقة الفكرة الأساس عند (غولدمان)، تكمن قيمتها في الدور الذي تؤديه الوقائع في العمل الأدبي.
يجمع (غولدمان) بين الفكر الماركسي و الفكر البنيوي، لتحديد منهجه؛ فمن جهة تهتم الماركسية بالعوامل الاجتماعية و الاقتصادية، كمؤثرات في الإنتاج الأدبي، و من جهة أخرى تهتم البنيوية ببناء النص فقط، ويظهر أنه يجمع بين الشكل و المضمون؛ أي بين بنية النص و العوامل الخارجة عنه، و المؤثرة فيه، من منطلق أن الكاتب يتأثر بالواقع الذي يعيش فيه؛ يتجلى هذا الشكل إما على هيئة توافق بين الكاتب و الواقع، و إما في شكل رفض، و إما يصير تركيبا للأفكار الكامنة في ذلك الواقع.
و يسجل في كتابه”من أجل سوسيولوجيا للروايةPour Une Sociologie Du Roman”، نقاطا أربعة لفهم العلاقة بين الواقع و العمل الأدبي هي:
1- إن النتاج الأدبي ليس انعكاسا ساذجا للوعي الجماعي الواقعي، بل يميل إلى بلوغ درجة من الانسجام، تعبر عن طموحات وعي الجماعة التي يتحدث الكاتب باسمها، و يمكن تصور هذا الوعي كحقيقة موجهة من أجل الجماعة المذكورة على نوع من التوازن في الواقع الذي تعيش فيه3.
2- إن العلاقة المجودة بين الوعي وبين الأعمال الإبداعية الفردية الكبيرة، أدبية كانت، أم فلسفية، أم لاهوتية، لا تكمن في شكل تطابق تام في المحتوى، و لكنها تتجلى في نوع من الانسجام على مستوى أعلى من التطابق على مستوى البنيات، لأن الأعمال الإبداعية تكون مضامينها في صورة صياغة مجازية، تختلف كثيرا عن المضمون الواقعي للوعي الجماعي4.
3- العمل الأدبي الذي يقابل بنية فكرية لجماعة ما، بإمكانه أن يكون في بعض الحالات تماثلا دقيقا ، ينطوي على علاقة بسيطة بين العمل الفكري، و هذه الجماعة؛ فالميزة الاجتماعية للعمل الأدبي تكمن على الخصوص في كون الفرد ليس بمقدوره وحده فقط تكوين بنية فكرية منسجمة، تقابل ما يسمى برؤية العالم، لأن مثل هذه البنية لا تتكون إلا من طرف جماعة، أما الفرد فبإمكانه نقلها إلى مستوى أعلى أكثر انسجاما، و تحويلا إلى مستوى الإبداع الخيالي للفكر النظري5.
4- إن الوعي الجماعي ليس حقيقة أولية، ولا حقيقة مستقلة، بل هو وعي يتكون ضمنيا ضمن السلوك العام للأفراد المشاركين في الحياة الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية…إلخ6.
مثل هذه النقاط تقودنا ليس إلى الاهتمام بالعلاقة القائمة بين النتاج الأدبي، و الوعي الجماعي الكائن، بل إلى ربطه بالوعي الجماعي الممكن؛ فيغدو العمل عظيما إذا عبر عن الطموحات القصوى للجماعة، التي منها استعار مضامينه كما سبق و أشرنا.
و تعطي النقطة الثانية العمل استقلالية نسبية محتفظة له بخصائصه الجمالية، التي تميزه عن غيره من الأعمال، لأنه كما قلنا ليس بالضرورة أن يطابق مضمونه السطحي مضمون فكر الجماعة التي يعبر عنها، بل يوظف المجاز ليتميز عن الواقع، ويشكل عالما من العلاقات في إطار عمل خيالي. تكشف الدراسة عن مستوى آخر هو البنية العميقة التي تقترب في تركيبها من فكر الجماعة المعبر عنها، هنا تكمن أهمية المنهج التكويني، المفتاح الذي يوصلنا كقراء إلى البنية العميقة، التي يمكننا تحليلها بعد مقارنتها بفكر الجماعة ، التي أخذ منها ذلك المضمون.
أما النقطة الثالثة فتمكننا من معرفة طبيعة العلاقة بين مضمون الإبداع و الانتماء الاجتماعي للكاتب، و هي علاقة ضلت زمنا آلية عند النقاد الجدليين، إلى أن كشف (غولدمان) تجوز (بلزاك) لانتمائه الأرستقراطي، ليعبر عن جماعة أخرى لا ينتمي إليها.
و يمكن القول باختصار أن هذه الملاحظة التي أشار إليها(غولدمان) تؤكد أن العمل الأدبي ليس عملا فرديا، بل هو نتاج وعي الجماعة.
هكذا لا يمكن عزل أي عمل عن السياق الثقافي، الذي نشأ فيه، و تطور فيه، و يصير فهم أي مسألة خاصة، لا يتم إلا من خلال الإطار العام المحيط بها، و تاريخ المجتمع الذي أنتجها؛ و يصير أيضا العمل الفردي عملا مشاركا في فهم التاريخ العام؛ لأن تفاصيله تساعد على إدراك الوضع الشمولي لأي مجتمع كان.
و من المنظور تتضح البنية التي يتبناها (غولدمان)، تلك المرتبطة بالأعمال و الأفعال الإنسانية؛ يقدم فهمها جوابا عن و ضع إنساني ما، لأنها تمثل التوازن الفاعل و فعله، و الأشخاص و الأشياء؛ فتأخذ سمة التكوينية، و هي الدلالية، وإن لم تعد إلى نشأة العمل. و هو مصطلح يحاول من خلاله (غولدمان) إقامة توازن بين الوضع الخارجي و الوضع الداخلي الخاص بالإنسان، يتغير من جماعة إلى أخرى، و من مجتمع إلى آخر.
و يرى أن السمة الجماعية تصبغ العمل الأدبي، تربطهما علاقة عضوية، هي نفسها يقترحها (غولدمان) على البنى الذهنية المتحكمة في الجماعة و الفرد على السواء؛ تتميز بكونها ذات بعد جماعي، تشبه العلاقة بين العضلات و الحركات، و بين العين و الرؤية. من ثم يكون فهم العلاقة بين الأدب(الفرد) و تلك البنى محور عمله(الجماعة)بوساطة الدراسة البنيوية التكوينية7.
يقول (غولدمان):<< إن المشكلة الأولوية التي كان يتوجب على سوسيولوجيا الرواية تناولها هي مشكلة العلاقة بين الشكل الروائي نفسه، و بين الوسط الاجتماعي الذي تطور هذا الشكل داخله، أي بين الرواية كتنوع أدبي، و المجتمع الفرداني الحديث>>8؛ و تكون الدراسة السوسيولوجية أسهل مع الأعمال الكبرى، من أجل استنباط العلاقات الضرورية بالوحدات الجماعية، و كشف تركيبها؛ هذه الوحدات مجموعة علاقات معقدة، مركبة لدى الفرد؛ و التعقيد السيكولوجي للفرد نتاجه انتماء الأفراد إلى جماعات مختلفة، تؤثر على وعيهم، و تشارك في تشكيل بنية فردية معقدة غير متماسكة تماما. في حين تثبت دراسة الأفراد من الجماعة نفسها، أن مختلف الجماعات قد أثرت في هؤلاء، تلتقي العناصر السيكولوجية، و تتشكل بالتبادل، فنكون أمام بنية أكثر تماسكا وبساطة9.
في هذا الإطار تكون العلاقة بين الكاتب الكبير و الجماعة الاجتماعية، التي تجد نفسها بوساطة الكاتب ذاته هي المنتج الحقيقي للعمل، و هي من جنس العلاقات بين عناصر المبدع، هي ذاتها علاقات بين عناصر البنية الذهنية، ينتمي مجموعها إلى نمط ذهني واحد، و يعني هذا أن العلاقة بين الأعمال الكبرى و المجموعات الاجتماعية كمنتج تثبت أن هذه الأخيرة هي المنتج الأصلي للعمل الفني10.
لقد أكد (غولدمان):<< أن الموضوعات الحقيقية للإبداع الثقافي هي المجموعات الاجتماعية و ليس الأفراد معزولين، و يعترف بأن الإبداع الفردي يعد جزءا من إبداع الجماعة، وقد ذكر أنه لا حاجة أن يكون المرء عالم اجتماع لكي يعلن بأن الرواية بوصفها وقائع اجتماعية تعكس المجتمع المعاصر، و هكذا نجد بدلا من طرح الهوية بين الواقع الاجتماعي و مضمون الأدب الروائي أنه براهين بنية الوسط الاجتماعي و الشكل الروائي، إذ ثمة تساوق بين الشكل الأدبي للرواية و العلاقة اليومية التي يقيمها الناس مع المنافع، و مع الناس الآخرين>>11.
و يذهب إلى أن الأدب لا يعكس المجتمع بطريقة شفافية، بل يفعل ذلك من خلال وجهة نظر، بما أنه ذو دلالة، و لما كانت الرواية نوع من الطموح، فهي دلالة أيديولوجية تعبر عن المحيط الذي توجد فيه << و في اعتقادنا أن سوسيولوجيا الأشكال الأدبية تستطيع أن تتجه إلى فحص مفهوم الأدب و الأيديولوجيا التي تدعمه بعناية.. إننا لا نستطيع دراسة وظيفة الأدبي الخاصة به، و المعاناة الأيديولوجية في النص و بوساطته، إلا انطلاقا من الكشف عن حدود الأدبي في عصر معين>>12.
يقودنا ذلك إلى الحديث عن المنهج البنيوي التكويني، الذي يعتبر الوصول إلى الأيديولوجي في العمل الأدبي، لا يتم إلا بتحليل البناء الشكلي دون الوقوف عند حدود الشكل، كما هو شأن بعض المناهج الحديثة، بل يتجاوزه إلى محاولة فهم الأيديولوجي و الاجتماعي.
هذه العملية تجعلنا نميز بين ما هو جوهري ، و ما هو عرضي داخل العمل؛ فيتوجب على الباحث التعامل معه ككل متماسك، لذا يبحث (غولدمان) عن وسيلة تمكنه من تحقيق هذا التميز، يجدها في مفهوم رؤية العالم13.
على أساس الافتراض القاضي بأن العمل الأدبي ذو طابع جماعي يقدم (غولدمان) منهجه، حيث يبدأ خطوته الإجرائية بتقطيع العمل إلى حد يصير فيه الموضوع مجموعة من التصرفات ذات الدلالة، و بناء على ذلك يتم البحث عن الذات الفردية، أو الجماعية التي أعطت البنية الذهنية المنتظمة دورها الوظيفي الدال، و يستوجب ذلك التركيز على النص أولا، مع الأخذ في الحسبان انتماء الكاتب إلى جماعة معينة، عن طريق كشف العلاقة بين النص و البنى الذهنية التي استمدها الكاتب من الجماعة المحيطة به. و ما دام العمل الأدبي تعبير عن وجهة نظر للعالم، فهو واقعة اجتماعية تعبر به جماعة ما عن تصوراتها التي تؤثر بدورها في الكاتب، لتظهر في إنتاجه الأدبي، تكون النتيجة أن العمل الأدبي إنتاج جماعي، و ليس فردي14.
تخالف هذه النظرة ما سبقها من الدراسات السوسيولوجية، التي رأت أن العمل الأدبي انعكاس مباشر للوعي الجماعي، بينما ترى البنيوية التكوينية في العمل العامل الذي من خلاله تعي الجماعة ما تفكر فيه، و تشعر به، مع معاملتها العمل الأدبي دون إدراك موضوعي لمدلولاته،؛ أي أن العمل ما هو إلا رؤية للعالم ، و هو سبب نجاح البنيوية في تناول الأعمال الكبرى، بينما تنجح الدراسات الأخرى في دراسة الأعمال المتوسطة.
على هذا الأساس يرفض (غولدمان) الدراسات التي تتناول العوامل الخارجة عن النص، ؛ مثل سوسيولوجيا الكاتب، و سيرته الذاتية الخاصة، فكل ذلك ليس بإمكانه تقديم أي مدلولات عن الأدب، و خطابه الأيديولوجي، و هو الأساس ذاته الذي يقدم من خلاله نظريته على أنها<< نظرية معتدلة متوازنة، استطاعت أن تتمكن من النص دون أن تستغني عن الأيديولوجيا أو علم الجمال في الوقت نفسه، و قد وضح هذا التوازن في استفادة غولدمان من أستاذيه جورج لوكاتش و ميخائيل باختين، إذ أخذ عن ماركس و هيجل و فرويد و آدلر جيرار و غيرهم، دون أن يفقد استقلاله و قدرته على بيان خصوصيته>>15.احفظ المقالة على أحد المواقع التالية
مقالات ذات صلة:
تقدمi هذه الدراسة منهجا نقديا غربيا ترك بصماته في تطبيقات النقد العربي، لذا نرى أهمية العودة إليه من أجل الإحاطة العلمية برؤية مؤسسه، مع أن القارئ قد يجد هكذا موضوع مشبعا درسا، غير أن ما تطمح إليه الدراسة هو قراءة شاملة مبنية على كتابات المؤسس الأول للبنيوية التكوينية، و القراءات العربية لها، و التي ركز البعض منها على جانب دون آخر من النظرية، باستثناء دراسة (جمال شحيد) التي أرادت أن تكون شاملة إلى حد ما، لذلك تأتي هذه الدراسة لتستفيد من هذا و ذاك محاولة الإلمام برؤية (غولدمان) لفائدة القارئ العربي.
و سنبدأ من حيث بدأ (غولدمان)، فقد أسس نظريته على النقد الذي قدمه لأستاذه (لوكاتش)، فلم يحفل كثيرا بالواقعية الاشتراكية أو النقدية، اهتم بكتاب من خارج دائرة اهتمامات أستاذه، و لم يفهم الأدب في العصر الحديث ضمن النظرة الكلاسيكية لعلم الجمال متجاوزا الثنائية التي تتناول دوما الأدب من منظور الواقعية و المثالية. و رأى بأنها لم تعد صالحة على الناقد المتمرس الابتعاد عنها.
و مع ذلك يعود في كثير من الأحايين و هو يبني نظريته إلى أعمال (لوكاتش)، خاصة في تحديد منهجه البنيوى التكويني؛ و بالتحديد الأعمال الأولى”الروح و الأشكال، نظرية الرواية، التاريخ و الوعي الطبقي”، ففيها وجد العناصر الجمالية الثلاثة:
الشكل و البنية و الشمولية، مستبدلا مفهومي الشكل و الشمولية بالبنية الدلالية1.
إن القارئ لجهود (غولدمان) يجد معالم متكاملة لنقد سوسيولوجي، استند في تأسيسه إلى أعمال (لوكاتش) معيدا صياغة أفكاره بنوع من الدقة و الإحكام، إضافة إلى مفاهيم جديدة أعطت مظهرا جديدا لسوسيولوجيا الرواية؛ يتميز بالمرونة في إطار المبادئ الفلسفية الأساسية للمادية.
على هذا الأساس يرى أن الأعمال الأدبية تقوم على أبنية عقلية للجماعات أو الطبقات؛ وليس الفرد فقط، إذ تبنيها هذه الأخيرة و تهدمها باستمرار في عملية تعديل توجه لصورها العقلية الخاصة بالعلم؛ يرفضها الواقع المتغير؛ و تبقى تلك الصور كاملة في شكلها خامات في وعي الطبقات حتى تحظى بكاتب عظيم، يعيد صياغتها في رؤية للعالم متكاملة. و يظهر هذا في كتابه “الإله الخفي” حينما وجد علاقة تربط تراجيديا (راسين) و فلسفة (باسكال) بالحركة الدينية الفرنسية المسماة “جنسينية*Jansenism “2 .
لذلك دعا إلى ضرورة الاهتمام بالحركة المتواصلة من النص إلى المجتمع، و من المجتمع إلى النص، دليلا على مدى تأثير المجتمع في تكوين العمل الإبداعي؛ فكان من الواجب تناول إي عمل باعتباره نتاج المجتمع؛ و تشكل هذه العلاقة الفكرة الأساس عند (غولدمان)، تكمن قيمتها في الدور الذي تؤديه الوقائع في العمل الأدبي.
يجمع (غولدمان) بين الفكر الماركسي و الفكر البنيوي، لتحديد منهجه؛ فمن جهة تهتم الماركسية بالعوامل الاجتماعية و الاقتصادية، كمؤثرات في الإنتاج الأدبي، و من جهة أخرى تهتم البنيوية ببناء النص فقط، ويظهر أنه يجمع بين الشكل و المضمون؛ أي بين بنية النص و العوامل الخارجة عنه، و المؤثرة فيه، من منطلق أن الكاتب يتأثر بالواقع الذي يعيش فيه؛ يتجلى هذا الشكل إما على هيئة توافق بين الكاتب و الواقع، و إما في شكل رفض، و إما يصير تركيبا للأفكار الكامنة في ذلك الواقع.
و يسجل في كتابه”من أجل سوسيولوجيا للروايةPour Une Sociologie Du Roman”، نقاطا أربعة لفهم العلاقة بين الواقع و العمل الأدبي هي:
1- إن النتاج الأدبي ليس انعكاسا ساذجا للوعي الجماعي الواقعي، بل يميل إلى بلوغ درجة من الانسجام، تعبر عن طموحات وعي الجماعة التي يتحدث الكاتب باسمها، و يمكن تصور هذا الوعي كحقيقة موجهة من أجل الجماعة المذكورة على نوع من التوازن في الواقع الذي تعيش فيه3.
2- إن العلاقة المجودة بين الوعي وبين الأعمال الإبداعية الفردية الكبيرة، أدبية كانت، أم فلسفية، أم لاهوتية، لا تكمن في شكل تطابق تام في المحتوى، و لكنها تتجلى في نوع من الانسجام على مستوى أعلى من التطابق على مستوى البنيات، لأن الأعمال الإبداعية تكون مضامينها في صورة صياغة مجازية، تختلف كثيرا عن المضمون الواقعي للوعي الجماعي4.
3- العمل الأدبي الذي يقابل بنية فكرية لجماعة ما، بإمكانه أن يكون في بعض الحالات تماثلا دقيقا ، ينطوي على علاقة بسيطة بين العمل الفكري، و هذه الجماعة؛ فالميزة الاجتماعية للعمل الأدبي تكمن على الخصوص في كون الفرد ليس بمقدوره وحده فقط تكوين بنية فكرية منسجمة، تقابل ما يسمى برؤية العالم، لأن مثل هذه البنية لا تتكون إلا من طرف جماعة، أما الفرد فبإمكانه نقلها إلى مستوى أعلى أكثر انسجاما، و تحويلا إلى مستوى الإبداع الخيالي للفكر النظري5.
4- إن الوعي الجماعي ليس حقيقة أولية، ولا حقيقة مستقلة، بل هو وعي يتكون ضمنيا ضمن السلوك العام للأفراد المشاركين في الحياة الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية…إلخ6.
مثل هذه النقاط تقودنا ليس إلى الاهتمام بالعلاقة القائمة بين النتاج الأدبي، و الوعي الجماعي الكائن، بل إلى ربطه بالوعي الجماعي الممكن؛ فيغدو العمل عظيما إذا عبر عن الطموحات القصوى للجماعة، التي منها استعار مضامينه كما سبق و أشرنا.
و تعطي النقطة الثانية العمل استقلالية نسبية محتفظة له بخصائصه الجمالية، التي تميزه عن غيره من الأعمال، لأنه كما قلنا ليس بالضرورة أن يطابق مضمونه السطحي مضمون فكر الجماعة التي يعبر عنها، بل يوظف المجاز ليتميز عن الواقع، ويشكل عالما من العلاقات في إطار عمل خيالي. تكشف الدراسة عن مستوى آخر هو البنية العميقة التي تقترب في تركيبها من فكر الجماعة المعبر عنها، هنا تكمن أهمية المنهج التكويني، المفتاح الذي يوصلنا كقراء إلى البنية العميقة، التي يمكننا تحليلها بعد مقارنتها بفكر الجماعة ، التي أخذ منها ذلك المضمون.
أما النقطة الثالثة فتمكننا من معرفة طبيعة العلاقة بين مضمون الإبداع و الانتماء الاجتماعي للكاتب، و هي علاقة ضلت زمنا آلية عند النقاد الجدليين، إلى أن كشف (غولدمان) تجوز (بلزاك) لانتمائه الأرستقراطي، ليعبر عن جماعة أخرى لا ينتمي إليها.
و يمكن القول باختصار أن هذه الملاحظة التي أشار إليها(غولدمان) تؤكد أن العمل الأدبي ليس عملا فرديا، بل هو نتاج وعي الجماعة.
هكذا لا يمكن عزل أي عمل عن السياق الثقافي، الذي نشأ فيه، و تطور فيه، و يصير فهم أي مسألة خاصة، لا يتم إلا من خلال الإطار العام المحيط بها، و تاريخ المجتمع الذي أنتجها؛ و يصير أيضا العمل الفردي عملا مشاركا في فهم التاريخ العام؛ لأن تفاصيله تساعد على إدراك الوضع الشمولي لأي مجتمع كان.
و من المنظور تتضح البنية التي يتبناها (غولدمان)، تلك المرتبطة بالأعمال و الأفعال الإنسانية؛ يقدم فهمها جوابا عن و ضع إنساني ما، لأنها تمثل التوازن الفاعل و فعله، و الأشخاص و الأشياء؛ فتأخذ سمة التكوينية، و هي الدلالية، وإن لم تعد إلى نشأة العمل. و هو مصطلح يحاول من خلاله (غولدمان) إقامة توازن بين الوضع الخارجي و الوضع الداخلي الخاص بالإنسان، يتغير من جماعة إلى أخرى، و من مجتمع إلى آخر.
و يرى أن السمة الجماعية تصبغ العمل الأدبي، تربطهما علاقة عضوية، هي نفسها يقترحها (غولدمان) على البنى الذهنية المتحكمة في الجماعة و الفرد على السواء؛ تتميز بكونها ذات بعد جماعي، تشبه العلاقة بين العضلات و الحركات، و بين العين و الرؤية. من ثم يكون فهم العلاقة بين الأدب(الفرد) و تلك البنى محور عمله(الجماعة)بوساطة الدراسة البنيوية التكوينية7.
يقول (غولدمان):<< إن المشكلة الأولوية التي كان يتوجب على سوسيولوجيا الرواية تناولها هي مشكلة العلاقة بين الشكل الروائي نفسه، و بين الوسط الاجتماعي الذي تطور هذا الشكل داخله، أي بين الرواية كتنوع أدبي، و المجتمع الفرداني الحديث>>8؛ و تكون الدراسة السوسيولوجية أسهل مع الأعمال الكبرى، من أجل استنباط العلاقات الضرورية بالوحدات الجماعية، و كشف تركيبها؛ هذه الوحدات مجموعة علاقات معقدة، مركبة لدى الفرد؛ و التعقيد السيكولوجي للفرد نتاجه انتماء الأفراد إلى جماعات مختلفة، تؤثر على وعيهم، و تشارك في تشكيل بنية فردية معقدة غير متماسكة تماما. في حين تثبت دراسة الأفراد من الجماعة نفسها، أن مختلف الجماعات قد أثرت في هؤلاء، تلتقي العناصر السيكولوجية، و تتشكل بالتبادل، فنكون أمام بنية أكثر تماسكا وبساطة9.
في هذا الإطار تكون العلاقة بين الكاتب الكبير و الجماعة الاجتماعية، التي تجد نفسها بوساطة الكاتب ذاته هي المنتج الحقيقي للعمل، و هي من جنس العلاقات بين عناصر المبدع، هي ذاتها علاقات بين عناصر البنية الذهنية، ينتمي مجموعها إلى نمط ذهني واحد، و يعني هذا أن العلاقة بين الأعمال الكبرى و المجموعات الاجتماعية كمنتج تثبت أن هذه الأخيرة هي المنتج الأصلي للعمل الفني10.
لقد أكد (غولدمان):<< أن الموضوعات الحقيقية للإبداع الثقافي هي المجموعات الاجتماعية و ليس الأفراد معزولين، و يعترف بأن الإبداع الفردي يعد جزءا من إبداع الجماعة، وقد ذكر أنه لا حاجة أن يكون المرء عالم اجتماع لكي يعلن بأن الرواية بوصفها وقائع اجتماعية تعكس المجتمع المعاصر، و هكذا نجد بدلا من طرح الهوية بين الواقع الاجتماعي و مضمون الأدب الروائي أنه براهين بنية الوسط الاجتماعي و الشكل الروائي، إذ ثمة تساوق بين الشكل الأدبي للرواية و العلاقة اليومية التي يقيمها الناس مع المنافع، و مع الناس الآخرين>>11.
و يذهب إلى أن الأدب لا يعكس المجتمع بطريقة شفافية، بل يفعل ذلك من خلال وجهة نظر، بما أنه ذو دلالة، و لما كانت الرواية نوع من الطموح، فهي دلالة أيديولوجية تعبر عن المحيط الذي توجد فيه << و في اعتقادنا أن سوسيولوجيا الأشكال الأدبية تستطيع أن تتجه إلى فحص مفهوم الأدب و الأيديولوجيا التي تدعمه بعناية.. إننا لا نستطيع دراسة وظيفة الأدبي الخاصة به، و المعاناة الأيديولوجية في النص و بوساطته، إلا انطلاقا من الكشف عن حدود الأدبي في عصر معين>>12.
يقودنا ذلك إلى الحديث عن المنهج البنيوي التكويني، الذي يعتبر الوصول إلى الأيديولوجي في العمل الأدبي، لا يتم إلا بتحليل البناء الشكلي دون الوقوف عند حدود الشكل، كما هو شأن بعض المناهج الحديثة، بل يتجاوزه إلى محاولة فهم الأيديولوجي و الاجتماعي.
هذه العملية تجعلنا نميز بين ما هو جوهري ، و ما هو عرضي داخل العمل؛ فيتوجب على الباحث التعامل معه ككل متماسك، لذا يبحث (غولدمان) عن وسيلة تمكنه من تحقيق هذا التميز، يجدها في مفهوم رؤية العالم13.
على أساس الافتراض القاضي بأن العمل الأدبي ذو طابع جماعي يقدم (غولدمان) منهجه، حيث يبدأ خطوته الإجرائية بتقطيع العمل إلى حد يصير فيه الموضوع مجموعة من التصرفات ذات الدلالة، و بناء على ذلك يتم البحث عن الذات الفردية، أو الجماعية التي أعطت البنية الذهنية المنتظمة دورها الوظيفي الدال، و يستوجب ذلك التركيز على النص أولا، مع الأخذ في الحسبان انتماء الكاتب إلى جماعة معينة، عن طريق كشف العلاقة بين النص و البنى الذهنية التي استمدها الكاتب من الجماعة المحيطة به. و ما دام العمل الأدبي تعبير عن وجهة نظر للعالم، فهو واقعة اجتماعية تعبر به جماعة ما عن تصوراتها التي تؤثر بدورها في الكاتب، لتظهر في إنتاجه الأدبي، تكون النتيجة أن العمل الأدبي إنتاج جماعي، و ليس فردي14.
تخالف هذه النظرة ما سبقها من الدراسات السوسيولوجية، التي رأت أن العمل الأدبي انعكاس مباشر للوعي الجماعي، بينما ترى البنيوية التكوينية في العمل العامل الذي من خلاله تعي الجماعة ما تفكر فيه، و تشعر به، مع معاملتها العمل الأدبي دون إدراك موضوعي لمدلولاته،؛ أي أن العمل ما هو إلا رؤية للعالم ، و هو سبب نجاح البنيوية في تناول الأعمال الكبرى، بينما تنجح الدراسات الأخرى في دراسة الأعمال المتوسطة.
على هذا الأساس يرفض (غولدمان) الدراسات التي تتناول العوامل الخارجة عن النص، ؛ مثل سوسيولوجيا الكاتب، و سيرته الذاتية الخاصة، فكل ذلك ليس بإمكانه تقديم أي مدلولات عن الأدب، و خطابه الأيديولوجي، و هو الأساس ذاته الذي يقدم من خلاله نظريته على أنها<< نظرية معتدلة متوازنة، استطاعت أن تتمكن من النص دون أن تستغني عن الأيديولوجيا أو علم الجمال في الوقت نفسه، و قد وضح هذا التوازن في استفادة غولدمان من أستاذيه جورج لوكاتش و ميخائيل باختين، إذ أخذ عن ماركس و هيجل و فرويد و آدلر جيرار و غيرهم، دون أن يفقد استقلاله و قدرته على بيان خصوصيته>>15.احفظ المقالة على أحد المواقع التالية
مقالات ذات صلة: