وقدنجتهدفي هذا النظر فنقول: إن الأصوات كالقيم العددية في دلالاتها؛ يتحكمفيهاموقعها وصفتها من السلب والإيجاب والطبيعة، فثمة أعداد فردية وأخرىزوجية،والواحد في منزلة الآحاد واحد، وفي منزلة العشرات عشرة، والصفر عنيمينهتسعة وعن يساره لا يعدل شيئا.
وشبيهبذلكما نجده في المعادن والفلزات والعناصر والألوان. فالسكر أخو الملح،غير أنهذا حلو وذلك ملح ! وهذا المعدن سالب الشحنة وذلك موجبها، وهذا لونأسودأضف له قليلا من أي لون فإنه لا يؤثر فيه، بينما ذلك أبيض إن أضفتإليهأدنى قدر من أي لون فإنه يؤثر فيه ...
والأصوات(الحروف وغيرها ) تتذبذب بين حدين. سواء أردنا حدي تذبذب الصوت نفسه، أمحديالمصدر، ذلك أن حدوث الصوت يحتاج إلى جسمين على الأقل، لأنه نتيجةاحتكاك،والاحتكاك يقتضي محتكا ومحتكا به، وهذا هو أدنى الحدود لحدوثالصوت ... ومنهنا كانت الأشياء المسماة لعلاقة بالصوت أدنى بكثير منالأشياء المسماةلعلاقة بالنظر .. لأن العين تدرك الآحاد... أما الأذن فلاتدرك إلا الأصواتالناتجة عن اثنين على الأقل، وبالقسمة الرياضية تكون هذهنصف تلك.
والأصوات كالألوان... يلغي بعضها بعضاً، ويدخلفيهأو يستوعبه مخفياً أثره، فقد يكون صوتان كالقيمتين العدديتين – 1، +1فتكون المحصلة صفرا، وما هي جدوى أصل لغوي دلالته صفر ؟ ولا ننسى هناموقعالحرف وأثره، وموقع الحرفين الآخرين واختلاف أثريهما ..وهكذا. .
ولتمثيلذلكبملموس، خذ نغمة موسيقية منبعثة من وتر عود... هذه النغمة حادثة مناحتكاكالريشة والوتر ... فتصور أن أحدا وضع يده على الوتر أثناء الضربعليه ! هلكانت النغمة المعهودة ستصدر عن العود ؟ أو بعبارة أخرى، هل كانأثرها فيالنفس سيكون هو إياه ؟
وهذاماءبارد ... يضاف إليه ماء حار ...فيتعادل الكل: يفقد هذا من حرارتهويفقد ذلكمن برودته ... فإذا كان المطلوب من الماء هو ذلك الكل بارداً،أو حاراً،فإنه بإضافة هذا إلى ذلك لا يكون قد تحقق.
ونعتقدأنهذه الحقيقة – حقيقة أن لكل صوت شحنة ودلالة – هي التي تقف وراء عدمورودبعض الأصول، وعدم التقاء بعض الحروف في الأصل الواحد، ذلك لأن صوتاقد يلغيدور آخر، أو أن صوتين من أصوات الأصل الواحد قد يتعادلان فيمحصِّلة تساويصفرا، فلا يكون لذلك الأصل دلالةواضحة بينه... ومنثم لا يجد له سبيلاً إلى عالم اللغة، وليس شرطا أن يكونذلك ناتجا عن طبيعةهذا الصوت أو ذاك وحسب، ولكنه ربما اقترن به، أو أدى إليه، موقع الصوت (الحرف ) من الأصل، كأن يكون أولاً أو ثانيا أو ثالثاً وهكذا.
الأصول الثنائية الحية:
يقف المطالع في التراث اللغوي على كثير من الأصول الثنائية أسماء ومعاني (1) لاصقة بالإنسان مثل ( أب، يد، أخ، فم، أو فو، ذو (2)ذا( اسم إشارة) ونحو ذلك كحروف الجر ( في، عن، من) وأدوات الاستفهام (من،هل، أي). وما نرى اسم الفعل "أف" الذي يعبر عن التبرم والتضجر إلا منهذاالقبيل، وما تشديد الفاء إلا من باب توكيد التبرم والتأفف لأن الفاء الثانية، بقدر ما تضعف الصوت المسموع، فإنها تؤدي إلى تضعيف المعنى الحاصل من سماع الأولى. كماأنفي التصويت بها ترجمة حية لمعنى التنفيس من جانب والكبت الذي هوشعوربالضيق نتيجة للصراع النفسي بين القبول بالواقع أو المعروض ورفضهمامنجانب آخر، لأن الهواء يخرج من الرئتين بشدة، ولكن الشفتين تحولان دون انطلاقه على النحو الذي نستظهره في ضمهما أثناء لفظ الفاء ... فالخروج تنفيس، وضم الشفتين كبت.
ونعتقد أن الأسماء التي تبدأ بهمزة الوصل، مثل ( ابن، اسم) هي ثنائية لا ثلاثية، ويؤكد ذلك أن همزة ( ابن ) تحذف عند التأنيث ( بنت) وإن كان يصح أن نقول في بعض الأحوال ( ابنة ). ويجمع على " بنين" جمعاً ملحقاً بالسالم بحذف الهمزة كما تجمع ( بنت وابنة) على بنات وليس على " ابنات".
ثم إن الفعل من الاسم بلا همزة، نقول:سمّاهاسما... وهي التسمية... وفي الجمع على أفعال وغيره تجد الفاءتناظرها السين... مباشرة... وإنما جيء بالهمزة تسهيلاً للنطق. وأمامايقال من أن الهمزة عوض عن واو محذوفة في آخر " الابن والاسم" فهو وجهلادليل عليه إلا ما يرشحه النظر في الجمع، حيث تلحقه الهمزة ( أسماء وأبناء) وحيث يقال إن الهمزة منقلبة عن واو محذوفة في أصليهما.... وما نرى ذلك إلا تكلفاً، ولأن جمع ما كان من حرفين لا يصح دون إلحاق بذي الثلاثة ... ولأن الجمع أقله ثلاثة؛ وإلا فأين هي الواو من بنت وبنات؟
ونعتقد أيضا أن كل الأصول ذات الدلالات اللصيقة بالإنسان، مما ورد مضعفاً ( ثالثه كثانيه) هي في الأصل ثنائية، وكذلك ما ينتهي بألف أو تاء، مثل: أمّ، وعمّ (3)، وشفة، وبرة، وقلة، وكرة، وعضة ( وهذه الثلاث مما يجمع ملحقاً بالمذكر السالم بحذف التاء) (4)، وكفّ وخدّ وسنّ ونحو ذلك.
ومما يغري بالأخذ بنظرية الأصول الثنائية أننا نجد بعض المفردات الثنائية – والمشكلة من حرف واحد – كثيراً ما تأتي متصلة بحرف ثالث لدلالاتها الأصلية، فخذ مثلاً بل وبلى حيث تفيدان معنى الإضراب، بل إن "بلى" وردت بمعنى بل في بعض آيات القرآن الكريم (5). كما تقع اللام مقام إلى، والميم مقام "من" من أحرف الجر، وفو مقام فم، ولِمَ مقام لِما. ونرى أن الثنائي يضعّف أو يضاف إليه حرف لتسيهل النطق، وحسب، كما هي الحال في أم وعم وشفة وابن .... أو لتحميله معنى جديدا على النحو الذي سنبينه.
ومن هذه الأصول – الثنائية – كان تولد الأصول الثلاثية مع تقدم الزمان وتطور الحياة على الأرض، فمن(أمْ) وأصله (مّ التي تتولد فطريا عندما يلتقم الرضيع ثدي أمه،ومثلهاأب،ببائها التي هي الميم نفسها، إلا أنها انفجارية كما سيأتي قريبا) كانتوليد:
· أمم ( أمّ) بمعنى قصد وتوجه إلى ... ذلك أن الأمْ هي مقصد أولادها دائماً، لا سيما في مرحلة الطفولة، ومنه الأمة ( الجماعة الملتفة حول أم واحدة ولو كانت عقيدة).
· يمم ( يمم وجهه) قصد، وهو بمعنى الأول، ولعله هو لكن بتخفيف الهمزة. وأعتقد أن الدلالة هنا للميم بما تعكسه من التئام وتضام يتمثلان في ضم الشفتين، تماماً كما يلتئم شمل أطفال الإنسان والحيوان حول أمهم. وهذا يجعلنا نقول إن الإضافة للأصل قد تقع في صدره أحياناً ... تماماً كما هي الحال في بعض المشتقات وجموع التكسير، غير أن الإضافة لأواخر الأصول أولى وأغلب.
· أمت ... والأمت الاعوجاج، والاعوجاج إلى تضام ... أما ترى لو أنك صححت الممعوج لطال وتباعد ما بين طرفيه؟ ثم أليس الاعوجاج انحناء إلى الداخل ولو بنسبة قليلة؟ والانحناء من التضام.
· أمر ... " الأمر" التكثير ... قال تعالى ] وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها [ ( الإسراء 16) بمعنى كثرناهم ... والكثرة من التضام والضم.
· أمس ... وهو اليوم قبل يومك، يكون قد انضم إلى ماضيك، أو إلى عمر الأرض...الخ.
· أمن ... والأمن استقرار وقرار، والقرار إلى ثبات في المكان، وهذا من التضام، فكأن المرء ينضم إلى مكانه.
·
صوت الميم:
للميم علاقة واضحة بالأم ّ لفظاً ومعنى لكن من أين تولد الصوت والدلالة على الأم؟ بداية، للإجابة عن هذا السؤال، لابد من القول إن الإنسان صائت بطبيعته ... ويعبر بصوته عن نفسه، وأن صوت الميم يتخلق في تجويف الفم ويخرج من الأنف، أي أنه يحدث بتردد الصوت في الفم المغلق.
والآن تعال معي نتصور العلاقة الطبيعية بين الطفل ( أول الناطقين) وأمه. تلكالعلاقةالطبيعية التي تقوم على الإرضاع... والإرضاع لا يتم إلا بإطباقالفم علىحلمة الثدي ... والطفل غالبا ما يردد صوتاً أثناء الرضاعة كأنهيخبر أمهبالشكل والصوت أنه يريد أن يرضع ... ويتردد صوت الميم في هذهالحالة كثيرا، ومن هنا كان الصوت، وكانت دلالته على الأم ... فكأن اسمها ( مْ أو مّ أو أم). ويرشح هذا المذهب ويرجحه أن هذا الحرف موجود في المفردات التي يعبر بها عن الأم في جل لغات العالم.
صوت الغين:
ويبدأ الطفل بترديده في فترة مبكرة، أول ما يكتشف قدرته على إصدار بعض الأصوات، وحين يجد نفسه محتاجاً إلى التعبير عن نفسه في حدود ما يتفق مع حاجات سنه، وهو من أول الأصوات ظهوراً مع الميم والباء ... ولكن الباء تليهما وسنوضح ذلك في حينه. وصوت الغين لا يبين عن شيء ... وفي هذه الفترة – فترة المناغاة وهي مسماة لعلاقة بصوت الغين – لا يكون الطفل قادراً على الكلام، ولكنهيكونقادرا على الإدراك والتمييز ... فصوت الغين يخفي وراءه معاني كثيرة(نسبياً) وألفاظا كثيرة لو كان يستطيع أن ينطق بها ... ومن هنا اكتسبصوتالغين دلالته على معنى الإخفاء والتخفي والحجب والاحتجاب... بل إنه مامنأصل تصدره الغين إلا انصرف لدلالة تقع على ذلك المعنى.
إنإكثارالطفل من التصويت بالغين ومد الصوت بها في مرحلة ما قبل النطق ببعضالألفاظيشبه ترديد الطيور – العجم – بعض الأصوات تعبيراً عما تجده فينفسها، ويشبهالفأفأة والأصوات التي يصدرها الأخرسعندما يريد التعبير عن نفسه معالإشارة ...لا سيما إذا أدرك أن الطرفالآخر لم يع ما يحدّثه به. وجدير بالذكر أن التلفظ بالغين لا يتطلب جهداً من الطفل أكثر من أن يكون فمه مفتوحاً على نحو معين.
صوت الباء:
الباء أخت الميم ... غير أن هذه مخرجها الفم ... وكثيراً ما تنقلب ميماً لا سيما بعد النون الساكنة ( لَيُنْبَذَنَّ )، ولكن التلفظ بالباء يحتاج إلى جهد أكبر ونَفَس أشد مما يحتاج إليه التلفظ بالميم، ولذلك فإن التلفظ بها يتأخر عن الميم، والباء صوت انفجاري، أي أنه يسمع من مكان أبعد ... والأب دائماً أبعد من الأم من الطفل، ولهذاكانتالباء في اسمه ( أب – بابا)... فكأن الطفل هو الذي أسمى والديهالمتلازمينبهذين الاسمين لعلاقة بصوتي الميم والباء المتلازمين اللذينيرتبطان بهماعلى النحو الذي أسلفنا!
قدرة جهازنا الصوتي:
يصدر جهاز الإنسان الصوتي كل الأصوات التي يستطيع سمعه أن يدركها مهما كانت صفتها. والأصواتمعبرةدائما... فنحن نعرف أن المار سيارة دون أن نراها ... يكفي أن نسمعصوتهافقط ... ونسمع البكاء فنعرف الباكي إن كان صغيرا أو كبيراً وندرك أنمصدرالصوت يتألم لسبب أو لآخر ... إن الصوت حدث ... ولكل حدث دلالتهالخاصة ...
ويلاحظالمتأملفي الأصوات التي تصدر عن غير الإنسان أنها متجانسة أحادية النغمة... فصوتالبقر متجانس إلا ما كان لاختلاف أسنانها... وكذلك أصوات الإبلوأصنافالطيور ... أما صوت الناس فمختلف في صفاته من إنسان لآخر ومن حرفلآخر ...، وهو مركب أيضا ، وللوقوف على مقدار ذلك خذ مثلا الموج والحماروالديك منناحية والإنسان من ناحية أخرى ... وقارن طبيعة أصوات المجموعةالأولى بصوتالإنسان ... تلك أصوات أحادية تجري على وتيرة واحدة ونمط واحد... أماالإنسان فصوته يتردد بين همس وجهر وصفير وإطباق وغير ذلك مماتعكسه أصواتالألفبائية، والأصوات الأخرى المعبرة كنقرة مقدم اللسان عندالرفض، بمعنىلا، ونقرة جانبه عند الإيجاب، بمعنى نعم. ومن ذلك (أف) التيهي في الأصل (فاء ) يرسلها المصدور نفثا يروّح بذلك عن نفسه عند رفض شيءيشعر أنه ملزمبه، والآه التي هي حكاية صوت المتأوة، ونحو ذلك.
ومنهذهالقدرة على إصدار الأصوات تمكن الإنسان من تسمية أصوات الحيواناتوغيرهابما يتناسب معها من أصواته، فسمى صوت الماء الجاري خريرا، وصوتالحية فحيحاوصوت الضفدع نقيقا وصوت العقرب عندما تلدغ صيئا والباب والجندب صريرا،والبقر خوارا، والإبل رغاء ...
الطفل يكتشف قدراته الصوتية:
وفيمرحلةتالية، يبدأ الطفل في اكتشاف قدراته، وذلك من خلال ما يهتدي إليهبالصدفةمن الأصوات، وبتقليد ما يعيه من أصوات من هم حوله، لا سيما أمه،ويأخذمعجمه الصوتي في التوسع بمقدار ما تتسع مداركه وما يكتسبه منالمعانيوالمعارف الأولية. وتدريجيا، يبدأ الطفل بتركيب الأصوات فيمفردات، وفيمرحلة لاحقة يبدأ في تركيب المفردات في جمل وعبارات.
إنلغةالطفل تتدرج من اعتماد على الصوت الواحد ( الحرف ) يكرر بمفردهأحيانا، أويصوت به مرة واحدة من حين لآخر، إلى اعتماد على الصوتين اللذينغالبا مايكون أحدهما حرف علة، ومرد ذلك إلى أن حرف العلة حركة طويلة يجريمعهاالنفس، فهي بذلك تريح جهاز النطق، وتمكن من اختيار الصوت التالي، علىالعكسمن الحركات القصيرة ... ونلاحظ أن الإنسان إذا تلعثم أو ارتج عليهفإنه يمدالحركات القصيرة فتغدو طويلة و أطول ... كأنه بذلك الصوت الممدوديسعف نفسهعسى أن تقع على الألفاظ المطلوبة ... وهكذا إلى أن تكتمل لديهالملكةاللغوية.
نشأة اللغة الأم:
ترىهليصح أن نقيس نشأة اللغة الأم بنشأة اللغة عند الطفل ؟ يبدو أن وجوهالتناظركثيرة، ويكفي لتوضيح التقارب التناظر بين اللغتين أن كلا منهماتبدأ فقيرةمحدودة، وتنمو بعد ذلك بشكل تراكمي، تماما كالنهر يبدأ بجدولثم لا يلبثحتى يكبر بما ينتهي إليه من مياه الروافد التي تصب في مجراه منمكان لآخر... ولك أن تقارن بنهر النيل من أوله " نهير كاجيرا" إلى مصبفرعيه فيالبحر المتوسط.
لميكنلدى الإنسان قديما من المعارف ماله اليوم، وسيكون له في غد أكثر ممالديهاليوم ... وهذا يعني أن اللغة بدأت بألفاظ تعكس مبلغ الإنسان منالعلم، وقدكان محدودا جدا ينحصر في صيد ومأوى، ثم دخلت النار مجال علمهومعرفته،وتطورت من بعد آلته، وهكذا دواليك حتى وصل إلى القمر وصنعالأجهزةالإلكترونية. وإن نظرة عاجلة في تطور المعارف والصناعات فيالأربعين عاماالماضية لتقفنا على حقيقة مذهلة.
ماذا علم الله – سبحانه وتعالى – آدم عليه السلام ؟
ذهب المفسرون واللغويون في تفسير قوله تعالى: ]وعلم آدم الأسماء كلها [ ( سورة البقرة الآية 31) مذاهب شتى (6)،فمنقائل إنما علمه أسماء الملائكة، وقائل ذهب إلى أن المقصود أسماءولدهإنسانا إنسانا والدواب، وهناك من ذهب إلى أن المقصود هو اسمالصفحةوالقدر، وذهب آخرون إلى أن المراد هو اسم كل دابة وكل طير وكل شيء،وقيلبل هي أسماء الأشياء كلها ذواتها وصفاتها وأفعالها، كما قال ابن عباس،رضيالله عنه، حتى الفسوة والفسية، يعني أسماء الذوات والأفعالالمكبروالمصغر.
وأعتقد،إنكان لي أن أجتهد في هذا الموضوع، أن آدم، عليه السلام، علمبالإلهامالمعاني المفردة والأصوات التي تدل عليها – دفعة واحدة، بدلا منأنيكتسبها بالتجربة التي تتطلب وقتا طويلة، وهذا الاجتهاد ينسجم مع ماذهبإليه ابن عباس في السطور السابقة. فعلِّم أن يصوت بالفاء، وأن دلالةذلكالصوت تقع على معنى التفرق والانتشار، وعلم أن يصوت بالغين، وأن دلالةهذاالصوت تقع على معنى الحجب والاحتجاب، وهذه كلها من الأسماء، لأن الاسمهوالعلامة على المسمى والمعنى ... وعلم آدم، عليه السلام، بعضأسماءالأعلام، وتحديدا الملائكة الذين كانوا حاضرين أحداث الآيةالكريمةالسابقة.
وبعبارة أخرى، نستطيع أن نقول إن عقلية آدم عليه السلام قد برمجتحينذاك،فغدا قادرا على توليد الألفاظ اللازمة للمعاني والمعارف التي كانتتعمرحياته آنذاك، وليس شرطا أن يكون تعبيره بألفاظ لها طبيعة ألفاظنا،ولكنهاتقوم على أساس من البرمجة المذكورة، التي تمتبموجب ماعلمه الله – عز وجل – إياه، من أن لكل اسم معنى، ولكل صوت دلالة.فقد يكوناستخدم أصولا من صوتين، أو أكثر، أو أقل ... ثم كانت من بعدذريته، وتوارثتنفس البرنامج، وتداخلت الظروف والطبائع، وانشعبت الذريةإلى شعب كثيرة،فاختلفت اللغات والألسن، ولكن العربية وبعض اللهجات التيتنسب إليها (كالعبرية والآرامية والحبشية ... ) ظلت محافظة على ما ورثته،مصدقةبالعلاقات التي تربط ألفاظها بدلالاتها المادية ما برمجت عليه عقليةالجدالأعلى آدم، عليه السلام ... شانها في ذلك شأن ما برمجت عليهالكائنات كحبةالقمح مثلا إذ تحتفظ بداخلها بطاقة وبرمجة كاملة تمكّنها منالمحافظة علىاستمراريتها بما اختزل فيها من ورق وجذور وساق وبذور،وكالبيضة بما تحتويهمن ريش ولحم وعظم وغير ذلك مما نجده من بعد شاهدا علىعظمة المبرمج الأولوالآخر.
وقد استطرد هنا لأقول: إن صانع الحاسوب أو أي جهاز من الأجهزة يزوّده بدليل تشغيله أو ما يعرف ب manual) (وقدزودنا البارئ الذي خلقنا وبرمجنا بخير دليل تشغيل هو ما جاء بهالرسول، صلىالله عليه وآله وسلم، من قرآن كريم وسنة مطهرة لأنه الأعلمبمن خلق، وبماخلق؛ لو نتفكر في ذلك!
كماأنهلا يستبعد أن يكون آدم، عليه السلام، ومن عاش قريبا من زمانه من خلفهقداهتدوا – وفق البرمجة نفسها – إلى ألفاظ وأصوات تعبر عن هذا المعنى أوذاكغير التي نستخدمها لها، ولتوضيح ذلك نضرب المثل التالي: إن المعنى (9)– أوالمسمى – يمكن أن يعبر عنه، ويُتوصل إليه بطرق لا حصر لها، مثل
9 = 3 x 3 ، 9 = 3 +3 +3 ، 9 = 1 + 8 ، 9 = 7 + 2 ، 9 = 119– 110 ، 9 = 92 _ 83 ، 9 = 63÷ 7 ، 9 = 36÷ 4 وهكذا إلى ما لا نهاية له.
وبهذا تكون 3 x3مرادفة لكل ما جاء بعدها، ولا اختلاف بينها إلا فيما يقع عليه العدد...أقصد المعدود الذي قد يكون بقرا أو حجارة أو أرغفة أو نحو ذلك. ومنهنانستطيع أن نفسر ظاهرة الترادف واختلاف لهجات القبائل. فالسمسمالمعروفواحد في كل مكان، ولكنه السمسم في لغة والجلجلان في لغة أخرى،والتين هوالتين ... أو القهدة أو الحماط أو البلس أو الكرموس... الخ . بلإن في ذلكما يفسر اختلاف ألسن الناس أجمعين.
وصوتالجرسحنين ... أو رنين، وهذا صفير وذاك زفير، وهذا نعيب وذاك نعيق والآخرنغيقوالرابع نهيق والخامس نقيق، وهي جميعا أصوات اختلفت صفاتها قليلافاختلفتألفاظها بنفس النسبة تقريبا. وقد أشار إلى هذه الظاهرة ابن جني فيحديثه عنتصاقب الألفاظ لتصاقب المعاني في خصائصه حيث أفرد لها بابامستقلا.
أحرف الأصل اللغوي:
لكلأصلدلالة تقع على معنى، تماما كما أن لكل صوت مفرد دلالة، مهما كانمصدره. وقدنشبه الأصل بالحبل، والدلالة بالوظيفة التي يقوم بها. فأصل منصوت واحد (حرف ) وحبل من فتلة واحدة ... وأصل من صوتين وحبل من فتلتين،وأصل منثلاثة، وحبل من ثلاث، وهكذا، وكلما ازدادت الأصوات والفتلاتازدادت الدلالة... وعظمت الوظيفة ... وكل اختلاف.
ولماكانتطبائع الأصوات مختلفة، كانت دلالاتها كذلك، تماما كأنواع الحبالأيضا، فحبلمن ليف وحبل من مسد وحبل من شعر وهكذا، وصوت مهموس وآخر مجهور،وصوت مطبقآخر غير ذلك ... وهذا أول وذلك ثان والآخر ثالث... وهذا يجعلهاشبيهةبالأرقام في منازلها حيث تختلف قيمة الرقم الواحد باختلاف منـزلته.ولتوضيحذلك قارن بين، رد ودر، حل و لح، شع وعش، فالرد تراجع وإرجاع،والدر سماحةوعطاء، والحل نقيض الشد والعقد، والإلحاح تشديد، والشعاعالضوء المتفرق والعش هو المتفرق الملموم من القش على النحو المعهود. والفصلإلىتفريق مجتمع، والصف إلى تجميع متفرق، والرج خض في الموضع، والجر تغييرفيالمواضع مع خضخضة. والبر حبوب متفرقة، والرب متفرق أصلا ثم دوخل بينأجزائهوهكذا.
ويستمرالإنسانفي التركيب اللفظي استجابة للتراكمات التي تطرأ على مسيرتهالحضارية فلميعد يكفيه صوت لدلالته، ولا اثنان، فضعف الثاني، ثم ما لبثأن خالف بينمضعفه وغيره من الأصوات، فإذا بالثنائي المضعف يمهد لتوليدسبعة وعشرينأصلا جديدا ... يصلح كل منها للتعبير عن دلالة مستجدة.
وازدادتالدلالاتوالآحاد المعرفية، فاهتدى إلى أحرف الزيادة، فإذا بها تكسبالأصول دلالاتإضافية جديدة ... غير أن هذه لم تعد تفي بالغرض، فاهتدى إلىالصيغوالمباني، فأمكنه ذلك من توليد مزيد من الألفاظ للمعاني المختلفةوهكذا ...
وكان في أثناء مسيرته هذه قد اهتدى إلى نوع آخر من التركيب هو تركيب الجملة...والفقرة فالمقالة والكتاب، فإذا به يمتلك رصيدا ضخما وذخيرة لا تنضبمنالألفاظ والعبارات تمكنه من التعبير عن مناشطه في مراحل حياتهالمختلفة،وفي أطواره الحضارية المتراكبة، وعن أوجه تفاعله مع البيئةبمفهومهاالشامل. وصدق الله العظيم إذ يقول ] وفي أنفسكم أفلا تبصرون [ (7).
الهوامش:
1. مراعاةالمنعمن الصرف أولى من مراعاة الجر، لأن الجر عارض والمنع أصيل. والممنوعمنالصرف يقتضي فتحة بدل الكسرة، والفتحة لا تستثقل على الياء، ولذلك يجبأنتظل الياء ولا تحذف.
2. أعتقد أنهم كانوا يعبرون بها عن الصفات مضافة إلى المادة التي تكسبها مثل: ذو المال بدلا من الغني، وذو يزن وهكذا.
3. اعتقدأن(مع) هي مقلوب عم، ولا يزال بعض العرب في شمال إفريقية يستخدمون عماكبدلامن معك... ولعل معنى(المعية) آت من معنى العمومة، لأن العم اخوالأب،وغالبا_على الأقل قديما_ ما يكون الأب والعم معا.وفي العبرية عم تعنيمع.
4. نرى أن هذه التاء للإفراد في المكان، بدليل جمع العضه على عضاه، بإضافة ألف 0والمد نظير الكثرة).
5. مثلقولهتعالى: ( أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرّة فأكون من المحسنين.بلى قدجاءتك آياتي فكذّبت بها..)الزمر 58-59. وقوله في سورة البقرة (وقاللن يدخلالجنة إلا من كان هودا أو نصارى، تلك أمانيّّّّهم، قل هاتوابرهانكم إنكنتم صادقين، بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربّهولا خوفعليهم ولا هم يحزنون) البقرة 111، 112.
6. ابن كثير_ تفسير القرآن العظيم، دار الكتب العلمية، بيروت 1408هـ، 1\111_113.
7. سورة الذاريات، الآية 21.