التناص في رواية إلياس خوري "باب الشمس"
١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦بقلم أمل أحمد عبد اللطيف أبو حنيش
التناص في رواية إلياس خوري "باب الشمس" عنوان رسالة ماجستير أنجزتها الباحثة: أمل أبو حنيش وقدمتها إلى قسم اللغة العربية في جامعة النجاح الوطنية في أيلول من العام 2005، وهي من إشراف الدكتور عادل الاسطة.
تأتي هذه الدراسة لتحاور عالماً روائياً، لكاتب يُعد من أهم الكتاب الذين كتبوا في الحقل الروائي العربي، وهو إلياس خوري، وذلك من خلال الوقوف على مستويات التناص في روايته "باب الشمس" التي نشرها عام 1998، واعتبرها بعض النقاد نقلة نوعية كبرى في الحقل الروائي بأسره في حين اعتبرها الكاتب نفسه المنعطف الأكبر في تاريخه الروائي.
تلك الرواية التي بناها من مجموعة حكايات متجاورة ومتقاطعة تشدنا إلى مأساة الواقع الفلسطيني، وعنف التاريخ الذي كتب حكاية الفلسطيني بحروف من دم، إنها حكاية فلسطين الكبرى، التي تتناسل منها عشرات الحكايات.
لكن المهم في هذه الرواية ليس هذا التاريخ وأحداثه وحسب -كما تشير الباحثة-، بل الأسلوب الروائي، وطريقة سرد الحكايات التي يتوالد بعضها من بعض، والنصوص الحاضرة فيها والغائبة، التي تغري بدراستها وتبيان دورها في تشكيل المعنى العام للرواية.
من هنا جاء اختيارها لرواية "باب الشمس" التي شكلت محور دراستها الساعية إلى البحث عن علاقة هذه الرواية مع غيرها من النصوص الأخرى، التي تتشكل منها وتُعيد تشكيلها في آن معاً.
ولما كان إلياس خوري لبناني الأصل، يكتب عن فلسطين والفلسطينيين، فقد دفع هذا الباحثة أيضاً، لدراسة أعماله الروائية، لكنها وجدت أن هذا الأمر ليس بمستغرب، ففي شبابه انتمى لحركة (فتح)، وعمل مع المقاومة الفلسطينية. حمل الهم الفلسطيني ودافع عنه في مواقفه وكتاباته المتنوعة، حيث كانت ولا تزال القضية الفلسطينية تشغل حيزاً من فكره ووجدانه.
وعليه جاءت دراستها بعنوان "التناص في رواية الياس خوري باب الشمس"، فظاهرة التناص في هذه الرواية لم تدرس من قبل، وإن كان المرء يقرأ العديد من الدراسات التي تناولت أعمال خوري الروائية.
ولتحقيق المقاربات التناصية في "باب الشمس"، اعتمدت الباحثة على منهج التناص مستفيدة من الكتابات النقدية الغربية التي نظرت لمصطلح التناص، ومما خلص إليه الدارسون العرب حول هذا المصطلح. وأهم هؤلاء سعيد يقطين في كتابه "انفتاح النص الروائي النص والسياق"، ومحمد مفتاح في كتابه "تحليل الخطاب الشعري استراتيجية التناص". كما وأفادت من الدراسات النظرية والتطبيقية حول مفهوم التناص، إضافة إلى نظريات القراءة الخاصة بالمتلقي.
وبناء على ذلك خلصت الباحثة إلى قراءة التناص الذاتي والداخلي والخارجي في رواية "باب الشمس" عبر الكشف عن مدى حضور النصوص الأخرى أو غيابها في النص الروائي. من خلال البحث عن مصادرها الأصلية والدور الذي تلعبه في تشكيل المعنى داخل الرواية، ومدى إفادة الكاتب منها، الأمر الذي يمكننا في النهاية من الوقوف على قلق التأثير الذي دفع الكاتب إلى ممارسة هذه التعالقات التناصية.
وعليه جاءت دراستها في مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة وقائمة بمصادر ومراجع البحث.
المقدمة: كانت تمهيداً للدخول إلى عالم الدراسة، بينت فيها الباحثة أسباب اختيارها لموضوع التناص في رواية "باب الشمس"، إضافة إلى التعريف بمنهج التناص، وبمحتويات الدراسة.
الفصل الأول: جاء بعنوان التناص الذاتي تناولت فيه الباحثة صلة "باب الشمس" بروايات الكاتب الأخرى، واقتصرت هذا الجانب على دراسة التناص الأسلوبي مع بعض روايات الكاتب التي بدا فيها الأسلوب متشـابهاً إلى حد ما. وذلك من حيث: تداخل الحكايات، والتكرار، وأسلوب النفي، والتشابه بين السارد والروائي، وتعدد الرواة، واللعب الروائي، وانشطار الذات، وتداخل ضمائر السرد.
الفصل الثاني: بعنوان التناص الداخلي
تناولت فيه الباحثة صلة " باب الشمس " مع نصوص معاصرة من الأدب العربي والعالمي والتاريخ. ولكثرة هذه النماذج التناصية، اقتصرت في دراستها على أبرزها حضوراً، إن كان في جسد النص أم في ذاكرة الباحثة أي – النصوص الغائبة -.
ومن المحاور التي تناولتها في هذا الفصل: التناص الأدبي وشمل التناص مع رواية "باولا " للكاتبة التشيلية (إيزابيل الليندي) نموذجاً للتناص مـع الرواية العالمية، والتناص مـع "عائد إلى حيفا " لغسان كنفاني نموذجاً للتناص مع الرواية العربية.
أما التناص مع الشعر العربي الحديث فجاء من خلال التناص مع شعر محمود درويش والأخطل الصغير، بالإضافة إلـى ذلك شــمل هذا المحور التناص مع مذكرات الكاتب الفرنسي (جان جينيه) "أسير عاشق" و "أربع ساعات في شاتيلا".
أما المحور الثاني فقد ناقشت فيه الباحثة التناص مع النصوص غير الأدبية (النص التاريخي والوثائقي)، من خلال كتاب "تحقيق حول مجزرة " للصحفي الإسرائيلي (أمنون كابليوك)، كونه الأبرز داخـل جسد النص الروائي، وفي هذا المحور حاولت الباحثة البحث عن كيفية توظيف النص التاريخي والوثائقي داخل النص الروائي، ومدى خدمته للخطاب العام للرواية.
الفصل الثالث: بعنوان التناص الخارجي
تناولت فيه الباحثة صلة "باب الشمس" مع نصوص أخرى ظهرت في عصور بعيدة، ويشمل هذا الفصل عدة محاور.
يتناول المحور الأول التناص الأسطوري مع الأوديسة نموذجاً، وذلك من خلال تحديد التعالقات التناصية بين الأوديسة والنص الروائي، ومعرفة ما تنتجه هذه التعالقات من دلالات داخل النص الروائي.
أما المحور الثاني فتناول التناص الديني (الإسلامي، والعهد الجديد)، وذلك من خلال حضور هذه النصوص الدينية ذاتها في النص الروائي، أو من خلال بنيات نصية صغرى تحيل إلى خطاب ديني.
ويتناول المحور الثالث التناص مع الشعر العربي القديم، إن كان على مستوى استحضار النصوص الشعرية، أو على مستوى استحضار شخصية الشاعر، وذلك باستعارة صفة من صفاتها، أو بعض أحداث حياتها، أو اقتباس بعض أقوالها، ومن هؤلاء: امرؤ القيس، والمتنبي، وأبو تمام ومجنون ليلى.
ويتناول المحور الرابع التناص مع النص السـردي التراثي ممثلاً "بألف ليلة وليلة"، وفيه ناقشت الباحثة التناص الأسلوبي بينه وبين النص الروائي.
وتختم الباحثة هـذا الفصل بدراسـة المحور الأخير ممثلاً بالتناص مع مسـرحية "هاملت". من خلال التعالقات بين إحدى الشخصيات الروائية وشخصية (هاملت).
وتأتي الخاتمة لتلخص رؤية الباحثة حول كل ما تم دراسته، وذلك من خلال عرضها للنتائج التي توصلت إليها، مكثفة مسوغات التناص بين الرواية والنصوص المدروسة الأخرى. ومن أبرز النتائج التي توصلت إليها الباحثة ما يلي:
- على مستوى التناص الذاتي الذي اقتصرته على التناص الأسلوبي. كانت الظواهر الأسلوبية التي تناولتها الباحثة ذات بعد دلالي له تأثيره على بنية النص الكلية، حيث ساهمت في تجسيد رؤية الروائي لمضمون رواياته التي شكلها من عشرات الحكايات المتداخلة والمتكررة، أحياناً، ما يعني أن الروائي كان يملك تصوراً معمارياً مسبقاً، لكل رواياته السابقة لـ " باب الشمس" واللاحقة، ما يدفعنا إلى اعتبار رواياته متسلسلة يصعب الفصل بينها على مستوى المعمار الأسلوبي.
وتشير الباحثة إلى أن تداخل الحكايات أظهر أن الرواية عند خوري تتشكل من عشرات الحكايات المتداخلة مع بعضها، بيد أن هذا التداخل يقوم في مجمله على غياب العلاقات السببية والمنطقية، فالأحداث تتراصف وتنضد جنباً إلى جنب، دون الحاجة للبحث عن العلاقات التي تربطها ببعضها، لأن كل حدث ينطوي على ميزة كونه حدثاً قائماً بذاته، وليس نتيجة لغيره، ما يشف عن مرجعية الروائي الثقافية التي تطمح إلى خلق خطاب جديد قائم على المغايرة للخطابات السردية ذات الحبكة التقليدية، والكتابات ذات الصبغة الواقعية الملتزمة بالتراتبية الزمنية.
أما أسلوب التكرار فقد رأت الباحثة أن تقنية الرواية وطريقة بنائها هي التي فرضت استخدامه، فعلى مستوى تكرار الحكاية، ترى أنه جاء ليشككننا في الواقع أو في المحتوى الحقيقي لحدث بعينه. أما على مستوى الجملة أو اللفظة، فقد رأت أنه جاء لتنمية الثراء الإيقاعي للرواية، وليشكل بالتالي نوعاً من الروابط التي تشد حلقات الرواية، أو كلازمة سـردية تمهد للانتقال من محور إلى آخر، أو كأداة للتذكير بماضي الشخصية.
وفي دراستها لأسلوب النفي رأت أن هذا الأسلوب مكن الروائي من تحقيق الوعي بواقع الحكاية التي يرويها دون الادعاء بكتابتها، وذلك من خلال توليد الالتباس بين الحقيقي والمتخيل.
وفي دراستها للتشابه بين السارد والروائي الذي يعد من أهم المظاهر الأسلوبية في روايات خوري، رأت أن ثمة أفكار وآراء يكررها السارد الذي يبدو مختلفاً من رواية إلى أخرى، ومع ذلك تؤرقة فكرة القص والسرد، ويخوض في النظريات النقدية والأدبية. تلك الأفكار التي يقرأها المرء في روايات الكاتب على لسان سارديه تقول أن مصدرها الروائي الذي كان – بوعي أو دون وعي- يتسلل إلى عقولهم ليبث بعض آرائه ومفاهيمه، وتخلص إلى القول إن سارديه رغم بساطتهم واختلاف مستوياتهم التعليمية كانوا ينطقون بما ينطق به الكاتب نفسه.
وتشير في دراستها لأسلوب تعدد الرواة أن هذا الأسلوب يسمح بتوزيع الحقائق بشكل مراوغ، يجعل من فن القص مؤهلاً بامتياز لتجسيد حس البوح من جانب، وإشباع أخلاقية القارئ بإسناد القص إلى عملية التخييل لا إلى الواقع، كما يسمح بتقويض سلطة الراوي العليم.
أما في دراستها للعب الروائي وانشطار الذات فقد رأت أنهما يشكلان مظهرين أسلوبيين لافتين في "باب الشمس" تليها في ذلك "يالو"، وذلك للكشف عن التناقض بين العالم الداخلي والخارجي للشخصية الروائية. في حين رأت أن أسلوب تداخل ضمائر السرد، الذي لا تخلو منه جميع روايات الكاتب، جاء متماشياً مع مضمون رواياته ونفسية أبطالها، وليس مجرد لعبة شكلية جمالية.
وهكذا، أظهرت الباحثة في دراستها للتناص الأسلوبي أن "باب الشمس" مثلت قمة النضج الأسلوبي لدى الروائي، فـ (الثيمات) الأسلوبية فيها ظهرت إرهاصاتها الأولى في رواياته السابقة. لذا بدت هذه الرواية استكمالاً وتطويراً لأسلوب الروائي السـردي. كما بدت "يالو" أكثر روايات الكاتب تناصاً معها، تحديداً في مجال اللعب الروائي وانشطار الذات وتداخل ضمائر السرد، ما ينم عن سعي الكاتب الدائم لتطوير تقنياته الفنية والارتقاء بها.
- وعلى مستوى التناص الداخلي والخارجي، كشفت التناصات المختلفة داخل "باب الشمس"، والتي استحضرتها الباحثة على أن ثقافة الكاتب المعرفية، كانت تنسرب إلى نصه بوعي أو دون وعي . فقد استوعب النص الروائي بنيات نصية عديدة مختلفة زمانياً وخطابياً ونوعياً، أنتجها من جديد من خلال منحه إياها دلالة وأبعاداً مختلفة عن تلك التي اكتسبتها في سياقها الأصلي، وبذلك قدمها كعناصر بنيوية ساهمت في عملية بناء نصه وتكوينه، محققة الانسجام مع عالم نصه الروائي والرؤيوي على السواء.
وعليه رأت الباحثة أن التناص الأدبي مع رواية "باولا" و"عائد إلى حيفا"، جاء لتنشيط ذاكرة القارئ الخازنة للنصوص الأخرى، وذلك لحثه على استحضار علاقات تناصية مع نص الرواية، ومن ثم توجيهه لقراءة تلك النصوص، إلى جانب قراءته للنص الروائي. وبهذا يسـهم مثل هذا النوع من التناص في بناء القارئ معرفياً.
وكذلك ترى أن الروائي ومن خلال التناص مع مذكرات (جان جينيه) "أسـير عاشق" و "أربع ساعات في شاتيلا"، سعى إلى ترسيخ حضور نصوص (جينيه)، المناصرة للقضية الفلسطينية، ليعرف القارئ بها وبلغتها المدهشة، ويدفعه لقراءتها ولمعرفة المزيد عن كاتبها.
وتشير أيضاً إلى أن الروائي وظف معرفته بالأدب العالمي المختزنة في اللاشعور داخل نصه الروائي، من خلال التناص مع "هاملت"، لتقوم روايته بدورها الثقافي شبه الموسوعي.
أما في دراستها للتناص الشعري قديمة وحديثه، والذي تعددت أشكال استحضاره من استحضار للنص الشـعري مباشرة دون ذكر القائل، أو مع ذكر القائل، إلى التناص مع شخصية الشاعر من خلال استعارة صفة من صفاتها، أو قول من أقوالها، إلى تناص غائب استحضرته الباحثة بناء على خلفيتها الثقافية.
فقد رأت الباحثة أن العلاقات التناصية مع النص الشـعري، جاءت في مجملها منسجمة مع سياق الحدث الروائي ومع نفسية الشخصيات الروائية، حيث عبرت من خلالها تلك الشخصيات، ومن خلفها الروائي، عن آرائها في بعض القضايا، أي تعزيز سلطة المقول الروائي بمقول شعري جاء كجزء من البنية الروائية.
في حين رأت أن التناص التاريخي مع كتاب (كابليوك)، جاء لإضاءة الفرق بين الوثيقة التاريخية والمقاربة الروائية للتاريخ التي استنطقت الواقع المعيش، من خلال البشر الذين كانوا في قلب وقائع التاريخ ليعيد كتابته مرة أخرى.
وعلى مستوى التناص الأسطوري لاحظت الباحثة أن الروائي استعار أساطير الماضي من اللاشعور الجمعي وأخرجها إلى حالة الحضور الواعي، لتكتسب دلالات جديدة تخدم السياق الروائي الراهن.
أما التناص مع النص السردي التراثي، فقد أظهرت دراستها أن الروائي استخدمه لكسر قالب السـرد الحكائي الواقعي التقليدي الملتزم بالتراتبية الزمنية، وليتماشى أيضاً مع كثرة الحكايات التي ضمنها نصه السردي.
وعلى مستوى التناص الديني، أظهرت العلاقات التناصية التي استحضرتها الباحثة قدرة الروائي على استنطاق النص الديني المقتبس عبر تفجير طاقاته الكامنة وامتصاصها وإخراجها على شكل تراكيب لغوية، ضمن سـياقات شعورية ونفسية وفكرية جديدة، تتسق مع الأغراض والدوافع التي حفزت الروائي إلى هذه التناصات الصريحة أو المضمرة.
وهكذا خلصت الباحثة إلى أن "باب الشمس" خاضت غمار التجريب الذي أتاح لها تأسيس نفسها ضمن قوانين التناص، فهي لم تكن ذاتا مستقلة أو مادة موحدة، بل كانت سلسلة من العلاقات مع نصوص أخرى قادمة ومقتبسة من أجناس أدبية مختلفة ومن حقول ثقافية متنوعة، لكل جنس نظامه وبنيته وشفراته الخاصة، التي تختلف بها عن الآخر. لكن رغم ذلك بقي النص الروائي هو الفضاء الذي تحاورت فيه تلك النصوص. وبهذا غدت "باب الشمس" حوار نصوص وأجناس ولغات، ترجعنا بطريقة مختلفة إلى بحر لانهائي هو ( المكتوب من قبل، محققة قول باختين "لا خطاب خارج خطاب الآخر".
وفي نهاية دراستها تشير الباحثة إلى أن ثمة نصوص أخرى في "باب الشمس" لم يتسع المجال لدراستها أو التوسع فيها.
منقول.
١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٦بقلم أمل أحمد عبد اللطيف أبو حنيش
التناص في رواية إلياس خوري "باب الشمس" عنوان رسالة ماجستير أنجزتها الباحثة: أمل أبو حنيش وقدمتها إلى قسم اللغة العربية في جامعة النجاح الوطنية في أيلول من العام 2005، وهي من إشراف الدكتور عادل الاسطة.
تأتي هذه الدراسة لتحاور عالماً روائياً، لكاتب يُعد من أهم الكتاب الذين كتبوا في الحقل الروائي العربي، وهو إلياس خوري، وذلك من خلال الوقوف على مستويات التناص في روايته "باب الشمس" التي نشرها عام 1998، واعتبرها بعض النقاد نقلة نوعية كبرى في الحقل الروائي بأسره في حين اعتبرها الكاتب نفسه المنعطف الأكبر في تاريخه الروائي.
تلك الرواية التي بناها من مجموعة حكايات متجاورة ومتقاطعة تشدنا إلى مأساة الواقع الفلسطيني، وعنف التاريخ الذي كتب حكاية الفلسطيني بحروف من دم، إنها حكاية فلسطين الكبرى، التي تتناسل منها عشرات الحكايات.
لكن المهم في هذه الرواية ليس هذا التاريخ وأحداثه وحسب -كما تشير الباحثة-، بل الأسلوب الروائي، وطريقة سرد الحكايات التي يتوالد بعضها من بعض، والنصوص الحاضرة فيها والغائبة، التي تغري بدراستها وتبيان دورها في تشكيل المعنى العام للرواية.
من هنا جاء اختيارها لرواية "باب الشمس" التي شكلت محور دراستها الساعية إلى البحث عن علاقة هذه الرواية مع غيرها من النصوص الأخرى، التي تتشكل منها وتُعيد تشكيلها في آن معاً.
ولما كان إلياس خوري لبناني الأصل، يكتب عن فلسطين والفلسطينيين، فقد دفع هذا الباحثة أيضاً، لدراسة أعماله الروائية، لكنها وجدت أن هذا الأمر ليس بمستغرب، ففي شبابه انتمى لحركة (فتح)، وعمل مع المقاومة الفلسطينية. حمل الهم الفلسطيني ودافع عنه في مواقفه وكتاباته المتنوعة، حيث كانت ولا تزال القضية الفلسطينية تشغل حيزاً من فكره ووجدانه.
وعليه جاءت دراستها بعنوان "التناص في رواية الياس خوري باب الشمس"، فظاهرة التناص في هذه الرواية لم تدرس من قبل، وإن كان المرء يقرأ العديد من الدراسات التي تناولت أعمال خوري الروائية.
ولتحقيق المقاربات التناصية في "باب الشمس"، اعتمدت الباحثة على منهج التناص مستفيدة من الكتابات النقدية الغربية التي نظرت لمصطلح التناص، ومما خلص إليه الدارسون العرب حول هذا المصطلح. وأهم هؤلاء سعيد يقطين في كتابه "انفتاح النص الروائي النص والسياق"، ومحمد مفتاح في كتابه "تحليل الخطاب الشعري استراتيجية التناص". كما وأفادت من الدراسات النظرية والتطبيقية حول مفهوم التناص، إضافة إلى نظريات القراءة الخاصة بالمتلقي.
وبناء على ذلك خلصت الباحثة إلى قراءة التناص الذاتي والداخلي والخارجي في رواية "باب الشمس" عبر الكشف عن مدى حضور النصوص الأخرى أو غيابها في النص الروائي. من خلال البحث عن مصادرها الأصلية والدور الذي تلعبه في تشكيل المعنى داخل الرواية، ومدى إفادة الكاتب منها، الأمر الذي يمكننا في النهاية من الوقوف على قلق التأثير الذي دفع الكاتب إلى ممارسة هذه التعالقات التناصية.
وعليه جاءت دراستها في مقدمة وثلاثة فصول وخاتمة وقائمة بمصادر ومراجع البحث.
المقدمة: كانت تمهيداً للدخول إلى عالم الدراسة، بينت فيها الباحثة أسباب اختيارها لموضوع التناص في رواية "باب الشمس"، إضافة إلى التعريف بمنهج التناص، وبمحتويات الدراسة.
الفصل الأول: جاء بعنوان التناص الذاتي تناولت فيه الباحثة صلة "باب الشمس" بروايات الكاتب الأخرى، واقتصرت هذا الجانب على دراسة التناص الأسلوبي مع بعض روايات الكاتب التي بدا فيها الأسلوب متشـابهاً إلى حد ما. وذلك من حيث: تداخل الحكايات، والتكرار، وأسلوب النفي، والتشابه بين السارد والروائي، وتعدد الرواة، واللعب الروائي، وانشطار الذات، وتداخل ضمائر السرد.
الفصل الثاني: بعنوان التناص الداخلي
تناولت فيه الباحثة صلة " باب الشمس " مع نصوص معاصرة من الأدب العربي والعالمي والتاريخ. ولكثرة هذه النماذج التناصية، اقتصرت في دراستها على أبرزها حضوراً، إن كان في جسد النص أم في ذاكرة الباحثة أي – النصوص الغائبة -.
ومن المحاور التي تناولتها في هذا الفصل: التناص الأدبي وشمل التناص مع رواية "باولا " للكاتبة التشيلية (إيزابيل الليندي) نموذجاً للتناص مـع الرواية العالمية، والتناص مـع "عائد إلى حيفا " لغسان كنفاني نموذجاً للتناص مع الرواية العربية.
أما التناص مع الشعر العربي الحديث فجاء من خلال التناص مع شعر محمود درويش والأخطل الصغير، بالإضافة إلـى ذلك شــمل هذا المحور التناص مع مذكرات الكاتب الفرنسي (جان جينيه) "أسير عاشق" و "أربع ساعات في شاتيلا".
أما المحور الثاني فقد ناقشت فيه الباحثة التناص مع النصوص غير الأدبية (النص التاريخي والوثائقي)، من خلال كتاب "تحقيق حول مجزرة " للصحفي الإسرائيلي (أمنون كابليوك)، كونه الأبرز داخـل جسد النص الروائي، وفي هذا المحور حاولت الباحثة البحث عن كيفية توظيف النص التاريخي والوثائقي داخل النص الروائي، ومدى خدمته للخطاب العام للرواية.
الفصل الثالث: بعنوان التناص الخارجي
تناولت فيه الباحثة صلة "باب الشمس" مع نصوص أخرى ظهرت في عصور بعيدة، ويشمل هذا الفصل عدة محاور.
يتناول المحور الأول التناص الأسطوري مع الأوديسة نموذجاً، وذلك من خلال تحديد التعالقات التناصية بين الأوديسة والنص الروائي، ومعرفة ما تنتجه هذه التعالقات من دلالات داخل النص الروائي.
أما المحور الثاني فتناول التناص الديني (الإسلامي، والعهد الجديد)، وذلك من خلال حضور هذه النصوص الدينية ذاتها في النص الروائي، أو من خلال بنيات نصية صغرى تحيل إلى خطاب ديني.
ويتناول المحور الثالث التناص مع الشعر العربي القديم، إن كان على مستوى استحضار النصوص الشعرية، أو على مستوى استحضار شخصية الشاعر، وذلك باستعارة صفة من صفاتها، أو بعض أحداث حياتها، أو اقتباس بعض أقوالها، ومن هؤلاء: امرؤ القيس، والمتنبي، وأبو تمام ومجنون ليلى.
ويتناول المحور الرابع التناص مع النص السـردي التراثي ممثلاً "بألف ليلة وليلة"، وفيه ناقشت الباحثة التناص الأسلوبي بينه وبين النص الروائي.
وتختم الباحثة هـذا الفصل بدراسـة المحور الأخير ممثلاً بالتناص مع مسـرحية "هاملت". من خلال التعالقات بين إحدى الشخصيات الروائية وشخصية (هاملت).
وتأتي الخاتمة لتلخص رؤية الباحثة حول كل ما تم دراسته، وذلك من خلال عرضها للنتائج التي توصلت إليها، مكثفة مسوغات التناص بين الرواية والنصوص المدروسة الأخرى. ومن أبرز النتائج التي توصلت إليها الباحثة ما يلي:
- على مستوى التناص الذاتي الذي اقتصرته على التناص الأسلوبي. كانت الظواهر الأسلوبية التي تناولتها الباحثة ذات بعد دلالي له تأثيره على بنية النص الكلية، حيث ساهمت في تجسيد رؤية الروائي لمضمون رواياته التي شكلها من عشرات الحكايات المتداخلة والمتكررة، أحياناً، ما يعني أن الروائي كان يملك تصوراً معمارياً مسبقاً، لكل رواياته السابقة لـ " باب الشمس" واللاحقة، ما يدفعنا إلى اعتبار رواياته متسلسلة يصعب الفصل بينها على مستوى المعمار الأسلوبي.
وتشير الباحثة إلى أن تداخل الحكايات أظهر أن الرواية عند خوري تتشكل من عشرات الحكايات المتداخلة مع بعضها، بيد أن هذا التداخل يقوم في مجمله على غياب العلاقات السببية والمنطقية، فالأحداث تتراصف وتنضد جنباً إلى جنب، دون الحاجة للبحث عن العلاقات التي تربطها ببعضها، لأن كل حدث ينطوي على ميزة كونه حدثاً قائماً بذاته، وليس نتيجة لغيره، ما يشف عن مرجعية الروائي الثقافية التي تطمح إلى خلق خطاب جديد قائم على المغايرة للخطابات السردية ذات الحبكة التقليدية، والكتابات ذات الصبغة الواقعية الملتزمة بالتراتبية الزمنية.
أما أسلوب التكرار فقد رأت الباحثة أن تقنية الرواية وطريقة بنائها هي التي فرضت استخدامه، فعلى مستوى تكرار الحكاية، ترى أنه جاء ليشككننا في الواقع أو في المحتوى الحقيقي لحدث بعينه. أما على مستوى الجملة أو اللفظة، فقد رأت أنه جاء لتنمية الثراء الإيقاعي للرواية، وليشكل بالتالي نوعاً من الروابط التي تشد حلقات الرواية، أو كلازمة سـردية تمهد للانتقال من محور إلى آخر، أو كأداة للتذكير بماضي الشخصية.
وفي دراستها لأسلوب النفي رأت أن هذا الأسلوب مكن الروائي من تحقيق الوعي بواقع الحكاية التي يرويها دون الادعاء بكتابتها، وذلك من خلال توليد الالتباس بين الحقيقي والمتخيل.
وفي دراستها للتشابه بين السارد والروائي الذي يعد من أهم المظاهر الأسلوبية في روايات خوري، رأت أن ثمة أفكار وآراء يكررها السارد الذي يبدو مختلفاً من رواية إلى أخرى، ومع ذلك تؤرقة فكرة القص والسرد، ويخوض في النظريات النقدية والأدبية. تلك الأفكار التي يقرأها المرء في روايات الكاتب على لسان سارديه تقول أن مصدرها الروائي الذي كان – بوعي أو دون وعي- يتسلل إلى عقولهم ليبث بعض آرائه ومفاهيمه، وتخلص إلى القول إن سارديه رغم بساطتهم واختلاف مستوياتهم التعليمية كانوا ينطقون بما ينطق به الكاتب نفسه.
وتشير في دراستها لأسلوب تعدد الرواة أن هذا الأسلوب يسمح بتوزيع الحقائق بشكل مراوغ، يجعل من فن القص مؤهلاً بامتياز لتجسيد حس البوح من جانب، وإشباع أخلاقية القارئ بإسناد القص إلى عملية التخييل لا إلى الواقع، كما يسمح بتقويض سلطة الراوي العليم.
أما في دراستها للعب الروائي وانشطار الذات فقد رأت أنهما يشكلان مظهرين أسلوبيين لافتين في "باب الشمس" تليها في ذلك "يالو"، وذلك للكشف عن التناقض بين العالم الداخلي والخارجي للشخصية الروائية. في حين رأت أن أسلوب تداخل ضمائر السرد، الذي لا تخلو منه جميع روايات الكاتب، جاء متماشياً مع مضمون رواياته ونفسية أبطالها، وليس مجرد لعبة شكلية جمالية.
وهكذا، أظهرت الباحثة في دراستها للتناص الأسلوبي أن "باب الشمس" مثلت قمة النضج الأسلوبي لدى الروائي، فـ (الثيمات) الأسلوبية فيها ظهرت إرهاصاتها الأولى في رواياته السابقة. لذا بدت هذه الرواية استكمالاً وتطويراً لأسلوب الروائي السـردي. كما بدت "يالو" أكثر روايات الكاتب تناصاً معها، تحديداً في مجال اللعب الروائي وانشطار الذات وتداخل ضمائر السرد، ما ينم عن سعي الكاتب الدائم لتطوير تقنياته الفنية والارتقاء بها.
- وعلى مستوى التناص الداخلي والخارجي، كشفت التناصات المختلفة داخل "باب الشمس"، والتي استحضرتها الباحثة على أن ثقافة الكاتب المعرفية، كانت تنسرب إلى نصه بوعي أو دون وعي . فقد استوعب النص الروائي بنيات نصية عديدة مختلفة زمانياً وخطابياً ونوعياً، أنتجها من جديد من خلال منحه إياها دلالة وأبعاداً مختلفة عن تلك التي اكتسبتها في سياقها الأصلي، وبذلك قدمها كعناصر بنيوية ساهمت في عملية بناء نصه وتكوينه، محققة الانسجام مع عالم نصه الروائي والرؤيوي على السواء.
وعليه رأت الباحثة أن التناص الأدبي مع رواية "باولا" و"عائد إلى حيفا"، جاء لتنشيط ذاكرة القارئ الخازنة للنصوص الأخرى، وذلك لحثه على استحضار علاقات تناصية مع نص الرواية، ومن ثم توجيهه لقراءة تلك النصوص، إلى جانب قراءته للنص الروائي. وبهذا يسـهم مثل هذا النوع من التناص في بناء القارئ معرفياً.
وكذلك ترى أن الروائي ومن خلال التناص مع مذكرات (جان جينيه) "أسـير عاشق" و "أربع ساعات في شاتيلا"، سعى إلى ترسيخ حضور نصوص (جينيه)، المناصرة للقضية الفلسطينية، ليعرف القارئ بها وبلغتها المدهشة، ويدفعه لقراءتها ولمعرفة المزيد عن كاتبها.
وتشير أيضاً إلى أن الروائي وظف معرفته بالأدب العالمي المختزنة في اللاشعور داخل نصه الروائي، من خلال التناص مع "هاملت"، لتقوم روايته بدورها الثقافي شبه الموسوعي.
أما في دراستها للتناص الشعري قديمة وحديثه، والذي تعددت أشكال استحضاره من استحضار للنص الشـعري مباشرة دون ذكر القائل، أو مع ذكر القائل، إلى التناص مع شخصية الشاعر من خلال استعارة صفة من صفاتها، أو قول من أقوالها، إلى تناص غائب استحضرته الباحثة بناء على خلفيتها الثقافية.
فقد رأت الباحثة أن العلاقات التناصية مع النص الشـعري، جاءت في مجملها منسجمة مع سياق الحدث الروائي ومع نفسية الشخصيات الروائية، حيث عبرت من خلالها تلك الشخصيات، ومن خلفها الروائي، عن آرائها في بعض القضايا، أي تعزيز سلطة المقول الروائي بمقول شعري جاء كجزء من البنية الروائية.
في حين رأت أن التناص التاريخي مع كتاب (كابليوك)، جاء لإضاءة الفرق بين الوثيقة التاريخية والمقاربة الروائية للتاريخ التي استنطقت الواقع المعيش، من خلال البشر الذين كانوا في قلب وقائع التاريخ ليعيد كتابته مرة أخرى.
وعلى مستوى التناص الأسطوري لاحظت الباحثة أن الروائي استعار أساطير الماضي من اللاشعور الجمعي وأخرجها إلى حالة الحضور الواعي، لتكتسب دلالات جديدة تخدم السياق الروائي الراهن.
أما التناص مع النص السردي التراثي، فقد أظهرت دراستها أن الروائي استخدمه لكسر قالب السـرد الحكائي الواقعي التقليدي الملتزم بالتراتبية الزمنية، وليتماشى أيضاً مع كثرة الحكايات التي ضمنها نصه السردي.
وعلى مستوى التناص الديني، أظهرت العلاقات التناصية التي استحضرتها الباحثة قدرة الروائي على استنطاق النص الديني المقتبس عبر تفجير طاقاته الكامنة وامتصاصها وإخراجها على شكل تراكيب لغوية، ضمن سـياقات شعورية ونفسية وفكرية جديدة، تتسق مع الأغراض والدوافع التي حفزت الروائي إلى هذه التناصات الصريحة أو المضمرة.
وهكذا خلصت الباحثة إلى أن "باب الشمس" خاضت غمار التجريب الذي أتاح لها تأسيس نفسها ضمن قوانين التناص، فهي لم تكن ذاتا مستقلة أو مادة موحدة، بل كانت سلسلة من العلاقات مع نصوص أخرى قادمة ومقتبسة من أجناس أدبية مختلفة ومن حقول ثقافية متنوعة، لكل جنس نظامه وبنيته وشفراته الخاصة، التي تختلف بها عن الآخر. لكن رغم ذلك بقي النص الروائي هو الفضاء الذي تحاورت فيه تلك النصوص. وبهذا غدت "باب الشمس" حوار نصوص وأجناس ولغات، ترجعنا بطريقة مختلفة إلى بحر لانهائي هو ( المكتوب من قبل، محققة قول باختين "لا خطاب خارج خطاب الآخر".
وفي نهاية دراستها تشير الباحثة إلى أن ثمة نصوص أخرى في "باب الشمس" لم يتسع المجال لدراستها أو التوسع فيها.
منقول.