ناشر الموضوع : حادي الركب
التراث العَربي المخطوط بين ماضيه وَحَاضِره ـــ د.جورج ميخائيل كرباج
لمتعرف البشرية، عبر تاريخها القديم، أمة غنية بإنتاجها المخطوط، وشغوفةبالعلم والمعرفة، وحريصة على اقتناء الكتب مثلما عرفت أمة العرب. فقد قدمتهذه الأمة من المعارف والعلوم والفنون، من خلال مصنفاتها الغزيرة، ما يدعوفعلاً إلى العجب والإعجاب، ويلقي على كواهل الجيل العربي المعاصر مسؤولياتضخمة حيال إحياء هذه المصنفات، فهل تتساعد هذه الكواهل فيما بينها لتنهضبتلك المسؤوليات، أم تظل متناحرة متنافرة، أو مهملة سادرة، فتترك ثروةالأجداد تتكفن أكثر فأكثر بغبار الإهمال، وتتدثر بدثار النسيان، وتندثرتحت عوادي الزمان والإنسان؟...
قديبدو من المفيد والمثير معاً أن نكشف عن بريق تلك الثروة المخطوطةالهائلة، ليرى الكثيرون قيمة تلك الثروة ومدى الجهد والجَلد والوقت الذيصرفه المصنفون العرب القدامى في سبيل تحقيقها. وليتحسسوا جيداً مدىالتقصير والإهمال وسوء المعاملة التي لقيها ويلقاها التراث العربي المخطوطعلى أيدي وارثيه.
يقدرالمشتغلون بالتراث عدد المخطوطات بحوالي ثلاثة ملايين مخطوطة متبقية حتىالآن من أصل بضعة ملايين كتبها العرب منذ لجوئهم إلى التدوين في القرنالهجري الأول وحتى بعيد ظهور الطباعة.
وأننانتساءل مع الدكتور صلاح الدين المنجد: كم يكون عدد المصنفات العربيةالمخطوطة لو وصلت إلينا كاملة قبل الفتن والثورات والحروب، وقبل الجهلالذي أصابنا بضعة قرون؟... إن لدينا اليوم ثلاثة ملايين مخطوطة يمكننا أننسقط مليوناً منها على أنه مكرر، فقد يوجد من الكتاب نسختان أو عشر نسخ،ويمكننا أن نسقط مليوناً آخر على أنه ذو قيمة ضئيلة، لا أصالة فيه قائمعلى النقل من الكتب التي ألفت من قبل. يبقى عندنا مليون كتاب فيها خلاصةالحضارة العربية في مختلف ألوانها ووجوهها، من القرن الثامن إلى السابععشر. هل تستطيعون أن تتصوروا كم يقدم هذا المليون من المخطوطات منالأفكار؟ لو قدم كل كتاب فكرة واحدة أصيلة لكان لدينا مليون فكرة وهذا شيءضخم.
إنتقديرنا لعدد المخطوطات، هو، بالطبع، تقدير غير دقيق تماماً، والعاملون فيحقل التحقيق ونشر الكتب مختلفون في عدد المخطوطات العربية الباقية، لكنهذا العدد لا ينقص عن المليونين، وليس بمقدور أحد حتى الآن أن يحددهتحديداً مطابقاً أو ملاصقاً للواقع، لأن هذه المخطوطات لم تفهرس جميعاً،فهناك الكثير من مكتبات العالم لم تفهرس فيها المخطوطات العربية، وهناكمكتبات المساجد والأديرة والمكتبات الخاصة التي تضم مخطوطات عربية لا يعرفعددها، لذلك، فالتقدير يفتقر إلى الإحصاء، وهو بالتالي يستدعي القيام بمثلهذا الإحصاء الشامل، تنفذه أجهزة متمكنة على صعيدي الكفاءة والإمكانياتالمادية، وعلى مستوى جميع الدول العربية.
وأمانسبة ما طبع من مخطوطات عربية فلم تتعد: "جزءاً من عُشر مجموعه"، كما يقولالبعض، وهي على قول البعض الآخر: "ضئيلة جداً بالقياس إلى عددالمخطوطات".
والحقيقةأن الحديث في هذا المجال لا يمكن أن يؤتي ثماراً، لأن المخطوطات مجهولةالعدد، وكذلك المطبوعات، فكما أن التقصير والإهمال حاصلان في إحصاءالمخطوطات فهما أيضاً حاصلان في إحصاء المطبوعات.
ومعما لفهرسة المخطوطات من أهمية بالغة في تحديد حجم تلك المخطوطات، وفيتحديد أماكنها، وفي تسهيل عمل المحققين، وفي تجنب نشر مخطوطات لا تستندإلى جميع نسخها، ومع ما لفهرسة المطبوعات من دور فعال في معرفة المخطوطاتالمطبوعة، تجنباً لتكرار نشر المخطوطات غير مرة وخاصة إذا كان النشرمتسماً بالدقة والأمانة ومتبعاً أصول التحقيق وقواعد النشر، فإن عمليةإحياء التراث يجب أن تستمر، والكنوز الدفينة يجب أن ترى النور دون أن يقفعدم فهرسة المخطوطات والمطبوعات عائقاً مانعاً أمام المحققين، بالرغم منالمتاعب والمحاذير. ولو كانت للعرب خطة تتسم بالمنهجية والتنسيق المتكامللوضعوا سلم أولويات للوسائل الواجب اعتمادها توصلاً إلى نشر التراث العربيالمخطوط، فبدؤوا بفهرسة المخطوطات العربية فهرسة مركزية بمعنى أن هذهالفهرسة تزود المحقق بجميع المعلومات التفصيلية الخاصة بكل مخطوطة (عنوانالمخطوطة، اسم المؤلف، عدد نسخ المخطوطة، أماكن وجود كل منها، أرقامتصنيفها، اسم ناسخ كل منها، تاريخ النسخ....)، تلي ذلك فهرسة المخطوطاتالعربية المطبوعة فهرسة مركزية أيضاً تزود المحقق بالمعلومات الكافية عنكل مخطوطة مطبوعة (اسم المحقق أو المحققين، مكان وتاريخ الطبع، رقمالطبعة..).
وهكذا،لا يُقدِم المحقق على تحقيق المخطوط إذا عرف أن غيره سبقه إلى تحقيقهتحقيقاً علمياً، أو إذا عرف أيضاً أن هناك نسخاً خطية أخرى للمخطوط غيرتلك التي يعرفها أو هي بين يديه. وبهذا، لا تظهر كتب محققة غير مرة وفيغير بلد عربي أو أجنبي، ولا يهدر الجهد والوقت سدى، كذلك، لا يضطر المحققإلى أن يعيد تحقيق الكتاب مرة ثانية إذا فوجئ بظهور نسخ خطية إضافية علىجانب كبير من الأهمية، وإن حدث ذلك فسيكون نادراً بفضل توفر الفهرسةالمركزية للمخطوطات العربية التي من شأنها إرشاده إلى أماكن جميع النسخ،باستثناء النسخ التي يملكها أفراد يسكتون عن ذكرها، ولا تظهر إلا تحت ظروفوسوانح.
إننشر المخطوطات لا يمكن أن يكون علمياً وموضع ثقة، إلا إذا اعتمد المحققالأصول والقواعد المتبعة في التحقيق والنشر. لأن استبدال حروف المطبعةبحروف الناسخ لا يعني إطلاقاً أن الناشر كان أميناً على نصر المؤلف، ويبدووهم الناشر في ذلك من خلال مايمكن أن يقحمه الناسخ من كلام دخيل على نصالمؤلف أو من خلال ما يسقطه من كلام المؤلف أو من خلال ما يشوهه الناسخ منكلمات كان يقرؤها على غير حقيقتها، أو كان يستبدل أخرى بها ظناً منه أنهيحسِّن النص، أو تعمداً منه في الإساءة إلى النص تبعاً لموقفه من المؤلففي الإيجاب أو السلب.
أماتاريخ بدء التحقيق عند العرب، فاختلف الباحثون في تحديده، ويغلب الظن أنتكون محاولاته الأولى قد بدأت في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر، أوالعشرين. ويبدو أن اختلافهم مآله إلى تباين نظريتهم إلى مفهومهم لمعنىالنشر أو التحقيق. فإذا انحصر معنى النشر في تحويل مخطوط إلى مطبوع، فزمننشر المخطوطات من هذه الزاوية لازم ظهور الطباعة العربية في المشرق العربي(أول مطبعة عربية ظهرت في حلب سنة 1702م، وفي لبنان سنة 1733م. وفي مصرسنة 1821م. وفي العراق وفلسطين سنة 1830م.). وإذا كان النشر يعني تصحيحالأخطاء الإملائية وشرح الغوامض من المعاني واعتماد النسخة الواحدة لمخطوطمتعدد النسخات فزمن نشر التراث العربي يعود إلى القرن التاسع عشر، وإذاكان المقصود اتباع القواعد العلمية الدقيقة في التحقيق، كما عرفها الغربومعظم المستشرقين وبعض المحققين العرب فزمن النشر يكون منذ أوائل هذاالقرن.
وأماعملية طبع الكتب قبل هذا القرن، فلا تستحق تسميتها "محاولات نشر أوتحقيق"، لأنها في الواقع تفتقر إلى الحد الأدنى من أصول النشر، وما طبعقبل هذا القرن هو بحاجة إلى تحقيق، وهو، مع ذلك، يعد خطوة لا مفر منها لأيتراث، ولاشك في أن حافز تلك الخطوة وما أعقبها من محاولات نشر كان ظهورالطباعة.
وحركةإحياء التراث العربي المبنية على أسس ومبادئ علمية بدأت بفهرسة الكثير منالمخطوطات العربية على أيد لبنانية، كما بدأت بتحقيق ونشر بعض هذهالمخطوطات على أيد لبنانية أيضاً، ومن أبرز من عمل على نشر التراث العربينشراً علمياً موثقاً الأب لويس شيخو الذي حقق على سبيل المثال: "تهذيبالألفاظ"، لابن السكيت، و"البلغة في شذور اللغة"، و"حماسة البحتري"، و"شرحديوان الخنساء". "ومن البارزين أيضاً الأب أنطون صالحاني، الذي نشر كتاب"تاريخ مختصر الدول"، لابن العبري، و"ديوان الأخطل"، وغيرهما من النفائسالعربية القديمة، ومن الذين صرفوا حياتهم لإحياء العربية ونصرة تراثهاالأب انستاس ماري الكرملي الذي ولد في بكفيا بلبنان، وعاش في العراق حيثوهب نفسه لخدمة اللغة العربية وآدابها القديمة.
أمافي مصر فيرجع الفضل في اتخاذ الخطوة الأولى في التحقيق والنشر إلى أحمدزكي باشا الذي حقق كتاب "أنساب الخيل"، وكتاب "الأصنام" لابن الكلبي، فكانعمله هذا فاتحة تقدم لجهة تقديم النص وضبطه والتعليق عليه وشرح غامضهوإلحاق الفهارس التحليلية به، واستخدام علامات الترقيم الحديثة.
بعدذلك توالى تحقيق الكتب التراثية في مختلف الأقطار العربية، وخاصة في مصروالعراق وسوريا ولبنان والكويت. وكان توالي ظهور الكتب المحققة علىمستويين: مستوى أفراد، ومستوى هيئات خاصة وعامة.
وهنا،نشير إلى أن مبادرة الباحثين الأفراد في مجال التحقيق كانت أسبق من مبادرةاللجان أو المجالس أو الهيئات الخاصة والعامة. وهذا الأمر أصبح مسلماً بهفي أكثر من مجال، فرأينا أن معظم المخطوطات تحقق على صعيد أفراد، حتى برزتأسماء كثيرة من المحققين، لكن هذه الأسماء ما لبثت أن دخلت في إطار لجانومجامع علمية ومجالس أدبية، وهذا أمر طبيعي، لكن الأسماء ظلت أكثر شهرة منالهيئات، وارتبط تاريخ التحقيق بأسماء أعلام المحققين أكثر من ارتباطهبأسماء المجامع والمجالس واللجان والهيئات.
لكنهؤلاء المحققين لم يطبقوا أصول التحقيق العلمي تطبيقاً دقيقاً، فقدتجاوزوا كثيراً من هذه الأصول على صعيدي النقد الداخلي والنقد الخارجيللمخطوط.
أماحركة التحقيق والنشر على مستوى الهيئات فقد تمثلت فيما قامت به دار الكتبالمصرية من نشر أمهات الكتب العربية وموسوعات التراث، وتجدر الإشارة فيهذا المجال إلى أن هذه الدار أنشئت سنة 1870م. وتأسست المكتبة فيها سنة1876م.
وفيمصر أيضاً أسهمت عدة هيئات بحركة إحياء التراث، فنشرت وزارة الثقافة (مركزتحقيق التراث)، مخطوطات هامة، وشارك المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية فيهذه الحركة، فأنشأ لجنة إحياء التراث الإسلامي التي قامت بنشر عدد من كتبتراث الإسلام، كما شاركت في عملية نشر المخطوطات لجنة التأليف والترجمةوالنشر، ويضاف إلى جميع هذه الهيئات المعهد العلمي الفرنسي بالقاهرةوالمجلس الأعلى للفنون والآداب، وأخيراً معهد المخطوطات العربية الذيأنشأته جامعة الدول العربية بتاريخ 4/4/1946. وقد استهل هذا المعهد أعمالهبوضع بطاقات للمخطوطات المنوي تصويرها، وأعقب ذلك تصوير المخطوطات في كلمن سوريا ولبنان ومصر عام 1947، وفي العام التالي جرى تصوير ما يقرب من/3000/ مخطوط، وفهرسة /15000/ مخطوط من 17 مكتبة خارج الأقطار العربية،واستمرت عمليات التصوير حتى أصبحت مكتبة معهد المخطوطات تضم 25 ألف مخطوطميكرو فيلم.
ومنأطرف ما ذكر عن نشاط المعهد إزاء ما هو مطلوب ماقاله الدكتور عبد الوهابأبو النور في مجلة "الدارة" السعودية (عدد 1 سنة 5 ص196): "وقد أنشئالمعهد منذ ما يزيد على ثلاثين عاماً، وتمكن من تصوير ما يقرب من 18 ألفاًمن المخطوطات، ورغم أن هذه حصيلة طيبة، إذ يقف المعهد في الميدان وحدهتقريباً، إلا أن هذا العدد لا يذكر بالمقارنة مع عدد المخطوطات العربية فيالعالم، وهو يقارب المليونين (يرى غيره أن العدد يقارب الثلاثة ملايين)،ولو استمر المعهد على هذا المعدل فإنه يحتاج لإتمام العمل كله إلى أكثر منثلاثة آلاف سنة.
وفيمجال ذكر الهيئات التي أسهمت في التحقيق والنشر المعهد العلمي الفرنسيبدمشق ووزارة الثقافة والسياحة والإرشاد القومي السورية (إحياء التراثالقديم) ووزارة الإعلام العراقية ودائرة المطبوعات والنشر الكويتية،وأخيراً الجامعات والمجامع العلمية العربية. لكن هذه الهيئات جميعها ماتزال مقصرة جداً عن الحد الأدنى المطلوب، لأن كتل المخطوطات الواجبتحقيقها تستدعي تجنيد طاقات هائلة، وتستوجب النشاط المكثف وليس العملالمتراخي، على الرغم مما نشرته من كتب ومن مجلات تعنى بشؤون التحقيقوالنشر.
أمادور النشر فقد قام تعاملها مع المخطوطات والمحققين ولا يزال قائماً علىمبادئ تجارية في معظم الأحيان، ولعل أصدق ما ذكر عن هذه الدور وعن أصحابهاما قالته الدكتورة بنت الشاطئ: "وأكثر تراثنا الأدبي ما تزال ذخائرمخطوطاته مبعثرة في شتى أنحاء الدنيا، وأكثر ما نشره الناشرون منه كان فيطبعات تجارية سقيمة غير محققة، يرفض المنهج اعتمادها أساساً للدرس، وليستمن الوثائق المعتمدة".
لكنهذه الدور لم تكن تنشر الكتب على مستوى واحد من التحقيق والتوثيق، فثمةالسمين، وثمة الغث، وهناك المحقق المشغول، وهناك السقيم التجاري المشحونبالأخطاء والتصحيف والتحريف.
ولماشعر المحققون الغيارى على التراث أن نشر المخطوطات يتم على غير نهج موحد،وأن كثيراً من المحققين لا يعرفون تماماً أصول التحقيق ومبادئه فيقعون عنحسن نية في أخطاء كثيرة غير جائزة، بادروا إلى وضع قواعد وأصول للتحقيق،وهم يحذون في ذلك حذو المستشرقين الذين سبقوهم في نشر الكثير من أمهاتالكتب العربية نشراً علمياً دقيقاً. وفيما يلي موجز لمحاولات وضع تلكالقواعد والأصول:
سنة1944 تحدث الدكتور محمد مندور بإيجاز عن قواعد نشر النصوص الكلاسيكية فيمقالين ظهرا في مجلة الثقافة (العددان 277 و 280)، ثم نشرهما في كتابه "فيالميزان الجديد".
سنة1949 أصدرت وزارة المعارف المصرية قراراً بتشكيل لجنة من العلماء لنشركتاب "الشفاء" لابن سينا، وقد رسمت هذه اللجنة منهج هذا النشر، وأشرفت علىتنفيذه.
سنة 1951 كلف المجمع العلمي العربي بدمشق لجنة من العلماء، لوضع قواعد عامة تتبع في تحقيق مجلدات تاريخ ابن عساكر.
سنة 1953 نشر الدكتور عبد المنعم ماجد كتابه "مقدمة لدراسة التاريخ الإسلامي"، عقد فيه فصلاً عن تحقيق النص القديم.
سنة1954 نشر الأستاذ عبد السلام محمد هارون كتيباً يقع في 93 صفحة دون نماذجالخط والفهارس، وهو بعنوان: "تحقيق النصوص ونشرها"، قال فيه مؤلفوه أنه:"ثمرة كفاح طويل وجهاد صادق، وتجارب طال عليها المدى في نشر النصوصالقديمة".
سنة1955 نشر الدكتور صلاح الدين المنجد مقالاً عن "قواعد تحقيق المخطوطات"،في مجلة معهد المخطوطات العربية (مجلد 2 جزء 2 سنة 1955 ص 317 ـ 337). ثمظهر هذا المقال في كتيب مستقل مؤلف من 30 صفحة.
سنة1969 قام الدكتور محمد حمدي البكري بإعداد ونشر محاضرات المستشرقبراجستراسر الذي ألقاها بجامعة القاهرة خلال فترة (1931 ـ 1932) بعنوان:"أصول نقد النصوص ونشر الكتب".
سنة 1970 عالج الدكتور علي جواد الطاهر مبادئ التحقيق في كتابه: "منهج البحث الأدبي".
سنة 1971 تناولت الدكتورة بنت الشاطئ مبادئ التحقيق في كتابها: "مقدمة في المنهج".
سنة 1972 عقد الدكتور شوقي ضيف فصلاً عن توثيق النصوص وتحقيقها في كتابه "البحث الأدبي".
سنة 1972 عقد الدكتور نور الدين عتر فصلاً عن التحقيق في كتابه: "منهج النقد في علوم الحديث".
سنة 1974 نشر محمد علي الحسيني ضمن كتابه "دراسات وتحقيقات"، أمالي المرحوم الدكتور مصطفى جواد في أصول التحقيق.
سنة 1975 نشر الدكتوران نوري حمودي القيسي وسامي مكي العاني كتابهما، وهو بعنوان: "منهج تحقيق النصوص ونشرها".
سنة 1977 عقد الدكتور عبد الرحمن عميرة باباً لتحقيق المخطوطات في كتابه "أضواء على البحث والمصادر".
سنة1977 نشر الدكتور محمد طه الحاجري مقالاً في مجلة "عالم الفكر"، الكويتية(مجلد 8، عدد1)، بعنوان: "تحقيق التراث: تاريخاً ومنهجاً".
سنة 1979 نشر أحمد الجندي مقالاً في "المجلة العربية" السعودية، بعنوان: "تحقيق التراث".
سنة 1979 نشر الدكتور عبد الوهاب أبو النور مقالاً في مجلة "الدارة" السعودية عدد 1 سنة 5 بعنوان: "قضية التراث".
سنة1980 ألقى الدكتور حسين نصار بحثاً بعنوان: "منهج تحقيق التراث العربيوقواعد نشره"، في الندوة الأولى عن التراث التي عقدت في القاهرة.
سنة 1982 نشر الدكتور بشار عواد معروف كتيباً بعنوان: "ضبط النص والتعليق عليه".
سنة 1982 نشر الدكتور عبد الهادي الفضلي كتاباً بعنوان: "تحقيق التراث" نشرته مكتبة العلم بجدة، السعودية.
وأخيراًيجب أن نشير إلى أن المستشرقين بلاشير وسوفاجيه أخرجا كتيباً بالفرنسيةبعنوان: "قواعد لنشر النصوص وترجمتها"، وذلك سنة 1945 ولم يترجم إلىالعربية حتى اليوم مع أنه مخصص للمخطوطات العربية بالذات.
وقدكان لي نصيب متواضع في هذا المجال، إذ وضعت كتاباً سنة 1981 بعنوان :"المخطوطات العربية: تاريخها وأصول تحقيقها"، يقع في 620 صفحة وهو قيدالطبع حالياً.
إنجميع هذه المحاولات الدائبة لوضع مبادئ وقواعد للتحقيق لم تتوصل إلى خلقتيار ضاغط على جميع المحققين ليجروا في مجراه، إذ أن نشر المخطوطات لايزال يتم حالياً وفق ما يرتئيه كل محقق، فالاختلاف في المنهج بين محققومحقق قائم، والجدية والجَلد والتروي والتجرد والتقصي والحذر والشكوالتدقيق والتثبت والتمكن من اللغة في مختلف علومها، والاطلاع الواسعالعميق، وسائر الصفات الواجب توفرها في المحقق تتفاوت بين المحققين،ويتفاوت بالتالي مستوى التحقيق بين كتاب وآخر، وحتى في الكتاب الواحد إذاحققه أكثر من محقق.
إنوضع قواعد التحقيق وأساليب النشر يعني العمل على إنشاء علم التحقيقوإعطائه الاستقلالية المميزة له عن سائر العلوم مع استمرار خاصيته فيالارتباط الوثيق بتلك العلوم.
وتوضيحاًلهذا العلم، نورد التحديد العام المتواضع عليه بين جمهور المحققين فنقولإن التحقيق علم وفن يراد بهما إخراج النص المراد نشره كما وضعه مؤلفهتماماً وارتضاه لنفسه نهائياً، دون التعليقات والشروح المثبتة على هوامشالنص. والكتاب المحقق: هو الذي صح عنوانه، واسم مؤلفه، ونسبة الكتاب إليه،وكان متنه مطابقاً للصورة التي تركها مؤلفه أو أقرب ما يكون إليها(Constitus textus).
ولايخفى أن بلوغ جميع هذه الغايات أو الحقائق يتطلب الكثير من المعارفوالخبرات، ويستوجب تعمقاً وتفهماً دقيقين لمبادئ التحقيق وأصول النشر،فعسى المحققين يتسلحون بكل ذلك، لينقلوا إلى العالم العربي والعالم كلهذخائر التراث العربي بأمانة وموضوعية يفرضهما العلم والحق.
بيروت في 10/10/1984
د.جورج ميخائيل كرباج
أستاذ الأدب العربي في الجامعة اللبنانية
يقيممعهد التراث العلمي العربي في جامعة حلب وبالتعاون مع محافظة الرقةالمؤتمر السنوي التاسع لتاريخ العلوم عند العرب ويحتفل خلال انعقادالمؤتمر بمرور عشرة قرون على وفاة العالم العربي الرقي "أبي عبد اللهالبتاني" يومي الأربعاء والخميس 24 ـ 25 نيسان 1985م. في مدينة الرقة.
awu-dam.org/trath/18/turath18-010.htm
التراث العَربي المخطوط بين ماضيه وَحَاضِره ـــ د.جورج ميخائيل كرباج
لمتعرف البشرية، عبر تاريخها القديم، أمة غنية بإنتاجها المخطوط، وشغوفةبالعلم والمعرفة، وحريصة على اقتناء الكتب مثلما عرفت أمة العرب. فقد قدمتهذه الأمة من المعارف والعلوم والفنون، من خلال مصنفاتها الغزيرة، ما يدعوفعلاً إلى العجب والإعجاب، ويلقي على كواهل الجيل العربي المعاصر مسؤولياتضخمة حيال إحياء هذه المصنفات، فهل تتساعد هذه الكواهل فيما بينها لتنهضبتلك المسؤوليات، أم تظل متناحرة متنافرة، أو مهملة سادرة، فتترك ثروةالأجداد تتكفن أكثر فأكثر بغبار الإهمال، وتتدثر بدثار النسيان، وتندثرتحت عوادي الزمان والإنسان؟...
قديبدو من المفيد والمثير معاً أن نكشف عن بريق تلك الثروة المخطوطةالهائلة، ليرى الكثيرون قيمة تلك الثروة ومدى الجهد والجَلد والوقت الذيصرفه المصنفون العرب القدامى في سبيل تحقيقها. وليتحسسوا جيداً مدىالتقصير والإهمال وسوء المعاملة التي لقيها ويلقاها التراث العربي المخطوطعلى أيدي وارثيه.
يقدرالمشتغلون بالتراث عدد المخطوطات بحوالي ثلاثة ملايين مخطوطة متبقية حتىالآن من أصل بضعة ملايين كتبها العرب منذ لجوئهم إلى التدوين في القرنالهجري الأول وحتى بعيد ظهور الطباعة.
وأننانتساءل مع الدكتور صلاح الدين المنجد: كم يكون عدد المصنفات العربيةالمخطوطة لو وصلت إلينا كاملة قبل الفتن والثورات والحروب، وقبل الجهلالذي أصابنا بضعة قرون؟... إن لدينا اليوم ثلاثة ملايين مخطوطة يمكننا أننسقط مليوناً منها على أنه مكرر، فقد يوجد من الكتاب نسختان أو عشر نسخ،ويمكننا أن نسقط مليوناً آخر على أنه ذو قيمة ضئيلة، لا أصالة فيه قائمعلى النقل من الكتب التي ألفت من قبل. يبقى عندنا مليون كتاب فيها خلاصةالحضارة العربية في مختلف ألوانها ووجوهها، من القرن الثامن إلى السابععشر. هل تستطيعون أن تتصوروا كم يقدم هذا المليون من المخطوطات منالأفكار؟ لو قدم كل كتاب فكرة واحدة أصيلة لكان لدينا مليون فكرة وهذا شيءضخم.
إنتقديرنا لعدد المخطوطات، هو، بالطبع، تقدير غير دقيق تماماً، والعاملون فيحقل التحقيق ونشر الكتب مختلفون في عدد المخطوطات العربية الباقية، لكنهذا العدد لا ينقص عن المليونين، وليس بمقدور أحد حتى الآن أن يحددهتحديداً مطابقاً أو ملاصقاً للواقع، لأن هذه المخطوطات لم تفهرس جميعاً،فهناك الكثير من مكتبات العالم لم تفهرس فيها المخطوطات العربية، وهناكمكتبات المساجد والأديرة والمكتبات الخاصة التي تضم مخطوطات عربية لا يعرفعددها، لذلك، فالتقدير يفتقر إلى الإحصاء، وهو بالتالي يستدعي القيام بمثلهذا الإحصاء الشامل، تنفذه أجهزة متمكنة على صعيدي الكفاءة والإمكانياتالمادية، وعلى مستوى جميع الدول العربية.
وأمانسبة ما طبع من مخطوطات عربية فلم تتعد: "جزءاً من عُشر مجموعه"، كما يقولالبعض، وهي على قول البعض الآخر: "ضئيلة جداً بالقياس إلى عددالمخطوطات".
والحقيقةأن الحديث في هذا المجال لا يمكن أن يؤتي ثماراً، لأن المخطوطات مجهولةالعدد، وكذلك المطبوعات، فكما أن التقصير والإهمال حاصلان في إحصاءالمخطوطات فهما أيضاً حاصلان في إحصاء المطبوعات.
ومعما لفهرسة المخطوطات من أهمية بالغة في تحديد حجم تلك المخطوطات، وفيتحديد أماكنها، وفي تسهيل عمل المحققين، وفي تجنب نشر مخطوطات لا تستندإلى جميع نسخها، ومع ما لفهرسة المطبوعات من دور فعال في معرفة المخطوطاتالمطبوعة، تجنباً لتكرار نشر المخطوطات غير مرة وخاصة إذا كان النشرمتسماً بالدقة والأمانة ومتبعاً أصول التحقيق وقواعد النشر، فإن عمليةإحياء التراث يجب أن تستمر، والكنوز الدفينة يجب أن ترى النور دون أن يقفعدم فهرسة المخطوطات والمطبوعات عائقاً مانعاً أمام المحققين، بالرغم منالمتاعب والمحاذير. ولو كانت للعرب خطة تتسم بالمنهجية والتنسيق المتكامللوضعوا سلم أولويات للوسائل الواجب اعتمادها توصلاً إلى نشر التراث العربيالمخطوط، فبدؤوا بفهرسة المخطوطات العربية فهرسة مركزية بمعنى أن هذهالفهرسة تزود المحقق بجميع المعلومات التفصيلية الخاصة بكل مخطوطة (عنوانالمخطوطة، اسم المؤلف، عدد نسخ المخطوطة، أماكن وجود كل منها، أرقامتصنيفها، اسم ناسخ كل منها، تاريخ النسخ....)، تلي ذلك فهرسة المخطوطاتالعربية المطبوعة فهرسة مركزية أيضاً تزود المحقق بالمعلومات الكافية عنكل مخطوطة مطبوعة (اسم المحقق أو المحققين، مكان وتاريخ الطبع، رقمالطبعة..).
وهكذا،لا يُقدِم المحقق على تحقيق المخطوط إذا عرف أن غيره سبقه إلى تحقيقهتحقيقاً علمياً، أو إذا عرف أيضاً أن هناك نسخاً خطية أخرى للمخطوط غيرتلك التي يعرفها أو هي بين يديه. وبهذا، لا تظهر كتب محققة غير مرة وفيغير بلد عربي أو أجنبي، ولا يهدر الجهد والوقت سدى، كذلك، لا يضطر المحققإلى أن يعيد تحقيق الكتاب مرة ثانية إذا فوجئ بظهور نسخ خطية إضافية علىجانب كبير من الأهمية، وإن حدث ذلك فسيكون نادراً بفضل توفر الفهرسةالمركزية للمخطوطات العربية التي من شأنها إرشاده إلى أماكن جميع النسخ،باستثناء النسخ التي يملكها أفراد يسكتون عن ذكرها، ولا تظهر إلا تحت ظروفوسوانح.
إننشر المخطوطات لا يمكن أن يكون علمياً وموضع ثقة، إلا إذا اعتمد المحققالأصول والقواعد المتبعة في التحقيق والنشر. لأن استبدال حروف المطبعةبحروف الناسخ لا يعني إطلاقاً أن الناشر كان أميناً على نصر المؤلف، ويبدووهم الناشر في ذلك من خلال مايمكن أن يقحمه الناسخ من كلام دخيل على نصالمؤلف أو من خلال ما يسقطه من كلام المؤلف أو من خلال ما يشوهه الناسخ منكلمات كان يقرؤها على غير حقيقتها، أو كان يستبدل أخرى بها ظناً منه أنهيحسِّن النص، أو تعمداً منه في الإساءة إلى النص تبعاً لموقفه من المؤلففي الإيجاب أو السلب.
أماتاريخ بدء التحقيق عند العرب، فاختلف الباحثون في تحديده، ويغلب الظن أنتكون محاولاته الأولى قد بدأت في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر، أوالعشرين. ويبدو أن اختلافهم مآله إلى تباين نظريتهم إلى مفهومهم لمعنىالنشر أو التحقيق. فإذا انحصر معنى النشر في تحويل مخطوط إلى مطبوع، فزمننشر المخطوطات من هذه الزاوية لازم ظهور الطباعة العربية في المشرق العربي(أول مطبعة عربية ظهرت في حلب سنة 1702م، وفي لبنان سنة 1733م. وفي مصرسنة 1821م. وفي العراق وفلسطين سنة 1830م.). وإذا كان النشر يعني تصحيحالأخطاء الإملائية وشرح الغوامض من المعاني واعتماد النسخة الواحدة لمخطوطمتعدد النسخات فزمن نشر التراث العربي يعود إلى القرن التاسع عشر، وإذاكان المقصود اتباع القواعد العلمية الدقيقة في التحقيق، كما عرفها الغربومعظم المستشرقين وبعض المحققين العرب فزمن النشر يكون منذ أوائل هذاالقرن.
وأماعملية طبع الكتب قبل هذا القرن، فلا تستحق تسميتها "محاولات نشر أوتحقيق"، لأنها في الواقع تفتقر إلى الحد الأدنى من أصول النشر، وما طبعقبل هذا القرن هو بحاجة إلى تحقيق، وهو، مع ذلك، يعد خطوة لا مفر منها لأيتراث، ولاشك في أن حافز تلك الخطوة وما أعقبها من محاولات نشر كان ظهورالطباعة.
وحركةإحياء التراث العربي المبنية على أسس ومبادئ علمية بدأت بفهرسة الكثير منالمخطوطات العربية على أيد لبنانية، كما بدأت بتحقيق ونشر بعض هذهالمخطوطات على أيد لبنانية أيضاً، ومن أبرز من عمل على نشر التراث العربينشراً علمياً موثقاً الأب لويس شيخو الذي حقق على سبيل المثال: "تهذيبالألفاظ"، لابن السكيت، و"البلغة في شذور اللغة"، و"حماسة البحتري"، و"شرحديوان الخنساء". "ومن البارزين أيضاً الأب أنطون صالحاني، الذي نشر كتاب"تاريخ مختصر الدول"، لابن العبري، و"ديوان الأخطل"، وغيرهما من النفائسالعربية القديمة، ومن الذين صرفوا حياتهم لإحياء العربية ونصرة تراثهاالأب انستاس ماري الكرملي الذي ولد في بكفيا بلبنان، وعاش في العراق حيثوهب نفسه لخدمة اللغة العربية وآدابها القديمة.
أمافي مصر فيرجع الفضل في اتخاذ الخطوة الأولى في التحقيق والنشر إلى أحمدزكي باشا الذي حقق كتاب "أنساب الخيل"، وكتاب "الأصنام" لابن الكلبي، فكانعمله هذا فاتحة تقدم لجهة تقديم النص وضبطه والتعليق عليه وشرح غامضهوإلحاق الفهارس التحليلية به، واستخدام علامات الترقيم الحديثة.
بعدذلك توالى تحقيق الكتب التراثية في مختلف الأقطار العربية، وخاصة في مصروالعراق وسوريا ولبنان والكويت. وكان توالي ظهور الكتب المحققة علىمستويين: مستوى أفراد، ومستوى هيئات خاصة وعامة.
وهنا،نشير إلى أن مبادرة الباحثين الأفراد في مجال التحقيق كانت أسبق من مبادرةاللجان أو المجالس أو الهيئات الخاصة والعامة. وهذا الأمر أصبح مسلماً بهفي أكثر من مجال، فرأينا أن معظم المخطوطات تحقق على صعيد أفراد، حتى برزتأسماء كثيرة من المحققين، لكن هذه الأسماء ما لبثت أن دخلت في إطار لجانومجامع علمية ومجالس أدبية، وهذا أمر طبيعي، لكن الأسماء ظلت أكثر شهرة منالهيئات، وارتبط تاريخ التحقيق بأسماء أعلام المحققين أكثر من ارتباطهبأسماء المجامع والمجالس واللجان والهيئات.
لكنهؤلاء المحققين لم يطبقوا أصول التحقيق العلمي تطبيقاً دقيقاً، فقدتجاوزوا كثيراً من هذه الأصول على صعيدي النقد الداخلي والنقد الخارجيللمخطوط.
أماحركة التحقيق والنشر على مستوى الهيئات فقد تمثلت فيما قامت به دار الكتبالمصرية من نشر أمهات الكتب العربية وموسوعات التراث، وتجدر الإشارة فيهذا المجال إلى أن هذه الدار أنشئت سنة 1870م. وتأسست المكتبة فيها سنة1876م.
وفيمصر أيضاً أسهمت عدة هيئات بحركة إحياء التراث، فنشرت وزارة الثقافة (مركزتحقيق التراث)، مخطوطات هامة، وشارك المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية فيهذه الحركة، فأنشأ لجنة إحياء التراث الإسلامي التي قامت بنشر عدد من كتبتراث الإسلام، كما شاركت في عملية نشر المخطوطات لجنة التأليف والترجمةوالنشر، ويضاف إلى جميع هذه الهيئات المعهد العلمي الفرنسي بالقاهرةوالمجلس الأعلى للفنون والآداب، وأخيراً معهد المخطوطات العربية الذيأنشأته جامعة الدول العربية بتاريخ 4/4/1946. وقد استهل هذا المعهد أعمالهبوضع بطاقات للمخطوطات المنوي تصويرها، وأعقب ذلك تصوير المخطوطات في كلمن سوريا ولبنان ومصر عام 1947، وفي العام التالي جرى تصوير ما يقرب من/3000/ مخطوط، وفهرسة /15000/ مخطوط من 17 مكتبة خارج الأقطار العربية،واستمرت عمليات التصوير حتى أصبحت مكتبة معهد المخطوطات تضم 25 ألف مخطوطميكرو فيلم.
ومنأطرف ما ذكر عن نشاط المعهد إزاء ما هو مطلوب ماقاله الدكتور عبد الوهابأبو النور في مجلة "الدارة" السعودية (عدد 1 سنة 5 ص196): "وقد أنشئالمعهد منذ ما يزيد على ثلاثين عاماً، وتمكن من تصوير ما يقرب من 18 ألفاًمن المخطوطات، ورغم أن هذه حصيلة طيبة، إذ يقف المعهد في الميدان وحدهتقريباً، إلا أن هذا العدد لا يذكر بالمقارنة مع عدد المخطوطات العربية فيالعالم، وهو يقارب المليونين (يرى غيره أن العدد يقارب الثلاثة ملايين)،ولو استمر المعهد على هذا المعدل فإنه يحتاج لإتمام العمل كله إلى أكثر منثلاثة آلاف سنة.
وفيمجال ذكر الهيئات التي أسهمت في التحقيق والنشر المعهد العلمي الفرنسيبدمشق ووزارة الثقافة والسياحة والإرشاد القومي السورية (إحياء التراثالقديم) ووزارة الإعلام العراقية ودائرة المطبوعات والنشر الكويتية،وأخيراً الجامعات والمجامع العلمية العربية. لكن هذه الهيئات جميعها ماتزال مقصرة جداً عن الحد الأدنى المطلوب، لأن كتل المخطوطات الواجبتحقيقها تستدعي تجنيد طاقات هائلة، وتستوجب النشاط المكثف وليس العملالمتراخي، على الرغم مما نشرته من كتب ومن مجلات تعنى بشؤون التحقيقوالنشر.
أمادور النشر فقد قام تعاملها مع المخطوطات والمحققين ولا يزال قائماً علىمبادئ تجارية في معظم الأحيان، ولعل أصدق ما ذكر عن هذه الدور وعن أصحابهاما قالته الدكتورة بنت الشاطئ: "وأكثر تراثنا الأدبي ما تزال ذخائرمخطوطاته مبعثرة في شتى أنحاء الدنيا، وأكثر ما نشره الناشرون منه كان فيطبعات تجارية سقيمة غير محققة، يرفض المنهج اعتمادها أساساً للدرس، وليستمن الوثائق المعتمدة".
لكنهذه الدور لم تكن تنشر الكتب على مستوى واحد من التحقيق والتوثيق، فثمةالسمين، وثمة الغث، وهناك المحقق المشغول، وهناك السقيم التجاري المشحونبالأخطاء والتصحيف والتحريف.
ولماشعر المحققون الغيارى على التراث أن نشر المخطوطات يتم على غير نهج موحد،وأن كثيراً من المحققين لا يعرفون تماماً أصول التحقيق ومبادئه فيقعون عنحسن نية في أخطاء كثيرة غير جائزة، بادروا إلى وضع قواعد وأصول للتحقيق،وهم يحذون في ذلك حذو المستشرقين الذين سبقوهم في نشر الكثير من أمهاتالكتب العربية نشراً علمياً دقيقاً. وفيما يلي موجز لمحاولات وضع تلكالقواعد والأصول:
سنة1944 تحدث الدكتور محمد مندور بإيجاز عن قواعد نشر النصوص الكلاسيكية فيمقالين ظهرا في مجلة الثقافة (العددان 277 و 280)، ثم نشرهما في كتابه "فيالميزان الجديد".
سنة1949 أصدرت وزارة المعارف المصرية قراراً بتشكيل لجنة من العلماء لنشركتاب "الشفاء" لابن سينا، وقد رسمت هذه اللجنة منهج هذا النشر، وأشرفت علىتنفيذه.
سنة 1951 كلف المجمع العلمي العربي بدمشق لجنة من العلماء، لوضع قواعد عامة تتبع في تحقيق مجلدات تاريخ ابن عساكر.
سنة 1953 نشر الدكتور عبد المنعم ماجد كتابه "مقدمة لدراسة التاريخ الإسلامي"، عقد فيه فصلاً عن تحقيق النص القديم.
سنة1954 نشر الأستاذ عبد السلام محمد هارون كتيباً يقع في 93 صفحة دون نماذجالخط والفهارس، وهو بعنوان: "تحقيق النصوص ونشرها"، قال فيه مؤلفوه أنه:"ثمرة كفاح طويل وجهاد صادق، وتجارب طال عليها المدى في نشر النصوصالقديمة".
سنة1955 نشر الدكتور صلاح الدين المنجد مقالاً عن "قواعد تحقيق المخطوطات"،في مجلة معهد المخطوطات العربية (مجلد 2 جزء 2 سنة 1955 ص 317 ـ 337). ثمظهر هذا المقال في كتيب مستقل مؤلف من 30 صفحة.
سنة1969 قام الدكتور محمد حمدي البكري بإعداد ونشر محاضرات المستشرقبراجستراسر الذي ألقاها بجامعة القاهرة خلال فترة (1931 ـ 1932) بعنوان:"أصول نقد النصوص ونشر الكتب".
سنة 1970 عالج الدكتور علي جواد الطاهر مبادئ التحقيق في كتابه: "منهج البحث الأدبي".
سنة 1971 تناولت الدكتورة بنت الشاطئ مبادئ التحقيق في كتابها: "مقدمة في المنهج".
سنة 1972 عقد الدكتور شوقي ضيف فصلاً عن توثيق النصوص وتحقيقها في كتابه "البحث الأدبي".
سنة 1972 عقد الدكتور نور الدين عتر فصلاً عن التحقيق في كتابه: "منهج النقد في علوم الحديث".
سنة 1974 نشر محمد علي الحسيني ضمن كتابه "دراسات وتحقيقات"، أمالي المرحوم الدكتور مصطفى جواد في أصول التحقيق.
سنة 1975 نشر الدكتوران نوري حمودي القيسي وسامي مكي العاني كتابهما، وهو بعنوان: "منهج تحقيق النصوص ونشرها".
سنة 1977 عقد الدكتور عبد الرحمن عميرة باباً لتحقيق المخطوطات في كتابه "أضواء على البحث والمصادر".
سنة1977 نشر الدكتور محمد طه الحاجري مقالاً في مجلة "عالم الفكر"، الكويتية(مجلد 8، عدد1)، بعنوان: "تحقيق التراث: تاريخاً ومنهجاً".
سنة 1979 نشر أحمد الجندي مقالاً في "المجلة العربية" السعودية، بعنوان: "تحقيق التراث".
سنة 1979 نشر الدكتور عبد الوهاب أبو النور مقالاً في مجلة "الدارة" السعودية عدد 1 سنة 5 بعنوان: "قضية التراث".
سنة1980 ألقى الدكتور حسين نصار بحثاً بعنوان: "منهج تحقيق التراث العربيوقواعد نشره"، في الندوة الأولى عن التراث التي عقدت في القاهرة.
سنة 1982 نشر الدكتور بشار عواد معروف كتيباً بعنوان: "ضبط النص والتعليق عليه".
سنة 1982 نشر الدكتور عبد الهادي الفضلي كتاباً بعنوان: "تحقيق التراث" نشرته مكتبة العلم بجدة، السعودية.
وأخيراًيجب أن نشير إلى أن المستشرقين بلاشير وسوفاجيه أخرجا كتيباً بالفرنسيةبعنوان: "قواعد لنشر النصوص وترجمتها"، وذلك سنة 1945 ولم يترجم إلىالعربية حتى اليوم مع أنه مخصص للمخطوطات العربية بالذات.
وقدكان لي نصيب متواضع في هذا المجال، إذ وضعت كتاباً سنة 1981 بعنوان :"المخطوطات العربية: تاريخها وأصول تحقيقها"، يقع في 620 صفحة وهو قيدالطبع حالياً.
إنجميع هذه المحاولات الدائبة لوضع مبادئ وقواعد للتحقيق لم تتوصل إلى خلقتيار ضاغط على جميع المحققين ليجروا في مجراه، إذ أن نشر المخطوطات لايزال يتم حالياً وفق ما يرتئيه كل محقق، فالاختلاف في المنهج بين محققومحقق قائم، والجدية والجَلد والتروي والتجرد والتقصي والحذر والشكوالتدقيق والتثبت والتمكن من اللغة في مختلف علومها، والاطلاع الواسعالعميق، وسائر الصفات الواجب توفرها في المحقق تتفاوت بين المحققين،ويتفاوت بالتالي مستوى التحقيق بين كتاب وآخر، وحتى في الكتاب الواحد إذاحققه أكثر من محقق.
إنوضع قواعد التحقيق وأساليب النشر يعني العمل على إنشاء علم التحقيقوإعطائه الاستقلالية المميزة له عن سائر العلوم مع استمرار خاصيته فيالارتباط الوثيق بتلك العلوم.
وتوضيحاًلهذا العلم، نورد التحديد العام المتواضع عليه بين جمهور المحققين فنقولإن التحقيق علم وفن يراد بهما إخراج النص المراد نشره كما وضعه مؤلفهتماماً وارتضاه لنفسه نهائياً، دون التعليقات والشروح المثبتة على هوامشالنص. والكتاب المحقق: هو الذي صح عنوانه، واسم مؤلفه، ونسبة الكتاب إليه،وكان متنه مطابقاً للصورة التي تركها مؤلفه أو أقرب ما يكون إليها(Constitus textus).
ولايخفى أن بلوغ جميع هذه الغايات أو الحقائق يتطلب الكثير من المعارفوالخبرات، ويستوجب تعمقاً وتفهماً دقيقين لمبادئ التحقيق وأصول النشر،فعسى المحققين يتسلحون بكل ذلك، لينقلوا إلى العالم العربي والعالم كلهذخائر التراث العربي بأمانة وموضوعية يفرضهما العلم والحق.
بيروت في 10/10/1984
د.جورج ميخائيل كرباج
أستاذ الأدب العربي في الجامعة اللبنانية
يقيممعهد التراث العلمي العربي في جامعة حلب وبالتعاون مع محافظة الرقةالمؤتمر السنوي التاسع لتاريخ العلوم عند العرب ويحتفل خلال انعقادالمؤتمر بمرور عشرة قرون على وفاة العالم العربي الرقي "أبي عبد اللهالبتاني" يومي الأربعاء والخميس 24 ـ 25 نيسان 1985م. في مدينة الرقة.
awu-dam.org/trath/18/turath18-010.htm