فلسفة : العلم بين الحقيقة والنّمذجة (تحقيق محمّدعلي كسيرة)
فلسفة : العلم بين الحقيقة والنّمذجة (تحقيق محمّدعلي كسيرة)
قبل الشّروع في قراءةهذه الدّراسة ينبغي علينا الاطّلاع على برنامج وتوجيهات المحورالعلم بينالحقيقة والنّمذجة قصد الاستفادة من هذه الدّراسة وفق متطلّبات المحور:
II- العلم بين الحقيقة والنّمذجة :
1- أبعاد النّمذجة
أ - البعد التّركيبي
الأكسمة – البنية – التّرييض – الصّورنة
ب – البعد الدّلالي
الافتراضي – القانون - الملائم - النّظريّة - الواقعي.
ج – البعد التّداولي
التّفسير – التّحقيق – الفهم – النّجاعة.
2- النّمذجة ومطلب الحقيقة
أ- الحدود الابستيمولوجيّة
الاختزاليّة – التّاريخيّة – الأنظمة التّقنيّة.
ب – الحدود الفلسفيّة
الحقيقة – المسؤوليّة – المعنى.
تتمحورهذه المسألة حول النّمذجة العلميّة باعتبارها التّمشّي المشترك بين مختلفالحقول العلميّة والمميّز لها عن أشكال الخطاب الأخرى، وتتعلّق بمنزلةالنّموذج العلميّ المزدوجة بين انشداده إلى مرجع خارجي عنه وسعيه إلى بناءواقع مستحدث، أي بين ضرورة تلزم النّموذج، ومواضعة موسومة بالتّعدّدوالنّسبية.
ذلك ما يبرّر تفصيل القول في النّمذجة العلميّة علىجهات ثلاث (تركيبيّة ودلاليّة وتداوليّة) تتصادى مع توتّرات ايبستمولوجيّةثلاثة :
- توتّر بين تمثيل الظّواهر باللّغة الطّبيعيّة وتمثيلها بواسطة أنظمة رمزيّة اصطناعيّة.
- توتّر بين معطيات التّجربة العيانيّة ومقتضيات الإنشاءات التّجريديّة.
- توتّر بين معرفة نظريّة مطلوبة لذاتها وإرادة نجاعة التّحكّم في الظّواهر.
إنّمقاربة الممارسة العلميّة بواسطة النّمذجة تتيح لنا قراءة نقديّة للإنتاجالمعرفيّ العلميّ تمكّن من تجاوز تشتّت حقوله، ومن تقصّي حدودهالايبستيمولوجيّة والفلسفيّة.
-----------------------------------الدّراسة المنقولة---------------------------------------------
النمذجة وآفاق التنظير في الخطاب النقدي الحديث
-------------------
هذه الدّراسة منقولة -تحقيق ومطالعة -الأستاذ محمّد علي كسيرة -
1 - النمذجة وبناء النماذج:
1.1- مفهوم النموذج:
لقداكتسب مصطلح النموذج (Modèle) "حمولة منهجية واسعة في الدلالة على كلالأشكال والإنتاجات المنذورة لخدمة مرامي المعرفة"(1). ويذهب "H. Wermus"(1983) إلى استبعاد العلاقة المباشرة التي يمكن افتراض نشوتها بين النموذجوالمجال الواقعي إذ ما يميز النموذج بوجه خاص هو كونه بناءا(Construction) يصاغ في الغالب من بعض الخواص المنتقاة من الواقع. ويتمذلك بسند (ضمني) من نظرية مسبقة قد تكون ساذجة. وعلى غرار ذلك فإن الفكرالتنظيري (P. Théorisante) أو الصوري، يستعيض عن "الفكر" كما هو، بهندسةمفهومية معينة تنطلق من اللغات والمكونات الأخرى (الرمزية) لتؤسس، مع ذلك،أنسقة متنوعة وذات طاقة تعبيرية هائلة. والمفروض في النظرية تمثيل وشرحواشتقاق الوقائع من النموذج المعطى بل العمل على إثرائه بعلاقات جديدةواحتوائه ضمن الاتجاه الذي ينحو إليه البحث العلمي. وثمة وفرة منالإجراءات الخاصة لتأسيس النماذج والنظريات تظل بالضرورة وفي مجموعها،مجالا يوظف فيه الباحث-بصورة غالبا ما تكون ضمنية-كفاءته وإبداعيتهونوازعه(2). فالعلاقة الناهضة إذن بين النموذج والعالم الخارجي، أي شكلالخطاب (التمثيل الخطاطي R. Schématique) الذي ينتجه والذي يحدد بشبكةعلاقاته الداخلية نوعية ودينامية الروابط الممكنة مع موضوعه الخارجي.
ويلزم عن هذا التحديد، ضرورة التمييز بين نمطين أساسيين من النماذج:
أ - النموذج المادي: ويؤسس بالاستناد على المعطيات التجريبية للموضوع.
أ.أ-النموذج النظري: ويسمح-انطلاقا من نموذج الموضوع- بصياغة نظرية معينة تجعلمن الظاهرة المدروسة ظاهرة أكثر عمومية وشمولية، محجوجة ومسنودة بالتجربةمع فسح المجال أكثر لتعدد الفرضيات (Hypothèses) التي قد تتيح إمكانيةتجاوزها(3). لكننا نذهب إلى وجود نوع من النماذج النظرية القابلة للتعديلوالمراجعة في ضوء التشكيلات النظرية النقيضة. فأهميتها الإجرائية تكمنبالنسبة إلى "الخطابات النقدية الشارحة" في كونها تناقح أساسا عن طبيعتهاالنظرية عبر خرق ما يسمى بالامتحان التجريبي أو معياري المقبوليةواللامقبولية المصوغين في نطاق التجريبية المنطقية والوضعية المحدثة.
وبعبارةأخرى فالذي يحدد فاعلية هذا النمط النموذجي يتمثل بوجه خاص في أسلوبمقاربته للمشاكل المطروحة. وليس هذا ما يميز النموذج النظري وحده في سيرهنحو تحسين كيانه، فالأهمية الاستراتيجية للعلم نفسه في تصور Larry Laudanتكمن بالأساس في اقتراحه حلولا ناجعة لمشاكل مطروحة بحيث تشكل هذهافعالية، سواء أكانت متعلقة بمشاكل تجريبية أم مفهومية، وحدة قاعيدة فيمسار تبلوره وتقدمه(4). ولذلك تنحو النماذج النظرية هذا المنحى بما ينتصبعاملا محددا ومترجما لقدراتها الإجرائية-التداولية.
إن تطلبالتجريبية للشرط التجريبي اكتنف أيضا حدها للنموذج ذاته. فالنماذج عند(Jean-Pierre Changeux) لا تعدو كونها "تمثيلات مبسطة ومصورنة عن الواقعالخارجي يقترحها رجل المعرفة العلمية ويقارنها به (أي بالواقع) عن طريقالتجربة، جاهدا في البرهنة على صلاحيتها بالارتكاز على "معايير صريخة وذاتصبغة بتية"(5). وهو مفهوم نلحظه عند غريماس وكورتيس (1979) اللذين يشترطانفي لنماذج مطابقة مزدوجة: مكابقة للنظرية (استنباط) ومطابقة للمعطياتالتجريبية (إثبات VS تفنيد) [ فقرة التصور الغريماسي للنمذجة رقم 1-3-1].
ونظرالما يستلزمه الأساس التجريبي، رغم كونه خارجا عن مقاصد النموذج التكوينيالذي سنقترحه لاحقا من وقفة إبستمولوجية متأنية، فقد وزعنا هذا القسمالمنهجي إلى الفقرات التالية:
ا-مشكلة النمذجة من خلال منظوري روني طوم وبتيتو كوكوردا.
اا-التصور الغريماسي للنمذجة
ااا-النمذجة في نظرية الأدب.
علىأن إدراج الفقرة (ااا) إنما يرد في سياق التمثيل ما أثمرته بعض النماذجالنظرية-النقدية المتاخمة للخطابات العملية والإبستمولوجية المعاصرة منالتساؤلات جوهرية تمس في الصميم قضية إيجاد نموذج تحليلي للظواهر الأدبية.
1.2.1-مشكلة النمذجة عند "طوم" و "كوكوردا":
طرحتمشكلة النمذجة (Modélisation) في سياق مراجعات مبادئ النظرية السيميوسردية عند غريماس. وقد تم تأطير تلك المراجعات تأطيرا نموذجيا كارثيا(نسبة إلى نظرية الكوارث) يرتكز على بلورة تصور عقلاني متعال لمفهوموأساسيات النمذجة. ومن شأن هذا التوجه الإبستمولوجي أن يعيد النظر فيالأسس العقلانية الغريماسية مع "التمييز بعنياة بين نمذجة الظواهر، وتمثيلالمفاهيم"(6). وقبل إبراز الملامح العامة لتصور بتيتو (1985) (أ)واستلزاماته على مستوى الاختيار المنهجي المدافع عنه في هذا القسم، بلوالخلفيات النظرية الموجهة لصيغته العامة، نريد أن نقف هنا عند العلاقةالجوهرية الكاشفة عن عمق التضافر الإجرائي بين الحدود الصورية المعتمدةلدى بتيتو، ومرجعياتها الإبستمولوجية ضمن نظرية روني طوم.
1-منذمشروع (الاستقرار البنائي وتكون الشكل) طوم (1977)، الذي حمل كعنوان فرعي/"بخيث في النظرية العامة للنماذج"(*) برز إلى الوجود مفهوم موسع لنظريةالمعرفة ولشروط قيام إبستمولوجيا عامة مسكوت عنها في أغلب الدراسات التيانضوت تحت لواء النزعة التجريبية. وقد لخص بتيتو (1987) نقود طوم علىالتجريبية في مأخذين متقابلين:
أ-تبعية الحقيقة النظرية للسلطةالعملية للتجربة وما نتج عنها من تحويل تدريجي للعلم إلى مشروع خبرة نافذونشي لالتزاماته الأدبية التي يتصدرها معرفة الكائن(7)
ب-أدلجة (Idéologisation) القدرات النظرية الجديدة في شكل معرفة جديدة أو علم جديد (Nuova Scientia)(.
وأماالطبيعة التقابلية التي يتشح بها المأخذان كلاهما وما قد ينجم عن المراوحةبينهما من صعوبة تلمس موقف نظري متجانس، فتكمن بخاصة في تناقض حديالثنائيتين اللتين يولدهما ذانك المأخذان. وهاتان الثنائيتان هما:
أ-الفلسفة العقلانية – المعرفة التقنية المغالية(Techniciste)
ب-العلم العقلاني - الفلسفة التأملية (النظرية).
ولقدتبلور الموقف الأول قبل أواسط العقد السابع من هذا القرن، حين عرض طوم(1972) تساؤلاته حول حاضر العلم وكبيعة إشكالاته النوعية، فأوضح مأزقالتجريبية الساذجة الذي وقعت فيه الدراسات التجريبية حين انساقت وراءإنماء ومراكمة أنسقة وصفية للواقع، وتغافلت عن استكناه "آليات الضمنية"(Sous-Jacents) للسيرورات التي ينصب عليها التحليل"(9). وهذا الخطأ المنذربغربة السؤال النظري-التأملي- في بيئة المستجدات العلمية- ومحاولة اختزالهإلى مجرد نماذج كمية، هو الذي أدى إلى انحسار محاولات التفكير في مشروعيةالنمذجة المجردة وتضخم السبر الاختباري مع تفاحش سلطة المؤسسة العلميةالتي تحتضنه(10).
إن فقدان التجريبوية لذاكرتها "النظرية يعتبرلوحده مفارقة شاذة يتعين تصحيح وضعيتها في اللحظة الراهنة ابتغاء تحليلجدلي معمق لأسئلة الهامش النظرية. ولاشك أن صنع النماذج وتداولها اعتبارانأساسيان لا غنى عنهما، ولا يمكن بحال من الأحوال، في نظر روني طوم،تقييدهما بشرط المواطأة التجريبية كما تفيد مزاعم الوضعية الساذجة.
فخلافالهذا المنحى، ما يهم "في النموذج، ليس اتفاقه مع التجربة(..) بل وزنهالأنطولوجي ((Ontologique أو إثباتات النموذج عل صعيد الآليات الضمنيةللسيرورة المدروسة"(11). ويظل "اقتصاد الوصف"" معيارا أساسيا في التحقق من"كفاية الصورنة (..) والاقتصاد ذاك يصدر دائما عن فرضية، أي عن تمثل ذهنيجزئي للظواهر موضوع الدرس"(12) ويمكن اعتبار ثانوية المحك التجريبي أساسالإكساب (أو اكتساب) الشرعية (Ausweisung) وبالتالي استلزمنا منالاستلزامات النظرية لهذا المنحى.
2 - لاحظ طوم، من جهة أخرى،افتقار التنظير البنيوي لأي أساس إبستمولوجي مادام لا يؤسس انتقادهللبنيات على تبرير دينامي، وما دام سنده في تبرير انتقائه "اتفاق الخطاطةالمجردة، استدلاليا، مع المورفولوجية التجريبية (أي مع المتن المستوعبللمعطيات التجريبية)"(13). وإذ تثير نظرية الكوارث هذا الإشكال الجوهري،فإنها تستأثر وحدها -في نظر طوم- بالقدرة على حله. من ثمة ينبغي النظر إلىأهمية نظرية الكوارث على أنها لا تكمن فقط في كونها مولدة للنماذج أو عملةجديدة في التعامل مع الأنساق، بل وأكثر من ذلك، في كونها تتعدى الحدودالتي تؤطرها منظرية متماسكة، لتصير بمثابة منهج وأسلوب في العمل.
3- أفضى هذا المسار الإبستمولوجي التأسيسي إلى تجسير الهوة بين العلومالطبيعية (Naturwissenschaften) وعلوم الإنسان (Geistswissesnschaften)،وإلى اقتراح صيغة جديدة سماها روني طوم "سيميوفيزياء" (Sémiophysique).وتقوم بشكل عام على عملية نقل تركيبية أساسها تشغيل العلوم السيميولسانيةفي مقاربة حقول العلوم الطبيعية. وقد أثبتت هذه الطفرة الجذرية جدواها فيقراءة منظومة الفيزياء الأرسطية على أسس جديدة، بعد مرحلة القطيعةالغاليلية (نسبة إلى "غاليليو" 1942).
إن القطيعة التاريخيةالمكرسة بين المناهج النقدية والإبستمولوجيات الحديثة تشكل -في نظرنا-عقبة كأداء يصعب اقتحامها في سياق البت في كثير من الجوانب الأساسيةلنظرية الكوارث التي تشكل قطب الرحى في النموذج التكويني الذي اقترحناهوترتبط هذه الملاحظة أكثر بالمجهود الذي ينبغي بذله لفهم قضية النمذجة كماتبلورت مع بتيتو (1985) على وجه الخصوص. ولعل مظاهر تلك العقبة أن تحولدون تذليل التعقيدات والوعوائق التي يمكن اختزالها في جانبين أحدهما يتعلقباللغة الواصفة التي تأبى إلا أن تتخذ من الصورنة المفهومية الموغلة فيالتجريد أسلوبا، والتمثيل الرياضي المكثف أداة، مما يؤدي إلى صعوبةاستيفاء الدقة في تمثل اللغة الواصفة باعتبارها شرطا أول لاستيضاح طبقاتالخطاب النظري العام للمشكلة المطروحة. وحتى إن قهر الدارس هذا العائقواستوثق من موجهات الخطاب وتدبر مستغلقاته، فإنه معرض لا محالة لمشكلة لاتقل عن الأولى صعوبة، وهي مشكلة اختيار اللغة الواصفة (الثانية) الأقلتعقيدا، ولهذه الأسباب جميعها، اقتصرنا على حوصلة الملامح العامة لقضيةالنمذجة عند "جان بتيتو" (1985-أ)، دون الخوض في جوانبها الرياضية.
2.2.1-طبيعة البناء التركيبي للنموذج:
سنعملعلى معالجة النمذجة (Modélisation) وبناء النماذج انطلاقا من مبحث "بتيتو"(1985-أ) المعنون ب: "أطروحات من أجل موضوعية سيميائية"، وفيه حاول"بتيتو" طرح مشروع تصور عقلاني متعال (Transcendantale) للنمذجة شبيه بذلكالذي نصادفه في الفيزياء(14). فعمد في القسم الرئيس من مبحثه إلى استرجاعمفهوم "طوم" للنموذج كما بسطه (G. Geymonat و G. Giorello) في دائرةالمعارف الإيطالية (Einaudi). فالنموذج ليس سوى تناظر بين ظاهرة معينة(نرمز لها بحرف x) وموضوع مركب (M) هو النموذج، وينبغي أن يفي ما بينهمامن الشبه بالإجابة عن السؤال (Q) الذي نطرحه بصدد (X ) ولتحقيق هذا الغرضيجب توافر هذه المجموعة من القيود:
أ - أن يكون السؤال(Q) هو المحدد لتركيب (M)
أأ - أن يكون بمقدورنا ترجمة السؤال (Q) إلى سؤال (Q) يخص ((M
أأأ- أن يكون بمقدور الإجابة ( R) التي يقدمها (M) عن (Q) أن تخضع بعدترجمتها إلى إجابة موحدة ( R) و (Q) للتحققات والتمحيصات التجريبية(الستويغ الاستدلالي بواسطة: الإثبات-التفنيد)(15).
ويستوجب القيد(ااا) المتعلق بالتسويغ الاستدلالي النهائـي للنماذج عامة، توافر إجرامينمتمايزين ومتلازمين يتعلق أولهما بالجانب اللساني في انتقاله من اللغةالطبيعية الوصفية لملاحظة (X) (أي لملاحظة الظاهرة)، إلى اللغة النظريةالمصورنة للنموذج (M). بينما يتوقف الجانب الثاني المتصل بالموضوع، علىمعرفة استراتيجية الانتقال من ظاهرة معطاة إلى موضوع نظري-صوري مركب-Théorético Formel. ويندرج هذا القيد ضمن المحور الإبستيمولوجي بثيماتهالكبرى. أما الاختيار الرياضي في هذا المستوى فيمثل حالة خاصة لكونه ينزاحبمنهجه ونوعية اقتضاءاته عن كثير من تلك المعايير والقيود. من ذلك استحالةقابلية للتجريب، وبالتالي خرقه للقيد (ااا) فضلا عن طبيعته القياسيةالاحتمالية (Abductive)، إذ لا هو بالاستقرائـي ولا بالاستنباطي. وتظل هذهالسمة المميزة للاختيار الرياضي مهجوسة بثقل النظري والتصوري في أبعادهاالأنطولوجية الخصيبة للاختيار الرياضي لتتجلى بوضوح كثافة المنظورالظاهراتي (الفينومينولوجي). وهذا الأخير هو -حسب مفهوم "هولطون" (GeraldHolton) "ثيمة" أو اختيار إبستمولوجي مركزي في نظرية الكوارث برمتها.
ولمزيد من الإيضاح يمكن تمثيل الإجراءات الأساسية السابقة، على هذا الشكل(16):
التحقق التجريبي
السؤال (Q) الظاهرة (X)
التسويغ الاستدلالي
-التناظر (Aposteriori)
الترجمة -تسويغ الإجابة (R )
قبلي
الترجمة
السؤال (Q) النموذج (M) الإجابة ( R)
ونخلص مما سبق إلى الأهداف التالي:
-ضرورة ترييض المفاهيم (Mathématisation des concepts).
-أهمية التسويغ القبلي، وضرورة دعم الاختيار الرياضي في هذا السياق
-مايهم في الخاصية القياسية الاحتمالية المنوه بها آنفا من حيث كونها إجراءفي صوغ الفرضيات كما نص على ذلك "بتيتو" هو "علاقتها بالابتكار المفاهيمي،والخيال النظري"(17).
-إمكانية مد الجسور بين الدلالة المجردة، وموضوعية الظواهر.
-توفير الزخم الأنطلوجي بوصفه ضرورة من ضرورات النمذجة والتأسيس النظري.
1.3.1-التصور الغريماسي للنمذجة:
يعتبر(A. Gulien Greimas 1992) من أبرز منظري السيميائيات السردية، فهو إلىجانب نموذجه الشهير في نحو السرد ومارقيه، يتميز بانفتاح ملحوظ على قطاعاتعلوم الإنسان وإفادته منها في إثراء تصوراته، وإكسابها صبغة صورية خاصةاستأثرت إلى حد كبير بعناية المنظرين الكارثيين وفي مقدمتهم بتيتو كوكوردا(1985 أ- 1985ب).
ونريد هنا أن نقف وقفة متأنية مفهوم غريماسللنموذج وفقا لمجموعة من المبادئ والتحديات النظرية التي لا تخفىتعقيداتها وخصوصياتها في الآن معا. وسنكون بهذه الخطوة الأساسية -إضافةإلى ما تقدم- قد مهدنا لجوهر هذا العمل الذي سيبلور موقفا شاملا -نسبيا-من مجمل القراءات النظرية المطروحة في مسألة النمذجة في الوقت الذي يكونفيه حقلا لانعكاساتها في مستوى نسقه واستراتيجيته المنهجية.
نحتاجقبل ذلك كله إلى سوق موجهات إجرائية صدر عنها غريماس (1966) في مقدمةكتابة: "الدلالة البنيوية/بحث في المنهج" لوثاقة صلتها بما هو آت.
لقدشكل "الإدراك" (Perception) زاوية أساسية لفهم سيرورة الدلالة(Signification) وتمظهراتها في مبحث غريماس. وهو في هذا التوجه يستند على"نظرية الإدراك" كما تطورت في فرنسا مع "ميرلوبونتي" (Merleau Ponty)بخاصة. ولئن كان قد حدد موقفه النظري من المرجعية الفلسفية في هذا الشأن،فإنه لم يحدد دينامية التفاعل المحايث بين الآلية الإدراكية والآلياتالدلالية، وأبعادها الإشكالية العميقة، بل اقتصر على التماس التعضيدالمناسب لموقفه هذا في ظل متغيرات العلوم الإنسانية الأخرى؛ محيلا مثلاعلى النموذجين السلوكي والجشطلتي اللذين شكلا ردة فعل إزاء الذرية الترا
فلسفة : العلم بين الحقيقة والنّمذجة (تحقيق محمّدعلي كسيرة)
قبل الشّروع في قراءةهذه الدّراسة ينبغي علينا الاطّلاع على برنامج وتوجيهات المحورالعلم بينالحقيقة والنّمذجة قصد الاستفادة من هذه الدّراسة وفق متطلّبات المحور:
II- العلم بين الحقيقة والنّمذجة :
1- أبعاد النّمذجة
أ - البعد التّركيبي
الأكسمة – البنية – التّرييض – الصّورنة
ب – البعد الدّلالي
الافتراضي – القانون - الملائم - النّظريّة - الواقعي.
ج – البعد التّداولي
التّفسير – التّحقيق – الفهم – النّجاعة.
2- النّمذجة ومطلب الحقيقة
أ- الحدود الابستيمولوجيّة
الاختزاليّة – التّاريخيّة – الأنظمة التّقنيّة.
ب – الحدود الفلسفيّة
الحقيقة – المسؤوليّة – المعنى.
تتمحورهذه المسألة حول النّمذجة العلميّة باعتبارها التّمشّي المشترك بين مختلفالحقول العلميّة والمميّز لها عن أشكال الخطاب الأخرى، وتتعلّق بمنزلةالنّموذج العلميّ المزدوجة بين انشداده إلى مرجع خارجي عنه وسعيه إلى بناءواقع مستحدث، أي بين ضرورة تلزم النّموذج، ومواضعة موسومة بالتّعدّدوالنّسبية.
ذلك ما يبرّر تفصيل القول في النّمذجة العلميّة علىجهات ثلاث (تركيبيّة ودلاليّة وتداوليّة) تتصادى مع توتّرات ايبستمولوجيّةثلاثة :
- توتّر بين تمثيل الظّواهر باللّغة الطّبيعيّة وتمثيلها بواسطة أنظمة رمزيّة اصطناعيّة.
- توتّر بين معطيات التّجربة العيانيّة ومقتضيات الإنشاءات التّجريديّة.
- توتّر بين معرفة نظريّة مطلوبة لذاتها وإرادة نجاعة التّحكّم في الظّواهر.
إنّمقاربة الممارسة العلميّة بواسطة النّمذجة تتيح لنا قراءة نقديّة للإنتاجالمعرفيّ العلميّ تمكّن من تجاوز تشتّت حقوله، ومن تقصّي حدودهالايبستيمولوجيّة والفلسفيّة.
-----------------------------------الدّراسة المنقولة---------------------------------------------
النمذجة وآفاق التنظير في الخطاب النقدي الحديث
-------------------
هذه الدّراسة منقولة -تحقيق ومطالعة -الأستاذ محمّد علي كسيرة -
1 - النمذجة وبناء النماذج:
1.1- مفهوم النموذج:
لقداكتسب مصطلح النموذج (Modèle) "حمولة منهجية واسعة في الدلالة على كلالأشكال والإنتاجات المنذورة لخدمة مرامي المعرفة"(1). ويذهب "H. Wermus"(1983) إلى استبعاد العلاقة المباشرة التي يمكن افتراض نشوتها بين النموذجوالمجال الواقعي إذ ما يميز النموذج بوجه خاص هو كونه بناءا(Construction) يصاغ في الغالب من بعض الخواص المنتقاة من الواقع. ويتمذلك بسند (ضمني) من نظرية مسبقة قد تكون ساذجة. وعلى غرار ذلك فإن الفكرالتنظيري (P. Théorisante) أو الصوري، يستعيض عن "الفكر" كما هو، بهندسةمفهومية معينة تنطلق من اللغات والمكونات الأخرى (الرمزية) لتؤسس، مع ذلك،أنسقة متنوعة وذات طاقة تعبيرية هائلة. والمفروض في النظرية تمثيل وشرحواشتقاق الوقائع من النموذج المعطى بل العمل على إثرائه بعلاقات جديدةواحتوائه ضمن الاتجاه الذي ينحو إليه البحث العلمي. وثمة وفرة منالإجراءات الخاصة لتأسيس النماذج والنظريات تظل بالضرورة وفي مجموعها،مجالا يوظف فيه الباحث-بصورة غالبا ما تكون ضمنية-كفاءته وإبداعيتهونوازعه(2). فالعلاقة الناهضة إذن بين النموذج والعالم الخارجي، أي شكلالخطاب (التمثيل الخطاطي R. Schématique) الذي ينتجه والذي يحدد بشبكةعلاقاته الداخلية نوعية ودينامية الروابط الممكنة مع موضوعه الخارجي.
ويلزم عن هذا التحديد، ضرورة التمييز بين نمطين أساسيين من النماذج:
أ - النموذج المادي: ويؤسس بالاستناد على المعطيات التجريبية للموضوع.
أ.أ-النموذج النظري: ويسمح-انطلاقا من نموذج الموضوع- بصياغة نظرية معينة تجعلمن الظاهرة المدروسة ظاهرة أكثر عمومية وشمولية، محجوجة ومسنودة بالتجربةمع فسح المجال أكثر لتعدد الفرضيات (Hypothèses) التي قد تتيح إمكانيةتجاوزها(3). لكننا نذهب إلى وجود نوع من النماذج النظرية القابلة للتعديلوالمراجعة في ضوء التشكيلات النظرية النقيضة. فأهميتها الإجرائية تكمنبالنسبة إلى "الخطابات النقدية الشارحة" في كونها تناقح أساسا عن طبيعتهاالنظرية عبر خرق ما يسمى بالامتحان التجريبي أو معياري المقبوليةواللامقبولية المصوغين في نطاق التجريبية المنطقية والوضعية المحدثة.
وبعبارةأخرى فالذي يحدد فاعلية هذا النمط النموذجي يتمثل بوجه خاص في أسلوبمقاربته للمشاكل المطروحة. وليس هذا ما يميز النموذج النظري وحده في سيرهنحو تحسين كيانه، فالأهمية الاستراتيجية للعلم نفسه في تصور Larry Laudanتكمن بالأساس في اقتراحه حلولا ناجعة لمشاكل مطروحة بحيث تشكل هذهافعالية، سواء أكانت متعلقة بمشاكل تجريبية أم مفهومية، وحدة قاعيدة فيمسار تبلوره وتقدمه(4). ولذلك تنحو النماذج النظرية هذا المنحى بما ينتصبعاملا محددا ومترجما لقدراتها الإجرائية-التداولية.
إن تطلبالتجريبية للشرط التجريبي اكتنف أيضا حدها للنموذج ذاته. فالنماذج عند(Jean-Pierre Changeux) لا تعدو كونها "تمثيلات مبسطة ومصورنة عن الواقعالخارجي يقترحها رجل المعرفة العلمية ويقارنها به (أي بالواقع) عن طريقالتجربة، جاهدا في البرهنة على صلاحيتها بالارتكاز على "معايير صريخة وذاتصبغة بتية"(5). وهو مفهوم نلحظه عند غريماس وكورتيس (1979) اللذين يشترطانفي لنماذج مطابقة مزدوجة: مكابقة للنظرية (استنباط) ومطابقة للمعطياتالتجريبية (إثبات VS تفنيد) [ فقرة التصور الغريماسي للنمذجة رقم 1-3-1].
ونظرالما يستلزمه الأساس التجريبي، رغم كونه خارجا عن مقاصد النموذج التكوينيالذي سنقترحه لاحقا من وقفة إبستمولوجية متأنية، فقد وزعنا هذا القسمالمنهجي إلى الفقرات التالية:
ا-مشكلة النمذجة من خلال منظوري روني طوم وبتيتو كوكوردا.
اا-التصور الغريماسي للنمذجة
ااا-النمذجة في نظرية الأدب.
علىأن إدراج الفقرة (ااا) إنما يرد في سياق التمثيل ما أثمرته بعض النماذجالنظرية-النقدية المتاخمة للخطابات العملية والإبستمولوجية المعاصرة منالتساؤلات جوهرية تمس في الصميم قضية إيجاد نموذج تحليلي للظواهر الأدبية.
1.2.1-مشكلة النمذجة عند "طوم" و "كوكوردا":
طرحتمشكلة النمذجة (Modélisation) في سياق مراجعات مبادئ النظرية السيميوسردية عند غريماس. وقد تم تأطير تلك المراجعات تأطيرا نموذجيا كارثيا(نسبة إلى نظرية الكوارث) يرتكز على بلورة تصور عقلاني متعال لمفهوموأساسيات النمذجة. ومن شأن هذا التوجه الإبستمولوجي أن يعيد النظر فيالأسس العقلانية الغريماسية مع "التمييز بعنياة بين نمذجة الظواهر، وتمثيلالمفاهيم"(6). وقبل إبراز الملامح العامة لتصور بتيتو (1985) (أ)واستلزاماته على مستوى الاختيار المنهجي المدافع عنه في هذا القسم، بلوالخلفيات النظرية الموجهة لصيغته العامة، نريد أن نقف هنا عند العلاقةالجوهرية الكاشفة عن عمق التضافر الإجرائي بين الحدود الصورية المعتمدةلدى بتيتو، ومرجعياتها الإبستمولوجية ضمن نظرية روني طوم.
1-منذمشروع (الاستقرار البنائي وتكون الشكل) طوم (1977)، الذي حمل كعنوان فرعي/"بخيث في النظرية العامة للنماذج"(*) برز إلى الوجود مفهوم موسع لنظريةالمعرفة ولشروط قيام إبستمولوجيا عامة مسكوت عنها في أغلب الدراسات التيانضوت تحت لواء النزعة التجريبية. وقد لخص بتيتو (1987) نقود طوم علىالتجريبية في مأخذين متقابلين:
أ-تبعية الحقيقة النظرية للسلطةالعملية للتجربة وما نتج عنها من تحويل تدريجي للعلم إلى مشروع خبرة نافذونشي لالتزاماته الأدبية التي يتصدرها معرفة الكائن(7)
ب-أدلجة (Idéologisation) القدرات النظرية الجديدة في شكل معرفة جديدة أو علم جديد (Nuova Scientia)(.
وأماالطبيعة التقابلية التي يتشح بها المأخذان كلاهما وما قد ينجم عن المراوحةبينهما من صعوبة تلمس موقف نظري متجانس، فتكمن بخاصة في تناقض حديالثنائيتين اللتين يولدهما ذانك المأخذان. وهاتان الثنائيتان هما:
أ-الفلسفة العقلانية – المعرفة التقنية المغالية(Techniciste)
ب-العلم العقلاني - الفلسفة التأملية (النظرية).
ولقدتبلور الموقف الأول قبل أواسط العقد السابع من هذا القرن، حين عرض طوم(1972) تساؤلاته حول حاضر العلم وكبيعة إشكالاته النوعية، فأوضح مأزقالتجريبية الساذجة الذي وقعت فيه الدراسات التجريبية حين انساقت وراءإنماء ومراكمة أنسقة وصفية للواقع، وتغافلت عن استكناه "آليات الضمنية"(Sous-Jacents) للسيرورات التي ينصب عليها التحليل"(9). وهذا الخطأ المنذربغربة السؤال النظري-التأملي- في بيئة المستجدات العلمية- ومحاولة اختزالهإلى مجرد نماذج كمية، هو الذي أدى إلى انحسار محاولات التفكير في مشروعيةالنمذجة المجردة وتضخم السبر الاختباري مع تفاحش سلطة المؤسسة العلميةالتي تحتضنه(10).
إن فقدان التجريبوية لذاكرتها "النظرية يعتبرلوحده مفارقة شاذة يتعين تصحيح وضعيتها في اللحظة الراهنة ابتغاء تحليلجدلي معمق لأسئلة الهامش النظرية. ولاشك أن صنع النماذج وتداولها اعتبارانأساسيان لا غنى عنهما، ولا يمكن بحال من الأحوال، في نظر روني طوم،تقييدهما بشرط المواطأة التجريبية كما تفيد مزاعم الوضعية الساذجة.
فخلافالهذا المنحى، ما يهم "في النموذج، ليس اتفاقه مع التجربة(..) بل وزنهالأنطولوجي ((Ontologique أو إثباتات النموذج عل صعيد الآليات الضمنيةللسيرورة المدروسة"(11). ويظل "اقتصاد الوصف"" معيارا أساسيا في التحقق من"كفاية الصورنة (..) والاقتصاد ذاك يصدر دائما عن فرضية، أي عن تمثل ذهنيجزئي للظواهر موضوع الدرس"(12) ويمكن اعتبار ثانوية المحك التجريبي أساسالإكساب (أو اكتساب) الشرعية (Ausweisung) وبالتالي استلزمنا منالاستلزامات النظرية لهذا المنحى.
2 - لاحظ طوم، من جهة أخرى،افتقار التنظير البنيوي لأي أساس إبستمولوجي مادام لا يؤسس انتقادهللبنيات على تبرير دينامي، وما دام سنده في تبرير انتقائه "اتفاق الخطاطةالمجردة، استدلاليا، مع المورفولوجية التجريبية (أي مع المتن المستوعبللمعطيات التجريبية)"(13). وإذ تثير نظرية الكوارث هذا الإشكال الجوهري،فإنها تستأثر وحدها -في نظر طوم- بالقدرة على حله. من ثمة ينبغي النظر إلىأهمية نظرية الكوارث على أنها لا تكمن فقط في كونها مولدة للنماذج أو عملةجديدة في التعامل مع الأنساق، بل وأكثر من ذلك، في كونها تتعدى الحدودالتي تؤطرها منظرية متماسكة، لتصير بمثابة منهج وأسلوب في العمل.
3- أفضى هذا المسار الإبستمولوجي التأسيسي إلى تجسير الهوة بين العلومالطبيعية (Naturwissenschaften) وعلوم الإنسان (Geistswissesnschaften)،وإلى اقتراح صيغة جديدة سماها روني طوم "سيميوفيزياء" (Sémiophysique).وتقوم بشكل عام على عملية نقل تركيبية أساسها تشغيل العلوم السيميولسانيةفي مقاربة حقول العلوم الطبيعية. وقد أثبتت هذه الطفرة الجذرية جدواها فيقراءة منظومة الفيزياء الأرسطية على أسس جديدة، بعد مرحلة القطيعةالغاليلية (نسبة إلى "غاليليو" 1942).
إن القطيعة التاريخيةالمكرسة بين المناهج النقدية والإبستمولوجيات الحديثة تشكل -في نظرنا-عقبة كأداء يصعب اقتحامها في سياق البت في كثير من الجوانب الأساسيةلنظرية الكوارث التي تشكل قطب الرحى في النموذج التكويني الذي اقترحناهوترتبط هذه الملاحظة أكثر بالمجهود الذي ينبغي بذله لفهم قضية النمذجة كماتبلورت مع بتيتو (1985) على وجه الخصوص. ولعل مظاهر تلك العقبة أن تحولدون تذليل التعقيدات والوعوائق التي يمكن اختزالها في جانبين أحدهما يتعلقباللغة الواصفة التي تأبى إلا أن تتخذ من الصورنة المفهومية الموغلة فيالتجريد أسلوبا، والتمثيل الرياضي المكثف أداة، مما يؤدي إلى صعوبةاستيفاء الدقة في تمثل اللغة الواصفة باعتبارها شرطا أول لاستيضاح طبقاتالخطاب النظري العام للمشكلة المطروحة. وحتى إن قهر الدارس هذا العائقواستوثق من موجهات الخطاب وتدبر مستغلقاته، فإنه معرض لا محالة لمشكلة لاتقل عن الأولى صعوبة، وهي مشكلة اختيار اللغة الواصفة (الثانية) الأقلتعقيدا، ولهذه الأسباب جميعها، اقتصرنا على حوصلة الملامح العامة لقضيةالنمذجة عند "جان بتيتو" (1985-أ)، دون الخوض في جوانبها الرياضية.
2.2.1-طبيعة البناء التركيبي للنموذج:
سنعملعلى معالجة النمذجة (Modélisation) وبناء النماذج انطلاقا من مبحث "بتيتو"(1985-أ) المعنون ب: "أطروحات من أجل موضوعية سيميائية"، وفيه حاول"بتيتو" طرح مشروع تصور عقلاني متعال (Transcendantale) للنمذجة شبيه بذلكالذي نصادفه في الفيزياء(14). فعمد في القسم الرئيس من مبحثه إلى استرجاعمفهوم "طوم" للنموذج كما بسطه (G. Geymonat و G. Giorello) في دائرةالمعارف الإيطالية (Einaudi). فالنموذج ليس سوى تناظر بين ظاهرة معينة(نرمز لها بحرف x) وموضوع مركب (M) هو النموذج، وينبغي أن يفي ما بينهمامن الشبه بالإجابة عن السؤال (Q) الذي نطرحه بصدد (X ) ولتحقيق هذا الغرضيجب توافر هذه المجموعة من القيود:
أ - أن يكون السؤال(Q) هو المحدد لتركيب (M)
أأ - أن يكون بمقدورنا ترجمة السؤال (Q) إلى سؤال (Q) يخص ((M
أأأ- أن يكون بمقدور الإجابة ( R) التي يقدمها (M) عن (Q) أن تخضع بعدترجمتها إلى إجابة موحدة ( R) و (Q) للتحققات والتمحيصات التجريبية(الستويغ الاستدلالي بواسطة: الإثبات-التفنيد)(15).
ويستوجب القيد(ااا) المتعلق بالتسويغ الاستدلالي النهائـي للنماذج عامة، توافر إجرامينمتمايزين ومتلازمين يتعلق أولهما بالجانب اللساني في انتقاله من اللغةالطبيعية الوصفية لملاحظة (X) (أي لملاحظة الظاهرة)، إلى اللغة النظريةالمصورنة للنموذج (M). بينما يتوقف الجانب الثاني المتصل بالموضوع، علىمعرفة استراتيجية الانتقال من ظاهرة معطاة إلى موضوع نظري-صوري مركب-Théorético Formel. ويندرج هذا القيد ضمن المحور الإبستيمولوجي بثيماتهالكبرى. أما الاختيار الرياضي في هذا المستوى فيمثل حالة خاصة لكونه ينزاحبمنهجه ونوعية اقتضاءاته عن كثير من تلك المعايير والقيود. من ذلك استحالةقابلية للتجريب، وبالتالي خرقه للقيد (ااا) فضلا عن طبيعته القياسيةالاحتمالية (Abductive)، إذ لا هو بالاستقرائـي ولا بالاستنباطي. وتظل هذهالسمة المميزة للاختيار الرياضي مهجوسة بثقل النظري والتصوري في أبعادهاالأنطولوجية الخصيبة للاختيار الرياضي لتتجلى بوضوح كثافة المنظورالظاهراتي (الفينومينولوجي). وهذا الأخير هو -حسب مفهوم "هولطون" (GeraldHolton) "ثيمة" أو اختيار إبستمولوجي مركزي في نظرية الكوارث برمتها.
ولمزيد من الإيضاح يمكن تمثيل الإجراءات الأساسية السابقة، على هذا الشكل(16):
التحقق التجريبي
السؤال (Q) الظاهرة (X)
التسويغ الاستدلالي
-التناظر (Aposteriori)
الترجمة -تسويغ الإجابة (R )
قبلي
الترجمة
السؤال (Q) النموذج (M) الإجابة ( R)
ونخلص مما سبق إلى الأهداف التالي:
-ضرورة ترييض المفاهيم (Mathématisation des concepts).
-أهمية التسويغ القبلي، وضرورة دعم الاختيار الرياضي في هذا السياق
-مايهم في الخاصية القياسية الاحتمالية المنوه بها آنفا من حيث كونها إجراءفي صوغ الفرضيات كما نص على ذلك "بتيتو" هو "علاقتها بالابتكار المفاهيمي،والخيال النظري"(17).
-إمكانية مد الجسور بين الدلالة المجردة، وموضوعية الظواهر.
-توفير الزخم الأنطلوجي بوصفه ضرورة من ضرورات النمذجة والتأسيس النظري.
1.3.1-التصور الغريماسي للنمذجة:
يعتبر(A. Gulien Greimas 1992) من أبرز منظري السيميائيات السردية، فهو إلىجانب نموذجه الشهير في نحو السرد ومارقيه، يتميز بانفتاح ملحوظ على قطاعاتعلوم الإنسان وإفادته منها في إثراء تصوراته، وإكسابها صبغة صورية خاصةاستأثرت إلى حد كبير بعناية المنظرين الكارثيين وفي مقدمتهم بتيتو كوكوردا(1985 أ- 1985ب).
ونريد هنا أن نقف وقفة متأنية مفهوم غريماسللنموذج وفقا لمجموعة من المبادئ والتحديات النظرية التي لا تخفىتعقيداتها وخصوصياتها في الآن معا. وسنكون بهذه الخطوة الأساسية -إضافةإلى ما تقدم- قد مهدنا لجوهر هذا العمل الذي سيبلور موقفا شاملا -نسبيا-من مجمل القراءات النظرية المطروحة في مسألة النمذجة في الوقت الذي يكونفيه حقلا لانعكاساتها في مستوى نسقه واستراتيجيته المنهجية.
نحتاجقبل ذلك كله إلى سوق موجهات إجرائية صدر عنها غريماس (1966) في مقدمةكتابة: "الدلالة البنيوية/بحث في المنهج" لوثاقة صلتها بما هو آت.
لقدشكل "الإدراك" (Perception) زاوية أساسية لفهم سيرورة الدلالة(Signification) وتمظهراتها في مبحث غريماس. وهو في هذا التوجه يستند على"نظرية الإدراك" كما تطورت في فرنسا مع "ميرلوبونتي" (Merleau Ponty)بخاصة. ولئن كان قد حدد موقفه النظري من المرجعية الفلسفية في هذا الشأن،فإنه لم يحدد دينامية التفاعل المحايث بين الآلية الإدراكية والآلياتالدلالية، وأبعادها الإشكالية العميقة، بل اقتصر على التماس التعضيدالمناسب لموقفه هذا في ظل متغيرات العلوم الإنسانية الأخرى؛ محيلا مثلاعلى النموذجين السلوكي والجشطلتي اللذين شكلا ردة فعل إزاء الذرية الترا