[center]قصيدة النثر:
شعرية الشكل وجمالية التلقي
د. محمد الأمين ولد مولاي إبراهيم
قسم اللغة العربية وآدابها
كلية الآداب والعلوم الإنسانية ، جامعة نواكشوط
إهداء
إلي أستاذي أ. د. جمال ولد الحسن
في ذكرى رحيله التاسعة
(قدمت هذه المداخلة في مهرجان موريتانيا الشعري في دورته الأولى المنظمة بانواكشوط من 1 – 4 فبراير 2009)
تسعى هذه المداخلة إلى إضاءة شكل شعري حديث الظهور في تاريخ الأنواع والأشكال الأدبية، حظي بانشغال النقاد والباحثين العرب، وأخذ اهتماما متفاوتا في دوائر الإبداع وتلقيه في الأقطار العربية، يتعلق الحديث هنا، بما سمي بالشعر المنثور أو قصيدة النثر أو القصيدة النثرية، وكلها أسماء لمسمى واحد، هو هذا الشكل الشعري الذي ارتبط ظهوره في مجتمعات الإبداع عامة، وفي كل الآداب وعند كل الشعوب، بهذا التوتر الإبداعي، الذي يأتي من الولوج إلى المنطقة الوسطى ما بين الشعر والنثر، واختبار الشاعر لشعرية من القول متحررة من سلطة النوع الأدبي، ومجربة لجمالية من الذوق، تخرج عن المألوف وسطوة النسق الأدبي السائد،
ومن ثمة اقترن ظهور هذا الشكل الأدبي بممارسة إبداعية ذات شعرية مختلفة وجمالية من الألفة خاصة. يراد لهذه المداخلة أن تعرض لها، كما أظهرها الإبداع العربي ونظر لها النقد.
I – عتبة :
يحتاج الحديث عن القصيدة النثرية إلى عتبة تحدد زاوية النظر، التي سننظر من خلالها إلى هذا الشكل وتضبط بعض المصطلحات النقدية الضرورية لهذه المقاربة النقدية، أما زاوية النظر فهي هنا العلاقة ما بين الأنواع لأدبية، وما يقوم بينها من علاقات تأثر وتأثير وهيمنة وخضوع، وهي أيضا تحديد لأدبية كل نوع وشعرية قوله، وما يقوم بينها من اختلاف وتنوع وأتلاف وتداخل، مثل دائما مصدر الإبداع وينبوعه المتجدد، الذي امتحى منه المبدع نصه الأدبي وجذب به قارئه إلى دائرة من الإمتاع والمؤانسة لم تكن بعد قد اختبرت.
المصطلحات :
في معالجتنا لهذا الموضوع نحتاج إلى ضبط مجموعة من المصطلحات والمفاهيم :
1 - "الشعرية : تتخذ الشعرية في المصطلح النقدي دلالة مزدوجة كثيرا ما كانت موضع لبس لعدم إدراك البعض لدلالة المصطلح على صفة الشعرية ودلالته على منهج الشعرية.
فالشعرية تدل في الاستعمال الأول على سمة جمالية يتصف بها الخطاب الأدبي، فيوصف حينها بالشعرية، وتتعلق هذه السمة بمصدر الإمتاع فيه ومأتى الحسن فيه، فما به يكون الأدبي مؤثرا في المتلقى، هو مصدر الشعرية فيه، والصفة التي يتصف بها الأدبي LE littéraire حينئذ هي الخاصية الأدبية، التي وصفها النقد العربي القديم ب "مأتى الحسن في الكلام وبدلالة الشعر على صفة الكلام"، والشعرية بهذا المعنى صفة فنينة مرتبطة بالإمتاع الأدبي ومكامنه في الخطاب الأدبي، سواء كان شعرا أو نثرا والسمات الفنية للنص الأدبي هي مكوناته الشعرية، وهي التي تضفي عليه صفة الشعرية، فتجعل منه خطابا شعريا، ولأن مصادر الإمتاع في الإبداع الأدبي، ومكامن الجمال فيه، تختلف من شكل أدبي لآخر، كان لكل شكل أدبي شعريته[1].
وقد فرق الدرس النقدي بين الشعرية بهذا المعنى والأدبية، فالشعرية هي السمة الأدبية، التي يؤدي إليها انتظام مكونات الخطاب الأدبي، في شكل من الأشكال الأدبية، على نحو يضفي عليه صفة الجمال عند تلقيه أما الأدبية فهي مكونات الخطاب في الشكل الأدبي، ومن ثم فلكل شكل أدبي مكوناته المحددة لخطابه والمشكلة للأدبية وقد حددها رومان جاكسون بأنها "ما يجعل من عمل ما عملا أدبيا."[2].
2 - نوع الشعر أو النوع الشعري : ويمكن أن نتعرف عليه من خلال التوقف عند ثلاثة عناصر أساسية محددة له كنوع أدبي مغاير لنوع السرد والمسرح، يتعلق العنصر الأول بالخاصية الإبداعية للشعر وهي هنا اختيار المبدع للاقتصاد في القول والإيجاز في الكلام طريقا في الإبداع وسنة في الكتابة، ومن هنا جاءت دلالات القصيد مرتبطة بالقصد والتعمد. أي أن القصيدة هي "الكلام المقصود في ذاته، هي اللغة عندما تصبح هدفا فنيا محددا، وليست مجرد وسيلة للتواصل تحترق بانتهائه[3] . وبالاقتصاد من جهة ثانية لاتسام اللغة فيها "بالقصد والتركيز والتكثيف، بحيث يتم تشغيل عناصرها غيابا وحضورا بفاعلية كبيرة"[4] ومن هنا كان النوع الشعري في الأجناس الأدبية، اقتصادا في اللغة، واختبارا لقدرة المبدع على الإبداع وفقا لهذا الشرط، ولذلك اعتبر "إدكارد ألان بو"EDGARD ALAIn BOU "أن الطول "هرطقة" في الشعر"[5] وأن شرط القصيدة هو تحقق الاقتصاد، قائلا "لا وجود لقصيدة طويلة، وما نعنيه بقصيدة طويلة هو تناقض تام في المصطلحات[6]
أما المحدد الثاني فيتعلق بأدبية النص الشعري، وما به يكون نصا شعريا. وإذا كان رومان جاك أبسون قد حدد موضوع الشعرية، بأدبية النص الأدبي أي ما يكون به النص الأدبي نصا إبداعيا مختلفا عن النص اللغوي – فإن تخصيص هذا الموضوع واقتصاره على نوع الشعر يحصر أدبية الشعر في ما يكون به الشعر شعرا، وهو هنا المكونات الأدبية للنص الشعري التي تجعل من القول الأدبي شعرا. لوجود هذه المكونات في النص واشتغالها على نحو يحقق شعرية الشعر ويدخله دائرة الشعر ولذلك ارتبطت أدبية الشعر بحضور تلك المكونات في النص الأدبي وبغيابها تتراجع إن لم تغب درجة الشعرية في النص.
ينضاف إلى المحددين السابقين محدد ثالث يتعلق بالشعرية. إذ الشعرية هنا وكما أبنا عن ذلك سابقا، مصدر الأمتاع والمؤانسة في النص الشعري وهي مأتى الحسن في النص الذي جعله يتصف بهذه الصفة ويصنف على أنه من نوع الشعر. وتنشأ شعرية النوع الأدبي من طرائق اشتغال مكونات أدبية الشعر وما يقوم بينها من علاقات تعطى للنص شعرية من القول تدخله مدارج شعرية الشعر بدرجاتها المختلفة وأساليبها المتنوعة.
- شعرية الشعر العربي وقصيدة النثر :
تتحدد شعرية الشعر العربي هنا "بقواعد الشعر – من حيث هو جنس أدبي لا صفة للكلام[7] "وهي القواعد التي" استبدت بتفكير القدامى وممارستهم للنصوص استبدادا بارزا – أيما بروز فيما أتاه من تفصيل لكيفيات القول الشعري وخصائصه وبنيته ولمظاهر الإجادة أو الرداءة فيه حتى أفضت آراؤهم إلى ما اصطلح عليه – عندهم بعمود الشعر"[8].
ويعرف "عمود الشعر بأنه "مذهب الأوائل" و"الطريقة المعهودة والنهج المعروف والسنن المألوف" في الكتابة الشعرية ومن ثمة فهو "شكل جامع يحتضن ما قيل من الكلام المندرج في الجنس الشعري وينفتح على ما يقال منه ويعد بما يمكن أن يقال في نطاق بنية الشعر العربي كما ترسخ تاريخيا"[9].
وقد حدد النقاد مكونات عمود الشعر بمجموعة من العناصر أهمها اللفظ والمعنى والصورة والتخييل والبناء والوزن وإن ظل التركيز على بعضها في تحديد حد الشعر سائدا، "فلم تلق مقولة من مقولات التراث من الانتقاد ما لقي حد الشعر في قولهم "الشعر كلام موزون مقفى دال على معنى"[10] فقد ناقشت كتب النقد العربي القديم المتأخرة نسبيا هيمنة هذا الحد على التعاريف الأخرى، التي تشمل بقية مكونات عمود الشعر، وخاصة منها عنصر التخييل والصورة، وقد لاحظ حمادى صمود" أن بعض كتب التراث توفر لنا بديلا جذريا على المستوى النظري للتعريفات الموسيقية ويكتسي هذا البديل صبغته الجذرية لا من رفضه للأنماط الإيقاعية، التي تميز الشعر، بل من اعتباره بنية ألسنية متميزة"[11] في موازاة مع مواقف النقاد القدامى من عمود الشعر ومكوناته، كان الشعراء العرب يختبرون شعريات من القول مختلفة ومتنوعة مثلت في تاريخ الإبداعي الأدبي العربي، الوجه الثاني لتحولات الشعرية العربية وعدم استقرار النص الشعري على هيئة إبداعية واحدة، حتى بعد ضبط عمود الشعر، ويمكن أن نشير هنا بشئ من الإيجاز المخل إلى مظهرين من مظاهر تغير جماليات الشعرية العربية يبرزان : موقف الشاعر العربي من عمود الشعر :
1 - الشاعر وقبول سلطة العمود :
أما المظهر الأول وتجليه الممارسة الإبداعية لمنتجي النص الشعري العربي من خلال ما نسميه بالقبول بضوابط عمود الشعر وهو القبول الذي كرسته السلطة النقدية وجمالية التلقي وألفته.
فخلال تاريخ الشعر العربي، يلاحظ هذا الحضور المستمر لمكونات عمود الشعر وإن بمستويات متفاوتة، وقد مثل حضور هذه المكونات وغياب بعضها، وهيمنة البعض وسطوة البعض الآخر، مصدار إغناء وتنوع واختلاف في الشعرية العربية نلمسه في نصوص الشعر العربي القديم والحديث، فعلى مستوى النصوص القديمة مثلا ظلت الهيمنة لمكونات اللفظ والمعنى والوزن والبناء على حساب الصورة والتخييل إلى حدود ما سمي بالشعر المحدث : حين أخذ مكون الصورة والتخييل مرتبة مهمة في مكونات العمود، والمثال الذي يحضر هنا هو نموذج شعر أبي تمام الذي أخذ عليه من أنه يوغل في الاستعارة. ولعلنا لا نبالغ هنا إّذا قلنا إن ما عرفه الشعر العربي من تحول في جمالية القول مع الشعراء المحدثين في العصر العباسي كان منشأه القيمة الفنية التي بدأ يعطيها الشاعر العربي لمكونتي الصورة والتخييل من عمود الشعر مما كان له الأثر الكبير في تجديد الشعر العربي، لم يخل من خصام ومناهضة في وقتها، نتيجة لسيادة سلطة مكونات العمود الأخرى داخل دوائر إنتاج النص وتلقيه.
وهي الهيمنة التي كرست في تاريخ الشعر العربي الكلاسيكية العربية قرونا من الزمن وأعادت إنتاج نصها الشعري في العصر الحديث في ما يعرف بالإحيائية العربية.
أما على مستوى النصوص الحديثة، فسيلاحظ أن تحول الشعر العربي الحديث من الكلاسيكية إلى الرومانسية، كان من الناحية الفنية تركيزا على مكوني :
الصورة والتخييل من العمود، إن لم نقل هيمنة هذين العنصرين على بقية العناصر الأخرى، مما ساهم تدريجيا في تهيئة موقف الرفض والتمرد على العمود بما هو منظومة متماسكة، ولعل ما حظي به عنصر التخييل من عناية عند رواد الرومانسية العربية إبداعا وتنظيرا وخاصة منهم الشابي هو الذي دفع في هذا الاتجاه.
2 – الشاعر ورفض سلطة العمود
يمكن تلمس المظهر الثاني لموقف الشاعر العربي من عمود الشعر، كما تجليه الممارسة الإبداعية – من خلال جماليات رفض ضوابط عمود الشعر والخروج على سلطة نصه وقد أتخذ هذا الرفض ملمحين أساسين طبعا الإبداع العربي منذ منتصف القرن العشرين بسمة فنية ميزت الشعرية العربية بأساليب شعرية جديدة أغنت النص العربي ونوعت من مصادر إنتاجه، وساهمت في انفتاحه على جماليات من التلقي والألفة لم تكن معهودة.
وتمكن ملاحظة هذه السمة النقدية في تركيز الشعراء على مكون الوزن باعتباره محددا مهيمنا في الشعرية الكلاسيكية، ومحور ارتكاز عول عليه الشعراء كثيرا في إنتاج نصوصهم، والنقاد في حدهم للشعر، وقد انقسم الشعراء في موقفهم من الوزن إلى متصرف فيه بما ينسجم وملامح الشعرية الجديدة، وإلى معطل لدوره. وقد مثل الفريق الأول جماعة الشعر الحر أو قصيدة التفعيلة، والثانية جماعة شعر أو قصيدة النثر.
وإذا كان أصحاب الموقف الأول يحتفظون بالوزن كمكون من مكونات عمود الشعر ولكنهم يتصرفون فيه. مستبدلين نظام البيت بالتفعيلة – فإن أصاحب الموقف الثاني يسعون إلى تحقيق شعرية الشعر بالتعويل على مكونات عمود الشعر دون الوزن العروضي. وهو اختبار ليس بالسهل في ظل سلطة نقدية مدرسية لا تعترف بالشعر غير الموزون وأعراف من التلقي تعودت على رفض كل ما لا ينسجم والأذن الخليلية، ومن هنا كانت صعوبة ظهور قصيدة النثر في البيئات الأدبية، المتمسكة بالوزن شرطا في الإبداع الشعري. ومن هنا كان على أصحاب هذا التوجه وهم يحاولون إلغاء الشكل القديم للقصيدة العروضية، أن يقترحوا لقصيدة النثر شكلا جديدا.
قصيدة النثر : ملامح الشكل :
عند العودة إلى نصوص قصيدة النثر في التجربة العربية نلاحظ أن ما يميزها عن قصيدة التفعيلة في الشعر العربي المعاصر هو تعطيلها للأوزان الخليلية وتفعيلها لبقية عناصر العمود الشعري، برؤى وتصورات جديدة تنبني على ما أحدثته نظرية الإبداع من تغيرات جذرية في إنتاج النص الأدبي وأعراف تلقيه، يقول صلاح فضل مبرزا لهذه الخاصية الشعرية لقصيدة النثر، "تركز قصيدة النثر على تعطيل المعامل الأساسي في التعبير الشعري وهو الأوزان العروضية، دون أن تشل بقية إمكانات التعبير في أبنيتها التخييلية والرمزية، ومن ثم فإن وضعها على الأعراف بين التعبير والتجريد يصبح ترجمة دقيقة لإستراتيجيتها الشعرية"[12] وبتعطيل الشاعر لمكون الوزن يدخل دائرة من الإبداع الأدبي وسط ما بين النظم والنثر والشعر والسرد، عبر عنها أستاذي "بالأعراف" وهو مفهوم تراثي جميل يحيل فعلا على المكانة التي تحتلها قصيدة النثر في سلم الإبداع العربي، فأصحابها أقرب في وضعهم الشعري ومنزلتهم الإبداعية في سلم الشعرية العربية المعاصرة إلى موقع "أصحاب الأعراف "ومنزلتهم يوم الدين بين الجنة والنار، فهذا البرزخ الشعري والمنزلة الأدبية هما ما يميز مكانة قصيدة النثر اليوم في العديد من البيئات الأدبية في المجتمع العربي، ولذلك كان على منتجي هذا الشكل الشعري أن ينتجوا قصيدة "ما يبقيها في نطاق الشعر – دون أن تغدو نثرا خالصا – هو كفاءتها في تشغيل بقية درجات السلم، تعويضا لتعطيل الدرجة الإيقاعية، الأمر الذي يجعلها تتميز بنسبة عالية من الانحراف النحوي والكثافة والتشتت الناجم أساسا عن انفراط العقد الموسيقي، ويجنح بها نحو منطقة التحرر الدلالي من أنماط التعبير المألوفة[13] . تلك هي السمات الفنية التي تجعل من قصيدة النثر اليوم من جهة نوعا من الاختبار الفني لقدرة الشاعر العربي المعاصر في أن يشغل مكونات عمود الشعر دون أن يحتفي كثيرا بعنصر الوزن منه، وتجعل قارئها من جهة ثانية "قادرا على إغفال الوزن – وهو الخاصية الأبرز في الشعر – من خارطة الشروط الضرورية، والتحرر منه مع الإبقاء على جوهر الشعر، المتجاوز للمستوى الصوتي الأول. أي الإبقاء على عمقه الإيقاعي واكتماله التخييلي، وكثافته الشعورية"[14].
قصيدة النثر وإشكال التلقي :
تطرح قصيدة النثر في أغلب دوائر تلقيها قضايا وأسئلة تحتاج إلى البسط والتحليل والإجابة والتعليل. ليس بالإمكان التعرض لها في هذا الحيز الزمني المحدد لهذه المداخلة ولكننا نعرض الاثنتين منها يترتب عليها في نظرنا – مستقبل هذا الشكل الشعري في الكتابة العربية.
أ – القضية الأولى : تتعلق بالموقف النقدي من النص الشعري الحداثي عامة وقصيدة النثر خاصة وهو موقف مازال متأثرا بأسباب الرفض الاجتماعي والثقافي والاجتماعي السائد في أغلب دوائر تلقي الشعر في المجتمعات العربية
فقد دفع هذا الرفض، بعض النقاد إن لم نقل أغلبهم إلى الاستجابة لهذا الرفض والسير في ركبه محاباة لسلطة النسق الشعري السائد، وتمسكا بأهداب تراثية لا تستند دائما إلى نظرية العرب في الإبداع ولا إلى إدراك عميق لحد الشعر عندهم وإنما إلى التمسك بتعريف من تعاريف هذا الحد حظي في تاريخ التداول العربي للشعر بالقبول والاستحسان. ومن ثم كان على النقد العربي الحديث أن يراجع هذا الفهم ليقيم نوعا من التصالح ما بين نظرية عمود الشعر، كما بلورها النقد العربي القديم وتاريخ الشعر العربي، لكي يفسح المجال أمام فعل التلقي المستند إلى الرغبة في التفاعل مع الشعر والشعرية، لا المستند إلى أفق استقبال مشحون بروح الرفض والتعصب لجمالية من الشعر لا يحيد عنها قيد أنملة.
ب - أما القضية الثانية فتتعلق بموقف الجمهور من قصيدة النثر وهو موقف في المجتمعات العربية منقسم إلى دائرة قبول ودائرة رفض – دائرة القبول وهي المهيمن عليها نجدها في البيئات الأدبية التي عرفت مراحل تطور وظهور قصيدة النثر منذ جبران وصولا إلى جماعة "شعر" ففي هذه الدوائر من التلقي تجد قصيدة النثر انفتاحا على جمهور الإبداع الشعري وقبولا أدبيا ينمو ويتطور بفعل ما يشهده المشهد الأدبي من حراك مصدره الأزمات والأوضاع المتأزمة التي يعيشها الإنسان العربي، والتي أصبحت مساحة التعبير عنها تحتاج إلى تجريب مساحات أخرى في الإبداع لم تطؤها بعد الأقدام.
أما دائرة الرفض وهي المهيمنة على أفق الاستقبال الشعري فمنشأها ما سبقت الإشارة إليه من تمسك زائد بالشعرية الكلاسيكية في أبعادها الخليلية، وجمالية الأذن الخليلية وسطوة ذائقتها وتأثيرها الفاعل في الأدب والنقد. وموريتانيا تقع فنيا ضمن هذه الدائرة ,فقد عرفت منذ بداية الثمانينيات تجارب في كتابة قصيدة النثر أبرزها نصوص إبراهيم ولد عبد الله والي اليوم مازالت دائرة الرفض هي السائدة رغم انفتاحها علي أساليب الشعرية العربية المعاصرة وأشكال السرد ونثر يته .
[1]- محمد الأمين ولد مولاي ابراهيم : شعرية رواية الصحراء الكتاب الفائز بجائزة شنقيط للآداب لعام 2004 منشورات حلقة النقد الأدبي/ 2003 انواكشوط، ص/14.
JAKOBSON.ROMAN : QUESTION DE POETIQUE ;SEUIL1973.P.15[2]
[3] - صلاح فضل : أساليب الشعرية المعاصرة، هيئة قصور الثقافة، القاهرة 1996هـ ص/ 435
- صلاح فضل : المرجع السابق ص/ 435.[4]
- صلاح فضل : المرجع السابق ص/ 435.[5]
- صلاح فضل : المرجع السابق ص / 435.[6]
- شكرى المخوت : جماليات الألفة : النص ومتقلبه في التراث النقدي بيت الحكمة تونس 1993 ص/ 79.[7]
- شكري المخوت : جماليات الألفة المرجع السابق ص/ 79[8]
- شكري المبحوث : : المرجع السابق ص / 79[9]
- حمادي صمود : في نظرية الأدب عند العرب، منشورات النادي الأدبي، بجدة 1990، ص/ 126[10]
- حمادى صمود : الأدب عند العرب، منشورات النادي الأدبي بدوة 1990 ص 126.[11]
- صلاح فضل : أساليب الشعرية المعاصرة، هيئة قصور الثقافة، القاهرة، 1996، ص / 433[12]
- صلاح فضل : المرجع السابق ص / 433.[13]
- صلاح فضل : المرجع السابق ص 434.[14]
للكاتب أيضا:
- الرواية العربية والنثرية العربية
- مدينة الرياح وشعرية متخيل الصحراء
شعرية الشكل وجمالية التلقي
د. محمد الأمين ولد مولاي إبراهيم
قسم اللغة العربية وآدابها
كلية الآداب والعلوم الإنسانية ، جامعة نواكشوط
إهداء
إلي أستاذي أ. د. جمال ولد الحسن
في ذكرى رحيله التاسعة
(قدمت هذه المداخلة في مهرجان موريتانيا الشعري في دورته الأولى المنظمة بانواكشوط من 1 – 4 فبراير 2009)
تسعى هذه المداخلة إلى إضاءة شكل شعري حديث الظهور في تاريخ الأنواع والأشكال الأدبية، حظي بانشغال النقاد والباحثين العرب، وأخذ اهتماما متفاوتا في دوائر الإبداع وتلقيه في الأقطار العربية، يتعلق الحديث هنا، بما سمي بالشعر المنثور أو قصيدة النثر أو القصيدة النثرية، وكلها أسماء لمسمى واحد، هو هذا الشكل الشعري الذي ارتبط ظهوره في مجتمعات الإبداع عامة، وفي كل الآداب وعند كل الشعوب، بهذا التوتر الإبداعي، الذي يأتي من الولوج إلى المنطقة الوسطى ما بين الشعر والنثر، واختبار الشاعر لشعرية من القول متحررة من سلطة النوع الأدبي، ومجربة لجمالية من الذوق، تخرج عن المألوف وسطوة النسق الأدبي السائد،
ومن ثمة اقترن ظهور هذا الشكل الأدبي بممارسة إبداعية ذات شعرية مختلفة وجمالية من الألفة خاصة. يراد لهذه المداخلة أن تعرض لها، كما أظهرها الإبداع العربي ونظر لها النقد.
I – عتبة :
يحتاج الحديث عن القصيدة النثرية إلى عتبة تحدد زاوية النظر، التي سننظر من خلالها إلى هذا الشكل وتضبط بعض المصطلحات النقدية الضرورية لهذه المقاربة النقدية، أما زاوية النظر فهي هنا العلاقة ما بين الأنواع لأدبية، وما يقوم بينها من علاقات تأثر وتأثير وهيمنة وخضوع، وهي أيضا تحديد لأدبية كل نوع وشعرية قوله، وما يقوم بينها من اختلاف وتنوع وأتلاف وتداخل، مثل دائما مصدر الإبداع وينبوعه المتجدد، الذي امتحى منه المبدع نصه الأدبي وجذب به قارئه إلى دائرة من الإمتاع والمؤانسة لم تكن بعد قد اختبرت.
المصطلحات :
في معالجتنا لهذا الموضوع نحتاج إلى ضبط مجموعة من المصطلحات والمفاهيم :
1 - "الشعرية : تتخذ الشعرية في المصطلح النقدي دلالة مزدوجة كثيرا ما كانت موضع لبس لعدم إدراك البعض لدلالة المصطلح على صفة الشعرية ودلالته على منهج الشعرية.
فالشعرية تدل في الاستعمال الأول على سمة جمالية يتصف بها الخطاب الأدبي، فيوصف حينها بالشعرية، وتتعلق هذه السمة بمصدر الإمتاع فيه ومأتى الحسن فيه، فما به يكون الأدبي مؤثرا في المتلقى، هو مصدر الشعرية فيه، والصفة التي يتصف بها الأدبي LE littéraire حينئذ هي الخاصية الأدبية، التي وصفها النقد العربي القديم ب "مأتى الحسن في الكلام وبدلالة الشعر على صفة الكلام"، والشعرية بهذا المعنى صفة فنينة مرتبطة بالإمتاع الأدبي ومكامنه في الخطاب الأدبي، سواء كان شعرا أو نثرا والسمات الفنية للنص الأدبي هي مكوناته الشعرية، وهي التي تضفي عليه صفة الشعرية، فتجعل منه خطابا شعريا، ولأن مصادر الإمتاع في الإبداع الأدبي، ومكامن الجمال فيه، تختلف من شكل أدبي لآخر، كان لكل شكل أدبي شعريته[1].
وقد فرق الدرس النقدي بين الشعرية بهذا المعنى والأدبية، فالشعرية هي السمة الأدبية، التي يؤدي إليها انتظام مكونات الخطاب الأدبي، في شكل من الأشكال الأدبية، على نحو يضفي عليه صفة الجمال عند تلقيه أما الأدبية فهي مكونات الخطاب في الشكل الأدبي، ومن ثم فلكل شكل أدبي مكوناته المحددة لخطابه والمشكلة للأدبية وقد حددها رومان جاكسون بأنها "ما يجعل من عمل ما عملا أدبيا."[2].
2 - نوع الشعر أو النوع الشعري : ويمكن أن نتعرف عليه من خلال التوقف عند ثلاثة عناصر أساسية محددة له كنوع أدبي مغاير لنوع السرد والمسرح، يتعلق العنصر الأول بالخاصية الإبداعية للشعر وهي هنا اختيار المبدع للاقتصاد في القول والإيجاز في الكلام طريقا في الإبداع وسنة في الكتابة، ومن هنا جاءت دلالات القصيد مرتبطة بالقصد والتعمد. أي أن القصيدة هي "الكلام المقصود في ذاته، هي اللغة عندما تصبح هدفا فنيا محددا، وليست مجرد وسيلة للتواصل تحترق بانتهائه[3] . وبالاقتصاد من جهة ثانية لاتسام اللغة فيها "بالقصد والتركيز والتكثيف، بحيث يتم تشغيل عناصرها غيابا وحضورا بفاعلية كبيرة"[4] ومن هنا كان النوع الشعري في الأجناس الأدبية، اقتصادا في اللغة، واختبارا لقدرة المبدع على الإبداع وفقا لهذا الشرط، ولذلك اعتبر "إدكارد ألان بو"EDGARD ALAIn BOU "أن الطول "هرطقة" في الشعر"[5] وأن شرط القصيدة هو تحقق الاقتصاد، قائلا "لا وجود لقصيدة طويلة، وما نعنيه بقصيدة طويلة هو تناقض تام في المصطلحات[6]
أما المحدد الثاني فيتعلق بأدبية النص الشعري، وما به يكون نصا شعريا. وإذا كان رومان جاك أبسون قد حدد موضوع الشعرية، بأدبية النص الأدبي أي ما يكون به النص الأدبي نصا إبداعيا مختلفا عن النص اللغوي – فإن تخصيص هذا الموضوع واقتصاره على نوع الشعر يحصر أدبية الشعر في ما يكون به الشعر شعرا، وهو هنا المكونات الأدبية للنص الشعري التي تجعل من القول الأدبي شعرا. لوجود هذه المكونات في النص واشتغالها على نحو يحقق شعرية الشعر ويدخله دائرة الشعر ولذلك ارتبطت أدبية الشعر بحضور تلك المكونات في النص الأدبي وبغيابها تتراجع إن لم تغب درجة الشعرية في النص.
ينضاف إلى المحددين السابقين محدد ثالث يتعلق بالشعرية. إذ الشعرية هنا وكما أبنا عن ذلك سابقا، مصدر الأمتاع والمؤانسة في النص الشعري وهي مأتى الحسن في النص الذي جعله يتصف بهذه الصفة ويصنف على أنه من نوع الشعر. وتنشأ شعرية النوع الأدبي من طرائق اشتغال مكونات أدبية الشعر وما يقوم بينها من علاقات تعطى للنص شعرية من القول تدخله مدارج شعرية الشعر بدرجاتها المختلفة وأساليبها المتنوعة.
- شعرية الشعر العربي وقصيدة النثر :
تتحدد شعرية الشعر العربي هنا "بقواعد الشعر – من حيث هو جنس أدبي لا صفة للكلام[7] "وهي القواعد التي" استبدت بتفكير القدامى وممارستهم للنصوص استبدادا بارزا – أيما بروز فيما أتاه من تفصيل لكيفيات القول الشعري وخصائصه وبنيته ولمظاهر الإجادة أو الرداءة فيه حتى أفضت آراؤهم إلى ما اصطلح عليه – عندهم بعمود الشعر"[8].
ويعرف "عمود الشعر بأنه "مذهب الأوائل" و"الطريقة المعهودة والنهج المعروف والسنن المألوف" في الكتابة الشعرية ومن ثمة فهو "شكل جامع يحتضن ما قيل من الكلام المندرج في الجنس الشعري وينفتح على ما يقال منه ويعد بما يمكن أن يقال في نطاق بنية الشعر العربي كما ترسخ تاريخيا"[9].
وقد حدد النقاد مكونات عمود الشعر بمجموعة من العناصر أهمها اللفظ والمعنى والصورة والتخييل والبناء والوزن وإن ظل التركيز على بعضها في تحديد حد الشعر سائدا، "فلم تلق مقولة من مقولات التراث من الانتقاد ما لقي حد الشعر في قولهم "الشعر كلام موزون مقفى دال على معنى"[10] فقد ناقشت كتب النقد العربي القديم المتأخرة نسبيا هيمنة هذا الحد على التعاريف الأخرى، التي تشمل بقية مكونات عمود الشعر، وخاصة منها عنصر التخييل والصورة، وقد لاحظ حمادى صمود" أن بعض كتب التراث توفر لنا بديلا جذريا على المستوى النظري للتعريفات الموسيقية ويكتسي هذا البديل صبغته الجذرية لا من رفضه للأنماط الإيقاعية، التي تميز الشعر، بل من اعتباره بنية ألسنية متميزة"[11] في موازاة مع مواقف النقاد القدامى من عمود الشعر ومكوناته، كان الشعراء العرب يختبرون شعريات من القول مختلفة ومتنوعة مثلت في تاريخ الإبداعي الأدبي العربي، الوجه الثاني لتحولات الشعرية العربية وعدم استقرار النص الشعري على هيئة إبداعية واحدة، حتى بعد ضبط عمود الشعر، ويمكن أن نشير هنا بشئ من الإيجاز المخل إلى مظهرين من مظاهر تغير جماليات الشعرية العربية يبرزان : موقف الشاعر العربي من عمود الشعر :
1 - الشاعر وقبول سلطة العمود :
أما المظهر الأول وتجليه الممارسة الإبداعية لمنتجي النص الشعري العربي من خلال ما نسميه بالقبول بضوابط عمود الشعر وهو القبول الذي كرسته السلطة النقدية وجمالية التلقي وألفته.
فخلال تاريخ الشعر العربي، يلاحظ هذا الحضور المستمر لمكونات عمود الشعر وإن بمستويات متفاوتة، وقد مثل حضور هذه المكونات وغياب بعضها، وهيمنة البعض وسطوة البعض الآخر، مصدار إغناء وتنوع واختلاف في الشعرية العربية نلمسه في نصوص الشعر العربي القديم والحديث، فعلى مستوى النصوص القديمة مثلا ظلت الهيمنة لمكونات اللفظ والمعنى والوزن والبناء على حساب الصورة والتخييل إلى حدود ما سمي بالشعر المحدث : حين أخذ مكون الصورة والتخييل مرتبة مهمة في مكونات العمود، والمثال الذي يحضر هنا هو نموذج شعر أبي تمام الذي أخذ عليه من أنه يوغل في الاستعارة. ولعلنا لا نبالغ هنا إّذا قلنا إن ما عرفه الشعر العربي من تحول في جمالية القول مع الشعراء المحدثين في العصر العباسي كان منشأه القيمة الفنية التي بدأ يعطيها الشاعر العربي لمكونتي الصورة والتخييل من عمود الشعر مما كان له الأثر الكبير في تجديد الشعر العربي، لم يخل من خصام ومناهضة في وقتها، نتيجة لسيادة سلطة مكونات العمود الأخرى داخل دوائر إنتاج النص وتلقيه.
وهي الهيمنة التي كرست في تاريخ الشعر العربي الكلاسيكية العربية قرونا من الزمن وأعادت إنتاج نصها الشعري في العصر الحديث في ما يعرف بالإحيائية العربية.
أما على مستوى النصوص الحديثة، فسيلاحظ أن تحول الشعر العربي الحديث من الكلاسيكية إلى الرومانسية، كان من الناحية الفنية تركيزا على مكوني :
الصورة والتخييل من العمود، إن لم نقل هيمنة هذين العنصرين على بقية العناصر الأخرى، مما ساهم تدريجيا في تهيئة موقف الرفض والتمرد على العمود بما هو منظومة متماسكة، ولعل ما حظي به عنصر التخييل من عناية عند رواد الرومانسية العربية إبداعا وتنظيرا وخاصة منهم الشابي هو الذي دفع في هذا الاتجاه.
2 – الشاعر ورفض سلطة العمود
يمكن تلمس المظهر الثاني لموقف الشاعر العربي من عمود الشعر، كما تجليه الممارسة الإبداعية – من خلال جماليات رفض ضوابط عمود الشعر والخروج على سلطة نصه وقد أتخذ هذا الرفض ملمحين أساسين طبعا الإبداع العربي منذ منتصف القرن العشرين بسمة فنية ميزت الشعرية العربية بأساليب شعرية جديدة أغنت النص العربي ونوعت من مصادر إنتاجه، وساهمت في انفتاحه على جماليات من التلقي والألفة لم تكن معهودة.
وتمكن ملاحظة هذه السمة النقدية في تركيز الشعراء على مكون الوزن باعتباره محددا مهيمنا في الشعرية الكلاسيكية، ومحور ارتكاز عول عليه الشعراء كثيرا في إنتاج نصوصهم، والنقاد في حدهم للشعر، وقد انقسم الشعراء في موقفهم من الوزن إلى متصرف فيه بما ينسجم وملامح الشعرية الجديدة، وإلى معطل لدوره. وقد مثل الفريق الأول جماعة الشعر الحر أو قصيدة التفعيلة، والثانية جماعة شعر أو قصيدة النثر.
وإذا كان أصحاب الموقف الأول يحتفظون بالوزن كمكون من مكونات عمود الشعر ولكنهم يتصرفون فيه. مستبدلين نظام البيت بالتفعيلة – فإن أصاحب الموقف الثاني يسعون إلى تحقيق شعرية الشعر بالتعويل على مكونات عمود الشعر دون الوزن العروضي. وهو اختبار ليس بالسهل في ظل سلطة نقدية مدرسية لا تعترف بالشعر غير الموزون وأعراف من التلقي تعودت على رفض كل ما لا ينسجم والأذن الخليلية، ومن هنا كانت صعوبة ظهور قصيدة النثر في البيئات الأدبية، المتمسكة بالوزن شرطا في الإبداع الشعري. ومن هنا كان على أصحاب هذا التوجه وهم يحاولون إلغاء الشكل القديم للقصيدة العروضية، أن يقترحوا لقصيدة النثر شكلا جديدا.
قصيدة النثر : ملامح الشكل :
عند العودة إلى نصوص قصيدة النثر في التجربة العربية نلاحظ أن ما يميزها عن قصيدة التفعيلة في الشعر العربي المعاصر هو تعطيلها للأوزان الخليلية وتفعيلها لبقية عناصر العمود الشعري، برؤى وتصورات جديدة تنبني على ما أحدثته نظرية الإبداع من تغيرات جذرية في إنتاج النص الأدبي وأعراف تلقيه، يقول صلاح فضل مبرزا لهذه الخاصية الشعرية لقصيدة النثر، "تركز قصيدة النثر على تعطيل المعامل الأساسي في التعبير الشعري وهو الأوزان العروضية، دون أن تشل بقية إمكانات التعبير في أبنيتها التخييلية والرمزية، ومن ثم فإن وضعها على الأعراف بين التعبير والتجريد يصبح ترجمة دقيقة لإستراتيجيتها الشعرية"[12] وبتعطيل الشاعر لمكون الوزن يدخل دائرة من الإبداع الأدبي وسط ما بين النظم والنثر والشعر والسرد، عبر عنها أستاذي "بالأعراف" وهو مفهوم تراثي جميل يحيل فعلا على المكانة التي تحتلها قصيدة النثر في سلم الإبداع العربي، فأصحابها أقرب في وضعهم الشعري ومنزلتهم الإبداعية في سلم الشعرية العربية المعاصرة إلى موقع "أصحاب الأعراف "ومنزلتهم يوم الدين بين الجنة والنار، فهذا البرزخ الشعري والمنزلة الأدبية هما ما يميز مكانة قصيدة النثر اليوم في العديد من البيئات الأدبية في المجتمع العربي، ولذلك كان على منتجي هذا الشكل الشعري أن ينتجوا قصيدة "ما يبقيها في نطاق الشعر – دون أن تغدو نثرا خالصا – هو كفاءتها في تشغيل بقية درجات السلم، تعويضا لتعطيل الدرجة الإيقاعية، الأمر الذي يجعلها تتميز بنسبة عالية من الانحراف النحوي والكثافة والتشتت الناجم أساسا عن انفراط العقد الموسيقي، ويجنح بها نحو منطقة التحرر الدلالي من أنماط التعبير المألوفة[13] . تلك هي السمات الفنية التي تجعل من قصيدة النثر اليوم من جهة نوعا من الاختبار الفني لقدرة الشاعر العربي المعاصر في أن يشغل مكونات عمود الشعر دون أن يحتفي كثيرا بعنصر الوزن منه، وتجعل قارئها من جهة ثانية "قادرا على إغفال الوزن – وهو الخاصية الأبرز في الشعر – من خارطة الشروط الضرورية، والتحرر منه مع الإبقاء على جوهر الشعر، المتجاوز للمستوى الصوتي الأول. أي الإبقاء على عمقه الإيقاعي واكتماله التخييلي، وكثافته الشعورية"[14].
قصيدة النثر وإشكال التلقي :
تطرح قصيدة النثر في أغلب دوائر تلقيها قضايا وأسئلة تحتاج إلى البسط والتحليل والإجابة والتعليل. ليس بالإمكان التعرض لها في هذا الحيز الزمني المحدد لهذه المداخلة ولكننا نعرض الاثنتين منها يترتب عليها في نظرنا – مستقبل هذا الشكل الشعري في الكتابة العربية.
أ – القضية الأولى : تتعلق بالموقف النقدي من النص الشعري الحداثي عامة وقصيدة النثر خاصة وهو موقف مازال متأثرا بأسباب الرفض الاجتماعي والثقافي والاجتماعي السائد في أغلب دوائر تلقي الشعر في المجتمعات العربية
فقد دفع هذا الرفض، بعض النقاد إن لم نقل أغلبهم إلى الاستجابة لهذا الرفض والسير في ركبه محاباة لسلطة النسق الشعري السائد، وتمسكا بأهداب تراثية لا تستند دائما إلى نظرية العرب في الإبداع ولا إلى إدراك عميق لحد الشعر عندهم وإنما إلى التمسك بتعريف من تعاريف هذا الحد حظي في تاريخ التداول العربي للشعر بالقبول والاستحسان. ومن ثم كان على النقد العربي الحديث أن يراجع هذا الفهم ليقيم نوعا من التصالح ما بين نظرية عمود الشعر، كما بلورها النقد العربي القديم وتاريخ الشعر العربي، لكي يفسح المجال أمام فعل التلقي المستند إلى الرغبة في التفاعل مع الشعر والشعرية، لا المستند إلى أفق استقبال مشحون بروح الرفض والتعصب لجمالية من الشعر لا يحيد عنها قيد أنملة.
ب - أما القضية الثانية فتتعلق بموقف الجمهور من قصيدة النثر وهو موقف في المجتمعات العربية منقسم إلى دائرة قبول ودائرة رفض – دائرة القبول وهي المهيمن عليها نجدها في البيئات الأدبية التي عرفت مراحل تطور وظهور قصيدة النثر منذ جبران وصولا إلى جماعة "شعر" ففي هذه الدوائر من التلقي تجد قصيدة النثر انفتاحا على جمهور الإبداع الشعري وقبولا أدبيا ينمو ويتطور بفعل ما يشهده المشهد الأدبي من حراك مصدره الأزمات والأوضاع المتأزمة التي يعيشها الإنسان العربي، والتي أصبحت مساحة التعبير عنها تحتاج إلى تجريب مساحات أخرى في الإبداع لم تطؤها بعد الأقدام.
أما دائرة الرفض وهي المهيمنة على أفق الاستقبال الشعري فمنشأها ما سبقت الإشارة إليه من تمسك زائد بالشعرية الكلاسيكية في أبعادها الخليلية، وجمالية الأذن الخليلية وسطوة ذائقتها وتأثيرها الفاعل في الأدب والنقد. وموريتانيا تقع فنيا ضمن هذه الدائرة ,فقد عرفت منذ بداية الثمانينيات تجارب في كتابة قصيدة النثر أبرزها نصوص إبراهيم ولد عبد الله والي اليوم مازالت دائرة الرفض هي السائدة رغم انفتاحها علي أساليب الشعرية العربية المعاصرة وأشكال السرد ونثر يته .
[1]- محمد الأمين ولد مولاي ابراهيم : شعرية رواية الصحراء الكتاب الفائز بجائزة شنقيط للآداب لعام 2004 منشورات حلقة النقد الأدبي/ 2003 انواكشوط، ص/14.
JAKOBSON.ROMAN : QUESTION DE POETIQUE ;SEUIL1973.P.15[2]
[3] - صلاح فضل : أساليب الشعرية المعاصرة، هيئة قصور الثقافة، القاهرة 1996هـ ص/ 435
- صلاح فضل : المرجع السابق ص/ 435.[4]
- صلاح فضل : المرجع السابق ص/ 435.[5]
- صلاح فضل : المرجع السابق ص / 435.[6]
- شكرى المخوت : جماليات الألفة : النص ومتقلبه في التراث النقدي بيت الحكمة تونس 1993 ص/ 79.[7]
- شكري المخوت : جماليات الألفة المرجع السابق ص/ 79[8]
- شكري المبحوث : : المرجع السابق ص / 79[9]
- حمادي صمود : في نظرية الأدب عند العرب، منشورات النادي الأدبي، بجدة 1990، ص/ 126[10]
- حمادى صمود : الأدب عند العرب، منشورات النادي الأدبي بدوة 1990 ص 126.[11]
- صلاح فضل : أساليب الشعرية المعاصرة، هيئة قصور الثقافة، القاهرة، 1996، ص / 433[12]
- صلاح فضل : المرجع السابق ص / 433.[13]
- صلاح فضل : المرجع السابق ص 434.[14]
للكاتب أيضا:
- الرواية العربية والنثرية العربية
- مدينة الرياح وشعرية متخيل الصحراء