الرجز فنٌّ شعري قديم، بل لعلَّه
يُشكِّل النواة التي تطوَّر منها الشعر العربي، وقد كان في بداية أمره
عبارة عن مُقطَّعات "بسيطة" تَجري على ألسنة الناس، في شتَّى مناحي
الحياة، ثم ترقَّى شيئًا فشيئًا، متجاوزًا بذلك مرحلة المقطَّعات إلى
مرحلة الأرجوزة.
ويُعدُّ
الرجز أبرز شكل فنيٍّ قُورن به القصيد في تراثنا الشعري والنقدي، وقد نالَ
بعض العناية من قِبَل مجموعة من الباحثين، لكن ما يُعاب على معظم الدراسات
الرجزية هو التركيز فيها على اللغة والغريب خاصة، هكذا ظلَّت تتكرر بصدده
نفس القضايا والأحكام.
أما الأرجوزة كمفهوم إجرائي،
بل كنصٍّ إبداعي قابل للتحليل والفَهم والتأويل، فما رأيتُ لأحدٍ فيها
بحثًا مُستقلاًّ أو دراسة يُعتدُّ بها، والقليل من الدارسين الذين أشاروا
إليها فعلوا ذلك دون الحديث عن تميُّزها؛ أي: إنهم تناولوها من منطلق أنها
لا تَعدو أن تكونَ هي القصيدة نفسها.
خاتمة كتاب بنية الأرجوزة وجمالية تلقيها عند العرب
الأرجوزة المدحية: وذلك
لأهمية غرض المدح فيما أنتجه معظم الرُّجَّاز والشعراء العرب من هذا الفن،
ومن الواضح أن أوائل الرُّجَّاز نظروا في تطويل الأرجوزة وصياغة عناصر
بنيتها إلى القصيدة، التي كان الجاهليون قد أسَّسوا لبناتها الأولى،
وأرسوا أسسها الفنيَّة من قبلُ.
وعلى العموم، فقد أشرنا في رجوزة المدح إلى المتتاليات الآتية:
1- المطلع:وأشرنا إلى مُختلف صيغه ودلالاتها، وصلته بالمعنى العام للأرجوزة.
2- المقدمة:
وقد تمَّ التمييز فيها بين مجموعة من الأنواع، بحيث أشرنا إلى المقدمة
الطلليَّة، ومقدمة الشباب والشيب، والمقدمة الغزلية، والمقدمة الدينية،
ومقدمة الفروسية، مُنبِّهين على أن أهميتها إنما تَكمُن في صلتها بباقي
المتتاليات في الأرجوزة، بل وبأسلوب الراجز ورؤيته إلى الحياة.
3– الرحلة: وهي
من أبرز متتاليات الأرجوزة العربية، ولاسيما أرجوزة المدح، والغالب أن
تَلي المقدمة مباشرة، إلا أنها قد تتقدم وقد تتأخَّر عن تلك المرتبة، بل
قد تَستغرق معظم الأرجوزة أو كلها أحيانًا، وهذه المتتالية هي نفسها تتركب
من عنصرين أساسيين، هما: عنصر وصف الصحراء بمشاهدها المتنوعة، وعنصر وصفِ
الناقة الذي غالبًا ما يَنشطر إلى لحظتين: وصفها حسيًّا، ثم وصفها
تخييليًّا، وكيفما كانت الحال، فإن بِنية الرحيل كانت مناسبة للرُّجَّاز؛
كي يستفرغوا جهدهم في الوصف، ويبلغوا طاقتهم في تجويده.
4– الغرض: والغرض
هنا: هو المدح، وحقُّه أن يَلي الرحيل مباشرةً باعتباره الغاية والمنتهى،
لكن وجدناه أحيانًا يأتي في غير ذلك الموضع، ولم يقتصر الرُّجَّاز في هذه
البنية على حشد معاني المدح الصَّرِفة، بل كانت فرصة تحدثوا فيها عن
هواجسهم ومواقفهم، فكثيرًا ما صوَّروا المفارقات التي يَحفل بها واقع
الناس وحال المجتمع، وهو ما يُعتبر صرخة في وجه الظلم الذي يصلى نارَه
المستضعفون، بل إن غرضَ المدح كثيرًا ما يُحوَّل إلى أنَّات من الشكوى
يَبثُّها الرُّجَّاز، معبرين بذلك عن مأزقهم الخاص.
5– الخاتمة:فقد
لاحظنا أن بعض الأراجيز خُتِمت على نحو خاص، أي: إننا اعتبرنا ذلك إجراءً
مقصودًا ينبغي التنبيه عليه وإبرازه، ومن بين مظاهر هذا الختمِ الإشارة
إلى معاني الدين أو الحكمة، وكلا الأمرين محطة للتأمل وتعميقِ الرؤية إلى
الحياة.
الأرجوزة الطردية:وتُعدُّ من أهم أنواع الأرجوزة في تراثنا الشعري، وهي مثالٌ واضحٌ على تَنوع بِنية الأرجوزة العربية.
لقد كان موضوع الطرد يأتي عرَضًا في
القصائد الشعرية القديمة، ومع نهاية القرن الأول للهجرة، بدأت تظهر بوادر
استقلاله، وذلك فيما أبدعه دُكَين بن رجاء الفقيمي وحميد الأرقط وغيرهما،
من أراجيز بلغت أوج اكتمالها مع مجموعة من الشعراء الآخرين، كأبي نواس
وأبي نُخَيلة وابن المعتز والناشِئ الأكبر وغيرهم.
وتقومُ أرجوزة الطرد - خلافًا لأرجوزة المدح - على أساس المتتاليات التالية:
1– المطلع: وبنيته في أرجوزة الطرد مُتميِّزة بمجموعة من الصِّيغ والعناصر الشكلية التي تَختلف عما يُوجد في مطالع أراجيز المدح.
2– فضاء الصيد:والمقصود بذلك زمنُ الخروج إلى الصيد، والمكان الذي يُتخير له، وهو أمرٌ تواترت الإشارة إليه في معظم أراجيز الطرد.
3 – وسيلة الصيد:حيث
كَثُر وصفُ الكلاب والفهود والخيول، وجوارح الطير من صقور ونسور وشواهين
وغيرها، كما تَمت الإشارة في كثيرٍ من أراجيز الطرد إلى وسائل أخرى، هي
عبارة عن أدوات، منها: القوس والفخ والشبكة.
4– الطريدة:وصف
الطريدة عنصرٌ أساسي في مُعظم نماذج هذا النوع من الأرجوزة، يوجد ذلك
فيها، في شكل مَقطع يَطول أحيانًا ويقتضب أحيانًا أخرى، وغالبًا ما يَلي
الوسيلة مباشرة، وقد تنوَّعت الطرائد بتنوعِ الأزمنة والأمكنة ووسائل
الصيد.
5- الصراع:ويكون مناسبةً لتصوير مختلف الطرائد المهتاجة، المغلوبة على أمرها، المستسلِمة أمام براعةِ وقوة وسيلة الصيد، كيفما كان نوعها.
6– الخاتمة: وفيها
يَتمُّ الحديث عن مجالس الأنس واللهو التي يَعقدُها الأصحاب في أعقاب
رحلات الصيد، حيث يكون الجميع على موعد مع لذيذ الشِّواء ومعاقرة الخمر.
ب- الوقوف على جمالية تلقي الأرجوزة:
فالهدفُ السابق يَتعلَّق بمعرفة البعد الفني للأرجوزة،
ذلك أنَّ حديثنا المفصَّل عن بنية نوعين أساسيين من أنواعها، مع ما تَخلل
ذلك من الإشارة إلى مجموعة من مستوياتها التعبيرية، إنما يَدخل في باب
جمالية إبداع الأرجوزة، فماذا عن جمالية تلقِّيها؟
للإجابة عن هذا السؤال قُمنا بالخطوات التالية:
- الإشارة إلى مفهوم أفُق الانتظار، وذلك باعتباره من
أهمِّ المفاهيم التي أطَّر بها (هانس روبرت يوس) حديثه عن صيرورة تَلقِّي
الأعمال الأدبية.
- الإشارة إلى أهم ملامح أفُق انتظار قُرَّاء الشعر العربي القديم، وهي
إشارة اعتبرناها تمهيدًا ضروريًّا من أجل الوقوف على مِقدار ما أضافته
الأرجوزة إلى انتظارات قُرَّاء الشعر، بل ما يُفترض أن يكونَ قد أحدثته
فيها من تغيير.
- الإشارة إلى أفق انتظار قُرَّاء الأرجوزة، فقد كان الرجز في الجاهلية:
هو تلك الأبيات القصيرة القليلة التي تُقال في أغراض ومواقف خاصة، كالحرب
والمتح والترقيص، وعلى العموم فأفق انتظارِ الجاهليين للرجز كان يَنحصر في
اعتباره جزءًا من لغة الحديث اليومي، وعندما تطوَّر الرجز وتناسلت منه
الأراجيز الطوال، تَحطَّم ذلك الأفق التقليدي "البسيط"، وحلَّ محله أفقُ
انتظارٍ آخر: يقوم على أساس اعتبار الأرجوزة مثالاً للشعر البدوي المغرِق
في الغرابة، وثَمَّةَ أفقٌ آخر تَشكَّل عند المتأخرين خاصةً، وبحسبه،
فالأراجيز هي: المنظومات التعليمية التي تَعمدنا إغفال معظمها؛ وذلك لقلة
حظِّها من المتعة والجمال.
ومهما يكن التطورُ الذي عرفته الأرجوزة
الفنية، فإن أفقَ انتظارها هو ذاك الذي شيَّده كبارُ الرُّجَّاز ومن اقتدى
بهم من الشعراء؛ لذلك وجدنا العَجَّاج مثلاً يُحتذى من قبل الأبيوردي،[1]ورؤبة وأبا نخيلة من قبل ابن نباتة السعدي،[2] وأبا نُواس- في منهوكته الرائية - من لَدن كشاجم،[3] وابن أبي حصينة[4].
وفي نفس هذا السياق أيضًا، أشرنا إلى ثلاثة مستويات لجمالية تَلقِّي الأرجوزة عند العرب، وهي:
مستوى الاختيار: ولم
يَكن هذا المستوى بارزًا كل البروز، ولكن يُستشفُّ من عدة قرائن أنه كان
أمرًا واقعًا، إن اختيار أرجوزة أو مجموعة من الأراجيز جنبًا إلى جنب في
مُصنفٍ ما، لا يخلو من التأثُّر بجمالية تلك النصوص، بل إنه يقتضي وجود
رؤية جمالية، وبالتالي فإن هذه العملية تُشكِّل ضربًا من التلقِّي الجمالي.
مستوى الطبقة: أي:
إن تصنيف الرُّجَّاز ووضعهم في طبقة مُعينة، إنما هو بُعد من أبعاد
التلقي، ومظهر من مظاهره، وتَكمُن أهمية هذا الإجراء أساسًا في كونه لم
يكن معزولاً عن الاهتمام بالأرجوزة. فتصنيف الرُّجَّاز يفضي غالبًا إلى
الحديث عن الأراجيز وتصنيفها، وهذا أمرٌ تلمَّسناه عند ابن سَلاَّمٍ
الجُمَحِي وابن قُتَيبَة.
مستوى الشرح والتفسير: وتَكمُن أهميته في كونه يقوم على أساسِ الفَهم والتأويل.
وقد تأتَّى لنا الحديثُ عن هذا المستوى من خلال ثلاثة نماذج هي: "شرح الأصمعي لديوان العَجَّاج"، و"شرح ديوان رُؤبة" المنسوب لمحمد بن حبيب، ثم "تفسير أرجوزة أبي نُوَاس"؛
لابن جني، وقد اجتهدنا في بيان جهاز التلقِّي الذي اعتمدته كلُّ قراءة من
هذه القراءات الثلاث، مُبرزين في نفس السياق أن حقيقةَ الأرجوزة وقيمتها،
إنما تَكمُن في صيرورة هذا التلقِّي.
وعلى العموم، فإن من أهمِّ النتائج والخُلاصات التي انتهى إليها هذا البحث ما نذكره فيما يلي:
1- الحديثُ عن
الأرجوزة في استقلالها عن القصيدة، فَقد خَلَطَ كثيرٌ من القدماء
والمعاصرين بينهما خَلطًا كان من تبعاته: إما أن تَدرسَ الأرجوزة - إن
درست - بمنطق القصيدة، وإما أن تغفلَ الإشارة إليها بالمرة، وهذا هو
الغالب؛ لذلك فإنَّ أطروحتنا تتأسَّس على التفرقة - بشكل واضح - بين هذين
الشكلين الفنيين.
2- التمييز بين الرجز
والأرجوزة، فالبحثُ ليس تأريخًا لفنِ الرجز وتتبُّعًا لمراحل تطوره، بل هو
وقفة متأنِّية على شكل الأرجوزة منذ أن تشكَّلت في نهاية العصر
الجاهلي، وإلى حدود القرن الخامس للهجرة.
3- التفرقة بين الأرجوزة
الفنية التي تتجلَّى فيما أبدعه جَمٌّ غفيرٌ من الرُّجَّاز والشعراء، وبين
الأرجوزة التعليمية، التي هي عبارة عن منظوماتٍ ومتونٍ علميَّة.
4- أن أهميةَ الأرجوزة
وقيمتها لا تتجلَّى في دواوين الرجاز، أمثال: الأغلب والعجاج، وأبي النجم
ورُؤبة فَحسْبُ، بل تَكمُن – أيضًا - فيما أنتجه عددٌ كبيرٌ من الشعراء،
من بينهم مجموعة من مشاهيرهم، كامرئ القيس ولَبيد وجَرير، وبَشَّار وأبي
نُوَاس وابن الرومي، وابن المعتز والمتنبي والشريف الرضِي.
5- أن المدحَ والطرد وما يَتخللهما من الوصف تُعدُّ أهمَّ الأغراض التي تُهيمِن على الأرجوزة الفنية في الشعر العربي القديم.
6- أن الغَرابة في الأرجوزة مسألة نسبية، ثم إنها لا تَحول دون الإحساس بجماليتها، وتحديد مختلف مستوياتها التعبيرية.
7- أن بِنيةَ الأرجوزة ليست ثابتة، بل عَرَفت عدة متغيرات.
8- أن الشرحَ والتفسير من أهمِّ مظاهر تلقِّي الأرجوزة.
9- أن شروحَ الأرجوزة التي وقفْنا عندها تقوم على أساس مستويات متفاوتة من حيث الفهمُ والتأويل.
وقد اعتمدنا في هذا البحث مَتنًا يَزيد
على خمسمائة أرجوزة، وهي مما أبدعه سبعة وخمسون راجزًا وشاعرًا، ينتمون
لفترة زمنية تَمتدُّ من العصر الجاهلي إلى حدود القرن الخامس للهجرة، ولم
يكن الحافزُ على توسيع متن الدراسة إلى هذا الحدِّ إلا الرغبة في تحقيق
أكبر قدرٍ من المصداقية للتحليلات والأحكامِ والخُلاصات، التي افترضنا
الوصول إليها، والانتهاء إلى إقرارها.
فإذا وفِّقنا إلى هذا الأمر، فذلك ما كنا نبغي، وإلا فحسبنا أننا اجتهدنا وبذلنا الوسع، ومن الله السداد والتوفيق.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] "ديوان الأبيوردي" (541).
[2] "ديوان ابن نباتة السعدي" (2/352)، (2/554).
[3] "ديوان كشاجم" (2/352)، (2/554).
[4] "ديوان ابن أبي حصينة" (2/352)، (2/554).
يُشكِّل النواة التي تطوَّر منها الشعر العربي، وقد كان في بداية أمره
عبارة عن مُقطَّعات "بسيطة" تَجري على ألسنة الناس، في شتَّى مناحي
الحياة، ثم ترقَّى شيئًا فشيئًا، متجاوزًا بذلك مرحلة المقطَّعات إلى
مرحلة الأرجوزة.
ويُعدُّ
الرجز أبرز شكل فنيٍّ قُورن به القصيد في تراثنا الشعري والنقدي، وقد نالَ
بعض العناية من قِبَل مجموعة من الباحثين، لكن ما يُعاب على معظم الدراسات
الرجزية هو التركيز فيها على اللغة والغريب خاصة، هكذا ظلَّت تتكرر بصدده
نفس القضايا والأحكام.
أما الأرجوزة كمفهوم إجرائي،
بل كنصٍّ إبداعي قابل للتحليل والفَهم والتأويل، فما رأيتُ لأحدٍ فيها
بحثًا مُستقلاًّ أو دراسة يُعتدُّ بها، والقليل من الدارسين الذين أشاروا
إليها فعلوا ذلك دون الحديث عن تميُّزها؛ أي: إنهم تناولوها من منطلق أنها
لا تَعدو أن تكونَ هي القصيدة نفسها.
خاتمة كتاب بنية الأرجوزة وجمالية تلقيها عند العرب
الأرجوزة المدحية: وذلك
لأهمية غرض المدح فيما أنتجه معظم الرُّجَّاز والشعراء العرب من هذا الفن،
ومن الواضح أن أوائل الرُّجَّاز نظروا في تطويل الأرجوزة وصياغة عناصر
بنيتها إلى القصيدة، التي كان الجاهليون قد أسَّسوا لبناتها الأولى،
وأرسوا أسسها الفنيَّة من قبلُ.
وعلى العموم، فقد أشرنا في رجوزة المدح إلى المتتاليات الآتية:
1- المطلع:وأشرنا إلى مُختلف صيغه ودلالاتها، وصلته بالمعنى العام للأرجوزة.
2- المقدمة:
وقد تمَّ التمييز فيها بين مجموعة من الأنواع، بحيث أشرنا إلى المقدمة
الطلليَّة، ومقدمة الشباب والشيب، والمقدمة الغزلية، والمقدمة الدينية،
ومقدمة الفروسية، مُنبِّهين على أن أهميتها إنما تَكمُن في صلتها بباقي
المتتاليات في الأرجوزة، بل وبأسلوب الراجز ورؤيته إلى الحياة.
3– الرحلة: وهي
من أبرز متتاليات الأرجوزة العربية، ولاسيما أرجوزة المدح، والغالب أن
تَلي المقدمة مباشرة، إلا أنها قد تتقدم وقد تتأخَّر عن تلك المرتبة، بل
قد تَستغرق معظم الأرجوزة أو كلها أحيانًا، وهذه المتتالية هي نفسها تتركب
من عنصرين أساسيين، هما: عنصر وصف الصحراء بمشاهدها المتنوعة، وعنصر وصفِ
الناقة الذي غالبًا ما يَنشطر إلى لحظتين: وصفها حسيًّا، ثم وصفها
تخييليًّا، وكيفما كانت الحال، فإن بِنية الرحيل كانت مناسبة للرُّجَّاز؛
كي يستفرغوا جهدهم في الوصف، ويبلغوا طاقتهم في تجويده.
4– الغرض: والغرض
هنا: هو المدح، وحقُّه أن يَلي الرحيل مباشرةً باعتباره الغاية والمنتهى،
لكن وجدناه أحيانًا يأتي في غير ذلك الموضع، ولم يقتصر الرُّجَّاز في هذه
البنية على حشد معاني المدح الصَّرِفة، بل كانت فرصة تحدثوا فيها عن
هواجسهم ومواقفهم، فكثيرًا ما صوَّروا المفارقات التي يَحفل بها واقع
الناس وحال المجتمع، وهو ما يُعتبر صرخة في وجه الظلم الذي يصلى نارَه
المستضعفون، بل إن غرضَ المدح كثيرًا ما يُحوَّل إلى أنَّات من الشكوى
يَبثُّها الرُّجَّاز، معبرين بذلك عن مأزقهم الخاص.
5– الخاتمة:فقد
لاحظنا أن بعض الأراجيز خُتِمت على نحو خاص، أي: إننا اعتبرنا ذلك إجراءً
مقصودًا ينبغي التنبيه عليه وإبرازه، ومن بين مظاهر هذا الختمِ الإشارة
إلى معاني الدين أو الحكمة، وكلا الأمرين محطة للتأمل وتعميقِ الرؤية إلى
الحياة.
الأرجوزة الطردية:وتُعدُّ من أهم أنواع الأرجوزة في تراثنا الشعري، وهي مثالٌ واضحٌ على تَنوع بِنية الأرجوزة العربية.
لقد كان موضوع الطرد يأتي عرَضًا في
القصائد الشعرية القديمة، ومع نهاية القرن الأول للهجرة، بدأت تظهر بوادر
استقلاله، وذلك فيما أبدعه دُكَين بن رجاء الفقيمي وحميد الأرقط وغيرهما،
من أراجيز بلغت أوج اكتمالها مع مجموعة من الشعراء الآخرين، كأبي نواس
وأبي نُخَيلة وابن المعتز والناشِئ الأكبر وغيرهم.
وتقومُ أرجوزة الطرد - خلافًا لأرجوزة المدح - على أساس المتتاليات التالية:
1– المطلع: وبنيته في أرجوزة الطرد مُتميِّزة بمجموعة من الصِّيغ والعناصر الشكلية التي تَختلف عما يُوجد في مطالع أراجيز المدح.
2– فضاء الصيد:والمقصود بذلك زمنُ الخروج إلى الصيد، والمكان الذي يُتخير له، وهو أمرٌ تواترت الإشارة إليه في معظم أراجيز الطرد.
3 – وسيلة الصيد:حيث
كَثُر وصفُ الكلاب والفهود والخيول، وجوارح الطير من صقور ونسور وشواهين
وغيرها، كما تَمت الإشارة في كثيرٍ من أراجيز الطرد إلى وسائل أخرى، هي
عبارة عن أدوات، منها: القوس والفخ والشبكة.
4– الطريدة:وصف
الطريدة عنصرٌ أساسي في مُعظم نماذج هذا النوع من الأرجوزة، يوجد ذلك
فيها، في شكل مَقطع يَطول أحيانًا ويقتضب أحيانًا أخرى، وغالبًا ما يَلي
الوسيلة مباشرة، وقد تنوَّعت الطرائد بتنوعِ الأزمنة والأمكنة ووسائل
الصيد.
5- الصراع:ويكون مناسبةً لتصوير مختلف الطرائد المهتاجة، المغلوبة على أمرها، المستسلِمة أمام براعةِ وقوة وسيلة الصيد، كيفما كان نوعها.
6– الخاتمة: وفيها
يَتمُّ الحديث عن مجالس الأنس واللهو التي يَعقدُها الأصحاب في أعقاب
رحلات الصيد، حيث يكون الجميع على موعد مع لذيذ الشِّواء ومعاقرة الخمر.
ب- الوقوف على جمالية تلقي الأرجوزة:
فالهدفُ السابق يَتعلَّق بمعرفة البعد الفني للأرجوزة،
ذلك أنَّ حديثنا المفصَّل عن بنية نوعين أساسيين من أنواعها، مع ما تَخلل
ذلك من الإشارة إلى مجموعة من مستوياتها التعبيرية، إنما يَدخل في باب
جمالية إبداع الأرجوزة، فماذا عن جمالية تلقِّيها؟
للإجابة عن هذا السؤال قُمنا بالخطوات التالية:
- الإشارة إلى مفهوم أفُق الانتظار، وذلك باعتباره من
أهمِّ المفاهيم التي أطَّر بها (هانس روبرت يوس) حديثه عن صيرورة تَلقِّي
الأعمال الأدبية.
- الإشارة إلى أهم ملامح أفُق انتظار قُرَّاء الشعر العربي القديم، وهي
إشارة اعتبرناها تمهيدًا ضروريًّا من أجل الوقوف على مِقدار ما أضافته
الأرجوزة إلى انتظارات قُرَّاء الشعر، بل ما يُفترض أن يكونَ قد أحدثته
فيها من تغيير.
- الإشارة إلى أفق انتظار قُرَّاء الأرجوزة، فقد كان الرجز في الجاهلية:
هو تلك الأبيات القصيرة القليلة التي تُقال في أغراض ومواقف خاصة، كالحرب
والمتح والترقيص، وعلى العموم فأفق انتظارِ الجاهليين للرجز كان يَنحصر في
اعتباره جزءًا من لغة الحديث اليومي، وعندما تطوَّر الرجز وتناسلت منه
الأراجيز الطوال، تَحطَّم ذلك الأفق التقليدي "البسيط"، وحلَّ محله أفقُ
انتظارٍ آخر: يقوم على أساس اعتبار الأرجوزة مثالاً للشعر البدوي المغرِق
في الغرابة، وثَمَّةَ أفقٌ آخر تَشكَّل عند المتأخرين خاصةً، وبحسبه،
فالأراجيز هي: المنظومات التعليمية التي تَعمدنا إغفال معظمها؛ وذلك لقلة
حظِّها من المتعة والجمال.
ومهما يكن التطورُ الذي عرفته الأرجوزة
الفنية، فإن أفقَ انتظارها هو ذاك الذي شيَّده كبارُ الرُّجَّاز ومن اقتدى
بهم من الشعراء؛ لذلك وجدنا العَجَّاج مثلاً يُحتذى من قبل الأبيوردي،[1]ورؤبة وأبا نخيلة من قبل ابن نباتة السعدي،[2] وأبا نُواس- في منهوكته الرائية - من لَدن كشاجم،[3] وابن أبي حصينة[4].
وفي نفس هذا السياق أيضًا، أشرنا إلى ثلاثة مستويات لجمالية تَلقِّي الأرجوزة عند العرب، وهي:
مستوى الاختيار: ولم
يَكن هذا المستوى بارزًا كل البروز، ولكن يُستشفُّ من عدة قرائن أنه كان
أمرًا واقعًا، إن اختيار أرجوزة أو مجموعة من الأراجيز جنبًا إلى جنب في
مُصنفٍ ما، لا يخلو من التأثُّر بجمالية تلك النصوص، بل إنه يقتضي وجود
رؤية جمالية، وبالتالي فإن هذه العملية تُشكِّل ضربًا من التلقِّي الجمالي.
مستوى الطبقة: أي:
إن تصنيف الرُّجَّاز ووضعهم في طبقة مُعينة، إنما هو بُعد من أبعاد
التلقي، ومظهر من مظاهره، وتَكمُن أهمية هذا الإجراء أساسًا في كونه لم
يكن معزولاً عن الاهتمام بالأرجوزة. فتصنيف الرُّجَّاز يفضي غالبًا إلى
الحديث عن الأراجيز وتصنيفها، وهذا أمرٌ تلمَّسناه عند ابن سَلاَّمٍ
الجُمَحِي وابن قُتَيبَة.
مستوى الشرح والتفسير: وتَكمُن أهميته في كونه يقوم على أساسِ الفَهم والتأويل.
وقد تأتَّى لنا الحديثُ عن هذا المستوى من خلال ثلاثة نماذج هي: "شرح الأصمعي لديوان العَجَّاج"، و"شرح ديوان رُؤبة" المنسوب لمحمد بن حبيب، ثم "تفسير أرجوزة أبي نُوَاس"؛
لابن جني، وقد اجتهدنا في بيان جهاز التلقِّي الذي اعتمدته كلُّ قراءة من
هذه القراءات الثلاث، مُبرزين في نفس السياق أن حقيقةَ الأرجوزة وقيمتها،
إنما تَكمُن في صيرورة هذا التلقِّي.
وعلى العموم، فإن من أهمِّ النتائج والخُلاصات التي انتهى إليها هذا البحث ما نذكره فيما يلي:
1- الحديثُ عن
الأرجوزة في استقلالها عن القصيدة، فَقد خَلَطَ كثيرٌ من القدماء
والمعاصرين بينهما خَلطًا كان من تبعاته: إما أن تَدرسَ الأرجوزة - إن
درست - بمنطق القصيدة، وإما أن تغفلَ الإشارة إليها بالمرة، وهذا هو
الغالب؛ لذلك فإنَّ أطروحتنا تتأسَّس على التفرقة - بشكل واضح - بين هذين
الشكلين الفنيين.
2- التمييز بين الرجز
والأرجوزة، فالبحثُ ليس تأريخًا لفنِ الرجز وتتبُّعًا لمراحل تطوره، بل هو
وقفة متأنِّية على شكل الأرجوزة منذ أن تشكَّلت في نهاية العصر
الجاهلي، وإلى حدود القرن الخامس للهجرة.
3- التفرقة بين الأرجوزة
الفنية التي تتجلَّى فيما أبدعه جَمٌّ غفيرٌ من الرُّجَّاز والشعراء، وبين
الأرجوزة التعليمية، التي هي عبارة عن منظوماتٍ ومتونٍ علميَّة.
4- أن أهميةَ الأرجوزة
وقيمتها لا تتجلَّى في دواوين الرجاز، أمثال: الأغلب والعجاج، وأبي النجم
ورُؤبة فَحسْبُ، بل تَكمُن – أيضًا - فيما أنتجه عددٌ كبيرٌ من الشعراء،
من بينهم مجموعة من مشاهيرهم، كامرئ القيس ولَبيد وجَرير، وبَشَّار وأبي
نُوَاس وابن الرومي، وابن المعتز والمتنبي والشريف الرضِي.
5- أن المدحَ والطرد وما يَتخللهما من الوصف تُعدُّ أهمَّ الأغراض التي تُهيمِن على الأرجوزة الفنية في الشعر العربي القديم.
6- أن الغَرابة في الأرجوزة مسألة نسبية، ثم إنها لا تَحول دون الإحساس بجماليتها، وتحديد مختلف مستوياتها التعبيرية.
7- أن بِنيةَ الأرجوزة ليست ثابتة، بل عَرَفت عدة متغيرات.
8- أن الشرحَ والتفسير من أهمِّ مظاهر تلقِّي الأرجوزة.
9- أن شروحَ الأرجوزة التي وقفْنا عندها تقوم على أساس مستويات متفاوتة من حيث الفهمُ والتأويل.
وقد اعتمدنا في هذا البحث مَتنًا يَزيد
على خمسمائة أرجوزة، وهي مما أبدعه سبعة وخمسون راجزًا وشاعرًا، ينتمون
لفترة زمنية تَمتدُّ من العصر الجاهلي إلى حدود القرن الخامس للهجرة، ولم
يكن الحافزُ على توسيع متن الدراسة إلى هذا الحدِّ إلا الرغبة في تحقيق
أكبر قدرٍ من المصداقية للتحليلات والأحكامِ والخُلاصات، التي افترضنا
الوصول إليها، والانتهاء إلى إقرارها.
فإذا وفِّقنا إلى هذا الأمر، فذلك ما كنا نبغي، وإلا فحسبنا أننا اجتهدنا وبذلنا الوسع، ومن الله السداد والتوفيق.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] "ديوان الأبيوردي" (541).
[2] "ديوان ابن نباتة السعدي" (2/352)، (2/554).
[3] "ديوان كشاجم" (2/352)، (2/554).
[4] "ديوان ابن أبي حصينة" (2/352)، (2/554).