دلالات التغيير وجمالية التواصل في قصيدة (غيمة في سمائي لـ /مسعود حديبي
الشاعر: مسعود حديبي
الخبر نشر في: 10 / 05 / 2009
العنوان : دلالات التغيير وجمالية التواصل في قصيدة (غيمة في سمائي لـ /مسعود حديبي ..
بقلم :عبد الحفيظ بن جلولي. تتسرّب الفكرة الشعرية في هدوء أخّاذ ينمّ عن شفافية وجدانية، لا أقول فقط في شعرنة الكلمات، وإنما أيضا في سيرورة الحياة التي تقود الذات إلى مدارات المعيش والعادي. تدور القصيدة حول هذه المعادلة المفقودة في واقع الإنسان، والمتمثلة في التواصل الذي أسّست له شعرية خاصة، تستدعي العالم لا لاحتوائه ولكن لتَمَثله، ولكي يكون الآخر هو هذا العالم أيضا. ينفتح النص الحالي على لغة ذات مستوى استئناسي يجمع بين إيحاء المفردة وتدفّق الصّورة، والعنوان يحمل في دلالاته محاولة القصدية الشعرية في تقريب النص من القارئ، أو نشدان قارئ معيّن، فجملة العنوان "غيمة في سمائي" ذات طبيعة متجانسة من حيث عناصر الموضوع، لأن الغيمة من مشتملات السّماء، إلاّ أن المعنى يختلف حين تُسند السّماء إلى ذات الشاعر، حيث تعتبر مشتركا ولا تعود ملكيتها إلى شخص بعينه، لكن يجوز للشعر ما لا يجوز لغيره، فالسّماء تحمل دلالة الشّساعة والسمو، والغيمة لا تمطر إلا من الأعلى، والعنوان يخصّص ويؤكد تواجد عنصر ما ـ الغيمة ـ في سماء الشاعر، لتنبيه التلقي إلى تواصلية الذات والنص واحتضانهما للآخر، ويتأكد هذا المعنى من مطر الغيمة الذي يلامس جفاف الأرض، إذ يمثل ذلك حركة فاعلة وإحيائية بين موضوعتين، وهو ما يراد من حركة الشعر صوب العالم، وعند هذا المستوى من التأويل تُطرح مفاهميا دلالة الإهداء الموجّه إلى الشاعرة "رجاء الصديق"، فهل القصيدة هي الأنثى، أم الأنثى هي القصيدة؟ وذلك مستوى آخر من التواصل. دلالة الإهداء: منح جيرار جينيت أهمية كبرى للعناصر أو الإنتاجات التي تدعّم النص، فهي كما يورد عبد الرحيم العلاّم: "تعيينات تحيط بالنص وتمدّده، وبالضبط لكي تقدّمه بالمعنى الإعتيادي للفظ، لكن أيضا في معناه الأكثر قوة لأجل ردّه حاضرا، أي لضمان حضوره في العالم." والإهداء كنص موازي تنطبق عليه هذه الرؤية، وهو في نص "غيمة في سمائي"، يؤدّي وظيفة كشفية، تماما مثلما يضطلع بها النص الصوفي الغارق في المحبة، أي التواصل مع الماهية الشفافة في العالم، وتتجلى هذه الوظيفة في التداخل الحقلي بين القصيدة والأنثى، والعلاقة بينهما تتبدى من خلال طبيعة كل منهما، أي إغراء الأنثى وجمالية القصيدة، ويمثل كل منهما مركز جدب بالنسبة للآخر الذي يرومه الشاعر، وبالتالي تتحقق صفة القصيدة في الأنثى وتتحقق صفة الأنثى في القصيدة لبلورة القصيدة الأنثى بطبيعتها الإغرائية والجمالية، مؤسَّسَة كعامل استدعائي لتحقيق التواصل والانخراط في العالم. التواصل بنية القصيدة: تتكرر مفردة الالتفات مصاغة في النّفي في مقطعين شعريين متتابعين، والدّعوة إلى عدم الالتفات تعني تجاوز الخلف وتسهيم الحركة نحو الأمام، والمقطع التالي يبيّن علاقة شعرية مميّزة: "لا تلتفتي/لم يعد يهمّ من أين يأتي الغروب/أو الشروق". فالدّعوة إلى عدم الإلتفات مرتبطة بالشروق والغروب، وحركة المعنى تكشف عن حالة من اليأس تستولي على الذات الشاعرة، ومن ثم تأثُّر تواصلها مع العالم في مظاهره المستفزّة للمقول، والشروق والغروب كعنصرين طبيعيين يجلبا الانتباه لجمالية طبيعتيهما، أصبح انبثاقهما غير ذا أهمية بالنسبة للشاعر، وبالتالي فهو يدعو الشاعرة المُهدى إليها النص أن تُسهِّم حركتها صوب الأمام، فالخلف يُترجم نصيا بعدم الاكتراث الذي يمكن تأويل انطباقه على الشعر لالتقاء طبيعة الشروق والغروب بطبيعة الشعر الجمالية، ومنه يصبح الغروب والشروق يتعلقان بغروب الشعر وشروقه. يأتي المقطع التالي ليؤكد الاحتمال الممكن في القرائن النصية السابقة: "لا تلتفتي/إن الضلال على طريق الشعر/الخروج عن المعنى/طاعة الصنم الحجري/الأبوي الكريم/لا يعني العقوق" بعكس المقطع السابق التيئيسي، يأتي هذا المقطع تمرّديا بما يتوافق وطبيعة الشعر الإنقلابية، بحيث يشتمل على مفردات التمرّد الصادمة والتي يراد منها شعريا المقابلة النصية لخلق الصراعية في أفق تلقي القارئ، ليستوعب آليات الحركة التغييرية المواجِهة للعالم في قداساته الزائفة، فـ "الضلال"، بهذا المعنى إنما يعني الرؤية خلاف ما يرتئيه العالم، و"الخروج عن المعنى" هو قلب مفاهيم العالم الطاعنة في الثبات والمخالِفة لطبيعة الشعر المثخنة بالتأويل والرؤيا، و"طاعة الصّنم الحجري"، يعني الإمتثال لبداهات الشعر المباغتة والمغايرة لسيرورة العالم الظاهر والمباشر، وبالتالي فالشاعر يتحرك ضمن إمكاناته المحايثة للدهشة والتغيير والصادمة لقناعات العالم، وتلك هي صميم الرؤية التي تميز الوجود في العالم بمفهوم هايدغر. أفق التغيير الشعري: لا يهوّم الشاعر على المتلقي، ولكنّه يستدرجه وفق متواليات شعرية تتفاعل أساسا مع أفقه اللاقط للشوارد المضمرة: "خذي كلك/واختبئي في الأمام/من سلطة الخلف". هذا المقطع يكمّل المقطع الثالث والرابع، من حيث يقدّم الدلالة الكامنة في معنى "لا تلتفتي"، فالخلف ساكن في تماديه التقديسي المتعالي، وبالتالي فهو يناقض طبيعة الشعر التي لا تعترف بالقداسات خارج انفتاحات الأفق الدلالي وفتوحات المعنى، لذلك الاختباء في الأمام الشعري، هو هروب مبرّر إلى حيث القصيدة مسكن الدلالة والغرابة ورمزية الحرف: "لا تتركي شيئا يدل علينا/للشتاء، الرعود، البروق/لا تتركي أثرا على أننا قد عبرنا من هنا/وعلينا آيات الحروقْ". إن النص الذي بين أيدينا منذ مفتتحه يؤسّس للتميّز والعزلة الايجابية: "خذي وطنا بين ذراعيك وانتظري/في أعالي الكلام الجميل." وكأن الشاعر يتكلم من موقعه كمنتج للمقول وليس كمجرد ذات اعتادت فعل القول، وهو ما يؤسس لتيار التجربة الذاتية في الشعر الجزائري، حيث يدعو الصديقة المخاطَبَة أن تنأى بعالمها بعيدا عن خراب الأمكنة المتخمة بالعادي، فما تملكه يمثل المختلف الوجودي أو ما سمّاه الشاعر بـ "أعالي الكلام الجميل"، وهو الحلقة المفقودة في معادلة الوجود الآخر، الذي يميّز واقعه العادي المرموز له نصّيا بالغبار والشقوق: "إن مشيك لا يليق بأرصفة مزيّنة بالغبار/وبالشقوق". الاستدعاء الشعري/غنائية الشاعر: تتأسس القصيدة معرفيا في دائرة الاستدعاء الممهد له عبر شروط طهرانية، ليس بالمفهوم الفلسفي ولكن بالمفهوم الصوفي الذي يندرج ضمن جدلية التخلي والتحلي، حيث تمثل المقاطع الشعرية (2،3) العتبة الماقبلية لعملية الاستدعاء التواصلي، وهو أهم ما يميز شعرية مسعود حديبي. تصل السيرورة الشعرية لحظة الاستدعاء: "خذي كلك/وابتعدي نحو حدائقي البابلية". المعروف تاريخيا أن حدائق بابل معلقة، وهو ما منحها التصنيف ضمن عجاب الدنيا السبع، والشاعر عندما يوظف الدلالة التاريخية إنما يحيل على الدلالة الإيحائية التي تستلهم من صفة التعليق مستوى السمو الشعري، ومن صفة الأعجوبة مع قلة العدد (7)، مستوى التفرد في التجربة الشعرية غير المتاحة في المطلق. إن ما يمثل الدهشة والتميز في هذا النص هو مميزات التجربة الفردية التي لا تنعزل عن محيطها الإنساني، وتخرج عن كونها تجربة فردية مجرّدة ومعزولة، كما يحدث في بعض التجارب الشعرية الأخرى: "اقتربي صوب بعدك" إن الاستدعاء التواصلي المؤسّس له شعريا في تجربة حديبي، لا يكتفي بمجرد الاستدعاء، بل يمحور المفهوم حول البعد، وهو ما يجعل من الشاعر بعدا للآخر، أي يصبح فضاء الأنا والآخر الشعريين أو الإنسانيين مجالا للتبادل الشعوري الإنساني. صوفية للتواصل: تنضج فكرة التواصل شعريا بالتأسيس لها في مجالية الصلاة، التي تمثل الانقطاع الكامل عن الأرضي والاتصال بالسماوي، في سلوك شفاف نحو ضفاف مختلفة، وهو ما يمنح التواصل بعده الصوفي، الممعن في التماس التعالق مع التجربة الذاتية على طريق السلوك والعبور إلى معين الحق، مما يوفر للتواصل معناه الروحي: "إذ نغيب في نشوة/وشهوة/بجوار الرب/......ونحن نؤدي الصلاة". إن أهم ما يتحقق في شعرية التواصل، هو الاستدعاء الشعري على أساس القيمة المضافة التي يشكلها وتمنح الواقع معنى مختلفا: "إن مشيك لا يليق بأرصفة مزيّنة بالغبار/وبالشقوق". فعدم توائم طبيعة الشعر ذات الامتلاك الجمالي/المعرفي مع ما سمّاه الشاعر بالأرصفة المزيّنة بالغبار والشقوق، وهو واقع حال العالم المترع بالفظاعات والانكسارات والقناعات الزائفة، يدمج المتاح الشعري في عملية التطهير، وهي إحدى مهمات الشعر بالمفهوم الارسوطاليسي، الذي يعني التخلص من ضغط العواطف، وبالتالي يصبح الشعر حلو مفيد كما يرى هوراس ، أي له أهمية وكيان محايث للعالم: "آن لنا أن نرتب الأشياء كما نشتهي/ ونغرس عشبا ووردا/على شرفة أخرى/لا تشبه الشرفات". وهو المراد من شعرية التواصل في خلق هذا الكيان الجميل ذو الطبيعة التعبيرية "المتفوقة على الطرق العادية"، لتنقل العالم إلى جوارات السفر الصوفي الغارق في التجربة وجماليات الانعتاق من أسر الآني ومعانقة بهاء الاستشرافي. عبالحفيظ بن جلولي