منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    دراسة في إشكالية التلّقي الجمالي للمكان

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    دراسة في إشكالية التلّقي الجمالي للمكان Empty دراسة في إشكالية التلّقي الجمالي للمكان

    مُساهمة   الثلاثاء ديسمبر 07, 2010 12:37 pm

    [right][center]- حداثة الرؤيــا: أ- الطرح الحداثي لتجربة المدينة:

    نؤكد –بدءا- أن تجربة المدينة لا تنفصل عن غيرها من التجارب الأخرى التي تسهم في صنع توليفتها وبناء تركيبتها، كالحزن والاغتراب والقلق وغيرها من ملامح العصر، وإن نحن حاولنا إبرازها هنا منفصلة، فإنما لغرض منهجي بحت لا غير.‏

    انطلاقا من الموقف العربي الأصيل- الذي رأينا بعض جزئياته في مواقف شعرائنا من المدينة في التراث القديم والنهضة- الموقف الواثق من نفسه الذي لا يتضخم من الذات، ولا يتقزم أمام الآخر، نحاول رصد ملامح حداثة التجربة كما استطعنا فهمها من خلال قراءتنا المتأملة لكثير من القصائد المعاصرة، ومن خلال البيانات التنظيرية الراصدة لها.‏

    فإذا كانت التجربة في الشعر القديم وحتى عهد الأحياء –الإطار السلفي- لا تكاد تتخلص من ضيق الأفق، ولا تكاد تتجاوز مساحة الصورة البسيطة المبنية على تقنيات البلاغة القديمة، فإن التجربة الجديدةالحداثية) تختلف عن ذلك تماما، نتيجة عوامل عدة سنتبين بعض معطياتها من خلال العرض اللاحق.‏

    تكاد التجربة الحداثية-في مجملها- تقوم على أساس الصراع ضد التحضر والتمدن. لكن، لا في جوانبه الإيجابية، بل في جانبه السلبي الحامل لرموز التفسخ، وتقطع وشائج العلاقات الإنسانية وتشيئها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى تعمل على التخلص من هيمنة النظرة التراثية للأمور .‏

    ولما كانت تجربة معينة تصدر نمطا من التعبير معينا، ونهجا من الرؤية متميزا، فإن طبيعة طرح تجربة المدينة في القصيدة المعاصرة، أتت مختلفة عن نظيرتها في التراث العربي القديم، وإن كانت تمتح منها في أحايين كثيرة. لكن بإضافات جديدة، وبلورة مختلفة؛ أي أنها تمتح من التراث، في الوقت الذي لا تنقطع فيه عن الواقع المحيط بها، أو بالأحرى الذي تعيشه، بما فيه من ثقافات وافدة ؛ على اعتبار أن الإبداع"مشروع حرية شمولية، وإلا أصبح اغترابا جديدا مضاعفا إذا بقي ناقصا جزئيا"(1) ، فهوليس محايدا...‏

    لاشك أن مفهوم التجربة الحديثة يطرح إشكالية جد مستعصية، ولكنها صميمية في الآن نفسه، وذلك ليس لأنها ذات كمّ تراكمي فحسب –تنهل من ينبوعين ثريين : التراث، والوافد من الغرب- بل لأنها حلمية شفيفة، وأيضا صوفية، تنبئية، متجددة دوما، وذات سيرورة حركية مشرئبة نحوالمستقبل، لأنه "ليس هناك شيء اسمه تجربة شعرية في وضع الانحدار الاجتماعي، وإنما هنالك الماضي الشعري المستعاد مع كل شاعر جديد "(2) .‏

    ونحن نؤمن بأن الموضوعات وحدها لا تصنع "الحداثة الشعرية" لأنه قد "تكون الموضوعات حديثة ولكن أسلوب تناولها يتم عبر الأنساق التقليدية"(3) ولذلك نعتقد أن الحداثة الحقة "إنما تلتمس في الأدوات المعززة بالرؤى والمواقف التي تكتشف أستار الواقع وحجبه، فتعري زيفه ومتناقضاته، وتغوص في أعماق النفس فتعرى الإنسان وموقفه وقضاياه وإشكالاته مع العالم "(4) . ولقد أدركت القصيدة العربية المعاصرة-التي هي قصيدة الرؤيا قبل أي شيء آخر – هذا الموقف وتمثلته، وذلك حينما أدركت أنها في عصر من سماته التغّير المستمر، والتجدد الدائم. فأخذت على عاتقها هذا العمل العظيم- التجريب والتجديد- والخطير في الآن نفسه، أخذته في شكل مرن يتلاءم مع مضامين رؤيتها، ويستطيع إحتواء إشكالات عصرها المعقد وتجاربه الشائكة والجديدة. ذلك لأن الشكل هو "الإطار الذي يضم هذه التجربة الجديدة في الرؤيا للحياة التي تستلزم تجاوزا للشروط الشكلية، ومزيدا من الحرية لأشكال تفرضها الممارسات الشعرية باعتبارها تتجه نحواكتشاف ما لم تسبق معرفته"(5) . محاولة في ذلك بلورة تجارب شعرية أكثر جدة وأكثر ثورية، وذات بعد عالمي، من حيث الصفة، بل وعالمي من حيث المستوى أيضا (6) .‏

    وبناء على ذلك أصبح ينظر إلى المدينة – وعلى الأخص في التجارب الناضجة – لا على أساس المقارنة بينها وبين الريف كما هو الشأن في النموذج الرومنسي، بل كإطار حضاري، يصب فيه الشاعر رؤاه، ويعبر فيه عن موقفه من الحياة في عالم يتغير باستمرار ... ويعبر فيه عن رؤيته للوجود في كون مأزوم، يُستقطب بالرؤيا والحلم، ويتداخل فيه الرمز بالأسطورة، والواقع بالمثال. ويلهج فيه بلغة الحياة اليومية، ذات الطبيعة الساخرة حينا، والتحذيرية أحيانا أخرى. ذلك لأن الشاعر هو راءٍ - يرى أكثر من غيره – ونبي يصدع بالحق ويبتغي انتشار العدل، ولا يتوانى في تحذير قومه مما قد يهلكهم :‏

    قلت : فليكن العدل في الأرض، عين بعين وسن بسن.‏

    قلت : هل يأكل الذئب ذئبا أو الشاة شاة ؟‏

    ولا تضع السيف في عنق اثنين: طفل ... وشيخ مسن‏



    ورأيت ابن آدم يردي ابن آدم يشعل‏



    في المدن النار يغرس خنجره في بطون الحوامل‏



    يلقي أصابع أطفاله علفا للخيول، يقص الشفاه‏



    ورودا تزين مائدة النصر ... وهي تئن‏



    أصبح العدل موتا، وميزاته البندقية، أبناؤه‏



    صُلبوا في الميادين أو شُنقوا في زوايا المــدن‏



    قلت : فليكن العدل في الأرض لكنه لم يكن.‏

    أصبح العدل ملْكا لمن جلسوا فوق عرش الجماجم بالطيلسان –‏



    .......... الكفن‏

    ورأى الرب ذلك غير حسن(7)‏

    تمتح القصيدة رؤاها من مصدرين مختلفين بل ومتناقضين؛ العدل في المفهوم الديني، والعدل كما هو في الواقع المعيش، فإذا كان العدل في المفهوم الديني الوارد في النص بصيغة الماضي قلت ) الواقع في دائرتي الأمر والنهي اللتين هما من خصيصات التبليغ النبوي، المرتبط دلاليا مع الحاضر القمعي الذي يجب أن يغير، والمشرئب نحو المستقبل الذي يجب أن يكون كالماضي عدله حقيقي حيث العين بالعين، والسن بالسن )، وحيث التجسيد الحقيقي لجوهر العدالة الإنسانية في الأرض، وانبناء علاقة الإنسان بأخيه الإنسان – بالرغم من تشابك العلاقات الشخصية – على مبدأ التآخي والرحمة والإيثار، إذا كان هذا هو مفهوم العدل في الموروث الديني كما جسده الخطاب الشعري، فإن مفهوم العدل في الواقع المعيش، لا ينطوي إلا على مفارقات حادة وتناقضات جلية، نتيجتها الحتمية هي غياب العدل، وانتشار الظلم وسيادة مبدأ الغاب، بل وأكثر من ذلك، فإذا كان الذئب لا يأكل ذئبا والشاة لا تأكل شاة، فإن الإنسان على النقيض من ذلك تماما، إنه يردي أخاه الإنسان، ويضرم النار في المدن، يبقر البطون، ويقصّ الشفاه، ... إلخ، والقصيدة تقابل بين زمنين: الزمن الماضي –زمن الذاكرة- والزمن الحاضر –زمن الواقع- محاولة من خلال ذلك تجسيد المفارقة العجيبة بين الزمنين، وهكذا ينشط "فعل الذاكرة فتلتقط التفاصيل البشعة التي يزخر بها الواقع الذي تحاوره، فتعريه تماما من خلال تلك الرؤى المتلاحقة التي تتغلغل في كل أجزاء القصيدة، لتكون في النهاية الدلالة المركزية التي تنطوي عليها دوال "العدل" في المفهوم الإنساني، لتتعارض فيما بعد على نحوحاد مع الدلالة الدينية للعدل"(Cool ، التي تصدرت مطلع النص. ولعل المساحة البيضاء المثبتة قبل نهاية النص –والتي أصبحت من أدوات التعبير كاللغة تماما، ومن جماليات التشكيل المكاني في النص المعاصر- تشير "إلى أن تناقضات الواقع الإنساني وصلت إلى أبعد من الحد الأقصى، وأن الطاقة التعبيرية تتوقف لعدم قدرة اللغة على رصد هذا العري الفاحش للإنسان. و"الكفن" هو المفتاح الذي يفسر أبعاد الدلالة الغائبة في المساحة البيضاء، التي تُرك أمرها لخيال متلقي النص "(9) .‏

    وزيادة على هذه الأنماط التعبيرية الجديدة، وهذه الرؤى الثاقبة والثورية، التي تحاول تغيير الواقع، وتأسيس ما هو أفضل، فإن هذا الشعر –أعني الشعر المعاصر- أصبح يعبر عن قضايا إنسانية مصيرية، وفي الآن نفسه يعبر عن حيرة الإنسان الحديث وقلقه وتبرمه إزاء قضايا أزلية لا تزال تؤرقه، كما أنه "لا تزال تهمه حتى درجة الجزع ماهية العرب ومستقبل الحضارة العربية في عصر له صفات المأساة "(10) ؛ يتمظهر هذا الاهتمام في شكل حلم، حينما تعجز الذات عن تخطي الواقع المؤلم، وحينما لا تقدر على تحمل صدمة الفجيعة، متوسلة برمزية المدن القديمة محاولة بعثها من جديد، للتغلب على فجيعة سقوط المدن الحديثة :‏

    أحلم أن في يدي جمرة‏

    آتية على جناح طائر‏

    من أفق مغامر‏

    أشم فيها لهب هياكليّا‏

    ربما لصور فيها سمة لامرأة‏

    يقال صار شعرها سفينة‏

    أحلم أن شفتي جمرة‏

    قرطاجة العصور : كل حجر شرارة‏

    والطفل فيها حطب – ذبيحة العصر‏

    أحلم أن رئتي جمرة‏

    يخطفني بخورها يطير بي لموطن‏

    أعرفه أجهله‏

    لبعلبك – مذبح‏

    يقال فيه طائر موله بموته‏

    وقيل باسم غده الجديد، باسم بعثه‏

    يحترق‏

    والشمس من رماد الأفق(11) .‏

    تزدحم القصيدة برموز الخصب المرأة) والنجاة السفينة) والرموز الأسطورية الدينية النار : رمز التطهير الديني والتخلص من قيود المادة) ورموز البعث الطائر الذي يحمل بشارة) – طائر الفينق الذي يحترق لينبعث من الرماد ثانية حاملا معه الحياة من جديد- والأطفال المُضحّى بهم كطلب لحياة أفضل. تتداخل هذه الرموز كلها وتتواءم وتتناسق في نسيج متشابك، لتعبر عن شيء واحد، ألا وهو حتمية البعث، وضرورة الاستيقاظ، ورفض الواقع الميت، ومحاولة تجاوزه، أو على الأقل بعث الروح فيه من جديد ...‏

    فإلى أي مدى استطاع الشاعر العربي المعاصر أن يجعل من "تجربة المدينة" – بوصفها مضمونا شعريا عريقا في الذات الإنسانية- مظهرا حضاريا جديدا، ومتحررا من أغلال وقيود النظرة التراثية، وأصيلا، بمعنى متحررا من النظرة الغربية لها؟‏

    إن الإجابة عن هذا التساؤل الإشكالي، الذي نقصد من ورائه ربط موضوع المدينة شعريا، بالطرح الحداثي لها، تقتضي منا أساسا تحديد أبعاد الحداثة العربية مرتبطة بتجربة المدينة العربية-لا غير- وأشكال تطورها وأنواع تجلياتها في الخطاب الشعري المعاصر، ودواعي الاهتمام بذلك .‏

    فمن الملاحظ أنه "في العالم أجمع، تصطدم المجتمعات البشرية، في أيامنا هذه، بالمشاكل التي يفترضها التطور السريع للمعارف العلمية والتقنيات الناتجة عنها، ولنتائج أنماط التفكير والعمل التي تؤثر حتما ]في[ عيش الأفراد. ويبدوأن الناس، في كل مكان، يبحثون في المدن عن ظروف حياتية لا يجدونها في الحياة الريفية، حيث تفقد ذراع المزارع أهميتها أمام الآلات التي أصبحت ضرورية كأحد أشكال استثمار الأرض. غير أن هذا التطور يطرح"(12) على الإنسان عموما، والشاعر خصوصا، جملة من التساؤلات، تزداد حدة يوما بعد يوم، تبعا لشدة التطور وتسارعه المذهل. مما فرض أنماطا فكرية وإحساسية جديدة، وبالتالي أشكالا شعرية غير تلك التي كانت سائدة . وهوما نصطلح على تسميته بالتحديث، أو الحداثة.‏

    وهي أنماط جاءت استجابة لظروف حياتية مختلفة، فرضها انهيار الريف، وتراجعه عن صنع الأحداث، ونشوء المدينة وبروزها كأهم مركز مُستقطِب.‏

    ب- نشوء المدينة العصرية المعقدة :‏

    ففي ظل التطور المذهل، وتسارع وتيرة إيقاع الحياة، وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح الريف عاجزا عن تلبية حاجيات الأفراد، ولذا فقد مهّد لإنهياره، وفقد أهميته؛ بسبب تقادم عهده، وتوقف تطوره، وعجزه عن مواكبة الأحداث نتيجة انقطاعه عن مركزها، فنشأت المدينة-كبديل– وغدت بذلك هي المركز الأنسب لها .‏

    ولقد كان انهيار الريف، وتكون المدينةالعصرية)*، وهجرة أبنائه إليها، إجابة عن اختيار مفروض، اقتضته الظروف الطبيعية والتاريخية والمد الاديولوجي الذي دخل العالم العربي إبان أو بُعيد الحرب العالمية الثانية، وعندها وجد أبناء الريف أنفسهم أنهم "مجرد أنقاض لمجتمع تليد، أنقاض مهيأة لأن تدخل في بناء جسد اجتماعي جديد"(13) هو المدينة بكل أبعادها وتحدياتها الموجهة لضمير الفرد والجماعة على حد سواء.‏

    وبناء على هذا فميلاد المدينة العربية الحديثة، لم يكن حدثا عفويا، بل حدثا تاريخيا تشكل عبر حقب من الزمن طويلة ومتداخلة، ذلك"لأن كل تغيير يطرأ على الخصائص التشكيلية أو يحدث في التوجيه الثقافي لجماعة إنسانية معينة هو نتيجة مباشرة بوظيفتها التاريخية"(14) على اعتبار أن "كل جماعة لا تتطور ولا يعتريها تغيير في حدود الزمن، تخرج بذلك من التحديد الجدلي لكلمة"(15) "مدينة".‏

    ولكن هذه "المدينة" بتحدياتها، وافتراضها لعادات وقيم مختلفة عما كان سائدا في الريف، فرضت على الشاعر العربي مواجهة محتدمة وأنماط من الرؤى والتشكيلات، حديثة، أو بمعنى آخر، فرضت عليه رؤية تتناسب مع طبيعة المحيط الذي يعيش فيه، وما يدور حوله. لأن المنطق يقتضي أن كل تغيير يطرأ على البنية الاجتماعية أو السكانية، إلا ويفترض أشكالا جديدة، ورؤى حديثة، وتلك هي الحداثة في أبسط مفاهيمها .‏

    والحداثة قد تعني في بعض جوانبها، تغير في النظرة، بناءا على معطيات مستجدة . وعلى الرغم من كثرة الكلام حول الحداثة، والتجربة الحداثية، وطغيانها على الساحات والنوادي الأدبية والفكرية، الأمر الذي يوحي بفهمها والنفاذ إلى جوهرها وعمق دواخلها، إلا أن عودة سريعة إلى الواقع تُنبىء عن مفارقات جد غريبة، ذلك أنه كثيرا ما تُجمع قصائد متعاصرة، ولكنها في حقيقة أمرها، غير متماثلة جوهرا، وإن كان ذلك متوافر شكليا، على أنها متماثلة كليا. ولكن مناقشة كهذه خارجة عن نطاق البحث... ولذلك نعود إلى الموضوع المتوخى، وهوما مدى موافقة القصيدة الحديثة كوعاء لفكرة المدينة كمضمون؟‏

    3- مرفولوجية المدينة ومعمارية الشكل الشعري الحديث:‏

    إن الشعر الحديث –بمختلف أنواعه- يتوافق كثيرا مع تجربة المدينة، ذلك لأن هذا الشعر بمرونته، وقدرته على السرعة الإيقاعية وخفتها ... يتوافق تماما مع تجربة المدينة، ذلك لأن هذا الشعر بمرونته وطابعه الإيقاعي السريع،يوافق بشكل أو بآخر ذلك الإيقاع المتسارع للحياة في المدينة، كما أن فوضاها هي نفس فوضاه.‏

    ولذلك فتجربة المدينة – بإيقاعها المتسارع هذا -، هي التي اقتضت هذا الشكل من الشعر، إضافة إلى النزوع المطلق نحوالحرية في كل شيء في هذا العصر، وطغيان النزعة التجريبية أو بمعنى آخر، النزوع إلى التحرر في الحياة وفي الشعر .‏

    ومما لا شك فيه أن "بين التجربة الشعرية والشكل الشعري علاقة عضوية، وبما أن التجربة إشراقة متحركة متغيرة ومفاجئة يأتي شكل التعبير عنها داخليا ومركبا ومتغيرا مفاجئا بالضرورة، وبكلمات أخرى، إن الطريقة الحديثة في كتابة الشعر تبحث عن الطريقة"(16) المثلى في استيعاب ظروف العصر وأحداثه، والتكيف مع متطلبات الحياة فيه، وهكذا جاءت تجربة طبيعة علاقة الريف –المدينة منسجمة مع الطرح الشعري الحديث - إذ ركّز الشعراء المعاصرون أو التموزيون منهم بشكل خاص ...) على استعمال صيغة الصراع ما بين الريف والمدينة، فهم اعتمدوا في شعرهم على مبادئ متشابهة أهمها استعمال الرموز من ميثولوجيا وغيرها، وبناء القصيدة على معارضة بين ضدين، الموت والحياة، الظلم والنور الماضي والحاضر والمستقبل(17) .‏

    ولعل ما يبدوفي القصيدة الحداثية من مفارقات وفوضى وتمزق، إن هو إلا انعكاس لأزمة الذات العربية التي وجدت نفسها في مركز جذب بين قطبين متناقضين كل التناقض أو لنقل متعارضين كل التعارض، الماضي العربي الإسلامي بموروثه الحضاري الضخم الذي هو أشبه بالمغناطيس الذي يصعب التخلص منه، ولذلك فهي تنظر – إن هي خضعت له كلية – للآتي بعين الماضي الممعن في الغياب، والقطب الثاني هو الانبهار بما أنتجه الغرب على جميع الأصعدة، وما يمارسه من جذب وضغط يكاد يجعلها أي الذات العربية ) تنسلخ عن جلدها لتذوب في منجزاته، وتتبنى جميع طروحاته.‏

    وعليه فإن القلق والتحفز الملاحظ على القصيدة الحديثة، ما هو إلا انعكاس لما يعتمل في الذات العربية من رجات وإنجراحات في عالم متغير باستمرار ؛ فيما هي تجر أذيال التخلف والتبعية. إنه قلق البحث عن الهوية. ولكن نعتقد أن الشاعر المعاصر استطاع – إلى حد ما –أن يجد بذكاء، المخرج الملائم من هذا الوضع المأزقي حين أدرك أن "في التراث عناصر كثيرة يمكن تطويرها وإنماؤها لتتلاءم مع معطياتنا إذ نحن أحسنا فهمه"(18) كما أدرك من جهة أخرى، ألا جدوى من الوقوع المنبهر تحت الحداثات الغربية ؛ "لأنها تصدر عن خصوصيات قد لا تكون بالضرورة ملائمة لإسهاماتنا الحضارية عبر تاريخ طويل"(19) .‏

    وربما بسبب من هذا الإدراك استطاعت هذه القصيدة الحديثة أن تتجاوز ضغط القديم والإفلات من مغنطته، بإسقاطها للقافية والوزن –في بعض الأحيان-، وتجاوزها لتقنيات البلاغة العربية القديمة من جهة، لكنها استثمرت أحداثه ووقائعه على شكل تداعيات وإسقاطات وأقنعة ورموز من جهة أخرى. كما استطاعت أن تتخلص من عقدة النقص –في كثير من نماذجها- اتجاه النموذج الغربي، وتخرج من دائرة الانبهار به، لتؤسس بذلك هو يتها وانتمائها الحضاري، من خلال عدة قنوات، كإستيحاء اللغة الصوفية ذات المرجعية الإسلامية باعتبارها لغة الكشف لا الوصف، لغة البحث المضني، لغة الوقوف على عتبات الكون ومحاورته بغية تجاوز تلك الحدود الوهمية القائمة بين الأنا والمطلق، وكذلك وسم القصيدة الحديثة بنوع من الرؤيا البنيوية والحدسية التي تتعالى على الواقع من أجل كشفه، وبالتالي منحه توهجا جديدا ودلالات جديدة.‏

    4- غموض التجربة الحديثة الغموض الدلالي وتناقض المواقف):‏

    ولعل ذلك الغموض الذي أتت التجربة الحديثة متسربلة به، مما جعل النفاذ إلى جوهرها أمرا صعبا- إذ لا يتم إلا بجهد وتعمق واستقصاء كبير- راجع إلى عدة عوامل منها:‏

    1- إن التجربة الحديثة شمولية في رؤيتها، إذ أنها صارت ترى في الكتابة الشعرية "شكلا إبداعيا يحمل في صلبه رؤية كاملة للعالم وموقفا محددا من مفارقاته"(20) ، لا غرضا منفصلا عن غيره من الأغراض، كما كان سائدا في التجربة القديمة، بما فيها الرومانطيقية، لأن ذلك يفتت الرؤية ويسم التجربة بعدم الاكتمال.‏

    2- اعتماد الرمز كحامل للرؤية ومؤسس لها في الآن نفسه، إدراكا منها بأن "الرمز يساعد التجربة على كسر مباشرتها، ويمكنها من تجاوز الهارب والعرضي، ويساعدها على التقاط الجوهري والصميمي في حياة الإنسان ووجوده. فالشاعر يرى العالم بعينين مغسولتين"(21) ، إنه يقف على عتبات الجنون، ويسافر إلى أقاصي التيه، ليحافظ على صفاء رؤيته ونفاذها عبر الأشياء الواقعية، واكتشاف ما هو مدهش فيها، وما هو باهر وما هو خيالي. فالتأكيد على الصور المختلفة للترميز Symbolisation) أضحى من الركائز الأساسية للاتجاهات الحديثة Modernisme) في الفن بشكل عام(22) ، وفي الشعر بشكل خاص، لتوفير نوع من الإبهام، ولتجسيد ذلك التعقّد الذي طغى على الواقع، ومهما يقال أن"الرموز الأدبية عاجزة عجز الواقعية الأدبية البسيطة عن تفسير الوضع البشري وخلوه من المعنى"(23) ، إلا أننا نقول أنّ الرمز يوفر للتجربة كثيرا من غناها، ويكسبها كثيرا من السحر والجمال الشعريين- واللذين هما ضرورة لا محيد عنها- ويخلصها من السقوط في أو حال السطحية والمباشرة، كما يوفر للمبدع حلا أمثل لمعالجة أو ضاع واقعه بعيدا عن كل رقابة أو حساسية، ويخلّصه من عقال الآنية، ليقذف به في زمن الخلود والديمومة والاستمرارية...‏

    3- النزعة الصوفية والتوجه الباطني كردة فعل على تمزق إنسان هذا العصر وإفلاسه الفكري، وغرقه في قشور السطحية وأدران المادية، وكآبته العميقة. فلقد وجد الشعراء المعاصرون أن التصوف يوفر فرصة ثمينة لتأمل الذات، واكتشاف مكامن القوة فيها، كما يوفر أطرا مرجعية رحبة، ومن ثم الانطلاق من جديد نحوآفاق أكثر روحانية ورحابة...‏

    ولكن ما ينبغي التنبيه إليه، والذي وقع فيه كثير من الشعراء، غير المدركين لهذا التوجه، هو أن التصوف ليس "هووحده الذي يقدم لعالم اليوم وجها إنسانيا، ومزيدا من الروح، وفرحا بشريا بالوجود، ورفضا للآلي الميكانيكي والشيئية في إنسان عصر الآلة، وليس التصوف وحده الداعي، في بعض شرائحه، إلى السيطرة على الذات بدلا من تسليمها للمجتمع، أو للغرائز، أو للحاجات اليومية، وللعادات العمومية وللشائعية والنمطية والاندماج الذي ينسي الإنسان ذاته... قد نستطيع، لكن على صعيد ضيق فقط(24) ؛ فلإنسان العربي وبخاصة في مثل هذه الظروف، محتاج-أكثر من أي وقت مضى- إلى عقلنة حياته وتجربته أكثر، وإلى توجيه رؤيته نحوالخارج، خارجه هو ، لا التقوقع على ذاته والانكفاء عليها، واجترار مآسيه، ذلك لأن التصوف ليس هو كل الحياة، ولأن "الاهتمام بالباطني والصميمي بالإنسان، وبالخاص المتفرّد، وبالسعي على بلوغ المطلق وتحقيق الذات الفردية، هو اهتمام نافع . لكن هناك الأنفع والأهم، وحتى الأسرع بتحقيق"(25) اهتماماتنا وطموحاتنا نحوالتفرّد والتمييز"فهناك العقل والحرية، لا الصوفية والعبودية الصوفية"(26) .‏

    فالشعر يجب أن يكون واضحا -من حيث هو إيحائي وشفيف- حتى يسهم في التأثير في الحيـاة العامة، وينقلنا من التخلف الاركيتولوجيا) إلى قمة الحضارة، لا أن يكون غامضا ترميزيا تعتيميا، صوفيا في مجمله –إلا بقدر ما تتطلبه كل عملية فنية إبداعية – لأن هذا يغرقنا في التخلف الذي نرزح تحت أثقاله.‏

    بالإضافة إلى الأسباب السالفة الذكر فهناك الكثير من التوجهات والمرتكزات، والأساسيات الأخرى التي طغت على الخطاب الشعري المعاصر- وجاءت كصنوللحداثة وكميزة لها- كالتمرد على اللغة وكسره لطابعها النمطي، المعجمي، وحتى النحوي -أحيانا- وتأسيسه للغة شعرية جديدة استطاعت أن تفجّر "الطاقات التعبيرية للألفاظ، من خلال البنى العميقة التي تشد أو صال الخطاب الشعري إلى البؤرة المحورية في النص، والتي تنفجر عنها تلك العلاقات مانحة الألفاظ دلالات وإيحاءات جديدة "(27) وأطرا إبستمولوجية واسعة؛ إذ أن الشاعر بقوله، لا بتفكيره وإحسـاسه، إنه خالق كلمات، وليس خالق أفكار. وترجع عبقريته كلها إلى الإبداع اللغوي(28) *، ولكن هذه الجرأة والجسارة اللغوية، كثيرا ما طمست العملية الشعرية، وأدخلتها في متاهات نستطيع تسميتها بالعدمية اللغوية(29) ، إذ اعتقد بعض الشعراء -جهلا- أنّ الحداثة هي التعتيم والإبهام والغموض المقصود، وأن الشعر الذي يُدرَك بسهولة، شعر فاقد لصبغة الحداثة فيه.‏

    ومهما يكن من أمر فإنّ هذا الاتجاه يجد كثيرا من مؤيديه ومفسّريه، الذين يعمدون إلى إيجاد مبررات مجتمعية وحياتية له؛ إذ أنه "يحلولبعض الدارسين أن يفسروا الغموض تفسيرا سوسيولوجيا بسبب التناقض لدى الفنان المتمثل بالالتحام بمجتمعه ومواجهته في الوقت ذاته، أي بسبب عملية الهدم والبناء بحيث لا يحاول أن يخترق البنية اللغوية والأسلوبية للهيئة الاجتماعية فحسب بل ونظام التعميمات الفنية والمثل الجمالية"(30) ، كما أن هناك فئة أخرى تفسّره على أنه "توق همومي يرمي إلى أن يقوض من الأساس بنية اللغة والثقافة السائدتين، أو ما يسمى بالتراث الرسمي، تراث القواعد واللغة والصرف وأنظمته القائمة على الوضوح والتشابه والتناسب المنطقي ما بين الصفة والموصوف، ما بين الدال والمدلول، حتى تكون القطيعة معه تامة وكاملة "(31) .‏

    أ- فوضى الحداثة صـورة لواقع مجتمعي مضطرب:‏

    وكيفما كانت التفسيرات، فنية، سوسيولوجية، نفسية، أو كلها، فإننا لا نملك إلا أن نجازف بفرضية مفادها أن "فوضى الشعر الحديث في أساليبه وغموضه والتباس معانيه وإغراقه في دخول المتاهات، صورة حقيقة لسمات الحياة العربية المعاصرة، حتى لتكاد ترى البصمات نفسها مرسومة على هذا وذاك في آن"(32) ، فممّا لا شك فيه أن حياتنا الحديثة، التي نحياها- والتي تقترب في كثير من جوانبها من الحياة الغربية وبخاصة في الجانب المادي البحت*- هي التي أنتجت صور الشعر والفن الحديث، على اعتبار أن "الصورة الخاصة لكل حياة هي البنية التحتية الضرورية، للصور الفنية المختلفة التي تعاصرها في النمو"(33) كما أنه "لابد من الاعتراف بوجود وشائج من نوع ما، تصل بين صورة معينة من الحياة والصورة الفنية المعاصرة لها، وإلا فلماذا لم ينشأ الفن الحديث في العصور السابقة للعصر الصناعي؟"(34) .‏

    فلا يمكننا أن نزعم -البتة- بأن يكون شعر الحداثة – أي كتابته على هذه الطريقة، وبهذا التوجّه، ونبذ غيره من الطرق والتوجهات- نزوة عابرة، أو وافدة، بل التفسير الأسلم لذلك، هو أنه استجابة حتمية لشروط حياتية جديدة غير تلك التي كانت قائمة بالأمس، والمتمثلة في تغير أدوات العيش، ووسائل العمل وطرق الاتصال، والعلاقات الإنسانية، وغيرها من العوامل التي تشعرنا بأننا نعيش في عصر غير العصر الذي كان يعيش في أجدادنا القريبين، وبعبارة أخرى إنه عصر التقنية الإذاعة والتلفزيون والفيديو– الطائرة والصاروخ والحاسوب والاتصالات الآلية السريعة والأتمتة )، والمدينة بكل زخمها، شرورها وفوائدها. فكيف تبدّت صورة هذه الأخيرة في الطرح الشعري المعاصر؟‏

    ب- شعرية المدينة كتجربة إبداعية عربية أصيلة:‏

    تمثّل قيمة المدينة في شعرنا المعاصر ظاهرة بارزة، لا يمكن تجاهلها، فما من شاعر معاصر إلا وقد أدلى بدلوه فيها، واتخذ موقفا منها سواء بالسلب، أو الإيجاب، وسواء أكان الموقف واضحا أم غامضا، صريحا أم مبطنّا؛ كل بحسب تجربته. ومهمتنا الآن هي تتبع هذه المواقف ومحاولة استجلاء خلفياتها ومعرفة كنه حقيقتها وأوجه تمظهرها.‏

    ولا ضير أن يعزى سبب اهتمام شعائرنا بالمدينة إلى تأثرهم بالغرب وبخاصة الشاعر ت.س. اليوت - فالتأثر واقع وباعتراف الشعراء بأنفسهم* - ما دام صدق التجربة متوافرا، وغنى اللغة وخصوصياتها ثابتا، وأصالة الطرح موجودة، وعمق التعبير عن الواقع العربي وتفاعلاته كائنا.‏

    فالشعر العربي المعاصر، مهما تأثر بغيره، وهوأمر مشروع، لم يكن إلا ابن بيئته؛ فلقد كانت له تجربته الخاصة، تلك التجربة التي تنطلق أساسا من الواقع المعيش، برتابته المضجرة، وتكراره المضني، وأحداثه المعادة بصفة ثقيلة تبلّد الحواس وتجمّدها لتصير عاجزة عن النفاذ إلى لب الأشياء، ودواخل الأمور، وتكتفي بالسطحي العارض المانح لنفسه بسهولة. ويكمن تفردها وأصالتها أيضا في محافظتها على خصوصيتها، وخلقها لعالم متفرد. فهذه التجربة قد وعت عالمها وأدركت مأساويته التي تختلف في كثير من مناحيها عن مأساوية الحضارة الغربية. فإذا كانت الحضارة الغربية وبالأخص مدينتها قد قدمت لشاعرها أشياء وسلبته أشياء، منحته الرفاه المادي وسلبته السكن الروحي، فإن المدينة العربية، أخذت ولم تعط، أخذت الاطمئنان الروحي، ولم تعط إلا الانكسارات والهزائم المتوالية –كما أشرنا سابقا-، إضافة إلى أن العلاقات الاجتماعية فيه أقل تعقيدا وتركيبا من نظيرتها الأوربية، كما أن سرعة الزمن فيها أقل إيقاع، وبالتالي فإن إيقاع الحياة بطيء هو الآخر، وذلك لأن المنجزات المادية أقل تطورا وتعقيدا، وبالتالي فإن الصورة الشعرية لابد وأن تكون أيضا أقل تعقيدا.‏

    وبسبب من ذلك الإدراك، تكون تجربة شعرنا المعاصر مع عالم المدينة، قد تمكنت من تأسيس فرادتها وخصوصيتها حين استطاعت استيعاب واقعها، وتعرية خباياه، وفضح أدرانه، وتجلية زيفه، وكشفه لنا بكل تجلياته راسمة لنا مع ذلك ومن خلاله عالما حلميا، لا يمكنه أن يتحقق إلا عن طريق تلك التعرية الراصدة لجزئياته الصغرى، والتفصيلية، ومفارقاته، بدهشة طفلية، توحي لنا بجدّة الاكتشاف وفرادة الرؤية، وأصالة التشخيص، موفرة من خلال ذلك انسجاما رائعا ما بين الواقع والحم والسرد والمباغتة؛ الواقع العربي بكل مظاهره، والحلم المستقبلي بكل صبواته، والسرد الشعري والمباغتة الرؤياوية بكل طموحاتها. يقول –على سبيل المثال- عبد الصبور في قصيدة الخروج(35) طارحا من خلالها انخلاعه عن مدينته، مبيّنا أسباب ذلك الانخلاع فاراّ إلى الصحراء وحيدا، عازما العيش في مدينة منيرة، مدينة صحووأضواء، يقول ما يلي:‏

    أخرج من مدينتي، من موطني القديم‏

    مطرّحا أثقال عيشي الأليـم‏

    فيها، وتحت الثوب قد حملت سرّى‏

    دفنته ببابها، ثم اشتملت بالسماء والنجوم‏

    انسل تحت بابها بليل‏

    لا آمن الدليل، حتى ولوتشابهت عليّ طلعة الصحراء‏

    وظهرها الكتوم‏

    ..........................‏

    إن عذاب رحلتي طهارتي‏

    والموت في الصحراء بعثي المقيم‏

    لومتّ عشت ما أشاء في المدينة المنيرة‏

    مدينة الصحوالذي يزخر بالأضـواء‏

    والشمس لا تفـارق الظهيرة‏

    أواه يا مدينتي المنيرة‏

    مدينة الرؤى التي تشرب ضوءا‏

    مدينة الرؤى التي تمج ضوءا‏

    هل أنت وهم واهم تقطعت به السبل‏

    أم أنت حق؟‏

    أم أنت حق؟‏

    والتجربة كما تتبدى لنا في هذا المقطع- الذي آثرنا الاقتصار عليه هنا كنموذج، ليس هو بالضرورة الأكثر تمثيلا لما نريد إثباته، فغيره كثير- تختلف اختلافا كبيرا عن مثيلتها عند الشاعر الغربي الحديث، سواء من حيث مستوى الطرح وأبعاده، أو من حيث طبيعة التجربة ونوعها، أو من حيث المضامين المركّز عليها بكيفية أكثر من غيرها. بل وحتى من حيث الرموز المبثوثة في ثنايا القصيدة، والتي تؤلف-في مجملها-عبر تواشجها، رمز الخلاص والبعث لدى الشاعر العربي، والتي تتلاءم مع واقعه -اللامنطقي- الذي يختلف في كثير من مناحيه وأولوياته عن واقع الشاعر الأوروبي ذي الرفاه المادي –بالرغم من مبالغات شعرائهم في تصوير الفقر وتضخيم المآسي الاجتماعية- هذا بغض النظر عن الانهيار الروحي. فالمدينة العربية-كما سبق وألمعنا- ليست كالمدينة الغربية التي أعطت شاعرها شيئا، وسلبته أشياء، بل إنها لدائمة السلب له، بل والانسلاب معه، فهي قد أخذت منه كل شيء ولم تعطه شيئا. ولذلك فمعاناة الشاعر العربي- ومعه الإنسان العربي عموما -متعددة الأوجه والأطراف، فهويعاني على مختلف الأصعدة والمستويات، فعلى المستوى الداخليالفقر والقمع...) وعلى المستوى الخارجي التبعية والتخلّف...)‏

    ولقد أدرك شعراؤنا المعاصرون –بوعي كبير- هذه المفارقة بين واقعنا وواقع الغرب، كما تلمّسوا ذلك البون الشاسع بين حياتنا وحياتهم، طموحاتنا وطموحاتهم*... ولذلك استنكفوا بأنفسهم عن أن يقعوا في دائرة المحاكاة الفاضحة والتقليد الأعمى، أو النسخ الباهت لتجارب الغير، فالشاعر العربي أدرك واقعه بعمق، وعاش خيباته المتلاحقة واكتوى بنارها، فراح يسعى لتغيير هذا الواقع –متأرجحا بين الأمل الكبير حينا واليأس القانط حينا آخر- عبر محاولة العودة إلى عالم البراءة الأولى حينا، وإلى زمن الخلق والبعث والتضحية أحيانا أخرى، متوسلا الشعر طريقة لهذا التغيير-الشعر الثوري المشبع بأساطير الخلق والخصب والتجدد والبعث والنماء- والمدينة إطارا لهذه الأحداث؛ أحداث واقعه ...‏

    كان هذا مستوى تجربة المدينة-باختصار شديد- في بعدها الحضاري، فكيف كانت تجربتها على المستوى الحياتي والواقع اليومي المعيش؟.‏

    ج- ظاهرة المدينة كتجربة حياتية:‏

    تتآلف وتتماوج الإبداعات الشعرية العربية المعاصرة، في فضاء المدينة بكيفية ملفتة للنظر،إلى حد يمكن لنا –معه – الزعم بأنها تؤلف ما يحتمل أن نسميه بـ"الظاهرة"؛ هذه الظاهرة التي استطاعت أن تعطي للموضوعالمدينة) –بفضل الأبعاد المختلفة والمتجاوبة في آن واحد- "خصيصة التجربة، لها الملموس والرمزي والخيالي، حتى أصبحت التجربة ذات كثـافة تقف الشعرية الوصفيةمن بنيوية وغير بنيوية) كنظرية للبنيات النصية المطردة والطارئة، دون بلوغ عتبة مساءلتها، لأن التجربة تتطلب شعرية مفتوحة تبتهج لاختيار أمكنة معرفية متباينة، بدل الرؤية إلى غير مكانها كتعويض لحدودها المعتادة، دونما رضوخ لوهم المعنى وحقيقة المكان غير الشعري من ناحية، وإدامة التعارض بين البنية وصيرورة الدلالية من ناحية ثانية"(36) . وهذه التجربة الخاصة أو المتميزة ذات الشعرية المفتوحة تتطلب بُعدها العربي(37) الأصيل والمتفرّد في آن، والذي يبدأ من البنايات الأولى العصر الجاهلي) وانتهاء إلى العصر الحديث مرورا بعصور الحضارة الإسلامية، سواء في بداياتها أو في أو ج تألقها، عبر تراكمات إبداعية وفكرية شتى، متكاملة متجاوبة؛ ومتفردة ومتجاوزة، وهوما كنا قد تطرقنا لبعض مظاهره ومواقفه من المدينة كتجربة وكفضاء فيما سبق*.‏

    فتجربة المدينة –شعريا – تعود بنا حتما إلى البدايات الأولى، ذلك لأن موقف شعرائنا المعاصرين ورؤيتهم لها، تنهل -بالضرورة- إن قليلا أو كثيرا من رؤية أسلافهم لها، وتسبح في فضائها، مع محاولة التجاوز –بطبيعة الحال- والتي نجحت فيها إلى حد كبير حتى لأنها غدت من أبرز الظواهر التي يمكن أن نلمسها بيسر، في الخطابات الشعرية المعاصرة، وهذا لا يعني –كما سبق القول- أنها بنت المعاصرة، أو صنوالحداثة . بل أن الاهتمام بها – كفكرة وكتجربة - ،- قديم قدم التاريخ الإنساني- كما رأينا سابقا. ولكن ما يستقطب الاهتمام في الشعر العربي المعاصر، هو حّدة الطرح، ومنهجية التناول وخصوصية التعبير وفرادة الرؤيا وحداثتها، بالإضافة إلى حرارة المعايشة وصدق المعاناة وعمق الإدراك ليصبح توظيف المدينة في الشعر العربي المعاصر"قيمة فنية" أو ما يمكن أن نطلق عليه "التجربة القيمية" من حيث كونها تعبر عن تجارب إنسانية ناضجة في علاقتها الاجتماعية. وعلى هذا النحوقد لا نغالي إذا تصورنا أن تجربة المدينة في قيمتها الفنية ترسم مشاعر موضوعات القصيدة لتصبح في شكل "دلالة"؛ دلالة الانسجام بين المعطيات الموضوعية والحدود المرسومة لاستبطان الإدراكات التي تجري في مستويات حالات التجارب اليومية، فيقرها الشاعر في باطن هو ية القصيدة من خلال تعدد وثبات الصور المتطلعة إلى الحدود الموضوعية للتجربة في صورتها الكلية.‏

    فالمتتبع لدواوين الشعر العربي المعاصر، يتبين، بكل جلاء، مدى سيطرة هذه الظاهرة واحتلالها لحيز أكبر في جسد قصائده إذ "أن كثيرا من الشعراء قد واجهوا في قصيدة أو أكثر موضوع المدينة، منذ الديوان الأول "مدينة بلا قلب" لأحمد عبد المعطي حجازي إلى ديوان"قلبي وغازلة الثوب الأزرق" لمحمد إبراهيم أبو سنة، وعنوان الديوان الأول يغنينا ... عن الحديث عنه، فهوأول ما يكون على موضوعه، أما الديوان الأخير فقد تضمن خمس قصائد هي "حين فقدتك-السر - في الطريق- نرجس والمدينة – ريفية في مدينة الغرباء"، وكلها تتصل من قريب بموضوع المدينة"(38) ، هذا إضافة إلى كثير من القصائد التي سنأتي على ذكرها في حينها. ويجب التنبيه إلى أنّ عدم ذكر لفظة المدينة) في القصيدة، لا يعني أن هذه القصيدة بعيدة عن موضوع المدينة وتجربة الحياة فيها – فهذا الفهم ساذج وسطحي، بل ربما يكون هذا التغييب للفظة، هو أحد الأدلة الأقوى تعبيرا عن حضورها المكثف، وقد يتبدى هذا الحضور – على سبيل المثال- في إبراز المعاناة الذاتيـة، وظاهرة الاغتراب، وتمزق العلاقات الإنسانية، وانهيار القيم المثلى...‏

    وبعيدا عن الدخول في متاهات التعريفات الاجتماعية والفلسفية للمدينة العصرية، وعلاقات المجتمع المدني، وأنمـاط معيشته، كتلك التي يوردها "هيغل" والتي ينتقدها "ماركس"(39) ، بعيدا عن هذا كله، نؤكد بدءا أن المدينة – كتجربة وكمكان حضاري يحمل قيمة معينة يُعَدُ نقطة ضوء فعالة، لدراسة الذات الإنسانية وحساسيتها الحياتية؛ إذ بها، وفيها، تنكشف الصراعات الاجتماعيـة، والسياسية، والحضارية، وبالتالي صيرورة المجتمع وحركيته، وفيها يمهد للمستقبل، ويتأسس كيان الأمة وفردانيتها وثوابتها وكذا تطورها الذي تعكسه أحداثها الموّارة، وعلى ضوئها تنكشف "الأنسنة وبدايات الوعي المتحضر والمتجاوز للمرحلة البدائية) من مراحل التطور البشري بأشواط مديدة"(40) . فكيف تبدّت صورتها الخارجية للشاعر، هذا الوافد الجديد من الريف من أو ل لقاء له معها، وبخاصة إذا كنا نعلم أن عددا غير قليل من الشعراء المعاصرين هم ريفيي النشأة، ثم هاجروا إلى المدن(41) ، هذه المدن التي كانت في خيال الشاعر جنة موعودة، يأمل أن يحقق فيها كل أحلامه وصبواته؟ فكيف كان الانطباع الأولي لهذا اللقاء، وبخاصة مظهرها الخارجي الذي يختلف في كثير من أشكاله عن الريف، وعلى اعتبار أن أو ل ما يتحفز في الإنسان ويتنبه هو الجانب البصري، وبالأخص في مكان كالمدينة بكل مظاهرها المادية والعمرانية ؟‏

    د- الكيان المادي للمدينة :‏

    لعل أو ل ما يلفت أي وافد جديد إلى المدينة، هو طبيعة عمرانـها، أي الوجه الخارجي والمادي لها – قبل الانخراط في وتيرة حياتها – والذي تلتقطه العين، قبل أن تكتوي به النفس. ولما كان أهم ما يميز المدينة، أو كل مدينة عصرية، هو علوجدرانها، والارتفاع الشاهق لأبنيتها، والتنظيم الآلي الأتوماتيكي) للحياة فيها، وتخصّص أمكنتها، وضيق أزقتها –أحيانا– وكثرة المتسكعين والبطالين فيها، وبراقة منظرها وكثرة أضوائها وغلبة الازدحام والضوضاء على محيطها. فإن هذا كله لابد أن يترك أثرا ما في انطباع الشاعر وبالتالي إحساسه وتوجه حياته فيها لاحقا.‏

    ولقد التقط الشعراء هذه المظاهر الحسية –الغربية بالنسبة لهم– مشحونة بكثير من الأسى والشجن، كشأن كل غريب جاهل بمعالم المكان وطبيعته. فكان أو ل ما رآه الحجازي هو شوارع المدينة الكبيرة) التي يتوه فيها الإنسان، كما أنه لم ير غير البناء والسياج) وغير المربعات والمثلثات والزجاج)، لقد أدرك بأنه رسى في مدينة من الزجاج والحجر) بحث فيها عن طريق فلم يجد له أثر). كما أن يوسف الخال لم ير في أو ل لقاء له بها غير شوارع المدينة الناطحة السحاب، العالية القباب، المغلقة النوافذ)، المدينة/الزجاج ... المقفرة الموحشة)، الخالية الروح، التي يسكنها أناس)، وكونهم أناس، نكرة، غفل من الأسماء، أمر يكثف من غربة الشاعر، ويوحي باستبداد الخوف به، ومدى التوجس الذي يكتنفه لحظة اللقاء الأول.‏

    أما محمد إبراهيم أبو سنة، فإن أو ل ما استقطب نظره فيها، هو آلية سلوك أهلها، أو بعبارة أخرى، تحكم الآلة في سلوك الإنسان وتوجيهه:‏

    إشارة حمراء قف‏

    إشارة خضراء من هنا انصرف(42)‏

    ولا نعتقد بأن هذا التنظيم الآلي –لا التلقائي– هو مجرد مظهر خارجي، بل هذه "الآلية التي تنظم المرور هي نفسها الآلية التي يصدر عنها الناس أنفسهم في كل أعالهم"(43) .‏

    في حين أنّ البياتي لم ير فيها – على الرغم من خبرته بها أو بسبب ذلك نتيجة رحلاته السندبادية وكثرة تطوافه– غير بيوت منفوخة البطون)، وغير أحياء فقيرة سوداء)، وغير أرصفة غبر سخينة) ومقاهي وحارات سوداء لعينة) وأشجارا صفرًا دميمة)، وغير المزابل والمحارق والسجون والكبريت ... )(44) .‏

    أما فاروق شوشة، فإنه هو الآخر، لم ير فيها غير الجدران العازلة الموحشة التي(45) :‏

    تلوح للعابرين الحياري‏

    أن انغمسوا في رحابي‏

    ولوذوا ببابي‏

    وأسيحوا، دروبي ممتدة مدهشة‏

    ولا يرى فيها فولاذ الأنور) نفسه، إلا أنه :‏

    ضائع في هياكلها‏

    ميّت خرب القلب‏

    مخترق في الضلوع(46)‏

    لا يستطيع منها فكاكا، حيث تحجزه صفحات جرائدها، وطباعتها الجديدة كل يوم بروتينية مملّة.‏

    أما حامد طاهر) فإن ما يلفت انتباهه فيها هو : شوارعها الواسعة، وميادينها الفاخرة ومقاهيها، ونسوتها الفاتنات، اللواتي يضيِّقن خطواتهن، ويفهق منهن أغلى العطور، وهويدعي أنه يحب كل هذه الأشياء فيها، لكن رأسه يدور !(47) .‏

    ويصف لنا أمل دنقل أو ل لقاء له مع المدينة –وكان هذا اللقاء ليليا– فيرى بأنها مدينة دخانية)، زارها : مقهى فمقهى، شارعا فشارعا)، ويستمر في تجواله فيها واصفا ما رأى فيقول:‏

    رأيت فيها اليشمك) الأسود والبراقعا‏

    وزرت أو كار البغاء واللصوصية !‏

    على مقاعد المحطة الحديدية‏

    نمت على حقائبي في الليلة الأولى‏

    حين وجدت الفندق الليلي مأهولا(48)‏

    كان هذا الانطباع في الليل، أما حين جاء الصباح :‏

    وانقشع الضباب في الفجر فكشف البيوت والمصانعا‏

    والسفن التي تسير في القناة كالإوز‏

    والصائدين العائدين في الزوارق البخارية(49)‏

    ولعل هذه الغرائب التي شاهدها، وذلك التشرد الذي عاشه في أو ل ليلة له في المدينة، هو الذي جعله يتخيل نفسه –بعدما أدرك ورطته– يسقط من طوابق القاهرة الشواهق) فيـبصر في الشارع أو جه المهاجرين) ويعانق المحنة والثبات)(50) .‏

    أما الشاعر صلاح عبد الصبور الذي ترك قريته الزقازيق) والتحق بالقاهرة لأسباب يوضحها في المقطع الموالي:‏

    نزلتها منذ سنين طالبا للأنس والمؤون‏

    منحدرا مع الطريق المترب النحيل‏

    والترعة اللابسة الحداد‏

    مآزرًا من نبتها الذاوي، وطرحة النخيل‏

    متنقلا من قرية حزينة(51)‏

    لقرية حزينة‏

    فإنه يقول عنها حين وصلها:‏

    وصلتها في وسط الصيف، بيُوتها التلال‏

    موصدةٌ، لتتقي الأغراب والسخونهْ‏

    صوتها تحت سياط الشمس والرمال‏

    يئن‏

    يئن‏

    يئن‏

    تخطئه مسامع الأرصاد والرجال‏

    تسمعه كلابها الضالة ومحتضروها‏

    بعض المجانين بها‏

    والشاعر الذي رست به سفينة الحديد والصدأ‏

    على تخوم رملها في ساعة الزوال(52)‏

    إنها مدينة لا تشعر الوافد إليها إلا بالاستبعاد، ولا يلتقط من مناظرها إلا القبيحة والمؤلمة، فبيوتها العالية كالتلال موصدة في وجه الأغراب والذين يعد الشاعر واحد منهم، وصوتها يئن، كلابها متشردة، بعض أناسها يحتضرون، كما أن بها بعض المجانين، فهؤلاء وحدهم مع الشاعر يسمعون صوت المدينة أو أنينها، أما الآخرون وحتى رجال الأرصاد فيها، فإنهم لا يعبؤون ولا يأبهون به، ربما لانشغالهم في غمرة المدينة وزحمتها، وربما لأنهم أو صدوا بيوتهم بل وآذانهم عن سماع أصوات الضعف والألم والاستغاثة التي تنبعث من المدينة، بل ومن المقهورين في المدينة، والشاعر باتباعه لهذا الأسلوب الجامع للتناقضات، والمؤلِّف بين المعقول الشاعر) واللامعقول المجانين) أو بعبارة أخرى بين العاقل واللاعاقل وكذا الحيوانات المشردة، إنما "يريد أن يعطينا حقائق عدة دفعة واحدة. وتشويه العوالم التي ينقلها من واقعه، ووضع التناقض فيها، ينبع من حقيقة واحدة هي: الواقع المعاش الذي خالفت الأشياء فيه حقيقتها"(53) وابتعدت فيه عن جوهر أصلها.‏

    أما إذا ما تتبعنا قصائد سعدي يوسف وبالأخص في ديوانيه، تحت جداريه فائق حسن(54) وديوان الأخضرين يوسف ومشاغله(55) )، فإننا واجدون العالم المزيف والعالم المرعب نفسه، إنه عالم مظلم "مدنه تتسول النور" وعلى شرفاتها "يئن الجيرانيوم"، هذا إضافة إلى أن أبو ابها تكف عن كونها أشياء صنعها الإنسان لتستحيل إلى أشباح مرعبة ومخيفة :‏

    فجأة يفتح الباب وحده‏

    الممر يدور على نفسه في الظلام‏

    الرطوبة تلصق بالخوف وجه المسافر 56‏

    إنه الواقع المديني في أشد لحظات عريه وتردية، منظور إليه بعين محايدة هي عين الشاعر الوافد مجددا إليه بغرض الانتماء لا الانفصال الذي اصطدم به.‏

    ولا يرى فيها الشاعر الجزائري محمد زتيلي) نفسه فيها إلا ضائعا، جائعا بين هذه الجموع الغفيرة التي تحترف النفاق والتدليس:(57)‏

    أنا ضائع بين من هاجروا ... بين من ناصروا ... بين‏

    من نافقوا، ضائع بينهم، أيها الناس ضعنا جميعا ...‏

    تشتت شمل المهاجـر‏

    أقصد شمل المناصر‏

    بل قد تجمع شمل المنافق ... أقصد ضعنا‏

    فبالرغم من هذه النزعة الخطابية التي يشي بها هذا المقطع من القصيدة إلا أنها تعكس مدى الضياع الذي يعانيه كل نازح جديد إلى المدينة، التي تصدمه بواقعها المختلف تماما عما آلفه في ريفه البسيط؛ سواء من حيث الأشكال المعمارية، أو من حيث العلاقات الإنسانية الاجتماعية.‏

    (1) - د/ محمد الزايد: فلسفة تقرأ شعرا، الفكر العربي المعاصر، ع 10، شباط 1981 ص 73.‏

    (2) - محمد الأسعد : إشكالية التجربة الشعرية مرجع سابق)، ص 30.‏

    (3) - عبد الله احمد المهنا : الحداثة وبعض العناصر المحدثة في القصيدة العربية المعاصرة، ص 30.‏

    (4) - م.ن، ص.ن.‏

    (5) - م. س، ص 26، وينظر ايضا : ادونيس : زمن الشعر ص 17.‏

    (6) - ينظر: يوسف الخال: الحداثة في الشعر، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 1978 ص 14.‏

    (7) - أمل دنقل: الأعمال الشعرية الكاملة، دار العودة، بيروت 1985، ص 269.‏

    (Cool - عبد الله احمد المهنا : الحداثة وبعض العناصر المحدثة في القصيدة العربية المعاصرة، عالم الفكر م س)، 1988، ص 39 .‏

    (9) - م.ن، ص.ن‏

    (10) - محمد مصطفى بدوي: الشعر العربي الحديث بين التقاليد والثورة، عالم الفكر، مج19، ع 13، 1988، ص 98.‏

    (11) - أدونيس: الآثار الكاملة، دار العودة؟، بيروت، 1971، ج1/251- 252.‏

    (12) - د/ نور الدين طوالبي:في إشكالية المقدس، ت ر/ وجيه البعيني، منشورات عويدات، بيروت باريس،ديوان المطبوعات الجامعية/ الجزائر)ط1، 1988-ص 5‏

    * - المدينة العصرية : نقصد بها المدينة المعقدة، المتناقضة القيم كما تتجلى في الخطابات الشعرية وحتى في الواقع اليومي، أما المدينة كتجمع بشري، فموجودة منذ القدم كما رأينا ...‏

    (13) - مالك بن نبي: ميلاد مجتمع : شبكة العلاقات الاجتماعية، ج1، ت ر/ عبد الصبور شاهين باشراف ندوة مالك بن نبي، دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر، بدمشق، 1974، ص 11.‏

    (14) - م. ن، ص 14.‏

    (15) - م. س، ص .ن.‏

    (16) - نعيم اليافي : مصطلحات النقد التطبيقي في الشعر الح

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 07, 2024 10:43 pm